الثالث والعشرون

Start from the beginning
                                    

نظرت بضيق إلى هينا التي ابتعدت ودخلت إلى غرفة الإنتظار , القريبة من غرفة العمليات , حيث سبقها علي .
تطلعت إليها من خلال الحاجز الزجاجي , حين اقترب منها سعد ونظر إليها بعتاب .
مسحت دموعها , ودخلت إلى هينا , تقول بنبرة باردة عكس ما تشعر به :
- يلا يا هينا نرجع , سويتي الواجب وتطمنتي عليه بين يدين الأطباء , يلا قومي .
لم ترفع هينا وجهها وهي تقول بهدوء :
- خليني أقعد لين تجي أمه على الأقل , تكفين يمه .
تنهدت بقلة صبر , وهمت بالإعتراض .. قبل أن يمسك سعد بذراعها ويأمرها بتركها .
أغمضت عيناها تحاول كظم غيظها , ثم هزت رأسها :
- تمام , بس خليك مع علي على طول , ولا تتأخرون .
قالتها وغادرت برفقة سعد , الذي ظل قلقا على الشاب طوال الوقت .
يفكر فيما أراد إخباره به .

لم تمر سوى ربع ساعة , حين رفعت هينا وعلي رأسيهما على صوت خطوات سريعة أشبه بهرولة .
وقفت حين أبصرت عيناها وجه منال القلق والباكي .
تفاجأت منال بشدة , وهي ترى هذا الوجه المألوف .
اقتربت منها بسرعة وأمسكت بكفيها وهي تبكي :
- إنتِ هينا صح ؟ إنتِ اللي كلمتيني ؟
هزت رأسها إيجابا , وهي تشعر بالألم على هذه الأم المسكينة , والتي هزتها فجأة :
- وينه هادي الحين ؟ إيش صار فيه ؟
- توه الدكتور اللي بيسوي العملية دخل الغرفة , ادعي له .
سقطت منال على المقعد جالسة , وسحبت معها هينا , تنظر إليها متسائلة :
- إيش اللي صار بالضبط يا بنتي ؟ هادي وش وداه عندك ؟ ليش انتِ معاه ؟
ابتسمت هينا بغباء وهي تشعر أن المرأة فهمت الموضوع خطأ , لتسرد لها تفاصيل ما حدث منذ الصباح .
أما منال , فابتسمت بألم وهي تستمع إلى هينا .
شدت على يد هينا , تتأمل هذا الوجه الجميل , والذي لا يُلام وحيدها على حب صاحبته .
ارتبكت هينا من نظرات منال .
ولم يطول استغرابها , بل طالها الدهشة والذهول التام , وهي تسمع ما تقوله منال بنبرة حنونة ومؤثرة :
- هينا يا بنتي , لو قلت لك إنه ولدي هادي عنده أمنية وحيدة وده يحققها قبل لا يتوفى الله يطول بعمره , وهي ما راح تتحقق إلا إذا انتِ وافقتي , إيش بتقولين ؟

اتسعت عينا هينا , وبقيت صامتة لبعض الوقت .. وإشارات عقلها التقطت شيء غريب , إلا أنها تجاهلته , لتسأل بتردد :
- لو صدق أمنية أنا أقدر أحققها له , ما راح أتردد طبعا .
ابتسمت هينا وهي ترفع كفها وتمسك بخد هينا , تسألها :
- وإذا قلت لك إنه هالأمنية هي إنه يتزوجك ؟
عادت هينا إلى الخلف لا إراديا , وكأنها تكهربت مما قالته منال .
ظلت تحدق فيها لوقت طويل , قبل أن تنزل من عينها دمعة يتيمة , من دهشتها وصدمتها وحزنها في نفس الوقت .
هل يحبها ؟
وقفت فجأة :
- أنا آسفة خالتي , لازم أمشي الحين , أمي تنتظرني .
قالتها والتفتت إلى علي الذي يراقب الموقف بصمت من بعيد :
- يلا علي .
ابتعدت عن منال بخطوات سريعة .
واختفت من أمام ناظريها .
تاركة إياها تنظر إلى الفراغ , بقلب متألم بشدة .. وخائف على إبنها .
تعرف أنه ربما ليس الوقت المناسب , ولا المكان المناسب .
ولكن ..
وإن كان هذا الإحتمال يقتلها , ربما .. هذه هي الدقائق الأخيرة من حياة إبنها ووحيدها , هي فقط ..
تحاول أن تحقق له أمنيته الأخيرة .
ليت هينا تفهمها , وتفهم ما تشعر به بالضبط .
فتوافق على الفور ..!
وما تنفع ليت ..!
انتبهت من غفلتها حين جلس شقيقها بجانبها , وأمسك بكفها يحاول أن يبعث فيها شيء من الطمأنينة والقوة .
استأذنته لتتجه إلى دورات المياه .
تتوضأ , وتطلب من إحدى الممرضات أن تدلها على حجرة فارغة وخالية , حيث لا أحد سيستطيع إزعاجها فيها .
حين رأتها الممرضة محجبة وعلى وجهها آثار الوضوء , عرفت أنها مسلمة .
فدلتها على حجرة بعيدة نوعا ما , بل أوصلتها إليها .

الجزء الثاني من سلسلة ملامح الغياب: هزائم الروح Where stories live. Discover now