٩

551 47 5
                                    

-جورجيت إبنة مرقس-..
تلك الأنثى العبرية التي تحمل بين طياتها جمال لايوصف كان بؤبؤآها يراقبان الملتحي وهما شديدي الخضرة يسبحان في بياض عينيها الشاهق بحياء كلما رأت "أدهم".
فذلك الشباك المطل على الحي بات مكانها المفضل لتشبع غريزة العشق التي استولت على قلبها المتيم بلحب.

ركن السيارة وجلس بضع دقائق مع نفسه يفكر بهدوء في كلمات صديقه التي سمعها قبل قليل . .. واستغرب من طلبه أن يذهب معه ليخطبها كونه جارهم وصديقه المقرب .. ثم رفع رأسه قليلا ليرى "جورجيت" تراقبه من بعيد مخفية نصف وجهها بإشالها ليبدو وجهها وكأنه البدر في فضاء الليل..
اخرج زفيرا بهدوء لينزل من السيارة دون ان يلتفت اليها او يعيرها اهتماما .. ولكنها ظلت تتبعه ببؤبؤاها حتى اختفى داخل باب العمارة .. ..

____
في تلك الفيلا الفاخرة كان الهاتف لايقف عن الرنين أبدا من اتصالات السيدة"نوال" من صديقاتها وقريباتها يسألن عن خطيب ابنتها الثري بكل فضول ..
كانت تجلس فوق الأريكة الجلدية  تضع قدما على قدم بكعب عال ذا لون أحمر تهزه مع كل كلمة تتحدث بها ..
"نعم فخطيب إبنتي من رجال الأعمال المقدرين في البلاد... نعم سيشتري لها فيلا خاصة بها ..آه أكيد سيكون لها مستودع من السيارات الفاخرة.."
ثم قهقهت وهي ترد على سؤال المتصلة..
"نعم سيكون شهر العسل سفرة حول العالم "
أما "صوفيا" العروس المنتظرة كانت تطل على حافة شرفتها شارد نظرها في النجوم .. كأنها تتحدث مع شخص مخفي  ...
"من يظن أن إمرأة مثلي ستتزوج بهذه الطريقة السخيفة.."
أشعلت سجارتها وقد سحبت نفسا عميقا منها لتنفخه بتأني..
"هه حتى العريس عبارة عن عاهة من العاهات التي كنت ارفض الارتباط بهم دوما.."
سحبت نفسا آخر وكأنها غير مكترثة بعمرها  
"تبا للحياة..".
قاطع تفكريها رنين هاتفها الذي أظهر رقما غير معروف ... لم ترد من المكالمة الأولى ولكن بعد ازعاج كبير من المتصل ردت بنبرة غاضبة
.."من المتصل المزعج!!"..

ليرد المتصل بتعجب!

.." وعصبية أيضا!!"
نفخت خديها وهي تقلب عينيها ضجرا من صوت المتصل..
"محمد أليس كذلك؟"
.."نعم بشحمه ولحمه كيف حالك؟"
..."ماذا تريد؟"
.."لم أنتي عصبية يافتاة أريد التحدث فقط ثم إنك يوم ال..."

أقفلت الخط في وجهه دون أن تدع له فرصة ليتحدث.."غبي أحمق"

___

كان الأرق يواسي الملتحي في ليلته الطويلة حيث أجهده التفكير حتى بدت هالات سوداء تحت عينيه، مواقف كثيرة تراكمت عليه هذه الأيام ..كأنها تركض مسارعة في أحداثها دون أن تدع فاصلا للراحة والطمأنينة..
خاصة تلك المكالمة الغريبة من عجوز دار المسنين التي قد تعلق بها وتعود على وجودها في أيامها الأخيرة
كان يرن هاتفه كثيرا  وظهر له رقم لا يعرفه ولا يعرف صاحبه، فتح الخط فإذا بصوت سيدة عجوز تكاد تطير فرحًا حينما أجابها، قبل أن يسألها عن ماهيتها بادرته هي قائلة: أحمد! أخيرًا وجدتك! منذ سنتين أتصل بك ولا تجيب على  اتصالاتي، لقد اشتقت لك كثيرًا يا بني.
حين سمع صوتها الباكي من تأثير الغبطة التي اغتبطها حين أجاب على إتصالها لم يستطع إخبارها بإنه ليس أحمد وليس المقصود، بل لم يستطع حتى النطق ولو بكلمة واحدة، لقد كانت تلك العجوز في حالة يُرثى لها.
أكملت قائلة: أنت الوحيد التي بقيتِ لي يا أحمد بعدما تخلوا عني أولادي وأودعوني بدار المسنين، لقد كنت أتصل بك باليوم عشرات المرات منذ سنتين، اليوم قمت بتغيير الرقم الأخير من رقم هاتفك وقلت ربما قمت أنت بتغييره، وأحمد الله على أنك أجبت إتصالي.
ازدحمت الدموع في عينيه وهي تتبادر إلى السقوط رأفة وشفقة بتلك العجوز المسكينة، فذكرها بأن أولادها قد أودعوها بدار المسنين آلمه وكسر نفسه فكأنه يعرف كسرة نفسها وضيق الحياة بها، قاطعته قائلة: لماذا لا تتحدث إليّ يا أحمد؟
استجمع بعضًا من قواه وازدرد ريقه بصعوبة بالغة وقاال لها: أنا بخير، فقط لا أصدق أنني أسمع صوتك.
قالت بتعجب: ما بال صوتك قد تغير؟ أمريض أنت!
قال: لقد أخذت الإنفلونزا مأخذها مني وهي السبب في تغير صوتي.
ظلت تقص عليه بطولاتها في دار المسنين مع صديقاتها، وعن قسوة أولادها، كانت تبكي حينًا وتضحك حينًا آخر، قالت بأنها لا ترجو من أولادها شيئًا غير رؤيتهم واحتضانهم، أخذت تحكي له عن أحفادها وأسمائهم وأعمارهم وأطوالهم وتواريخ ميلادهم والأيام التي ولدوا فيها جميعًا بل والساعة التي ولد فيها كل حفيد لها، وحكت له شعن أختها الوحيدة التي كانت تحبها كثيرًا وتوفاها الله وقد كانت آخر من ماتت من أقاربها فما عاد لها حبيب ولا قريب إلا أولادها، عرف منها أن أحمد ذاك  هو ابن أختها وأدرك أنه لا يجيبها على إتصالاتها متعمدا وكأنه على إتفاق مع أولاد خالته، كانت تتصل به كل يوم فتتسامر وتقص عليه القصص ويضحكان سويا ويهوّن عليها وحدتها ولم يخبرها عن حقيقته حتى لا يسبب لها أي حرج، وكان لا يبادر بالإتصال بها إلا لو اتصلت هي حتى لا يكون سببًا في قلقها أو أن تظن بأن ثمة مكروهًا قد حدث لأي من أولادها أو أحفادها، فرغم ما فعلوه بها ولكنها ما زالت تحبهم.
انقطعت عن الإتصال به ليومين وفي أصيل اليوم الثالث اتصل بها فأجابت على إتصاله إحدى عاملات دار المسنين، وحين سألها عن صاحبة الهاتف أخبرته أن الله قد توفاها منذ يومين، وأنها قد تركت له رسالة مفادها "شكرًا لك يا ولدي على سعة صدرك وتحملك لقصصي التافهة التي كنت أقصها عليكِ، كبار السن كالأطفال يا ابني، هم بحاجة لم يسمعهم ويهوّن عليهم بؤسهم وشقاءهم، ولقد فعلتِ أنتِ ما عجز عن فعله أولادي، وفعلتِ أيضًا ما عجز عن فعله احمد ابن اختي، سامحني لأنني استخدمت تلك الحيلة معك، لقد كنت بحاجة فقط لمن يسمعني".
..
ذرف دمعات خفيفة  حتى ابتلت لحيته فذلك الموقف الذي رسخ في ذهن "أدهم"  وتعلقه بلعجوز رغم أنه لم يراها قط بل كانت مجرد بضع أيام مضت على الهاتف فقط لقد كانت أنسا له رغم قلة الفترة .. غالبه النعاس ثم غفى على صوت الغيث .

حبيبي المتديّن!♡Where stories live. Discover now