الفصل المائة وأربعة وثلاثون

ابدأ من البداية
                                    

-معايا أهي.

بينما ردد "تميم" وهو يتنحى جانبًا:

-أنا أصلي دخلت فجأة الأوضة ولبختها.

رفعت "هاجر" حاجبها متسائلة في مكرٍ:

-طب أحضرلك تاكل؟

تحولت تعابيره للجدية وهو يرد:

-تسلم إيدك، بعدين، أنا نازل تاني ..

تدلى فك "فيروزة" السفلي في استغرابٍ لذهابه المفاجئ، وحاولت عدم النظر في اتجاهه؛ لكنه أجبر عينيها على التطلع إليه وهو يكمل إملاء أوامره على شقيقته ليشعرها بأهميتها الكبيرة:

-بس شوفي الأبلة عايزة إيه وساعديها، أوعي تقصري معاها.

أمسك بها وهي تنظر إليه، وبدت ملامحه غير مقروءة؛ لكنه ودعها بنفس النبرة الهادئة:

-نورتينا يا أبلة .. السلام عليكم.

انتظرت للحظة حتى ابتعد مع شقيقته للخارج، لتتبعهما وهي في قمة حرجها، دارت برأسها المزيد من الهواجس عندما عادت إليها "هاجر" مرددة:

-معرفش والله إيه اللي حصله.

ضاقت عينا "فيروزة" بشكٍ، فتابعت "هاجر" تفسير كلامها الغامض:

-ده بقى مابيقعدش في البيت ساعتين على بعض.

توهمت أنها السبب في عزوفه عن المكوث به بسبب تواجدها الزائد مؤخرًا، خاصة مع تعاظم هذا الشعور المُلح بداخلها بمطاردة ما كان يمنحه لها سابقًا في غفلةٍ منها، ورغبتها في التمتع بذلك الإحساس بدرجة ربما كانت منفرة له، وغير مريحة. نكست رأسها في خزيٍ، واعترفت لها بغصةٍ تؤلم حلقها:

-يمكن مضايق من وجودي وآ...

قبل أن تلعب برأسها الظنون المخادعة ضحكت "هاجر" مقاطعة إياها:

-"تميم"! يضايق منك، استحالة!

نظرت إليها مدهوشة، وبقلبٍ يدق في توترٍ غريب، بينما واصلت شقيقته البوح مع ضحكاتها القصيرة المرحة:

-إنتي متعرفيهوش كويس، "تميم" غير أي حد، بكرة لما آ...

بترت باقي جملتها عند سماعها نداء والدتها الجاد:

-يا "هاجر"!

التفت برأسها للجانب لترد:

-أيوه يامه.

أجابتها وهي تغلق باب غرفة الجد بعد أن خرجت منها:

-اتصلي بأبوكي شوفيه هيرجع أمتى، عشان أسخنه الأكل.

هزت رأسها في طاعة وهي ترد:

-ماشي.

انسحبت "هاجر" باحثة عن هاتفها المحمول، في حين وقفت "ونيسة" إلى جوارها تسألها:

-ناقصك إيه بنتي وأساعدك فيه؟

بعد ذلك الكم من الحرج والاعترافات الغامضة المثيرة للفضول، والتفكير، لم تعد "فيروزة" قادرة على التركيز، كان الحل الأسلم حاليًا الاختلاء بنفسها، ولملمة شتات فكرها المبعثر، لهذا جمعت متعلقاتها، وطوت المفرش قائلة:

-لأ، أنا كده تمام، دي حاجة بسيطة هنجزها على طول فوق مع ماما.

اعترضت عليها في ودٍ:

-طب أخلصها أنا، ده إنتي طول اليوم طالع عينك معانا.

ردت في إصرارٍ مصحوب بابتسامةٍ منمقة:

-ده شغلي، وأنا مبسوطة بيه.

ربتت "ونيسة" على كتفها تشكرها في امتنانٍ كبير:

-نتعبلك كده يا رب نهار فرحتنا بيكي إنتي وابني "تميم".

جملتها كانت عفوية للغاية، غير متبوعة بأي نوايا أو استباقٍ لما يمكن حدوثه، ومع هذا برقت عيناها مصدومة، واكتست بشرتها بحمرة غريبة جعلتها تشعر وكأنها في أوج حرجها، وهي التي لم تختبر مثل تلك المشاعر المربكة طوال سنوات عمرها. تصنعت الابتسام، وقالت في تلعثمٍ طفيف:

-عن إذنك يا طنط.

سارت معها "ونيسة" تصحبها لباب المنزل وهي تدعو لها بصدقٍ:

-ربنا يبارك فيكي ويصلح حالك، ويفرحنا بيكي قريب.

لوهلةٍ شعرت "فيروزة" كما لو كانت ساقاها تستثقلان الابتعاد عن هذا المكان المتخم بكافة المشاعر الأسرية الدافئة، بل الأحرى أنها خشيت الابتعاد عنه تحديدًا، استحضر ذهنها صورته، وصدمها تفكيرها الجري فيه هكذا أمام والدته، خفقة أخرى عصفت بقلبها، وجعلتها راغبة في الاختباء من نظراتها العادية التي يمكن أن تفضح أمرها، تحاشت النظر إليها، وهتفت مودعة إياها بابتسامة شبه مضطربة:

-تصبحوا على خير ........................................... !!

...........................................................

الطاووس الأبيض ©️ - الجزء الرابع - كاملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن