الماضي ..
دفع زين الباب المفتوح بيده , ليدخل ويقدم رجله اليمنى على اليسرى .
نبضات قلبه لم تهدأ .
صوت بكاء رؤى وفزعها , ثم اتصال نجود المفاجيء أيضا في طريقه .
كلها تصب في أذنه , ليزيد من خوفه وارتباكه .
مهلا , كل تلك الأشياء لا تساوي شيء , مقابل ما أمامه الآن ..!
جسد ماهر المسجى بالقرب من الباب , والمليء بالدم .
وجهه الخالي من الحياة .
كلها جعلته يهوي على الأرض جالسا .
بملامح متجهمة .
وضع يديه خلف رأسه , غير مصدق ما يرى .
اقترب منه بهدوء , يمشي على ركبتيه من هول الصدمة .
حتى وصل بجانب بطنه .
عبس بضيق وتقزز وهو يرى بطن ماهر المكشوف , والذي تحولّ للأحمر تماما .
ازدرد ريقه , وهو يضع يده على صدر ماهر .. يتحسس نبضه .
أجفل حين وجده ساكنا تماما , لا ينبض .
وضع اصبعيه على عنقه , ليس هناك أي نبض .
قرب أذنه من فم الآخر , ليموت آخر ما تبقى ما لديه من أمل .
ماهر لا يتنفس , قلبه توقف عن النبض .
بالرغم من أن جسده لا زال دافئا .
يبدوا أنه توفى للتو .
بعد أن نزف الكثير من الدم .
بالقليل فقط من الأمل الذي بقي في روحه , وعدم تصديقه للأمر .. اقترب ليضرب خده عدة مرات ينادي بإسمه بيأس , علّه يستيقظ .
حين لم تصدر أي ردة فعل من ماهر , وقف واتجه ناحية الجدار .. وضرب بقبضته الجدار حتى تألم .
ثم صرخ بكل ما أوتي من قوة .
لتنزل دموعه , تشهد خسارته العظيمة .
خسارته لصديقه المقرب , إبن عمه الطيب , زوج أخته .. أخ زوجته .
بل أخيه .
خرّ على الأرض جالسا مرة أخرى .
ينظر إلى جثة ماهر بغير تصديق .
تواتيه ذكرياته برفقة ماهر واحدة تلو الأخرى .
كل موقف , كل مكالمة .. كل محادثة كتابية , كل حوار عابر , كل عبارة عفوية , كل كلمة .. تقتله .
كما قُتِل أخ دنيته بتلك السكين .
سكين من كانت ؟
من فعل ذلك بأخيه ؟
من فعل ذلك بصديقه ؟
من استباح حرمة دمه ؟
من تجرأ وجرح جسده ؟ من تجرأ وقتل روحه هو قبل روح ماهر ؟
من ذلك الذي تجرأ ليخلق شعورا فظيعا ومريعا بداخله ؟
من تجرأ ومدّ يده لوالد تميم ؟ الطفل الرضيع الذي لم يتعرف على والده بعد لصغر سنه .
من تجرأ وطعنه في بطنه ليُرمِّل أخته العزيزة ؟
من تجرأ وأمسك بسكين قاتلة ؟ ليُسكِن في قلب محبوبته وجعا عظيما كهذا ؟
من تجرأ وأفزعها وأخافها بهذا الشكل ؟
قبل أن يخطر في باله أي إحتمال , داهمت الشرطة المكان .
ليجدوا أمامهم جسد ماهر المفارق للحياة والغارق بالدم .
وجسد زين المتصلب أيضا من صدمته , ووجهه الغارق بالدموع .
دون أن يقول شيء , وقبل أن يستوعب .. قيدوا يديه , وأوقفوه ليذهب برفقتهم بكل هدوء ودون اعتراض .
كأنه الجاني .
حتى استقر بداخل سيارة الشرطة , التفت إلى من على يمينه .
وكأنه للتو استوعب ما حصل :
- لحظة , وين بتودوني ؟
- إنت رهن الإعتقال بسبب وجودك في مكان الجريمة .
- بس أنا ما سويت شيء .
قاطعه الآخر :
- راح نقرر بعد التحقيق .
تنهد بضيق وأعاد رأسه إلى الخلف .
أغمض عيناه بتعب , وكأنه خرج من عراك طويل , مهلك الجسد والروح .
تتراءى أمام عيناه جثة ماهر , ولا تغادر مخيلته أبدا .
هاتفه الذي صار يرن مرة أخرى , جعل الشرطي يساعده ويخرجه من جيبه .
كانت المتصلة رؤى .
تسمرت عيناه على الشاشة .
كيف سيرد الآن ؟
تلك المسكينة .
ماذا سيقول لها ؟
حين اتصلت كانت تبكي بشدة , قائلة أن ماهر [ ربما ] على وشك الموت , على حد قوله .
وأن أحدهم طعنه .
وأنها خائفة على أخيها بشدة , تريد منه أن يذهب للإطمئنان عليه .
حتى أُقْفِلت الشاشة دون أن يرد , فتحه مرة أخرى بصعوبة بسبب القيود .
واتصل بسامي .
ليخبره الأمر بهون وبطء , حتى لا يفجعه .
طالبا منه أن ينقل الخبر إلى رؤى بكل هدوء , وأن ينتبه عليها .
ولكن الأمور آلت إلى ما لم تخطر على باله , حين خرج صباح اليوم التالي , بعد إفادته والتي جعلته بريئا تماما .
كان فهد قد حلّ مكانه , لكونه مالك موقع الجريمة .
لم يكن ذلك الأمر صادما بقدر ما صدمته ردة فعل رؤى حين ذهب لرؤيتها هي ونجود التي كانت تسكن في شقة بجانب منزل عمهم مع زوجها ماهر ( المقتول ) .
حين دخل إلى منزل عمه , قابلته رؤى في الصالة الخارجية .. أمسكت بياقة ثوبه , لتقول بصوت باكي :
- أنا اتصلت فيك وقلت لك تروح له عشان تنقذه , مو عشان ترسل لي سامي بخبر موته , ليش زين ؟
أجفل ولم يدرِ ما يقول , هل يستنكر ما تقوله أمامها وهي بهذه الحالة ؟ أم يواسيها , أمسك بكفيها التي كانت تمسكه هي بها .. ليقترب منها قائلا بهدوء :
- أنا آسف رؤى , لما وصلت .. كان خلاص .........
عض شفته من صعوبة الأمر , ومن ثقل تلك الكلمة حتى ينطقها أمام هذه الإنسانة الضعيفة , بل روحه المهشمة منذ تلك اللحظة .
أصبحت تضربه بقبضتيها على صدره دون أن تشعر :
- كذاب , والله كذاب .. لما كلمني كان حيّ .. حتى كلمني كويس , كيف كذا مات بسرعة ؟ أنا كلمتك إنت أول واحد وقبل الكل لأني عارفة إنك الوحيد اللي تقدر تتصرف بسرعة في مثل هالموقف , ما كنت مصدقة .. عشان كذا أرسلتك , كنت أباك تصير عيوني عشان تتأكد من الموضوع , وإنه ما مات يا زين .
أبعد يديها بقوة ولطف في ذات الآن , ليحتضنها ويضمها إلى صدره .
وهي تحاول أن تتفلت منه بغضب .
حتى هدأت موجة غضبها العارم .
ولكن صوت شهقاتها العالية لم يهدأ بعد .
لتدفعه فجأة وتصرخ :
- صدقني زين ما راح أخليه في حاله , ما راح أرتاح إلا إذا شفتهم يعدموه , والله مار اح أخليه .. حتى انتم ماراح تتهنون صدقوني إذا وقفتوا في وجهي , راح أنسى إنك زوجي وإنكم أولاد عمي , والله بانتقم منكم كلكم .
قطب حاجبيه بغرابة شديدة , هو ومن كان متواجدا في تلك الصالة .
والدها على المقعد وبجانبه حياة , إخوتها رائد وسامي وياسر , نجود المنهارة ولجين بعباءاتهن .
اقترب منها ليمسك بكتفيها بهدوء :
- مين تقصدين رؤى ؟ مين هو ؟
ابتسمت بسخرية ومن بين دموعها :
- مين ؟ أخوك فهد .. فهد قتل ماهر .
عمَّ الصمت أرجاء المكان , وتجهمت وجوههم .
أصابتهم الصدمة , بل ألجمت ألسنتهم جميعا ليمتنعوا عن إبداء أي رد فعل .
حتى قطعت هي ذلك الصمت بضحكة موجعة :
- إيش فيكم ؟ ليش انصدمتوا كذا ؟
اقترب منها سامي أخيرا , ليلفها إليه قائلا بحدة واستغراب :
- ليش تقولين كذا ؟ مين قال لك إنه فهد اللي قتله ؟
- سمعتكم قبل شوي تقولون إنه المكان مليان بصمات لفهد وأصحابه .
- بس هذا ما يعني إنه هو اللي قتله , طبيعي بصماته تكون موجودة بما إن الاستراحة ملكه .
صمتت قليلا قبل أن تقول بهدوء :
- هو قال لي , ماهر لما كلمني قال إنه فهد طعنه .
قالتها وأجهشت بالبكاء مرة أخرى .
حتى جلست على عتبة أحد الأدراج في الخارج , تضم نفسها .
منهارة تماما .
روحها مهشمة , قلبها مكسور ومحطم .
بالرغم من أنها واصلت البكاء منذ الأمس , إلى أنها لم تكتفِ بعد .
تشعر أنها مهما بكت لن تستطيع إخراج ما بها من قهر وحزن على أخيها الراحل .
توجه قبضتها نحو صدرها , تضربه ضربات متتالية .
وشهقاتها تعلوا أكثر .
يقترب منها إخوتها , يحاولون تهدئتها .
ولكنها تأبى .
تريد أن تبكيه حتى تشعر بقلبها يخرج من بين ضلوعها .
أن تبكيه حتى تجف الدموع .
حتى تنزف عينها بدل الدمع دما .
أن تحفر خدودها بتلك القطرات المالحة .
حتى ذلك الحين , لن تكتفي .
خسرت آخر ما تبقى لديها من عائلتها الصغيرة سوى والدها .
ماتت والدتها قبل فترة بعد معاناة مع مرض السرطان .
وشقيقها الوحيد قُتِل قبل عدة ساعات ؟
زوجة والدها ( حياة ) وأبنائها كانوا لها أكثر من عائلة حقيقية .
لم تشعر يوما بأنها مختلفة عن أي أحد منهم .
ولكن كيف للمشاعر أن تتشابه ؟
كيف لحبها لشقيقها الوحيد أن يكون مشابها لحبها لأخوتها من والدها ؟
وكيف لحنانه أن يكون مثل حنان الآخرين ؟
كان زين ذلك الحين يقف مذهولا , حائرا .. خائفا ومرتبكا .
لا يريد أن يصدق ما قالته رؤى للتو .
فهد سيء نعم , ولكن ليس إلى تلك الدرجة التي تجعله يقتل أحدهم .
وإبن عمه ؟ زوج أخته ؟
هذا لا يُصدق ..!
هل رؤى سمعت خطأً ؟
أم هل فعلا .. فهد ( تجرأ وأحزن محبوبته ؟ ) .
اقترب بخطوات بطيئة , ليجلس على ركبتيه .. ويبعد يديها عن صدرها , ثم يمسك بوجهها , ليقول بهمس :
- مين ما كان اللي سوى هالشيء بماهر , وتجرأ وقتله .. صدقيني بيلقى جزاته .
تبعده عنها وتهز رأسها بشكل هستيري :
- لا إنت تكذب عليّ , مار اح تعاقب أخوك صدقني , ما راح تخليه يروح لحبل المشنقة وتطالع فيه مكتف يدينك , راح توقف معاه وتساعده عشان يطلع من هالمصيبة أنا أدري .. حتى الحين إنت مانت مصدقني , عشان كذا قاعد تقول لي مين ما كان .. ما قلت فهد , ما قلت فهد لأنك مو ناوي تعاقبه والله مو ناوي .
كان الجميع يبكي ويشهق في ذلك الوقت , من هول الصدمة والمصيبة .
ومن حالة رؤى التي أصابها ما أصابها , حتى أصبحت تتصرف كما لو أنها مجنونة .
وصارت تبكي بشكل هستيري يفجع الرائي .
أما لجين , والتي كانت تبلغ الخامسة عشر آنذاك , تملكها الهدوء .
حتى أصبح شكلها مخيفا .
غاضبة بشدة من منظر رؤى .
تشعر بقلبها يحترق بدلا من أختها .
لجين المعجبة بفهد منذ صغرها , كرهته حتى أصبحت تدعوا عليه في اللحظة الواحدة ألف مرة .
إن كانت رؤى محقة , ستأخذ هي حق ماهر بيديها .
اقترب سامي من رؤى مرة أخرى , ليمد لها قارورة ماء باردة .
علها تساعدها على إستعادة وعيها قليلا .
شربت القليل .. وطيف أخيها يتراءى أمامها .
لتقف وتمد يدها تمس بوجه زين , وتنطق :
- ماهر .
اتسعت أعينهم , وأمسك بها زين بسرعة قبل أن تسقط من طولها .
احتضنته بقوة لتبدأ نوبة بكاء أخرى .
تجعله يهتز , ويرتجف .
من صوتها المؤلم للقلب , ومن ارتجاف جسدها النحيل والصغير .
رفع رأسه ليقول لسامي :
- بوديها غرفتها .
تنحى الجميع , ليسند هو جسد رؤى عليه .. ويدخل إلى الداخل , حتى استقر بداخل حجرتها , وتفاجأ من المنظر .
يبدوا أن لا أحد ساعد المسكينة في تنظيف حجرتها بعد الفاجعة .
أفزعها ماهر في وسط احتفالها مع بنات عمومتها .
وضعها على سريرها وغطاها جيدا .
حين نوى الإبتعاد وتركها بمفردها , أمسكت بكفه .. تقول ولا زالت لمحة البكاء في صوتها :
- رجع لي ماهر , او انتقم لي من فهد .
تنهد بضيق وهو يعود ليجلس بجانبها ,ويقبل جبينها قائلا بهدوء :
- كل شيء راح يكون تمام .
مرر يده على شعرها بهدوء , مكررا حركته حتى نامت وسكنت ملامحها .
أخذ منديلا من فوق منضدتها ومسح وجهها المبلل .
ليخرج أخيرا بعد ان استودعها الله ودعا لها أن يخفف عليها مصيبتها ويهونها .
ويجد في استقباله نجود .
أمام حجرة رؤى بالضبط .
تقف بعينين دامعتين , ووجه مسود من الهم والحزن .
حجابها لا زال عليها .
نظر إليها يزدرد ريقه , لا يعلم كيف يواسيها .
بعد أن سمعت هي أيضا ما قالته رؤى , أن أخيها قاتل زوجها ..!
ارتمت إلى صدره لتبدأ هي الأخرى بنوبة بكاء عميقة .
ربت بيده على ظهرها , حتى هدأت بعد عدة دقائق .
ابتعدت لتقول وعيناها تلمعان بشدة :
- حتى أنا يا زين , ما راح أسامح فهد .. ولا راح أرتاح إلا إذا لقى جزاته .
هز رأسه إيجابا , وشد على عضدها :
- بعد التحقيق راح نعرف الحقيقة يا نجود , الحين إنتي خليك أقوى من رؤى .. فهد أخوك ما يصير تصدقين هالشيء عنه على طول , لين يخلص التحقيق , وصدقيني يا نجود , لو طلع هو الجاني .. راح يلقى جزاته مثل ما قلتي .
صمتت تنظر إلى عينيه :
- شكلك مثل ما قالت رؤى , مانت مصدقها ..!
ابتسم بهدوء :
- مو كذا السالفة , بس إلى الآن مافي دليل ضده .. بيخلص التحقيق قريب , حتى قبل لا ندفن ماهر .
نظرت إليه بلوم , ولم تقل شيئا .
أوجعته نظرتها , التي جعلته يشعر أنه غير مؤهل لثقتها , هي ورؤى .
من الواضح أن كلتاهما ستعتمدان عليه هو , وتحملانه مسؤولية ما سيحدث في الأوقات القادمة ..!
أمسكت بكفه مرة أخرى بلهفة :
- زين , لما رحت هناك , كيف كان ؟ ما تكلم معاك ؟ ما قدر يقول لك شيء ؟
لمعت عيناه بشيء من الألم وشعر بنبضات قلبه التي تسارعت ما إن تراءت أمامه جثة ماهر , ازدرد ريقه وأبعد عيناه عنها :
- كان ميت .
تركت يده لترتد قليلا إلى الخلف , ثم شهقت وهي تبتعد عائدة إلى شقتها .
وأمسك هو برأسه من قوة الدوار الذي شعر به .
وخرج بعد أن تنحنح حتى لا يصادف لجين .
عاد إلى المنزل .
لتستقبله أمه المفجوعة .
تسأله عن فهد قبل أن تسأل عنه , وعن ابنتها نجود .
ليجيبها ويستأذنها للصعود إلى حجرته .
إن بقيَ أمامها أكثر من ذلك , سينهار تماما .
عادت رؤى إلى الواقع .
تسمح دمعتها وهي مبتسمة .
تلوم نفسها على معاملتها لزين بتلك الطريقة .
الآن فقط وبعد أن غضب منها أخيرا , راودها شعور مختلف .
أنها استغلت طيبته كثيرا .
حتى نفذ صبره , وغضب .. غضبا صامتا .
تكاد تجزم , أنه إن تحدث سيقول [ أغرك مني أن حبك قاتلي ؟ وأنكِ مهما تأمري القلب يفعل ] .
نعم لا شيء آخر سيصف محبوبها أكثر من هذا البيت الشعري .
أغمضت عيناها سريعا وشدت غطائها عليها حين شعرت بنجود تدخل إلى الحجرة , لا تريد أن تتحدث إليها الآن .
ولا تريد أن تفضح نفسها أمام نجود وتفضي إليها بمكنون قلبها .
فالشوق إلى زين قد فاق الحدود .
وهي بحاجة إليه , أكثر من أي وقت مضى .
وسبب الخصام ؟ نجود بالتأكيد .
*****.
واشنطن ..
حلّ صباح اليوم الثاني .
ليدخل بعض النور من فتحات صغيرة على الحائط .
تجلس جوليا بوهن وبطء .
جسدها أصبح معرقا بالكامل , من شدة حرارة الحجرة .
ولا ترى سوى الضباب من خلال عينيها .
حاولت أن تسحب إلى رئتيها هواء عميقا , إلا أنه صُعب عليها .
الحرّ كان خانقا جدا .
وقفت تسند يدها على الحائط , حين تذكرت لورنا .
مسحت عينيها جيدا , لتوسع حدقتيها باحثة عن جسد لورنا .
حتى وصلت إلى آخر الحجرة المظلمة , بخطواتها البطيئة .
وشهقت حين رأت لورنا مستلقية كما أنها في بطن أمها , متكورة على نفسها .
أسرعت لتجلس بجانبها , وتضع يدها على جبينها تتحسس حرارتها .
كانت مرتفعة جدا .
بدأت دموعها بالنزول دون أن تشعر , وهي تضرب خد لورنا .
بعد أن تحسست نبضها أيضا , وحمدت الله أن كان منتظما .
وضعت رأس لورنا بحجرها , وصارت تضرب خدها بخفة .. تنادي بإسمها .
صارت شهقاتها مسموعة , حين لم تسمع أي رد من لورنا , ولا ردة فعل تطمئنها .
حركت شفتيها تقرأ المعوذات وبعض الأدعية وتنفث عليها , وتزيد من ضربها على خد لورنا , حتى فتحت الأخرى عينيها الفاتحتين بتعب وابتسمت :
- مرحبا جوليا .
شهقت جوليا شهقة كبيرة قبل أن تنحني وتضم لورنا إلى صدرها , كما لو أنها أم وكادت تفقد وليدها .
بكت فرحا وخوفا في ذات الوقت .
تحمد الله أن كانت لورنا حية .
حتى قاطعها صوت لورنا الهاديء :
- يكفي أيتها الضعيفة , ها أنا بخير وعلى قيد الحياة أمامك , إلا متى لا أدري .. ولكن علينا أن نستغل هذه اللحظات القليلة المتبقية لدينا من حياتنا , فأنتي أيضا معاقبة أليس كذلك ؟ وإلا ما سبب تواجدك في هذه الحجرة البائسة ؟
ضحكت جوليا من بين دموعها وهي تساعد لورنا على الجلوس .
شهقت الأخرى بفزع فور اعتدالها , تمد يدها تتلمس السائل الخارج من أنفها :
- يا إلهي , إنني أنزف .
أعادت رأسها إلى الخلف لتمنع الدم من النزول , إلا إنها بسبب غزارة الدم صارت تسعل حين وصل الدم إلى حلقها .
خلعت جوليا السترة الصوفية التي ترتديها فوق ثوبها ومدتها إلى لورنا :
- لا تمنعيه من النزول فقد تتضرري .
عملت بنصيحتها وقربت السترة من أنفها .
ثم قالت :
- كيف وصلتِ إليّ ؟ كيف عرفتِ عن مكاني ؟
تنهدت جوليا وهي تمسح الباقي من دموعها على خدها :
- بحثت حتى وصلت , هذا لا يهم .. أخبريني , كيف تشعرين ؟ هل آذوك بشدة ؟
- إنه لا شيء , فقط عشر جلدات بسوط غليظ لليوم الواحد , إن صبرت سأنال أضعافها عشر في أيام متفرقة , حتى يقبض الله روحي , ولعلّ ذلك يحصل اليوم فأرتاح من هذا العذاب .
أغمضت الأخرى عيناها بحزن وهي تقترب من لورنا أكثر وتمسك بكفها الخالية من السترة :
- يا إلهي , سامحيني لورنا .. كل ذلك كان خطئي , أرجوك اصفحي عني .
نظرت إليها لورنا نظرة غريبة قبل أن تسحب كفها :
- لا عليكِ جوليا , الخطأ خطأهم .. إنهم ليسوا بشر , بل مجرد وحوش .
لترد جوليا بهدوء :
- أنتِ لا تستحقين هذا .
التفتت إليها لورنا فجأة بعد أن كانت صامتة , وكأنها للتو تذكرت :
- هيه , أخبريني .. كيف خرجتِ من هناك ؟
ابتسمت لتبدأ بسرد ما حصل معها .
حين انتهت ضحكت لورنا بشدة , تشعر بالأسف على حال جوليا :
- أنتِ لا تهابين شيئا على ما أظن , أحب شجاعتك .. ولكن يا عزيزتي لم يكن عليكِ خوض هذا من أجلي , انظري إلى حالنا الآن ؟ كلانا مقيدتان , لو كنتِ في الخارج لاستطعتي فعل أي شيء من أجلي .
- كفي عن العتاب واللوم لورنا , علينا أن نفكر بحل لمصيبتنا , يجب أن نخرج في وقت قريب , لن أرضى بهذا الذل , اكتفيت .. لذا أقدمت على البحث عنك ووضع نفسي في الخطر لعلي أتمكن من إنقاذك ثم الهروب من هنا وإلى الأبد , ولعلّ وجودي هنا جزء من خطة الهروب .
قطبت لورنا حاجبيها بعدم فهم :
- كيف ؟ ماذا تعنين يا مجنونة ؟ هل الهلاك على أيديهم هروب ؟ إنه الذل بذاته .
تأففت :
- آآخ يا لورنا لن تفهمي أبدا فأنتِ جديدة عكس رفيقتك المخضرمة , سترين ما سيحدث .
ضحكت لورنا مرة أخرى بسخرية :
- بل أنتِ من لم تفهمي , جوليا أرجوك افيقي من غفلتك .. ستتلقين هنا أصنافا من العذاب , يعني ربما ... سنموت ولن نرى النور مرة أخرى , هل خططتي لهذا ؟ أعني .. هل ستتحملين ؟
مدت شفتيها بمعنى لا أعلم , لتشير بأصبعها على فتحة صغيرة من الحائط خلف لورنا :
- واقعيا نحن نستطيع أن نرى النور حتى الآن من خلفك تحديدا , أما عن هذا الوضع وعن العذاب الذي تتحدثين عنه , نعم كنت أعرف عنه ولو أنه فاق حدود المعقول بالنسبة إليّ .. ولكن الأمر يستحق يا صديقتي .
تنهدت لورنا , لا تستطيع فهم ما تفكر به جوليا , ولا تستطيع إستيعاب ما ترمي إليه بحديثها الغريب , وبملامح هادئة :
- أنا لست صديقتك .
- سنكون ذات يوم .
قبل أن تكمل عبارتها , فُتِح الباب .. وظهر من خلفه النور والظلمة .
نور المصباح , ظلمة وجه الرئيسة ومن معها .
وأنير المكان فجأة , لتغمض جوليا ولورنا عينيهما بإنزعاج .
ثم فتحنها ببطء .
حين وقفت الرئيسة أمامهما , ترمقهما بنظرات حادة ومخيفة .
لتشير بعد ذلك إلى إحدى العاملات , كانت تحمل بيدها جرة ماء .
سكبته عليهما , لتشهقا بشدة من برودة الماء .
حملت الرئيسة بيدها سوط غليظ باللون الأسود , وأمرت العاملة بإغلاق الباب .
ثم وقبل أن ترفعه عاليا وتسقطه على جسد إحداهن , وقفت جوليا وتحدثت بسرعة :
- أرجوك استمعي إليّ , لورنا لم تخطيء ولم تذنب , أنا وحدي المذنبة .. حين سقط عليّ اللوح الخشبي أتت هي للبحث عني , ولكن بسبب خوفها منك هربت , وفي نيتها مساعدتي وطلب النجدة منكم , لذا أرجوك .. إن كنتِ تريدين معاقبة أحد , فعاقبيني أنا وحدي , واتركيها وشأنها .. إنها لا تستحق .
وقفت لورنا بصعوبة من آلام جسدها , وأعادت شعرها الأشقر المبلول إلى الخلف , لتقول :
- كفي عن تصنع المثالية جوليا , إن كانت تريد معاقبة إحداهن فالأخرى أيضا تنال المثل , لن أرضى بغير ذلك .
ضحكت الرئيسة بسخرية :
- ومن قال أني سآخذ برأيكن ؟ كلتاكما تستحقان العقاب , وأنتي يا جوليا , كفي عن التصنع والكذب كما قالت رفيقتك , فأنتي هنا منذ مدة طويلة حتى أصبحت أحفظك وتصرفاتك عن ظهر قلب , وإن كنتِ لا تستحقين العقاب على بقائك في الأسفل , فتستحقينه من أجل ما فعلته بعد منتصف الليل , ومن أجل معرفتك لمخبأنا هذا .
تحدثت جوليا بلهفة :
- أقسم لك أني لن أقترب منه ثانية , وأني لن أخبر أحدا عنه .. ولكن أرجوك ...........
قاطعتها الرئيسة بغضب وصراخ :
- يكفي جوليا .
تقاطعها جوليا أيضا :
- حسنا بما أني هنا منذ فترة طويلة , وخدمت المكان وعملت الكثير من أجله , ألا يمكن لذلك أن يشفع لي ؟ فقط خففي علينا العقاب , بدلا من الضرب والحبس .. كلفينا بالأعمال الشاقة , مثل نقل البضائع الثقيلة وتنظيف المنزل , أرجوك .
حدقت إليها لورنا بدهشة , حتى كادت عيناها تخرجان من مكانهما , ودُهشت أكثر حين ردت الرئيسة بهدوء وبعد تفكير قصير :
- حسنا هذه فكرة جيدة , سأكلفكما بالأعمال الشاقة .. ولكن قبل ذلك , ستنالين ما نالته رفيقتك بالأمس , حتى يكون العقاب عادلا .
أجفلت جوليا مما سمعت , وازدردت ريقها بصعوبة .
وقبل أن تستوعب , صرخت بقوة حين شعرت بلسعة قوية على ذراعها , تلتها أخرى أقوى من أختها .
حتى انتهت الجلدات العشر .. وخرجت الرئيسة برفقة العاملات .
انحنت لورنا بخوف وفزع , تهز جسد جوليا الملقى على الأرض :
- جوليا ؟
ضحكت جوليا وهي تستلقي على جسدها بعد أن كانت متكورة تحمي جسدها من الأمام :
- لا تخافي , أنا بخير .
تنهدت براحة وصوت مسموع وهي تتربع على الأرض بوهن من خوفها الشديد على جوليا قبل قليل :
- أيتها المجنونة عديمة الإحساس .
تأوهت جوليا وهي تجلس , وتمسك بخصرها :
- يا لها من عجوز حمقاء , كيف وثقت بي بعد بكل ما سمعته ووافقت على عرضي ؟ هههههههه .
ابتسمت لورنا وهي تنظر إليها :
- أنتِ فعلا مجنونة , صدقيني لو كنت بمفردي لما فعلت ذلك , كنت فضلت الموت على العمل الشاق .
صمتت جوليا قليلا وهي تفكر , لو كانت هي بمفردها لفكرت مثل لورنا , وفضلت الموت على الأعمال الصعبة , ولكن الآن لورنا معها وبسببها .
عليها أن تنقذها .
وتنسى الإستسلام تماما , حتى ترى لورنا تخرج من داخل هذه الجدران بسلام .
- ماهي خطتك ؟
وضعت جوليا رأسها على الأرض حين شعرت بألم , وردت بصوت منخفض :
- سأترك الأمور تمشي بمشيئة الله , ليست لدي سوى خطة بدائية , حمقاء قد تؤدي بنا إلى الهلاك في وقت قريب .
صمتت بعد ذلك , متجاهلة سؤال لورنا .. والذي لم تسمعه أساسا .
بسبب شرودها .
حين كانت الرئيسة تضربها بالسوط , واتتها ذكرى مشوشة .
موقف كانت تحاول فيه حماية نفسها بنفس الطريقة .
تكورت على نفسها كالجنين , تغطي بطنها بكفيها ...!
متى كان ذلك , ومن ذلك الذي عاملها بتلك الوحشة ؟
أغمضت عيناها بإنزعاج , وهي تسمع صراخ وضجيج في عقلها .
ذكرت الله واستغفرت حتى تهديء من نفسها .
حلّ المساء , لتأتي إليهم إحدى العاملات المهمات , برفقتها اثنتان .
رافقتا جوليا ولورنا , إلى القبو مرة أخرى ..!
حيث كانت أولى مهامهم , بناء جدار كامل بالطوب الأحمر الصغير والإسمنت , بدلا من الباب الذي حاولت جوليا الهروب من خلاله ..!
_______
الرياض .
يفتح هادي عينيه ويعتدل بجلسته بعد غفوته القصيرة , حين توقفت السيارة أخيرا .
التفت نحو أخيه , الذي ابتسم له يشجعه .. ثم ضغط على كفه :
- راح تكون بخير .
يرد له بإبتسامة قلقة وخائفة , لينزل هو وينزل سامي وارءه .
كان هادي قد حجز موعدا مسبقا لدى طبيب الأورام , لذا توجه على الفور ناحية القسم وجلس ينتظر .
بجانبه سامي المنشغل بهاتفه .
أغمض هادي عيناه وأسند رأسه على حافة المقعد يذكر الله ويستغفره .
بينما رأس سامي وقلبه مثقلين بالهموم .
لا يدري كيف يتصرف بالضبط .
يبحث عن أي شيء في الهاتف يمكنه أن يخفف من همه وينسيه قليلا من تلك المشاكل .
حتى أتى دور هادي , ودخل إلى الطبيب .
ليخبره الأخير أنه سيبدأ بعلاجه ببعض الأدوية الكيميائية لأن عملية الإستئصال خطيرة جدا كون الورم في منطقة خطِرة .
فإن نفعته تلك الطريقة , سيستطيع التحمل بضعة أشهر , حتى تقل الأعراض .
أو على الأقل تموت بعض خلايا الورم , فيتمكن السفر .. ويذهب إلى الخارج ليجري عملية الاستئصال ( الصعبة جدا ) والعسيرة .
خرج وحاله لم يتغير .
حزنه لا زال جاثما على قلبه , يفكر بوالدته أكثر مما يفكر بنفسه .
إن حدث له مكروه , ستصبح بمفردها مرة أخرى .
ستكون وحيدة لا معيل لها , غير إخوتها .. وهو لا يريد ذلك .
لا يستطيع تحمل فكرة بأن والدته مضطرة للإعتماد على سواه .
بعد أن قدمت له الكثير , ولم تقصر عليه بأي شيء .
والدته كانت إحدى بنات رجل ثري , والذي تزوج عدة نساء وأنجب منهن الكثير .
ذكور وإناث .
تخرجت من الجامعة لتجلس في المنزل دون أن تتوظف , كسولة .. تعتمد على مال أبيها وإخوتها , بل لم تكن أساسا بحاجة للعمل أو الوظيفة .
كما أنها كانت نوعا ما , إنطوائية ومنعزلة لا تحب أن تختلط بالغير .
أصدقائها قلة .
حتى ملّت من وضعها وجلوسها في المنزل , قدمت على بعض الوظائف .
مبتعدة عن أعمال والدها الخاصة .
ليس لشيء , فقط حرية شخصية .
ورغبة منها في تغيير شخصيتها حتى تصبح أفضل .
كانت تفشل في جميع المقابلات الشخصية , بسبب خجلها الشديد .
كانت ترتجف كل ما جلست أمام شخص غريب لا تعرفه .
وأخيرا قبلتها مؤسسة خاصة , بالرغم من أن توترها وارتباكها كان كالسابق أيضا , إلا أن نائب مدير تلك المؤسسة كان لطيفا معها وطيبا .
بل مع الجميع .
ما اكتشفته بعد توظيفها في قسم المحاسبة .
كانت كل ما رأته شعرت بشيء ما يجذبها نحوه .
تعامله الجميل , وطيبته .. وتحمله مسؤولية مؤسسة أخيه الأصغر كاملا على عاتقه .
كل تلك الأشياء جعلتها تحبه رغما عنها , ومن طرف واحد .. لفترة طويلة .
حتى انصدمت به ذات يوم , يأتي ممسكا بيد إبنه الكبير ( ماهر ) والذي بلغ من العمر آنذاك , عشر سنوات .
شعرت بقلبها ينكسر من مجرد معرفتها بذلك الأمر , لا يتضح عليه العمر .
كان متوسط الطول , نحيل الجسم .
قلبها الذي كُسر من معرفتها بزواجه , تحطم تماما حين علمت عن زواجه باثنتين .
ولكنها رغم ذلك لم تيأس , ظلت تحبه في الخفاء .
ثم أصبحت تتقرب منه .
حتى فاجأها هو ذات يوم , بعرضه الزواج منها .
صُدِمت كثيرا إذ لم تتوقع ذلك ولا واحد بالمئة , رغم دعواتها الكثيرة ليل نهار .
وافقت على مضض , رغم توقها الشديد وانتظارها الطويل .
فكرة الزواج من رجل متزوج عامة لم تكن بالكبيرة بالنسبة إليها , فوالدها فعل ذلك .
ولكنها تحبه , ربما لن تصبر حين تراه مع غيرها من النساء .
حبها كان أقوى من أي شيء آخر , لتتزوجه أخيرا .
وسرعان ما حملت بإبنها الأكبر , وأنجبته ( هادي ) .
اتخذت زواجها عذرا لها .
للتوقف عن الذهاب إلى العمل .
أسكنها زوجها برفقة زوجاته الأخريات في منزل واحد كبير .
يعدل بالجميع .
ولا يقصر مع أي واحدة منهن .
كان لديه من زوجته الكبرى ( عبير ) ماهر , ورؤى .
توقفت عن الإنجاب بعد إصابتها بمرض السرطان .
حتى حين تزوجت هي ( منال ) كانت مريضة هزيلة , وعلى مشارف الموت .
العلاج الكيماوي أكل جسمها , وقتل ملامحها الجميلة .
أما الزوجة الثانية , ( حياة ) أقرب نساء زوجها إلى قلبه .
هذا ما استنتجته فور أن حطت أقدامها على أرضية ذلك المنزل .
فهي أجملهن , أرقهن .. أكثرهن أناقة وإهتمام بنفسها وجمالها , وأكثرهن إنجابا للأولاد الذكور .
حيث كانت أم لرائد وسامي .
ويبدوا أنها ستنجب أكثر في الأيام المقبلة .
غارت منال , ولم تتحمل ذلك .
إقناع زوجها بمفارقة الأخريات صعب , جدا .
فهن سبقن بالدخول إلى منزله ثم فؤاده .
غير أنه بالتأكيد لن يتخلى عن عبير وأيامها معدودة .
ولا عن حياة التي تهتم بالمنزل بأكمله دون أن تقصر بشيء .
إذا .. عليها هي أن تخرج قبل أن تخسر نفسها بسبب غيرتها الشديدة .
لتطلب الطلاق بعد أن بلغ هادي ست سنوات .
وأنجبت حياة أجمل إبنة في العائلة إطلاقا ( لجين ) .
والتي ما إن أتت على الدنيا حتى نسي زوجها الجميع .
وأحبها حبا جما .
فهي الإبنة الثانية والتي أتت بعد رؤى بسنين طويلة .
وكأنه اكتفى من الذكور وشبع منهم .
حاول تغيير رأيها جاهدا , ولكنه لم ترضخ له أبدا .. إذا أصرت على الفراق , فطلقها رغما عنه .
بعد أن أكدّ عليها وحرص أن لا تقطع الوصال بينه وبين إبنه العزيز ( هادي ) .
عادت إلى أبيها , فاستقبلها بمنزل خاص بها وبإبنها , أحضر لها عاملات وسائق .
لتعيش معززة ومكرمة ولا يضايقها أحدا .
ذهبت هي , وذهبت عبير .. فاضت روحها إلى بارئها بعد سنين طويلة من المعاناة .
وبقيت حياة بمفردها زوجة لــ عبد العزيز , الرجل الطيب الذكر في كل مكان .
وجدت حياة نفسها أما لخمسة أبناء , بدلا من ثلاثة .
ماهر البالغ من العمر آنذاك , 17 عشرة سنة , إبن عبير .
إبنها رائد , 15 سنة .
الثاني سامي , 12 سنة .
رؤى , 8 سنوات .
الرضيعة لجين .
أما هي , فظلت طليقة عبدالعزيز طوال هذه السنوات , أما لهادي .
لتسمع بعد ذلك عن إنجاب حياة لأطفال آخرون , ياسر وقمر .
ندمت نعم , ولكنها رغم ذلك بقيت مرتاحة في منزل والدها .
أحسنت تربية هادي .
أغدقت عليه بكرمها , لم تبخل عليه حتى بأبسط متطلباته .
خاصة بعد أن أصبحت هي الأخرى ثرية , بعد وفاة والدها ورثت عنه مبلغا طائلا .. وبيتها .
كان هادي يعلم عن حب والدته لوالده , والذي لم يموت في قلبها طوال هذه السنوات .
تأكد أكثر حين بكت لأجله بعد مرضه الذي أقعده , ثم وفاته المفاجئة .
أبعد كل هذا , ستتحمل فراقه هو الآخر ؟
موته أو موت دماغه ربما .
تنهد وهو ينظر إلى الخارج من خلال النافذة , ثم سأل سامي :
- ســ ســ ســامي قول لي , إيش صــ صــ صــار معاكم الحين ؟ نــ نــــ نـــجود وينها ؟
قطب حاجبيه بإنزعاج , وقبضته تشتد على مقود السيارة حتى ابيضت مفاصله , ليرد بإقتضاب :
- في مكانها الصحيح , اللي تستحق تكون فيه .
استغرب هادي من إجابته :
- مــ مــ مــ مــافهمت , يعني وين ؟
تنهد سامي :
- هادي إنت فيك اللي مكفيك لا تعور رأسك بمشاكلنا , ولا تسألني أكثر عن نجود , الله يسعدك .
ردّ الآخر بعد صمت قصير :
- ســ ســ ســامي إنتم إ إ إ إخواني , كـ كــ كــ ــيف ما أهتم ؟
تجاهله سامي , بدا مركزا على الطريق أمامه , بينما تفكيره كله محصور في نجود ولجين , والمصيبة العظمى التي حلت بهم منذ عدة أيام .
احترم هادي صمته وعدم رغبته في التحدث عن نجود :
- طــ طــ طــ طــيب لجين ؟ إيش صار عليها ؟
حرك كتفيه :
- وكلنا لها محامي , ولسه مافي أي جديد .
انزعج هادي بشدة , إجاباته المختصرة تدل على أنه لا يريد التحدث إليه أبدا عن الموضوع .. وكأنه ليس أخيه وفردا من تلك العائلة .
ربما أصبح كذلك فعلا بعد أن ابتعد عنهم تماما .
عقب وفاة والدهم .
****.
واشنطن ..
استيقظ زياد من نومه القصير بعد صلاة الفجر .
ليقوم من سريره في إحدى الشقق التي استأجرها داخل المدينة .
والتي كانت عبارة عن حجرة نوم متوسطة الحجم , مع دورة مياه .. صالة صغيرة ومطبخ بسيط .
غسل وجهه , وجلس على المقعد بجانب الشرفة ينظر إلى الخارج .
حركة المدينة في هذا الوقت .
والجو المعتدل , جعل المنظر ساحرا .
الشمس لا زالت باردة .
نوى أن يستلقي وينام حتى آذان الظهر , ولكنه استيقظ فجأة ودون سبب .
حاول أن يعود إلى النوم مجددا , ولكنه فشل .
كل ما به مستيقظا ومتنبها , هل ستنام عينيه بمفردها ؟
عقله مشغول , يحاول التفكير في خطة تمكنه من البحث على جوليا دون اللجوء للشرطة أو أي جهة أخرى مسؤولة .
لأن هذا – وكما قالت جيليان – قد تفتح ملفات قديمة .
وتحقيقات لها بداية , وليس لها نهاية ..!
فالأمر ليس عاديا أبدا .
هناك جرائم حصلت في ذات القضية .
سيطول الموضوع بيدهم أكثر , ولن يبدأو بالبحث سريعا .
وإن تصرفوا هم بمفردهم , هو وجيليان ولِيام ووالدتهم , سيتأخرون نعم .
ولكن النتيجة ربما ستكون أفضل .
مهلا , لِيام غادر بالأمس غاضبا ..!
ربما لن يساعدهم ولن يكون معهم .
ذلك الشاب , لن يكذب إن قال أنه صار يشك به كثيرا .
بالأمس وبعد أن خرج من المطعم .
توجه نحو الجامعة , وإلى مقعده المعتاد على الفور .
ابتسم بحنين وهو يجلس , ويمسح بيده على الطاولة .
ينظر إلى أنحاء المكتبة .
تفجرت مشاعر الشوق بأعماقه , لتجعل ملامحه في غاية التأثر .
حتى اسودّت .
شتم نفسه مرارا وتكرارا .
على تضييع نفسه أولا قبل الجميع .
جلس لبعض الوقت , قبل أن يغادر المكان .. مطلقا تنهيدة وجع مسموعة .
أوجعت صدره وقلبه .
خرج من الجامعة , وقابل بعض أصحابه .. تناول الغداء معهم .
نسيَ القليل من همه وحزنه .
في المساء , اصطحب صغيرته .. وذهب معها إلى العديد من الأماكن .
المساء بطوله .
حتى عادا إلى المنزل والتعب قد تمكن منهما .
أخذ هاتفه , بعد أن أعد له كوب قهوة , وعاد إلى مقعده في الشرفة .
ليدخل إلى حسابه على أحد مواقع التواصل الاجتماعي .
قطب حاجبيه بغرابة وهو يرى إسم هينا في قائمة الدردشات .
فتح الرسالة , وابتسم عندما رأى ما كتبت :
( رجعت لواشنطن ؟ ) .
هذه ليست عودة إلى واشنطن .
بل زيارة , ربما ستقتل ما تبقى بي من روحي .
وربما ستحيي في نفسي الفرح من جديد .
ليتها كانت بالفعل ( عودة ) .
عودة إلى حياتي الهانئة , إلى شبابي الممتع قبل أن أفقد جوليا .
إلى أيام الهناء , والجمال التي عشتها برفقتها .
عودة حيث روحي , وقلبي .
وعودة جوليا إليّ .
فتح المحادثة مرة أخرى , ليكتب ردا سريعا وقصيرا بقصد المزاح :
- إيه , إيش رايك إنتي بعد ترجعين ؟
___
انتهى الفصل