الفصل المائة وثلاثة وسبعون

37.7K 2.7K 992
                                    


الفصل المائة وثلاثة وسبعون

بدت في تلك اللحظة المميزة وكأنها ثمرة ناضجة، تشتهيها الأعين، يطيب أُكلها، وها قد حان وقت قطفها. شعرت "فيروزة" أمام تلك النظرات المتيمة التي يرمقها بها، كأنما حلقت فوق السحاب، تلقائيًا استحضر عقلها مشاهد سريعة مبهمة لمراسم عقد قرانها الأول، كانت بغير فرحة، تؤدي دورها كأي عروسٍ، دون الشعور بشيء سوى الرهبة والقلق مما هو قادم، أما اليوم فمع نادئه العذب بحروف اسمها، تخللتها مشاعر غريبة، استثارت حواسها، وداعبت أعماق أعماقها.

نفضت عن رأسها الذكريات المزعجة، وجعلت كامل تركيزها منصبًا على ما تعايشه الآن، رجفة طفيفة عصفت بها مجددًا، لا رهبة من المجهول، وإنما توقًا للتقرب أكثر منه، أيمكن للحب أن يسمو بالمشاعره بهذه الطريقة؟ جاءها الرد في بواطن عقلها بالإيجاب.

أشــار لها "تميم" لتتعلق في ذراعه وهو يخاطبها بتنهيدة حارة مفعمة بالمزيد من الأشواق، ليستحثها على التحرك:

-مش يالا بينا.

برجفة خفيفة مدت ذراعها نحو خاصته، تأبطته في ترددٍ خجل، وشعورٌ مغري بالاحتواء قد بدأ في التسلل أسفل جلدها، ربما روى القليل من ظمأ القلوب العطشى. بمجرد أن لامسته أحست بثقل أنفاسه، وبتصلبٍ طفيف يسيطر عليه. سحبت –هي الأخرى- شهيقًا عميقًا حاولت به ضبط الانفعالات المضطربة التي اجتاحتها حاليًا مع اقترابه الموتر لها. نظرة جانبية خاطفة منحته لها، فرأته ينظر إليها ملء عينيه بمحبةٍ تفوق الوصف؛ كأنما لا يبصر سواها، ومن ينظر لغير القمر وهو يمتلكه بين راحتيه؟ توهجت بشرتها، وشاعت فيها حمرة متدرجة، اختفت جزئيًا أسفل مساحيق التجميل؛ لكن أثرها الدافئ شعرت به كليًا.

سارت على مهلٍ لئلا تتعثر في أطراف ثوبها الطويل، ومن خلفها لحقت بها توأمتها، تنحني كل بضعة خطواتٍ لتفرد لها ما يلتف من القماش أو يتعقد. صدحت الزغاريد المبتهجة حين خرجت إلى العلن، كانت الفرحة غير مزيفة، صادقة، نابعة من قلوبٍ صافية، طافت بنظراتٍ سريعة على الوجوه المحدقة بها، فوجدتهم قد اتفقوا جميعًا على إظهار مشاعر الود والسعادة لكليهما.

تقدمت "ونيسة" أولاً لاستقبالها، وراحت تهنئها بعد زغرودة عالية:

-مبروك يا بنتي، ربنا يتمم بخير، ويرزقك سعادة الدنيا والآخرة.

تشكلت بسمة ناعمة على ثغرها، وردت بصوتٍ شبه مهتز من الخجل الممزوج بالحياء:

-الله يبارك فيكي يا طنط.

حملقت فيها "فيروزة" وهي تخاطب ابنها، بما يشبه الوصية:

-عروستك بين إيدك أهي، تحافظ عليها، مش هوصيك.

عفويًا أرادت النظر إليه وهو يعلق على والدته، فوجدته يحدق فيها بنظراته العميقة، التي تنطق بشغفٍ نفذ إلى وجدانها على الفور من مدى صدقه، ارتفع دبيب قلبها، وصار كالمجنون وهو يؤكد عليها:

الطاووس الأبيض ©️ - الجزء الرابع - كاملةWhere stories live. Discover now