اللهم أدخلني مدخل صدق , وأخرجني مخرج صدق
لا تلهيكم عن الصلاة وذكر الله
لا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك وله الحمد , وهو على كل شيء قدير
___
الماضي ..
كانت تلك العبارة من سامي , كافية لجعلها تنهار بداخلها بقوة وعنف .
وتشعر بالخذلان المريع .
رفعت عيناها إلى هادي المصدوم من كل ما يحدث ويسمع , عاقدا حاجبيه بشدة .
إلى أن سقطت عيناه بعينيها , ولانت ملامحه .
لتهز هي رأسها بإستياء .
وتشعر بأقدامها أخيرا وهي تقودها إلى حجرتها .
لتدخل وتغلق الباب خلفها بكل هدوء ودون أن تصدر أي صوت .
حينها وقف هادي أمام أخيه وغضب العالمين في وجهه , ولكنه ما إن نوى فتح فمه والتحدث .. حتى شعر بصداع قوي يداهمه .
ولا يرى سوى الضباب .
ترنح حتى أمسك بجانب أحد المقاعد , وجلس على الأرض .
مغمضا عينيه بشدة من هذا الألم المفاجيء والشديد .
والذي كان بداية لأعراض إصابته بالورم .
ذلك الألم جعله يمسك رأسه بيديه , ويدقه على حافة الطاولة .
فزع سامي من المنظر , بل وحتى من كانت تقف خلفه منذ عدة ثوانِ .
حياة التي عادت , ولم تفتها أي كلمة مما تفوهت به رؤى في لحظة إنهيار وعصبية عمياء .
اقترب سامي من هادي , وانحنى ينظر إلى تلك الملامح المشدودة , والوجه المحمر بشدة .
دفعه هادي عن غير قصد .
ووقف بقوة , ليسقط من طوله فاقدا للوعي .
شهقت حياة عائدة للخلف تضع يدها على صدرها , ثم غطت فمها بذهول مما حدث للتو وبطريقة مفاجئة .
نظرت إلى سامي وهزته من ذراعه :
- سامي إيش فيك إيش تنتظر , وده المستشفى .
بقي في مكانه مصدوما وغير مستوعب , في داخله شعور بالذنب .
هل ما قاله هو عن ماهر السبب في سقوطه بهذه الطريقة ؟
أصبحت مواقفه مع ماهر , وجميع إخوته .. تأتيه واحدة تلو الأخرى بطريقة سريعة .
وكأن شريط من المقاطع المسجلة يعرض أمامه .
ولا يركز هو سوى على ما يتعلق بماهر برفقة هادي .
كانا قريبين جدا .
كان ماهر مثل القدوة بالنسبة إلى هادي .
وكان ماهر يعامله بطريقة مميزة .
نعم كان طيبا مع الجميع , إلا أن هادي كان الأقرب له .
لسبب يجهله الجميع .
الآن تذكر , كيف انهار هادي , وغضب وفعل ما فعل .. بعد مقتل ماهر .
أكثر من تعب في ذلك الوقت , بعد رؤى بالطبع .
وحلف يمينا أن لا يبرح الأرض حتى يأخذ حق أخيه بيديه .
الآن وبعد أن قال ما قال , دفاعا عن امرأة لا يعرف عنها شيء سوى أنها أرملة أخيه وابنة عمه , وأصبحت زوجته فجأة .
وكان القرار صادرا عنه لحاجة في نفسه .
يرى هذا المنظر المريع أمامه .
لم ينتبه من شروده وصدمته إلا على شهقة لجين العالية , وهي تقترب وتقف خلفه , تنظر إلى وجه هادي بخوف :
- بسم الله وش فيه ؟
أبعدتهما حياة من الخلف , متذمرة ومتأففة من وقوف سامي بتلك الطريقة .
كأنه تمثال .
جلست على ركبتيها بالقرب من وجه هادي , ورشت على وجهه ماءً باردا أحضرته للتو من المطبخ .
وحين لم يستجب قربت من أنفه زجاجة عطر أخرجتها من حقيبتها .
حتى شهق وفتح عينيه , ثم صار يسعل عدة مرات مغمض العينين , مقطب الجبين بألم .
قبل أن يفتح عينيه مرة أخرى , ويجد أمامه وجه حياة القلق :
- هادي كيف حاس ؟
رفع كفه ليمسك بحافة الأريكة , ويجلس مستندا عليه بتعب وكأنه للتو انتهى من سباق ماراثون :
- ما أدري , دايخ مرة .. وما أشوف زين .
ردت حياة بنبرة حنونة :
- بسم الله عليك هادي , ليش فجأة صار لك كذا ؟
لم يجبها , بل حاول الوقوف وهو يشعر بالحرج منها .. دائما ما تعامله وكأنه أحد أبناءها , وهو دائم الإبتعاد عنها .. لسبب لا يعرفه .
تحرك سامي أخيرا ليساعده على النهوض , إلا أن كف هادي منعه من الإقتراب أكثر .
التفت ينوي الخروج من الصالة , فقاطعته حياة :
- ليش ما ترتاح هنا اليوم ؟
كان التعب قد تمكن منه بشدة , ما جعله يجلس على ذات الأريكة مستسلما .
وكأنه ينتظر تلك الفرصة لكي لا يقود سيارته عائدا إلى والدته بتلك الحالة .
التفتت حياة إلى لجين :
- روحي جهزي الغرفة لأخوك , خليه يرتاح .
أومأت برأسها بإيجاب , فقطب هادي جبينه بغرابة ونظر إليها رافعا أحد حاجبيه :
- مشكورة ما أحتاج خدماتك , بجهزها بنفسي .
التفتت إليه بقوة وحدة :
- كويس , أساسا ما أتشرف بمساعدة واحد مثلك , الله يأخذك .
لم يرد عليها , بل بقيَ ينظر إليها بنظرات كادت تحرقها .. وهو يتذكر إنهيار رؤى قبل قليل , وعدم تمكنه من التخفيف عليها بسبب إغماءه وتعبه المفاجيء .
حين صرخت حياة موبخة لجين بغضب :
- لجين احترمي أخوك .
لترد هي بصوت أعلى :
- خليه هو يحترمني قبل ويحترم أهل البيت اللي قاعد فيه .
تلك الوقحة .
عديمة الأخلاق والضمير .
كيف ترد على أمها بهذه الطريقة ؟
رد بنبرة منخفضة أقرب للهمس :
- إنتِ من يوم صرتي بذمة فهد ما عدتِ من أهل البيت يا وقحة , روحي شوفي أختك كيف حالها بعد ما طعنتوها كلكم ورحتوا لبيت القاتل المصون زوجك .
ابتعدت حياة بهدوء , متجهة إلى الحجرة التي ستعدها لهادي .
محاولة إخفاء حزنها وألمها على رؤى .
فما قالته ليس بهين .
حتى أنها ذكرت إسمها وجعلتها من ضمن من تسببوا لها بالألم .
وهذا ما لم تتمناه حياة مطلقا , وودت لو أنها ماتت قبل أن تسمع من رؤى ذلك الكلام .
ثم تلك النظرة التي رمتها عليها قبل أن تدخل إلى حجرتها , شطرت قلبها إلى نصفين .
وجعلتها تندم بشدة على ذهابها إلى منزل طلال .
أما لجين , فقد ألجمها ما قاله هادي تماما .
رغم هدوءها وقسوتها الظاهرين على ملامح وجهها , إلا أنها تألمت بشدة .
وخفق قلبها بقوة .
خاصة حين رأت حياة تبتعد بملامح متجهمة .
كأنها للتو استوعبت عدم وجود رؤى في الصالة .
وأنها لم تكن معهم في حفلة نجود البائسة .
حتى أنها شعرت بالغضب على نفسها , من أجل بقائها مع فهد .
وعودتها برفقته إلى المنزل هي وحياة .
ثم بقيت تتحدث إليه لبعض الوقت دون أن تلحق بحياة على الفور .
ما الذي حصل قبل أن تدخل هي وتجد هادي على الأرض ؟
لا بد من أنه شيء عظيم .
حتى ملامح سامي لا تبشر بالخير إطلاقا .
أين رؤى ؟
هل هي في حجرتها تواجه نوعا من الآلام بمفردها ؟
كما فعلت دائما بعد وفاة ماهر ؟
تحدثت أخيرا , بعكس ما بقلبها تماما :
- إنت أبد مالك حق تتدخل بيننا أنا وأختي تفهم ؟
قالتها وابتعدت , لتدخل إلى حجرتها وتضرب الباب خلفها بقوة ثم تغلقه بالمفتاح .
لم يشعر هادي بالسوء .
اعتاد على الأمر منذ زمن طويل .
حتى حياة التي خرجت من الحجرة بعد أن أعدتها , ودخلت إلى حجرتها بعد أن أخبرت هادي بذلك .
لم تشعر بالسوء على إبنتها لجين بسبب إهانة هادي لها وصراخه عليها .
فهما دائما كذلك , منذ صغرهما .
هادي المعتاد على تدليل أبيه له , حتى بعد فراق والدته عنها .
كان يغار بشدة من لجين .
بعد أن أصبحت هي الملكة في قلب أبيها .
وقلّ إهتمامه بهادي .
لم يسبق وأن رأت طفلا بمثل أخلاقه .
هادئا في كل الأوقات , ولكنه يخفي وراء هدوئه ذلك .. عواصف من المشاعر العنيفة .
غيرة , حقد , غضب .. وأشياء أخيرة لا تعرف كيف تحملتها منال منه .
لجين لم تكن أقل منه .
حادة الطباع , منفعلة دائما .
كلما رأت هادي إما شتمته أو أغضبته أو استفزته بأي شيء .
لم تحب يوما أن تراهما مجتمعين في مكان واحد .
جلّ تفكير حياة كان في رؤى .
التي لا تعلم ماذا تفعل الآن , بمفردها في الحجرة .
شيء ما يدعوها للذهاب إليها والإطمئنان , وآخر يريدها أن تبقى في مكانها تنتظر حتى صباح الغد .
علها تهدأ قليلا وتريح أعصابها .
رؤى نادرا ما تغضب , لذلك إن غضبت تتفوه بما تندم عليه لاحقا .
فتتعب بشدة , وتظل تعتذر وتعتذر حتى تظهر بمظهر الضعيفة الذي لا يرضي حياة .
لا تحب رؤيتها بذلك الشكل .
ليتها سألت عن رأيها بالذهاب إلى منزل عمها .
لو أنها علمت أن ذلك سيجرح رؤى لما فكرت مجرد التفكير .
حتى لو كان سامي إبنها .
لم يكن بحاجة إليها في هذا الوقت .
فأعمامه وأبناءهم وإخوته , جميعهم كانوا متواجدين .
يعني أنه ربما استطاع الإكتفاء بهم في مثل تلك الليلة الغريبة .
حتى أنها غير مقتنعة وراضية تماما .
إذا لمَ كان عليها أن تحضر ؟
وتجرح رؤى بتلك الطريقة السيئة ؟
منذ أن أخبرها سامي بالموعد وجدت نفسها مستعدة , فقط من أجل أن تسعد إبنها .
متناسية رفضها واستنكارها للأمر منذ البداية .
وأيضا , لم تفكر بتلك المسكينة أبدا .
آآآه يا نجود , ما الذي فعلته بأبنائي ؟
أولا ماهر الذي راح على يد أخيك , ثم سامي .. والذي بخطبته جرحت رؤى .
وجعلتها تشعر بذلك الألم العميق مجددا .
وتشعر بفقد أخيها من جديد .
****.
الحاضر ...
توقفت الجوهرة أمام حجرة هينا مقطبة جبينها , وعيناها متسعتان وهي تسمع صراخها الغريب من الداخل , متذمرة :
- الحين إيش فيها لو قصيت هالشعر الزفت وارتحت هااه ؟ لازم كل يوم أنتظر ساعتين عشان يجف ؟ ليته كان طويل بس إلا كثيف ويزعجني بقوة آآآآآآآه .
فتحت الجوهرة الباب ونظرت إليها بغرابة شديدة , خاصة حين التفتت إليها هينا وأكملت بغضب :
- غير كذا ما أحب اجففه بالإستشوار , يدي تنشل على ما أخلص , ليش ما أقصه ؟
تقدمت منها الجوهرة , حتى وقفت أمامها .. وصارت تنظر حول هينا تبحث عن هاتف أو بشر أو حتى ربما جان ذلك الذي كانت تصرخ به وتتحدث إليه بهذه الجدية .
ارتبكت هينا وتوترت , وتنحنحت لتعدل صوتها الذي كاد يختفي بسبب صراخها , لتقول بهدوء وهي تنظر إلى الأسفل :
- كنت أكلم المرايا .
رفعت الجوهرة عيناها إلى هينا , تتفحصها وكأنها تراها للمرة الأولى .
كانت ترتدي رداء رياضي باللون الوردي , وشعرها المبلول على كتفيها الإثنين , بينما وجهها متورد بشدة .
رفعت كفيها وتلمست وجنتي هينا , لتقول :
- إنتِ بخير ؟
ابتسمت هينا بغباء , لتبدوا كالأطفال تماما .
حين ابتعدت عنها الجوهرة تهز رأسها بإستياء :
- مرة ثانية يا خبلة لا تصرخين وتكلمين نفسك بهالطريقة , حسبتك انجنيتي .
ضحكت هينا وهي تلتفت وتواجه المرآة مرة أخرى :
- بس صدق يمه ليش ما أقص شعري ؟ والله تعبني حيل .
نظرت الجوهرة إلى شعر إبنتها , والذي دائما يجعلها تشعر بالسعادة بمجرد النظر إليه .
من شدة جماله .
فقد طال جدا حتى وصل إلى أعلى فخذها .
لونه الطبيعي والمائل إلى البني الغامق , ونعومته وكثافته .
كل تلك الأشياء جعلتها ساحرة المنظر .
إبنتها تمتلك كل مقومات الجمال , سبحان من خلقها .
- لا يا هينا , إياك تفكري تقصيه .. راح تندمي صدقيني .
تأففت هينا وهي تكمل تجفيفه :
- مو هذا اللي خايفة منه , أندم بعد ما أقص .. بس صدق , زي الزفت صاير شعري , ما ينشف إلا بالموت .
نظرت إليها الجوهرة وهزت رأسها مرة أخرى , هينا لن تكبر .. أبدا :
- الله يعينك أجل , أنا بروح أتجهز وانتِ بعد خلصي بسرعة , لا أسمع صوتك وانتِ تكلمين نفسك مرة ثانية مفهوم ؟
خرجت لتترك هينا تكمل الصراع والعذاب مع شعرها .
لا تجففه بتلك الطريقة دائما .
بل فقط حين تكون مستعجلة .
أما في باقي الأيام فتتركه يجف بمفرده .
انتهت أخيرا .
لتضع الإستشوار جانبا وتسقط يديها بتعب .
ظفرته بطريقة عصرية أنيقة , ثم بدأت بوضع بعض المكياج على وجهها الخالي من العيوب تماما .
حين انتهت أعادت أنظارها إلى شعرها مجددا , وأظلم وجهها فجأة .
وهي تتذكر ذلك الشاب .
الذي سيفقد شعره بسبب العلاج الكيماوي ..!
هل حقا سيحدث ذلك الشيء ؟
هل سيصبح أصلعا ؟
بعد أن امتلك هذا الشعر الجميل الكثيف الداكن ؟
والمصفف بطريقة جميلة ..!
تبا لكل تلك الأفكار الغبية , وشعرها الذي أجبرها على التفكير بذلك الغريب , وكأن هناك مجال للمقارنة ..!
اتجهت إلى خزانة ملابسها .
لتخرج فستانا أنيقا , باللون الأسود .. طويلا وساترا .
ابتسمت برضا على مظهرها .
ليان تحب أن تراها محتشمة , وتنصحها دائما بإقتناء ما لن يجعل والدتها تقف أمام الله مسؤولة عن ملابس إبنتها , العاقلة والبالغة .
تغيير كبير وجذري ذلك الذي حصل في حياة هينا , بعد أن دخلت ليان إليها .
أصبحت أكثر إلتزاما وإنتظاما من السابق .
إلا أنها لا زالت غير مقتنعة بفكرة تغطية الوجه .
وكل ما ذكرت ليان ذلك الأمر بأسلوبها الجميل والمحبب , دون ضغط أو إكراه .. تذكرت محمد .
تلك الليلة حين سألها عن سبب عدم غطاءها لوجهها , تجاهلته وغيرت الموضوع .
لأنها حتى هذا الآن , لا تملك سببا حقيقيا واحدا ومقنعا بشدة لعدم ارتداءها للغطاء .
هل فقط لأن عائلتها تعيش بشكل مختلف ؟
وقريباتها لا يفعلن ذلك ؟
سبب غير مقنع أبدا , وبعيدا عن المنطق .
لا ترفض الأمر تماما , إلا أنها لا زالت غير قادرة .
ستفكر مرارا وتكرارا , وستفعل ذلك في يوم من الأيام بكل تأكيد .
فهي محجبة منذ الصغر , قبل أن تدخل سن البلوغ حتى .
ولم ترتدي يوما لباسا ضيقا مع الحجاب .. إلا مرة ومرتين حين سافرت .
أما في باقي أيامها .
ترتدي عباءة واسعة , وطرحة أوسع .. تغطي جميع مفاتنها غير وجهها الجميل بالطبع .
كانت سيارة والدتها تقف أمام منزل غسان بعد ساعة .
لتنزل هينا بلهفة , وتتجه نحو الباب بخطوات مسرعة .
ابتسمت الجوهرة وهي تنظر إليها من الخلف , ثم تنزل حاملة إبنها الصغير .. وراءها بناتها .
هينا تلك المغفلة , يبدوا أنها تحب هذا المنزل ومن به أكثر منها هي وزوجها .
سابقا كانت مشغولة بغسان , الآن أصبحت متعلقة تماما بليان .
حسنا , الجوهرة شعرت ببعض الغيرة ..!
طرقت هينا الباب , ففتح لها خالد الصغير .. ورفع رأسه ينظر إلى الطارق , ثم ما لبث أن أبعد هينا بقوة وركض تجاه أختها , ليمسك بكفها بسعادة :
- وأخيرا جيتوا يا لما .
اتسعت عينا هينا بدهشة مما فعل , وضحكت الجوهرة وهي تدخل .
اقتربت منه وهي تضع يدها على خاصرتها قائلة بحدة مصطنعة :
- ما شاء الله تستقبل أختي زي الناس وأنا تبعدني كذا يا ناكر المعروف ؟ هاا ؟
رد عليها خالد ببراءة :
- أنا ما أحبك إنتِ , بس أحب لما .
انحنت تضع يدها على صدرها , وشهقت تمثل الصدمة :
- يا حيوان , تتغزل بأختي ؟ مين سمح لك هاا ؟ يعني تتوقع بوافق ازوجك إياها ؟
قبل أن يجيب خالد , ويبتعد ممسكا بكف لما الصغيرة ذات الأربع سنوات .
أجفلها صوت رجولي من خلفها :
- مو زين تقولين مثل هالكلام للصغار يا هينا .
مهلا ..
هل توقف كوكب الأرض عن الدوران للتو ؟
أم هل رش أحدهم مثبت قوي على عينيها ؟
لتتوقف عن الرمش تماما .
وجسدها عن الحركة ..!
أم ما الذي حدث بالضبط ؟
هل صوته هو المثبت الذي جعل جسدها يتصلب بهذا الشكل .
لتلتفت ببطء تام , وتواجهه .. فتلمع عيناها بحنين غريب وقديم .
وتلين ملامحها بشدة , فتقول بصوت خافت أقرب للهمس :
- محمد .
ابتسم محمد دون أن ينظر إلى وجهها :
- إيش ؟ قلت شيء غلط ؟
لم تحرك عيناها من عليه , وبدت كأنها لم تسمع شيئا مما قاله :
- هاا ؟
ضحك :
- لسه بقيتِ مثل ما انتِ يا هينا , فاهية طول عمرك .
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تشعر بالتوتر الشديد :
- إيش قلت ؟
عقد حاجبيه :
- قلت أنك ما تغيرتِ , وإنك فاهية مثل ما تعودتك .
ابتسمت بإرتباك :
- لا , قصدي أول .. إيش أول شيء قلته ؟
هز رأسه بإستياء من غبائها وعدم تركيزها :
- مو زين تقولين للأطفال كلام مثل اللي قلتيه لخالد , تتغزل وما تتغزل .. بعد كذا بتكوني المسؤولة عن أي تصرف غلط إذا كبر .
نظرت إليه بإزدراء :
- ليش ؟ ما قلت كلام كبير .. بعدين هو ما يفهم , وراح ينسى أكيد إيش دخلني بعدين إذا كبر وعقل ثم غلط ؟
- لأنه ما يفهم يا هينا , راح يحسبه كلام عادي ويردده في ذهنه ويصير مثل الكلام البديهي .
تأففت بداخلها وهي تعود وتنظر إليه :
- لا تبالغ محمد .
قال وهو يدخل يديه بجيبه ويحرك كتفيه :
- تمام , أنا ما تدخلت إلا لأني شايف هالتصرف غلط .. وانتِ بكيفك , كبيرة وعقلك براسك عشان تفرقين بين الصح والغلط , قولي لي .. إيش أخبارك ؟ وكيف دراستك ؟
أخفضت بصرها وهي تفرك يديها بتوتر , ما زالت غير مصدقة أنه أمامها ويتحدث إليها , ويجري هذا الحوار الذي لا يستوعبه عقلها بسبب المفاجأة والصدمة , كيف تجرأ ووقف أمامها ؟
بعد أن رفضته ..!
من أين له هذه القوة والشجاعة .
بينما هي تكاد تموت في مكانها خجلا وارتباكا :
- كله تمام الحمد لله , وانت ؟
لا زالت أنظاره بعيدة عن وجهها الفاتن , ما جعلها تشعر بالجرح والإهانة بسبب تجنبه للنظر إليها :
- الحمد لله , بأحسن حال .
اعتدل في وقفته قبل أن ترد :
- ادخلي هينا , يا ليت تغطين وجهك .
قالها وابتعد موليا ظهره إياها .
لتتسع حدقتيها بصدمة من تصرفه الغريب .
حتى أنها شعرت بشيء من الغضب يسري بها .
ما شأنه هو ؟
إن لم يرد النظر إليها , لا يفعل إذن كما حدث للتو .
واستطاع أن يتحدث إليها دون أن يرفع عيناه ولو قليلا .
لا شأن له في الباقي .
التفتت لتدخل من الباب المفتوح على مصراعيه منذ البداية .
وهي تفكر بالسبب الذي جعله يأتي إلى منزل عمها , وفي هذه المناسبة الخاصة .
التي أعدتها ليان لقريبات زوجها .
هل لا زال صديقا لغسان ؟
هل لا زالا على تواصل ؟
نعم لمَ لا ؟
هل كان على غسان أن ينهي صداقته الجديدة بمحمد لمجرد رفضها ؟
حين دخلت إلى الداخل بعد أن خلعت عباءتها في الممر , وأعطتها لإحدى شقيقاتها التي أمرتها أن تسبقها .
انصدمت أكثر وهي ترى ضيفة لم تتوقعها .
والتي عرفتها على الفور وتذكرتها .
تلك الفتاة في عرس أبرار , والتي عرفت عن نفسها بكل ثقة ومرح .. قائلة لأبرار :
( المحامية الفذة عالية زوجة محمد ولد عمك , على فكرة لسه قاعدة أدرس ما صرت محامية بس قريبا إن شاء الله , وتراني صادقة .. بصير صديقتك .. إذا قبلتي طبعا ) .
جلست هينا على أريكة مفردة بجانب إحدى بنات عمومتها .
بعد أن سلمت على الجميع .
حتى مرت بعالية .
التي سلمت عليها بود ورحبت بها , مثلما فعلت مع الجميع .
ثم نظرت إليها بذهول وإعجاب :
- بسم الله عليك , إيش هالجمال يا هينا ؟ ليان كلمتني عنك بس صراحة ما توقعتك بها الجمال الله يحفظك .
ابتعدت هينا بعد ان ابتسمت لها بنعومة وارتباك لم تلحظه عالية .
ظلت طوال الوقت تراقب عالية .
التي كانت تتحدث إلى الجميع بمرح وتضحك وكأنها معتادة عليهم .
بعد التفكير الطويل والتأمل , وجدت فعلا أنها تناسب محمد .
فهو طيب , يستحق فتاة طيبة مثل عالية .
عقدت حاجبيها تناقض فكرتها ؟
هل هو طيب فعلا ؟
إذا لم يكن عليه التدخل , ولم يكن عليه أن يأمرها بتغطية وجهها بتلك الطريقة .
ولكنه حقا .. كان طيبا .
لم يؤذها أبدا , ولم يجرحها .
بل حتى بعد أن رآها بعد أشهر , تحدث إليها بكل هدوء .
ولم ينظر إليها , إحتراما لزوجته ربما .
وما الذي قالته عالية ؟
أن ليان حدثتها عنها ؟
حتى تاقت لرؤيتها ..!
ليان ربما لا تعرف شيئا عن خطبة محمد لها .
وإلا لما تحدثت لزوجته عنها بتلك الطريقة الرائعة التي تجعلها تتوق لمقابلتها .
بعد نصف ساعة , تفاجأت هينا بعالية تجلس بجانبها .
تتحدث إليها قائلة أنها تريد التعرف عليها .
ما جعلها ترتكب أكثر عن السابق , ويحمر وجهها .
في هذه اللحظة , كرهت جرأة عالية .
أكثر مما كرهتها حين عرفت بنفسها أمام أبرار .
هذه المغفلة , لا تعرف شيئا عن زوجها وماضيه .
لا تعرف أن محمد كان مغرما تماما بأبرار .
ولا تعرف أنه كان ينوي الزواج بها ..!
______
واشنطن ...
يجلس برفقة ليام على أحد المقاعد الخارجية لحجرة جيليان في المستشفى .
يحرك ساقيه بقلة صبر .
ينتظر خروج الطبيب وكأنه يجلس على جمر .
حتى التفت إليه لِيام متذمرا :
- هلاّ توقفت عن هذه الحركة الغبية رجاء ؟ فقد أربكتني معك .
التفت لينظر إليه نظرة جعلته يستغرب بشدة ويخاف , ثم يضحك :
- لمَ تنظر إليّ هكذا ؟
زفر بضيق وهو يعيد أنظاره إلى الأمام .
حين أكمل لِيام بهدوء وهو يستند بظهره على المقعد الحديدي :
- لهذا السبب لم أرغب أن تخوضوا في الأمر مجددا يا زياد , انظر إلى نفسك , وإلى جيليان .. كلاكما أصابكما الإنهيار لسبب مجهول , وأنا هنا أتتبعكما وأنتظر أي كلمة مثل المجنون , تاركا عملي وحياتي .
ردّ زياد بهدوء وحدة في نفس الوقت :
- تستطيع العودة إلى عملك , أما أنا فسأنتظر الطبيب حتى يخرج ثم أقتل أختك وأغادر .
التفت إليه بدهشة , ثم ضحك بصوت عالٍ .
ليردف زياد بصوت أعلى :
- لماذا تضحك ؟ أنا محق .. ما فعلته معي غير معقول , ذهبت بي إلى مكان غريب يسكنه الجن , ثم جلبت معها مجنونة أخرى لتفقدني أعصابي .
ابتسم لِيام بسخرية :
- هذا ما قصدته تماما منذ البداية , وحاولت منعك من الإقدام على فعل سيجعلك تندم عليه لاحقا .
صمت زياد قليلا ليرد من بين أسنانه :
- اصمت لِيام , رجاء .
تنهد لِيام بضيق وهو ينظر إلى زياد , ثم يبعد عيناه عنه .
يشعر بالشفقة تجاهه .
هو بالتأكيد , عاش ليلة مجنونة .. بسبب غباء جيليان , وإصابتها .
ثم تلك الفتاة الغريبة المجهولة , التي رفضت التحدث .
وكأنها بصمتها ألقتهما معا في النار .
يتقلبان دون أن يكون هناك أي حيلة أو مخرج ليشعرا بالراحة .
جيليان حتى بعد إستيقاظها لم تتحدث على الفور .
بل طلبت لها طعاما , ثم نامت بعد تناوله .
ليلتفت إلى الغريبة بغضب ويصرخ بها طالبا منها التحدث .
إلا أنها رفضت وتجاهلته بكل وقاحة .
وما إن أشرقت الشمس حتى وجد أمامه زياد , بعينين محمرتين , وملامح متعبة .
وها هما الآن .. ينتظران خروج الطبيب , الذي دخل يتفحص حالة ساقها .
مرّ بعض الوقت , وكاد يفقد صبره تماما .
إلا حين أبصر تلك الفتاة , تقترب منهما ببطء .. تنظر إلى الأسفل .
حتى وقفت أمامهما :
- صباح الخير .
رمقها زياد بإحتقار وغضب , ثم لفّ وجهه عنها دون أن يقول أي شيء .
أما لِيام , فنظر إليها بإنبهار .. غير مصدق أنها من رآها بالأمس في حالته الرثة ومظهرها السيء .
الآن تبدو شديدة الجمال , بشعرها البني المحمر .. والمنسدل على كتفيها بكل نعومة .
بشرتها ناصعة البياض , البارزة بشدة بسبب لون شعرها .
تضع مكياجا خفيفا أبرز ملامحها أكثر .
ترتدي بنطالا ضيقا باللون الأسود , وقميص أصفر بأكمام طويلة .
- أهلا , صباح النور .
التفت إليه زياد ونظر إليه رافعا أحد حاجبيه من نبرته الغريبة .
حين سألت أليس :
- لماذا أنتما هنا ؟ هل يوجد أحد بالداخل ؟
أجاب لِيام وهو مأخوذ بجمالها :
- نعم , الطبيب وأمي .
تكتفت الفتاة وهي تستند بظهرها على الحائط .. مقابلهما .
خرج الطبيب على الفور .
فوقف الرجلين بلهفة , لسماع شيء عن جوليا .. لا عن جيليان ..!
ابتعد وذهب , ليدخل لِيام وراءه أليس .
وبقي زياد واقفا على النار , حتى أتاه لِيام يأذن له بالدخول .
دخل مطرق الرأس , محمر الوجه .. جسده يرتجف من شدة إنفعاله .
جيليان التي كانت تجلس مسندة ظهرها على السرير , ابتلعت ريقها وهي تراه بهذا المنظر .
بدا وكأنه مستعد لهجوم عدو بغيض مستفز .
وشعرت في تلك اللحظة أنه حقا ينوي قتلها , حين رفع عيناه ونظر إليها نظرة غريبة .
كالرصاصة التي اخترقت جدار صدرها .
هي السبب , هي من فعلت ذلك .
وهي من تسببت بكل ذلك الوجع له , ليعود إليها بكل عنف وقسوة .
قاطعت كاثرين تلك الأفكار ونظرة زياد , بصوتها العنيف والقوي وهي تقترب من جيليان :
- ما الذي ذهب بكم إلى هناك ؟ ولماذا فعلتم ذلك من ورائي ؟ ألم أقل لكم ما عرفته خلال ذهابي ؟ إذا لمَ ذهبتم بمفردكم ؟ لماذا عدتم إلى ذلك المكان ؟
استغربت جيليان من غضب أمها , لتقول بنبرة هادئة :
- أمي , كنتِ تعلمين أننا سنبحث عنها , لقد أخبرناك ...
قاطعتها بنفس الغضب :
- لم تخبروني أنكم ستتصرفون مثل الأطفال وتعودون إلى ذلك المكان الخطر .
طال غضبها إلى لِيام ثم زياد الذَين التفت إليهما :
- حسنا جيليان فقدت عقلها منذ زمن ولم تعد تفرق بين الخطأ والصواب , ماذا عنكما ؟ هل أنتما أيضا أصابكما الجنون مثلها ؟
زفر زياد بغضب وقلة حيلة وهو يتكتف ويستند بجانبه على الحائط دون أن ينظر إليها .
بينما لِيام ينظر إلى والدته بهدوء , أليس شعرت بالحرج من وجودها المتطفل بينهم .
قبل أن تتحدث وتعتذر , فاجأت جيليان الجميع , وهي تقول بنبرة منخفضة .. هادئة , تلقي عليهم الصدمة , بعد أن علمت أن والدتها لن تهديء , وأنا زياد اتتظر كثيرا , وسيفقد أعصابه في أي لحظة :
- جوليا , إنها على قيد الحياة .
اعتدل زياد في وقفته وسقطت يديه على جانبيه .
واتسعت حدقتاه بدهشة عظيمة .
فرح , مفاجأة .. عدم تصديق .
ومشاعر أخرى عنيفة عصفت به , وجعلته يتحرك من مكانه بعد أن استوعب ما سمعه ويقترب من جيليان أكثر :
- ماذا ؟ ماذا قلتِ ؟
حُبِست أنفاسها وهي ترى ردة فعله , كانت عيناها عليه منذ البداية .
- نعم , جوليا لم تمت .. بل حية , أليس أخبرتني بذلك .
التفت زياد إليها بقوة , حتى تراجعت للخلف من دهشتها من ردة فعله الغريبة .
ومن حركاته القوية .
هتف بقوة :
- أينها الآن ؟
عضت أليس شفتها , وهي لا تفهم سبب إنفعاله .
هل حقا كانوا يظنون أنها ميتة ؟
ما هذه العائلة الغريبة ؟
هزت كتفيها ببساطة :
- لا أعلم .
اتسعت عينا زياد أكثر , حتى ظنت أنهما ستسقطان أمامها بعد أن تخرجا من مكانهما .
ارتجفت من صراخه وغضبه العارم :
- ماذا ؟ لا تعلمين ؟ إذا ماذا تفعلين هنا ؟ من تكونين ؟ إن لم تجيبي الآن صدقيني ستندمين كثيرا , لن أرحمك .
اتسعت عيناها بدهشة من تهديده .
وغضبت هي الأخرى , لترفع كفيها وتقول بحدة :
- ما دخلي أنا ؟ لماذا تهددني ؟ أنا لم أكن سوى ممرضة في المنزل , ما دخلي بما حدث لزوجتك ؟
قبل أن يجيب هو بنبرته الحارقة , قاطعته جيليان بصوت هاديء أثار إستفزازه أكثر :
- زياد , تحدث إليّ .
التفت إليها بعينين محمرتين , ثم أغمض عيناه وسحب إلى رئتيه هواء عميقا يحاول تهدئة نفسه .
ثم نظر إليها مرة أخرى قائلا بهدوء :
- حسنا , تفضلي وقولي ما لديك .. فأنا حقا أوشكت على نفاذ آخر ما لدي من الصبر .
حركت أليس حاجبيها بسخرية , هل حقا لديه بعض الصبر ؟
إذا ماذا عن البركان الهائج قبل قليل ؟
أخفضت جيليان رأسها حتى لا تضطر إلى النظر إليه :
- بعد أن دخلت إلى الداخل , قابلت فتاة هناك , بداخل إحدى الغرف .. سألتها عن جوليا , قالت أنها بالفعل كانت هناك , وحاولت الهروب مع فتاة أخرى , ولكنهم أمسكوا بهما , وعذبوهما طوال شهر كامل .
قاطعها زياد بملل وغضب بنفس الآن :
- نعم هذا ما سمعته من والدتك , وماذا بعد ؟
رفعت جيليان عينيها إليه متفاجئة من مقاطعته , ثم ازدردت ريقها بصعوبة , لتكمل .. كانت تود لو أنها تقص على الجميع ما حصل معها وبالتفصيل داخل تلك الجدران المخيفة , إلا أنها وبسبب خوفها من زياد أثرت الحديث عن جوليا فقط :
- أليس , أليس أخبرتني ... أنها قامت بتمريض الشابة التي كانت برفقة جوليا طوال الوقت , وفي تلك الليلة , خدعتاها الإثنتان جوليا والفتاة الأخرى , حيث جعلتاها تتناول قرص منوم , ثم هربتا .
كانت روح زياد في تلك اللحظة تصرخ , وآخر ذرة متبقية لديه من صبره تكاد تنفد تماما , وهو يستمع إلى سرد جيليان البطيء , لم تصل إلى النقطة التي يريدها , لم يعرف مالذي جعلها تخاف وتنهار .
ولم يعرف بعد كيف عرفت الفتاة أليس عن إسمه .
أهي جيليان من حدثتها عنه ؟
تحدث قبل أن تكمل جيليان :
- ثم ماذا يا جيليان ؟ أين جوليا الآن ؟ هل تعرفين شيئا ؟
نظر الجميع إلى أليس حين أكملت عن جيليان :
- أنا سأكمل .. حين استيقظت في اليوم الثاني , وجدت نفسي مقيدة في حجرة العقاب تلك , والرئيسة الشريرة تنتظرني .. لن أتحدث عن تفاصيل العقاب الذي تلقيته بسبب تلك الفتاتان الحمقاوتان جوليا ولورنا , عرفت بعد ذلك أنهما هربتا من مكان لا يمكن أن يخطر على بال أحد , أتعلم كيف ؟ تلك الرئيسة للمنزل عملت بابا سريا في مكان خطير , قريب من العيادة , ولكن لا أحد علم عنه .. ولا أدري كيف علمت الفتاتان أيضا , ليس هذا الأمر الخطير عزيزي , ولكن الخطير أن العيادة في الطابق الأعلى , ولا يوجد هناك أي سلم يساعد على النزول إلى الأسفل أي إلى خارج المنزل , ولا أعلم أيضا كيف يستخدمون ذلك الباب .. ولكن كل ما عرفته أن تلك البقعة تحت الباب , كانت مليئة بالدم في صباح اليوم التالي , أما عن جوليا ولورنا .
صمتت لتعمل بكفيها حركة تدل على الإختفاء :
- بف , اختفتا وكأنهما لم يكونا يوما معنا .
****.
الماضي ...
منذ ما يقارب الساعة , تخرج من حجرتها وتعود إليها .
مترددة جدا .
هل تدخل إليها أم لا .
لا تعرف لماذا أصابها كل هذا التوتر .
وكأنها تنوي مقابلة أحد غريب , تراه لأول مرة .
المرة الأخيرة , سحبت إلى رئتيها هواء عميقا .. ثم وقفت أمام الباب , ورفعت يدها تنوي طرقه .
إلا أن رؤى خرجت وفاجأتها لتعود إلى الخلف خطوتين وبتلقائية .
رفعت رؤى حاجبيها بغرابة , ثم أمسكت بمقبض الباب والتفتت عنها قليلا لتقول ببرود :
- إيش ما جابوا لك الفطور ؟ خلاص الحين بسوي وأحط لك .
أغلقت باب حجرتها واتجهت إلى المطبخ بصمت .
تتبعها نظرات لجين , والتي بقيت هادئة .
بالرغم من دقات قلبها التي تسارعت , بإرتباك شديد .
وكأنها ارتبكت جريمة ما .
أو على وشك كشف شيء خطير لأختها .
تبعتها حتى دخلت إلى المطبخ وجلست فوق الطاولة :
- ما كنت بكلمك عشان الفطور ماني جيعانة , بس كنت جاية أجلس معك .
عجبا ..!
هل لجين حقا كانت تريد أن تجلس برفقتها ؟
أخيرا .
ابتسمت بسخرية وهي تلتفت إليها , تسند ذراعها على حافة الدولاب خلفها :
- ما أصدق , لجين ! لجين بلحمها وشحمها تبي تجلس معي بغرفتي ؟ هالشيء يشرفني صدق .
ثم ولتها ظهرها مرة أخرى , تتظاهر بالإنشغال .
بينما ملامحها رقت , وأظهرت حزنها .
حتى أنها لامت نفسها على تلك النبرة التي تحدثت بها .
تنهدت لجين بضيق :
- فيك شيء ؟ في أحد مزعلك رؤى ؟
لم تجبها رؤى على الفور , بل بعد عدة ثوانِ :
- ماحد زعلني .
بعد تردد , سألت لجين :
- أمس إيش صار ؟ لما دخلت لقيت هادي معصب .. وسامي .
أجابتها رؤى متأففة :
- هادي وسامي ؟ أنا شدخلني طيب ؟
عقدت حاجبيها لجين , رؤى لا تلعب مثل هذه اللعبة السخيفة , ولا تمارسها إلا حين تكون قد وصلت إلى آخر درجات فقدان الصبر .
ويبدوا أنها هي أيضا ملَّت سريعا .
إذ لم تجالس أختها وأمها ولم تتحدث إليهم منذ وفاة والدها قبل قرابة الخمسة أشهر .
وهي أساسا لم تكن تلك الفتاة المحبة للجلسات العائلية الودية .
تبا ..
هل هذا جزاءها حين تنازلت وخرجت من حجرتها في الصباح الباكر لتسأل عنها ؟
- طيب ما أشوفك خرجتِ حتى بعد ما طاح علينا هادي , إيش اللي كان مشغلك لهالدرجة ؟ حتى ما حضرتِ مــــلــ ....
تباطأت الكلمة الأخيرة , بينما الأحرف الأخيرة من تلك الكلمة أيضا اختفت .
حين التفتت إليها رؤى بقوة , بعينين مندهشتين .
وأمارات الصدمة بادية على وجهها , لتسأل بعد لحظة صمت كانت خلالها تنظر إلى لجين فاغرة شفتيها بعدم تصديق :
- هادي طاح عليكم ؟ ليه ؟ وش صار ؟
حركت يديها بلا مبالاة :
- ما أدري عنه , لما دخلت كان يتهاوش مع سامي , وطاح علينا فجأة .. الحين تلاقيه نايم بغرفة الضيوف .
تركت رؤى ما بيدها وخرجت من المطبخ مسرعة , متجاهلة لجين .
والتي غضبت حقا .
قامت من مكانها متأففة لتدخل إلى حجرتها .
وأيقنت تماما , بعد ردود أفعال رؤى .. أن الطريق طويلا جدا ربما .
وأنهما لن يتصالحا قريبا .
ولكن ظنها خاب , حين فُتِح الباب فجأة .. ودخلت منه رؤى , بوجه شاحب .
وعينان دامعتان .
تفاجأت أكثر حين جلست رؤى بالقرب منها على الأرض .
من الجهة الأخرى للسرير , والذي يواجه الجدار .
لتقول بهدوء :
- هادي مو موجود , شكله رجع البيت بعد ما صلى الفجر , قولي لي كيف كان أمس ؟ يعني .. لما طاح ؟
ردت بعد أن استوعبت تواجد رؤى في غرفتها وبجانبها :
- مدري والله , أول ما دخلت شفته جالس وكان باين من وجهه إنه دايخ أو فيه شيء يوجعه , لما قرب منه سامي يساعده دفه ووقف , ثم طاح مغمى عليه .
صمتت رؤى , شعرت بالضيق من أجله .
وتود لو أنها تعرف السبب الذي جعله يفقد الوعي .
بعد أن ذهبت إلى غرفة الضيوف لتطمئن عليه , وجدتها خالية .
لتخرج هاتفها وتحاول الإتصال به .
إلا أن هاتفه كان مغلقا .
التفتت تنظر إلى لجين , والتي كانت تنظر إليها هي الأخرى .
وكأنها تنتظر منها شيئا .
بدا وجهها في تلك اللحظة طفوليا ومشفقا .
ضحكت وهي تمسح وجهها بتعب .
- بتموتين وتعرفين إيش صار قبل لا تجين , بس لأن السالفة فيها هادي صح ؟ تطمني ما صار شيء .. بس تأكدت إنه خلاص ما عاد في أحد مهتم بالثار , واني لوحدي قاعدة أحارب عشان ماهر .
عقدت لجين حاجبيها من حديث رؤى , وراودها شعور غريب .
قبل أن تقول بتردد :
- رؤى تدرين إني دايم معك , بس انتِ متغيرة عليّ بعد ما ملك عليّ فهد .
قبل أن تبدأ رؤى في اتهامها مرة أخرى , وتقول بأنها هي أيضا تشارك فهد ظلمه , وتلومها على إرتباطها بفهد , صرخت :
- بس شيلي من بالك إنه فهد هو القاتل تمام ؟
سكتت قليلا وأغمضت عيناها , وكأنها تحاول إقناع نفسها أولا , لتكمل :
- لا عاد تتهمي فهد يا رؤى , ما راح أدافع عنه لأنه زوجي .. لا .. عشان إنتِ ترتاحين من همك , وترتاحين من هالحقد اللي معمي قلبك , الفترة اللي قربت فيها من فهد خلتني أعرفه زين , صدقيني ما يقوى يسوي هالشيء , ما يقدر يقتل أحد .
ابتسمت بسخرية بعد أن صدمتها لجين بهجومها :
- ما تدافعين عنه لأنه زوجك ممكن , بس تحبيه يا غبية , تحبيه من وانتِ طفلة مغرورة ما تنسجم مع أي أحد من أقاربها غير فهد المنحرف من يومه .. انصدمتِ لفترة بعد ما اتهمته بموت فهد , لكن بعد كذا رجعتِ تحبيه وتزوجتيه , عاندتِ الكل , حتى أبوي اللي كان يهمك رضاه أكثر من أي شيء ثاني بالدنيا , تزوجتيه وحرقتِ قلب أختك يا لجين , والحين جاية بكل قوة عين تحاولي تقنعيني إنه فهد ما قتل أخوي ؟ ليش يا لجين ؟ ماهر وش سوى لك ؟ ليش إنتِ وأخوانك كلكم تخليتوا عني وعنه بهالسهولة ؟ جاوبيني بصراحة .
- وش الدليل ؟ هااه ؟ وش الدليل يا رؤى عشان تكوني متأكدة لهالدرجة إنه فهد هو اللي قتله ؟
اتسعت عينا رؤى , وشعرت بنغزة في قلبها مما قالته لجين .
وشعرت لوهلة أن عيناها لا تبصر سوى الضباب .
صوت زين اختلط بصوت لجين في عقلها .
حين قال هو الآخر أنه لا يوجد دليل حقيقي حتى تتهم فهد .
ماذا ؟ هل فقدت جزءا من ذاكرتها ؟
هل اختلط لديها الحلم بالواقع ؟
أم أن ما تتذكره ليست ذكرياتها هي بل ذكريات شخص آخر .
تعني ما حصل بعد وفاة ماهر .
وبعد أن قالت أن فهد هو القاتل .
صدقها الجميع .
وغضبت عائلتها بشدة .
حصل خلاف بين عمها ووالدها , انقطعت العلاقة بين العائلتين .
إلا بينها وبين زين .
حقد الجميع على فهد .
كرهه الجميع .
الجيمع كان يساندها .
الآن , جميعهم أصبحوا بجانب فهد , ضدها هي ..!
رفعت عيناها إلى عينا لجين بوهن :
- بس ماهر , ماهر قــ .........
قاطعتها لجين بصوت أعلى :
- إيه , ماهر ما قال إنه فهد طعنه .. قلتِ لنا بنفسك إنه ما نطق غير اسمه ثم تقفل الخط , وهالشيء مو كافي , والله مو كافي , في أكثر من شخص غير فهد زوجي , واللي أساميهم فهد , عندك ولد عمتك فوزية , وعندنا جار بعد اسمه فهد , أو عنده صاحب اسمه فهد .
ضحكت بألم ودون إستيعاب :
- تتهمين الكل عشان تنقذين زوجك ؟ ولد عمتي يقتل ماهر ؟ ههههههههه مانتِ معقولة لجين , إيش اللي يخليهم يقتلوا أخوي ؟ كل اللي ذكرتيهم إيش الدافع اللي يخليهم يقتلوه ؟
- وإيش اللي خلى فهد يقتله طيب ؟ هو بعد ما عنده دافع .. علاقته كانت جدا عادية .
تنهدت رؤى بوجع , هل وُجِدت لجين لتوجعها بهذا الشكل ؟
لماذا تحاول إقناعها بعكس ما صدقته سابقا .
منذ ثلاث سنوات ..!
ليست لجين فقط , بل الجميع .
سوى هادي وحياة ورائد .
لن تستغرب بعد الآن , إن خرجت ووجدت الثلاثة بإنتظارها .
يقولون لها الحديث ذاته , والذي سمعته من أقرب الناس إليها .
زين وسامي ولجين .
تحدثت لجين بعد فترة بهدوء , حين لم تسمع أي رد من رؤى :
- بسبب حقدك على فهد , مانتِ قادرة تنبسطين .. لا فرحتِ لأختك , ولا لأخوك .. حتى علاقتك مع زين صارت مهزوزة بسبب هالشيء .
رفعت عيناها مرة أخرى , وقد بلغ منها التعب مبلغه .. حتى أن الدموع تجمعت فيهما , وهي تسند رأسها على حافة السرير , ملتفة بجسدها نحو لجين , كفيها على ركبتيها :
- تدرين , كنت غلطانة لما تمنيت علاقتنا ترجع مثل قبل , ونرجع نسولف ونفضفض لبعض ونمزح ولا كأن صارت في بيتنا أي مشكلة , كنت بخير لما قاطعتك , تكفين لجين .. من اليوم ورايح ما أبيك تحاولين تتقربين مني مرة ثانية لين أطلع من هالبيت , ما أبي أكرهك أكثر .
ألقت تلك الكلمات الموجعة ووقفت ببطء .
ثم خرجت من حجرة أختها بعد أن خرجت الدمعة من عينها أخيرا .
وهربت بخطواتها البطيئة جدا , حتى استقرت قدميها على أرض حجرتها .
وأقفلت الباب , لتستند بظهرها عليه بعد أن جلست وضمت ركبتيها إلى صدرها .
تنزل دموعها واحدة تلو الأخرى .
وكأنها ملّت مكانها داخل عينا رؤى .
مر بعض الوقت , حين توقفت أخيرا عن البكاء .
وصار المكان هادئا من شهقاتها .
وأمسكت هي برأسها , تنظر أمامها بعينين واسعتين .
سارحتين .
تفكر , وتفكر .. دون توقف .
تحاول حل اللغز الجديد .
تحاول كشف الغموض الذي تركته لجين بداخل عقلها , بعد هذا الوقت الطويل .
الدافع ..!
دافع فهد وراء قتله لماهر ؟
نعم , أصبحت تفكر عن سبب القتل , دون أن يتغير شيء من قناعتها , بأن فهد هو القاتل .
____
انتهى الفصل ..