التاسع والعشرون

Start from the beginning
                                    

في صالة الانتظار حيث كانت تجلس وعيناها شاخصتان على الفراغ.
كفراغ روحها في تلك اللحظة.
تبدل ذلك الفراغ فجأة وصار مليئا.. بزين.
رفعت عيناها بدهشة لتبصره ووجهه المرهق، وعيناه المحمرتان.
تسارعت دقات قلبها واختنقت أنفاسها وهي تزدرد ريقها بصعوبة.
لتهمس:
- زين.
أدخل يديه بداخل جيوب بنطاله ليقول:
- ممكن نتكلم؟
عضّت شفتها بألم لتجيب بهدوء وهي تنظر إلى الأسفل:
- توقعت أمس قلت كل اللي عندك.
هز رأسه نفيا:
- ما قلت شيء أصلا.
تنهدت وهي تلتفت إلى ياسر:
- ياسر ممكن تخلينا شوي؟
نهض ياسر من مكانه وابتعد عنهما ليجلس زين على بعد مقعد واحد منها، التفت إليها بنظرة غامضة وقال بنبرة آمرة:
- لا تسافرين.
صمتت رؤى قليلا قبل أن تضحك وتفاجئه ثم تقول:
- إذا في شيء مهم قوله، احنا مو بفيلم يا زين عشان أتراجع باللحظة الأخيرة من دون سبب.
قطب جبينه بغضب:
- وطلبي منك مو سبب كافي؟
هزت رأسها نفيا:
- طيب ممكن أسأل بصفتك مين تطلب مني ما أسافر؟
أجفل زين من سؤالها ليجيب بهدوء:
- بصفتي زوجك المستقبلي.
التفتت إليه بقوة والابتسامة الساخرة لا زالت على وجهها:
- مانت مستوعب إننا تطلقنا؟
هز رأسه وملامحه تضيق أكثر:
- إلا، بس أقدر أعقد عليك من جديد يا رؤى.
ازدردت هي ريقها بصعوبة قبل أن تقول:
- أنا ماني موافقة، بعد كل شيء صار يا زين؟ قلت لك هالكلام أمس وبقوله الحين، آذيتك كثير وجرحتك وما عاد عندي طاقة أواجهك بسهولة.
اعتدل بجلسته ليقول:
- وأنا بعد ما قصرت يا رؤى وأعترف، لكن.. لازم نتحمل بعض وننسى أخطاء بعض عشان نعيش.
نظرت إليه بقوة تقول بهمس حارق بالرغم من أنها تشعر أنها المخطئة دونه، ولكن حديثه للتو أحرق دمها:
- انت ما تحملتني يا زين ولا نسيت أخطائي.. كنت تتحين الفرص عشان تجي تقول لي يا رؤى اللي قاعدة تسوينه غلط وما راح تستفيدين من اللي تسوينه، كنت تباني أمشي على هواك، كل شوي تذكرني بعلاقتنا، تدري قد إيش كنت ألوم نفسي لأني ما خليت الزواج يتم خلال هالثلاث سنوات؟ وانت تقول إني السبب؟ لا يا زين انت السبب، كنت أدري إني لو تزوجتك وصرت في بيتك راح أضطر أسكت وأبلع القهر ولا أسوي شيء عشان أخوي، أدري ما كنت راح تقدر تمنعني بس أنا لو شفت وجهك هذا كل يوم وشفت قد إيش انت متضايق من تصرفاتي.. كنت راح أضطر أوقف كل شيء عشانك، لأنك يا زين طيب وأحسن من أني أستاهلك.
توقفت قليلا لتتنفس بعد هذا الهجوم الذي صاحبته الدموع، وأكملت:
- ظليت ألوم نفسي طول الوقت على كل شيء صار بالفترة الماضية، الحين كيف تجي تقول لي لازم نتحمل بعض وانت ما تحملتني؟ كل اللي سويته انك خليتني في ذمتك، بس تركتني في أصعب أوقاتي، ويوم أنا حسيت بنفسي وصار الذنب يبي يقتلني طلقتني بسهولة، مين فينا اللي ما تحمل الثاني هااه؟
نظر إليها بذهول للحظات، يا إلهي.. هل كانت تحمل بقلبها عليه؟
هل كانت تكتم كل ذلك الوجع والقهر؟
محبوبته التي سُئِلت يوما عن موهبتها الفطرية والتي تجيدها جيدا، ستكون الإجابة ( التناقض ألف مرة في الدقيقة الواحدة).
قال بهدوء:
- انتِ اجبرتيني، انتِ اللي خططتِ لهالشيء عشان أطلقك واعترفتِ بلسانك، و …..
قاطعته بغضب:
- تمام، هذا يعني انك ما تحملتني.
أغمض عيناه من ألم قلبه:
- رؤى أنا…………..
رفعت كفها تمنعه من الإكمال:
- تكفى يا زين لا تكمل ولا تقول شيء جرحنا بعض كفاية، لا توجعني ولا أوجعك أكثر لأن هذا آخر لقاء لنا.
شيء ما، قوي كالجليد.. ضرب قلبها بقوة، وهي تسمع نداء رحلتها هي وياسر.
أغمضت عيناها بقوة وهي تخفض رأسها وتحاول كتم شهقاتها.
المنظر الذي يُدمي قلب زين دائما وأبدا، همس برجاء:
- لا تروحين، بصلح كل شيء والأوضاع راح تتحسن.. أرجوك.
هزت رأسها مرارا وتكرار قبل أن تنهض وهي تشهق.
نظرت إلى زين بعينيها المغرورقتين بالدموع، ترى نظرة الرجاء بداخل عينيه.
ولكن حقا، ليس هناك ما يمكنها فعله سوى الرحيل.
اقترب منها خطوة:
- تقولين انك بتروحين عشان تريحيني؟ خليتيني ألقك عشان أرتاح؟ علميني كيف أرتاح وانتِ بعيدة؟ كيف أكون مبسوط وانتِ مو جنبي؟ اسمعي رؤى أنا أدري إني غلطت بحقك كثير، بس أنا صدق كنت أجهل الحقيقة وكنت أبي أعرفها بأي طريقة، حتى لما طلقتك عقلي ما كان في رأسي، أنا ندمان.. والله إني ندمان، ارجعي لي.
رفعت عيناها إليها تقول بنبرة مختنقة:
- قلت لي ذاك اليوم بالمستشفى إنه قلبك ما عاد هو مكاني.
هز رأسه نفيا:
- ما كنت أقصد.
ازدردت ريقها بصعوبة وهي تنظر إليه وتتأمله للمرة الأخيرة.
كم تمنت أن تعانقه بقوة قبل أن تغادر، ولكن ذلك ليس مسموحا لها الآن.
همست وهي تمر من جانبه:
- سامحني، كنت أجمل شيء صار في حياتي وراح تظل كذا.. أنا ما أستاهلك، وأعترف بالهزيمة.

الجزء الثاني من سلسلة ملامح الغياب: هزائم الروح Where stories live. Discover now