الجزء الثاني من سلسلة ملامح ا...

By MeEm_marwa

6.6K 121 17

قصص جديدة، وأخرى مكملة لقصص من الجزء الأول 💜✨ More

قريبا ✨
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الواحد والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الثالث والعشرون
الرابع والعشرون
الخامس والعشرون
السادس والعشرون
السابع والعشرون
الثامن والعشرون
التاسع والعشرون
الثلاثون والأخير

الفصل السابع

160 3 0
By MeEm_marwa


الماضي ..

دفع زين الباب المفتوح بيده , ليدخل ويقدم رجله اليمنى على اليسرى .
نبضات قلبه لم تهدأ .
صوت بكاء رؤى وفزعها , ثم اتصال نجود المفاجيء أيضا في طريقه .
كلها تصب في أذنه , ليزيد من خوفه وارتباكه .
مهلا , كل تلك الأشياء لا تساوي شيء , مقابل ما أمامه الآن ..!
جسد ماهر المسجى بالقرب من الباب , والمليء بالدم .
وجهه الخالي من الحياة .
كلها جعلته يهوي على الأرض جالسا .
بملامح متجهمة .
وضع يديه خلف رأسه , غير مصدق ما يرى .
اقترب منه بهدوء , يمشي على ركبتيه من هول الصدمة .
حتى وصل بجانب بطنه .

عبس بضيق وتقزز وهو يرى بطن ماهر المكشوف , والذي تحولّ للأحمر تماما .
ازدرد ريقه , وهو يضع يده على صدر ماهر .. يتحسس نبضه .
أجفل حين وجده ساكنا تماما , لا ينبض .
وضع اصبعيه على عنقه , ليس هناك أي نبض .
قرب أذنه من فم الآخر , ليموت آخر ما تبقى ما لديه من أمل .
ماهر لا يتنفس , قلبه توقف عن النبض .
بالرغم من أن جسده لا زال دافئا .
يبدوا أنه توفى للتو .
بعد أن نزف الكثير من الدم .

بالقليل فقط من الأمل الذي بقي في روحه , وعدم تصديقه للأمر .. اقترب ليضرب خده عدة مرات ينادي بإسمه بيأس , علّه يستيقظ .
حين لم تصدر أي ردة فعل من ماهر , وقف واتجه ناحية الجدار .. وضرب بقبضته الجدار حتى تألم .
ثم صرخ بكل ما أوتي من قوة .
لتنزل دموعه , تشهد خسارته العظيمة .
خسارته لصديقه المقرب , إبن عمه الطيب , زوج أخته .. أخ زوجته .
بل أخيه .
خرّ على الأرض جالسا مرة أخرى .
ينظر إلى جثة ماهر بغير تصديق .
تواتيه ذكرياته برفقة ماهر واحدة تلو الأخرى .
كل موقف , كل مكالمة .. كل محادثة كتابية , كل حوار عابر , كل عبارة عفوية , كل كلمة .. تقتله .
كما قُتِل أخ دنيته بتلك السكين .
سكين من كانت ؟
من فعل ذلك بأخيه ؟
من فعل ذلك بصديقه ؟
من استباح حرمة دمه ؟
من تجرأ وجرح جسده ؟ من تجرأ وقتل روحه هو قبل روح ماهر ؟
من ذلك الذي تجرأ ليخلق شعورا فظيعا ومريعا بداخله ؟
من تجرأ ومدّ يده لوالد تميم ؟ الطفل الرضيع الذي لم يتعرف على والده بعد لصغر سنه .
من تجرأ وطعنه في بطنه ليُرمِّل أخته العزيزة ؟
من تجرأ وأمسك بسكين قاتلة ؟ ليُسكِن في قلب محبوبته وجعا عظيما كهذا ؟
من تجرأ وأفزعها وأخافها بهذا الشكل ؟

قبل أن يخطر في باله أي إحتمال , داهمت الشرطة المكان .
ليجدوا أمامهم جسد ماهر المفارق للحياة والغارق بالدم .
وجسد زين المتصلب أيضا من صدمته , ووجهه الغارق بالدموع .
دون أن يقول شيء , وقبل أن يستوعب .. قيدوا يديه , وأوقفوه ليذهب برفقتهم بكل هدوء ودون اعتراض .
كأنه الجاني .
حتى استقر بداخل سيارة الشرطة , التفت إلى من على يمينه .
وكأنه للتو استوعب ما حصل :
- لحظة , وين بتودوني ؟
- إنت رهن الإعتقال بسبب وجودك في مكان الجريمة .
- بس أنا ما سويت شيء .
قاطعه الآخر :
- راح نقرر بعد التحقيق .
تنهد بضيق وأعاد رأسه إلى الخلف .
أغمض عيناه بتعب , وكأنه خرج من عراك طويل , مهلك الجسد والروح .
تتراءى أمام عيناه جثة ماهر , ولا تغادر مخيلته أبدا .
هاتفه الذي صار يرن مرة أخرى , جعل الشرطي يساعده ويخرجه من جيبه .
كانت المتصلة رؤى .
تسمرت عيناه على الشاشة .
كيف سيرد الآن ؟
تلك المسكينة .
ماذا سيقول لها ؟
حين اتصلت كانت تبكي بشدة , قائلة أن ماهر [ ربما ] على وشك الموت , على حد قوله .
وأن أحدهم طعنه .
وأنها خائفة على أخيها بشدة , تريد منه أن يذهب للإطمئنان عليه .
حتى أُقْفِلت الشاشة دون أن يرد , فتحه مرة أخرى بصعوبة بسبب القيود .
واتصل بسامي .
ليخبره الأمر بهون وبطء , حتى لا يفجعه .
طالبا منه أن ينقل الخبر إلى رؤى بكل هدوء , وأن ينتبه عليها .

ولكن الأمور آلت إلى ما لم تخطر على باله , حين خرج صباح اليوم التالي , بعد إفادته والتي جعلته بريئا تماما .
كان فهد قد حلّ مكانه , لكونه مالك موقع الجريمة .
لم يكن ذلك الأمر صادما بقدر ما صدمته ردة فعل رؤى حين ذهب لرؤيتها هي ونجود التي كانت تسكن في شقة بجانب منزل عمهم مع زوجها ماهر ( المقتول ) .

حين دخل إلى منزل عمه , قابلته رؤى في الصالة الخارجية .. أمسكت بياقة ثوبه , لتقول بصوت باكي :
- أنا اتصلت فيك وقلت لك تروح له عشان تنقذه , مو عشان ترسل لي سامي بخبر موته , ليش زين ؟
أجفل ولم يدرِ ما يقول , هل يستنكر ما تقوله أمامها وهي بهذه الحالة ؟ أم يواسيها , أمسك بكفيها التي كانت تمسكه هي بها .. ليقترب منها قائلا بهدوء :
- أنا آسف رؤى , لما وصلت .. كان خلاص .........
عض شفته من صعوبة الأمر , ومن ثقل تلك الكلمة حتى ينطقها أمام هذه الإنسانة الضعيفة , بل روحه المهشمة منذ تلك اللحظة .
أصبحت تضربه بقبضتيها على صدره دون أن تشعر :
- كذاب , والله كذاب .. لما كلمني كان حيّ .. حتى كلمني كويس , كيف كذا مات بسرعة ؟ أنا كلمتك إنت أول واحد وقبل الكل لأني عارفة إنك الوحيد اللي تقدر تتصرف بسرعة في مثل هالموقف , ما كنت مصدقة .. عشان كذا أرسلتك , كنت أباك تصير عيوني عشان تتأكد من الموضوع , وإنه ما مات يا زين .
أبعد يديها بقوة ولطف في ذات الآن , ليحتضنها ويضمها إلى صدره .
وهي تحاول أن تتفلت منه بغضب .
حتى هدأت موجة غضبها العارم .
ولكن صوت شهقاتها العالية لم يهدأ بعد .

لتدفعه فجأة وتصرخ :
- صدقني زين ما راح أخليه في حاله , ما راح أرتاح إلا إذا شفتهم يعدموه , والله مار اح أخليه .. حتى انتم ماراح تتهنون صدقوني إذا وقفتوا في وجهي , راح أنسى إنك زوجي وإنكم أولاد عمي , والله بانتقم منكم كلكم .
قطب حاجبيه بغرابة شديدة , هو ومن كان متواجدا في تلك الصالة .
والدها على المقعد وبجانبه حياة , إخوتها رائد وسامي وياسر , نجود المنهارة ولجين بعباءاتهن .
اقترب منها ليمسك بكتفيها بهدوء :
- مين تقصدين رؤى ؟ مين هو ؟
ابتسمت بسخرية ومن بين دموعها :
- مين ؟ أخوك فهد .. فهد قتل ماهر .
عمَّ الصمت أرجاء المكان , وتجهمت وجوههم .
أصابتهم الصدمة , بل ألجمت ألسنتهم جميعا ليمتنعوا عن إبداء أي رد فعل .
حتى قطعت هي ذلك الصمت بضحكة موجعة :
- إيش فيكم ؟ ليش انصدمتوا كذا ؟
اقترب منها سامي أخيرا , ليلفها إليه قائلا بحدة واستغراب :
- ليش تقولين كذا ؟ مين قال لك إنه فهد اللي قتله ؟
- سمعتكم قبل شوي تقولون إنه المكان مليان بصمات لفهد وأصحابه .
- بس هذا ما يعني إنه هو اللي قتله , طبيعي بصماته تكون موجودة بما إن الاستراحة ملكه .
صمتت قليلا قبل أن تقول بهدوء :
- هو قال لي , ماهر لما كلمني قال إنه فهد طعنه .
قالتها وأجهشت بالبكاء مرة أخرى .
حتى جلست على عتبة أحد الأدراج في الخارج , تضم نفسها .
منهارة تماما .
روحها مهشمة , قلبها مكسور ومحطم .
بالرغم من أنها واصلت البكاء منذ الأمس , إلى أنها لم تكتفِ بعد .
تشعر أنها مهما بكت لن تستطيع إخراج ما بها من قهر وحزن على أخيها الراحل .
توجه قبضتها نحو صدرها , تضربه ضربات متتالية .
وشهقاتها تعلوا أكثر .
يقترب منها إخوتها , يحاولون تهدئتها .
ولكنها تأبى .
تريد أن تبكيه حتى تشعر بقلبها يخرج من بين ضلوعها .
أن تبكيه حتى تجف الدموع .
حتى تنزف عينها بدل الدمع دما .
أن تحفر خدودها بتلك القطرات المالحة .
حتى ذلك الحين , لن تكتفي .

خسرت آخر ما تبقى لديها من عائلتها الصغيرة سوى والدها .
ماتت والدتها قبل فترة بعد معاناة مع مرض السرطان .
وشقيقها الوحيد قُتِل قبل عدة ساعات ؟
زوجة والدها ( حياة ) وأبنائها كانوا لها أكثر من عائلة حقيقية .
لم تشعر يوما بأنها مختلفة عن أي أحد منهم .
ولكن كيف للمشاعر أن تتشابه ؟
كيف لحبها لشقيقها الوحيد أن يكون مشابها لحبها لأخوتها من والدها ؟
وكيف لحنانه أن يكون مثل حنان الآخرين ؟

كان زين ذلك الحين يقف مذهولا , حائرا .. خائفا ومرتبكا .
لا يريد أن يصدق ما قالته رؤى للتو .
فهد سيء نعم , ولكن ليس إلى تلك الدرجة التي تجعله يقتل أحدهم .
وإبن عمه ؟ زوج أخته ؟
هذا لا يُصدق ..!
هل رؤى سمعت خطأً ؟
أم هل فعلا .. فهد ( تجرأ وأحزن محبوبته ؟ ) .
اقترب بخطوات بطيئة , ليجلس على ركبتيه .. ويبعد يديها عن صدرها , ثم يمسك بوجهها , ليقول بهمس :
- مين ما كان اللي سوى هالشيء بماهر , وتجرأ وقتله .. صدقيني بيلقى جزاته .
تبعده عنها وتهز رأسها بشكل هستيري :
- لا إنت تكذب عليّ , مار اح تعاقب أخوك صدقني , ما راح تخليه يروح لحبل المشنقة وتطالع فيه مكتف يدينك , راح توقف معاه وتساعده عشان يطلع من هالمصيبة أنا أدري .. حتى الحين إنت مانت مصدقني , عشان كذا قاعد تقول لي مين ما كان .. ما قلت فهد , ما قلت فهد لأنك مو ناوي تعاقبه والله مو ناوي .

كان الجميع يبكي ويشهق في ذلك الوقت , من هول الصدمة والمصيبة .
ومن حالة رؤى التي أصابها ما أصابها , حتى أصبحت تتصرف كما لو أنها مجنونة .
وصارت تبكي بشكل هستيري يفجع الرائي .
أما لجين , والتي كانت تبلغ الخامسة عشر آنذاك , تملكها الهدوء .
حتى أصبح شكلها مخيفا .
غاضبة بشدة من منظر رؤى .
تشعر بقلبها يحترق بدلا من أختها .
لجين المعجبة بفهد منذ صغرها , كرهته حتى أصبحت تدعوا عليه في اللحظة الواحدة ألف مرة .
إن كانت رؤى محقة , ستأخذ هي حق ماهر بيديها .
اقترب سامي من رؤى مرة أخرى , ليمد لها قارورة ماء باردة .
علها تساعدها على إستعادة وعيها قليلا .
شربت القليل .. وطيف أخيها يتراءى أمامها .
لتقف وتمد يدها تمس بوجه زين , وتنطق :
- ماهر .
اتسعت أعينهم , وأمسك بها زين بسرعة قبل أن تسقط من طولها .
احتضنته بقوة لتبدأ نوبة بكاء أخرى .
تجعله يهتز , ويرتجف .
من صوتها المؤلم للقلب , ومن ارتجاف جسدها النحيل والصغير .
رفع رأسه ليقول لسامي :
- بوديها غرفتها .

تنحى الجميع , ليسند هو جسد رؤى عليه .. ويدخل إلى الداخل , حتى استقر بداخل حجرتها , وتفاجأ من المنظر .
يبدوا أن لا أحد ساعد المسكينة في تنظيف حجرتها بعد الفاجعة .
أفزعها ماهر في وسط احتفالها مع بنات عمومتها .
وضعها على سريرها وغطاها جيدا .
حين نوى الإبتعاد وتركها بمفردها , أمسكت بكفه .. تقول ولا زالت لمحة البكاء في صوتها :
- رجع لي ماهر , او انتقم لي من فهد .

تنهد بضيق وهو يعود ليجلس بجانبها ,ويقبل جبينها قائلا بهدوء :
- كل شيء راح يكون تمام .
مرر يده على شعرها بهدوء , مكررا حركته حتى نامت وسكنت ملامحها .
أخذ منديلا من فوق منضدتها ومسح وجهها المبلل .
ليخرج أخيرا بعد ان استودعها الله ودعا لها أن يخفف عليها مصيبتها ويهونها .
ويجد في استقباله نجود .
أمام حجرة رؤى بالضبط .
تقف بعينين دامعتين , ووجه مسود من الهم والحزن .
حجابها لا زال عليها .
نظر إليها يزدرد ريقه , لا يعلم كيف يواسيها .
بعد أن سمعت هي أيضا ما قالته رؤى , أن أخيها قاتل زوجها ..!
ارتمت إلى صدره لتبدأ هي الأخرى بنوبة بكاء عميقة .
ربت بيده على ظهرها , حتى هدأت بعد عدة دقائق .
ابتعدت لتقول وعيناها تلمعان بشدة :
- حتى أنا يا زين , ما راح أسامح فهد .. ولا راح أرتاح إلا إذا لقى جزاته .

هز رأسه إيجابا , وشد على عضدها :
- بعد التحقيق راح نعرف الحقيقة يا نجود , الحين إنتي خليك أقوى من رؤى .. فهد أخوك ما يصير تصدقين هالشيء عنه على طول , لين يخلص التحقيق , وصدقيني يا نجود , لو طلع هو الجاني .. راح يلقى جزاته مثل ما قلتي .
صمتت تنظر إلى عينيه :
- شكلك مثل ما قالت رؤى , مانت مصدقها ..!
ابتسم بهدوء :
- مو كذا السالفة , بس إلى الآن مافي دليل ضده .. بيخلص التحقيق قريب , حتى قبل لا ندفن ماهر .
نظرت إليه بلوم , ولم تقل شيئا .
أوجعته نظرتها , التي جعلته يشعر أنه غير مؤهل لثقتها , هي ورؤى .
من الواضح أن كلتاهما ستعتمدان عليه هو , وتحملانه مسؤولية ما سيحدث في الأوقات القادمة ..!

أمسكت بكفه مرة أخرى بلهفة :
- زين , لما رحت هناك , كيف كان ؟ ما تكلم معاك ؟ ما قدر يقول لك شيء ؟
لمعت عيناه بشيء من الألم وشعر بنبضات قلبه التي تسارعت ما إن تراءت أمامه جثة ماهر , ازدرد ريقه وأبعد عيناه عنها :
- كان ميت .
تركت يده لترتد قليلا إلى الخلف , ثم شهقت وهي تبتعد عائدة إلى شقتها .
وأمسك هو برأسه من قوة الدوار الذي شعر به .
وخرج بعد أن تنحنح حتى لا يصادف لجين .
عاد إلى المنزل .
لتستقبله أمه المفجوعة .
تسأله عن فهد قبل أن تسأل عنه , وعن ابنتها نجود .
ليجيبها ويستأذنها للصعود إلى حجرته .
إن بقيَ أمامها أكثر من ذلك , سينهار تماما .

عادت رؤى إلى الواقع .
تسمح دمعتها وهي مبتسمة .
تلوم نفسها على معاملتها لزين بتلك الطريقة .
الآن فقط وبعد أن غضب منها أخيرا , راودها شعور مختلف .
أنها استغلت طيبته كثيرا .
حتى نفذ صبره , وغضب .. غضبا صامتا .
تكاد تجزم , أنه إن تحدث سيقول [ أغرك مني أن حبك قاتلي ؟ وأنكِ مهما تأمري القلب يفعل ] .
نعم لا شيء آخر سيصف محبوبها أكثر من هذا البيت الشعري .
أغمضت عيناها سريعا وشدت غطائها عليها حين شعرت بنجود تدخل إلى الحجرة , لا تريد أن تتحدث إليها الآن .
ولا تريد أن تفضح نفسها أمام نجود وتفضي إليها بمكنون قلبها .
فالشوق إلى زين قد فاق الحدود .
وهي بحاجة إليه , أكثر من أي وقت مضى .
وسبب الخصام ؟ نجود بالتأكيد .

*****.

واشنطن ..

حلّ صباح اليوم الثاني .
ليدخل بعض النور من فتحات صغيرة على الحائط .
تجلس جوليا بوهن وبطء .
جسدها أصبح معرقا بالكامل , من شدة حرارة الحجرة .
ولا ترى سوى الضباب من خلال عينيها .
حاولت أن تسحب إلى رئتيها هواء عميقا , إلا أنه صُعب عليها .
الحرّ كان خانقا جدا .
وقفت تسند يدها على الحائط , حين تذكرت لورنا .
مسحت عينيها جيدا , لتوسع حدقتيها باحثة عن جسد لورنا .
حتى وصلت إلى آخر الحجرة المظلمة , بخطواتها البطيئة .
وشهقت حين رأت لورنا مستلقية كما أنها في بطن أمها , متكورة على نفسها .
أسرعت لتجلس بجانبها , وتضع يدها على جبينها تتحسس حرارتها .
كانت مرتفعة جدا .

بدأت دموعها بالنزول دون أن تشعر , وهي تضرب خد لورنا .
بعد أن تحسست نبضها أيضا , وحمدت الله أن كان منتظما .
وضعت رأس لورنا بحجرها , وصارت تضرب خدها بخفة .. تنادي بإسمها .
صارت شهقاتها مسموعة , حين لم تسمع أي رد من لورنا , ولا ردة فعل تطمئنها .
حركت شفتيها تقرأ المعوذات وبعض الأدعية وتنفث عليها , وتزيد من ضربها على خد لورنا , حتى فتحت الأخرى عينيها الفاتحتين بتعب وابتسمت :
- مرحبا جوليا .
شهقت جوليا شهقة كبيرة قبل أن تنحني وتضم لورنا إلى صدرها , كما لو أنها أم وكادت تفقد وليدها .
بكت فرحا وخوفا في ذات الوقت .
تحمد الله أن كانت لورنا حية .
حتى قاطعها صوت لورنا الهاديء :
- يكفي أيتها الضعيفة , ها أنا بخير وعلى قيد الحياة أمامك , إلا متى لا أدري .. ولكن علينا أن نستغل هذه اللحظات القليلة المتبقية لدينا من حياتنا , فأنتي أيضا معاقبة أليس كذلك ؟ وإلا ما سبب تواجدك في هذه الحجرة البائسة ؟
ضحكت جوليا من بين دموعها وهي تساعد لورنا على الجلوس .
شهقت الأخرى بفزع فور اعتدالها , تمد يدها تتلمس السائل الخارج من أنفها :
- يا إلهي , إنني أنزف .
أعادت رأسها إلى الخلف لتمنع الدم من النزول , إلا إنها بسبب غزارة الدم صارت تسعل حين وصل الدم إلى حلقها .
خلعت جوليا السترة الصوفية التي ترتديها فوق ثوبها ومدتها إلى لورنا :
- لا تمنعيه من النزول فقد تتضرري .
عملت بنصيحتها وقربت السترة من أنفها .
ثم قالت :
- كيف وصلتِ إليّ ؟ كيف عرفتِ عن مكاني ؟

تنهدت جوليا وهي تمسح الباقي من دموعها على خدها :
- بحثت حتى وصلت , هذا لا يهم .. أخبريني , كيف تشعرين ؟ هل آذوك بشدة ؟
- إنه لا شيء , فقط عشر جلدات بسوط غليظ لليوم الواحد , إن صبرت سأنال أضعافها عشر في أيام متفرقة , حتى يقبض الله روحي , ولعلّ ذلك يحصل اليوم فأرتاح من هذا العذاب .
أغمضت الأخرى عيناها بحزن وهي تقترب من لورنا أكثر وتمسك بكفها الخالية من السترة :
- يا إلهي , سامحيني لورنا .. كل ذلك كان خطئي , أرجوك اصفحي عني .
نظرت إليها لورنا نظرة غريبة قبل أن تسحب كفها :
- لا عليكِ جوليا , الخطأ خطأهم .. إنهم ليسوا بشر , بل مجرد وحوش .
لترد جوليا بهدوء :
- أنتِ لا تستحقين هذا .
التفتت إليها لورنا فجأة بعد أن كانت صامتة , وكأنها للتو تذكرت :
- هيه , أخبريني .. كيف خرجتِ من هناك ؟
ابتسمت لتبدأ بسرد ما حصل معها .
حين انتهت ضحكت لورنا بشدة , تشعر بالأسف على حال جوليا :
- أنتِ لا تهابين شيئا على ما أظن , أحب شجاعتك .. ولكن يا عزيزتي لم يكن عليكِ خوض هذا من أجلي , انظري إلى حالنا الآن ؟ كلانا مقيدتان , لو كنتِ في الخارج لاستطعتي فعل أي شيء من أجلي .
- كفي عن العتاب واللوم لورنا , علينا أن نفكر بحل لمصيبتنا , يجب أن نخرج في وقت قريب , لن أرضى بهذا الذل , اكتفيت .. لذا أقدمت على البحث عنك ووضع نفسي في الخطر لعلي أتمكن من إنقاذك ثم الهروب من هنا وإلى الأبد , ولعلّ وجودي هنا جزء من خطة الهروب .

قطبت لورنا حاجبيها بعدم فهم :
- كيف ؟ ماذا تعنين يا مجنونة ؟ هل الهلاك على أيديهم هروب ؟ إنه الذل بذاته .
تأففت :
- آآخ يا لورنا لن تفهمي أبدا فأنتِ جديدة عكس رفيقتك المخضرمة , سترين ما سيحدث .
ضحكت لورنا مرة أخرى بسخرية :
- بل أنتِ من لم تفهمي , جوليا أرجوك افيقي من غفلتك .. ستتلقين هنا أصنافا من العذاب , يعني ربما ... سنموت ولن نرى النور مرة أخرى , هل خططتي لهذا ؟ أعني .. هل ستتحملين ؟
مدت شفتيها بمعنى لا أعلم , لتشير بأصبعها على فتحة صغيرة من الحائط خلف لورنا :
- واقعيا نحن نستطيع أن نرى النور حتى الآن من خلفك تحديدا , أما عن هذا الوضع وعن العذاب الذي تتحدثين عنه , نعم كنت أعرف عنه ولو أنه فاق حدود المعقول بالنسبة إليّ .. ولكن الأمر يستحق يا صديقتي .
تنهدت لورنا , لا تستطيع فهم ما تفكر به جوليا , ولا تستطيع إستيعاب ما ترمي إليه بحديثها الغريب , وبملامح هادئة :
- أنا لست صديقتك .
- سنكون ذات يوم .
قبل أن تكمل عبارتها , فُتِح الباب .. وظهر من خلفه النور والظلمة .
نور المصباح , ظلمة وجه الرئيسة ومن معها .
وأنير المكان فجأة , لتغمض جوليا ولورنا عينيهما بإنزعاج .
ثم فتحنها ببطء .
حين وقفت الرئيسة أمامهما , ترمقهما بنظرات حادة ومخيفة .
لتشير بعد ذلك إلى إحدى العاملات , كانت تحمل بيدها جرة ماء .
سكبته عليهما , لتشهقا بشدة من برودة الماء .

حملت الرئيسة بيدها سوط غليظ باللون الأسود , وأمرت العاملة بإغلاق الباب .
ثم وقبل أن ترفعه عاليا وتسقطه على جسد إحداهن , وقفت جوليا وتحدثت بسرعة :
- أرجوك استمعي إليّ , لورنا لم تخطيء ولم تذنب , أنا وحدي المذنبة .. حين سقط عليّ اللوح الخشبي أتت هي للبحث عني , ولكن بسبب خوفها منك هربت , وفي نيتها مساعدتي وطلب النجدة منكم , لذا أرجوك .. إن كنتِ تريدين معاقبة أحد , فعاقبيني أنا وحدي , واتركيها وشأنها .. إنها لا تستحق .
وقفت لورنا بصعوبة من آلام جسدها , وأعادت شعرها الأشقر المبلول إلى الخلف , لتقول :
- كفي عن تصنع المثالية جوليا , إن كانت تريد معاقبة إحداهن فالأخرى أيضا تنال المثل , لن أرضى بغير ذلك .

ضحكت الرئيسة بسخرية :
- ومن قال أني سآخذ برأيكن ؟ كلتاكما تستحقان العقاب , وأنتي يا جوليا , كفي عن التصنع والكذب كما قالت رفيقتك , فأنتي هنا منذ مدة طويلة حتى أصبحت أحفظك وتصرفاتك عن ظهر قلب , وإن كنتِ لا تستحقين العقاب على بقائك في الأسفل , فتستحقينه من أجل ما فعلته بعد منتصف الليل , ومن أجل معرفتك لمخبأنا هذا .
تحدثت جوليا بلهفة :
- أقسم لك أني لن أقترب منه ثانية , وأني لن أخبر أحدا عنه .. ولكن أرجوك ...........
قاطعتها الرئيسة بغضب وصراخ :
- يكفي جوليا .
تقاطعها جوليا أيضا :
- حسنا بما أني هنا منذ فترة طويلة , وخدمت المكان وعملت الكثير من أجله , ألا يمكن لذلك أن يشفع لي ؟ فقط خففي علينا العقاب , بدلا من الضرب والحبس .. كلفينا بالأعمال الشاقة , مثل نقل البضائع الثقيلة وتنظيف المنزل , أرجوك .
حدقت إليها لورنا بدهشة , حتى كادت عيناها تخرجان من مكانهما , ودُهشت أكثر حين ردت الرئيسة بهدوء وبعد تفكير قصير :
- حسنا هذه فكرة جيدة , سأكلفكما بالأعمال الشاقة .. ولكن قبل ذلك , ستنالين ما نالته رفيقتك بالأمس , حتى يكون العقاب عادلا .
أجفلت جوليا مما سمعت , وازدردت ريقها بصعوبة .
وقبل أن تستوعب , صرخت بقوة حين شعرت بلسعة قوية على ذراعها , تلتها أخرى أقوى من أختها .
حتى انتهت الجلدات العشر .. وخرجت الرئيسة برفقة العاملات .

انحنت لورنا بخوف وفزع , تهز جسد جوليا الملقى على الأرض :
- جوليا ؟
ضحكت جوليا وهي تستلقي على جسدها بعد أن كانت متكورة تحمي جسدها من الأمام :
- لا تخافي , أنا بخير .
تنهدت براحة وصوت مسموع وهي تتربع على الأرض بوهن من خوفها الشديد على جوليا قبل قليل :
- أيتها المجنونة عديمة الإحساس .
تأوهت جوليا وهي تجلس , وتمسك بخصرها :
- يا لها من عجوز حمقاء , كيف وثقت بي بعد بكل ما سمعته ووافقت على عرضي ؟ هههههههه .
ابتسمت لورنا وهي تنظر إليها :
- أنتِ فعلا مجنونة , صدقيني لو كنت بمفردي لما فعلت ذلك , كنت فضلت الموت على العمل الشاق .
صمتت جوليا قليلا وهي تفكر , لو كانت هي بمفردها لفكرت مثل لورنا , وفضلت الموت على الأعمال الصعبة , ولكن الآن لورنا معها وبسببها .
عليها أن تنقذها .
وتنسى الإستسلام تماما , حتى ترى لورنا تخرج من داخل هذه الجدران بسلام .
- ماهي خطتك ؟

وضعت جوليا رأسها على الأرض حين شعرت بألم , وردت بصوت منخفض :
- سأترك الأمور تمشي بمشيئة الله , ليست لدي سوى خطة بدائية , حمقاء قد تؤدي بنا إلى الهلاك في وقت قريب .
صمتت بعد ذلك , متجاهلة سؤال لورنا .. والذي لم تسمعه أساسا .
بسبب شرودها .
حين كانت الرئيسة تضربها بالسوط , واتتها ذكرى مشوشة .
موقف كانت تحاول فيه حماية نفسها بنفس الطريقة .
تكورت على نفسها كالجنين , تغطي بطنها بكفيها ...!
متى كان ذلك , ومن ذلك الذي عاملها بتلك الوحشة ؟
أغمضت عيناها بإنزعاج , وهي تسمع صراخ وضجيج في عقلها .
ذكرت الله واستغفرت حتى تهديء من نفسها .

حلّ المساء , لتأتي إليهم إحدى العاملات المهمات , برفقتها اثنتان .
رافقتا جوليا ولورنا , إلى القبو مرة أخرى ..!
حيث كانت أولى مهامهم , بناء جدار كامل بالطوب الأحمر الصغير والإسمنت , بدلا من الباب الذي حاولت جوليا الهروب من خلاله ..!

_______

الرياض .

يفتح هادي عينيه ويعتدل بجلسته بعد غفوته القصيرة , حين توقفت السيارة أخيرا .
التفت نحو أخيه , الذي ابتسم له يشجعه .. ثم ضغط على كفه :
- راح تكون بخير .
يرد له بإبتسامة قلقة وخائفة , لينزل هو وينزل سامي وارءه .
كان هادي قد حجز موعدا مسبقا لدى طبيب الأورام , لذا توجه على الفور ناحية القسم وجلس ينتظر .
بجانبه سامي المنشغل بهاتفه .
أغمض هادي عيناه وأسند رأسه على حافة المقعد يذكر الله ويستغفره .
بينما رأس سامي وقلبه مثقلين بالهموم .
لا يدري كيف يتصرف بالضبط .
يبحث عن أي شيء في الهاتف يمكنه أن يخفف من همه وينسيه قليلا من تلك المشاكل .

حتى أتى دور هادي , ودخل إلى الطبيب .
ليخبره الأخير أنه سيبدأ بعلاجه ببعض الأدوية الكيميائية لأن عملية الإستئصال خطيرة جدا كون الورم في منطقة خطِرة .
فإن نفعته تلك الطريقة , سيستطيع التحمل بضعة أشهر , حتى تقل الأعراض .
أو على الأقل تموت بعض خلايا الورم , فيتمكن السفر .. ويذهب إلى الخارج ليجري عملية الاستئصال ( الصعبة جدا ) والعسيرة .
خرج وحاله لم يتغير .
حزنه لا زال جاثما على قلبه , يفكر بوالدته أكثر مما يفكر بنفسه .
إن حدث له مكروه , ستصبح بمفردها مرة أخرى .
ستكون وحيدة لا معيل لها , غير إخوتها .. وهو لا يريد ذلك .
لا يستطيع تحمل فكرة بأن والدته مضطرة للإعتماد على سواه .
بعد أن قدمت له الكثير , ولم تقصر عليه بأي شيء .

والدته كانت إحدى بنات رجل ثري , والذي تزوج عدة نساء وأنجب منهن الكثير .
ذكور وإناث .
تخرجت من الجامعة لتجلس في المنزل دون أن تتوظف , كسولة .. تعتمد على مال أبيها وإخوتها , بل لم تكن أساسا بحاجة للعمل أو الوظيفة .
كما أنها كانت نوعا ما , إنطوائية ومنعزلة لا تحب أن تختلط بالغير .
أصدقائها قلة .
حتى ملّت من وضعها وجلوسها في المنزل , قدمت على بعض الوظائف .
مبتعدة عن أعمال والدها الخاصة .
ليس لشيء , فقط حرية شخصية .
ورغبة منها في تغيير شخصيتها حتى تصبح أفضل .
كانت تفشل في جميع المقابلات الشخصية , بسبب خجلها الشديد .
كانت ترتجف كل ما جلست أمام شخص غريب لا تعرفه .
وأخيرا قبلتها مؤسسة خاصة , بالرغم من أن توترها وارتباكها كان كالسابق أيضا , إلا أن نائب مدير تلك المؤسسة كان لطيفا معها وطيبا .
بل مع الجميع .
ما اكتشفته بعد توظيفها في قسم المحاسبة .
كانت كل ما رأته شعرت بشيء ما يجذبها نحوه .
تعامله الجميل , وطيبته .. وتحمله مسؤولية مؤسسة أخيه الأصغر كاملا على عاتقه .
كل تلك الأشياء جعلتها تحبه رغما عنها , ومن طرف واحد .. لفترة طويلة .
حتى انصدمت به ذات يوم , يأتي ممسكا بيد إبنه الكبير ( ماهر ) والذي بلغ من العمر آنذاك , عشر سنوات .
شعرت بقلبها ينكسر من مجرد معرفتها بذلك الأمر , لا يتضح عليه العمر .
كان متوسط الطول , نحيل الجسم .
قلبها الذي كُسر من معرفتها بزواجه , تحطم تماما حين علمت عن زواجه باثنتين .

ولكنها رغم ذلك لم تيأس , ظلت تحبه في الخفاء .
ثم أصبحت تتقرب منه .
حتى فاجأها هو ذات يوم , بعرضه الزواج منها .
صُدِمت كثيرا إذ لم تتوقع ذلك ولا واحد بالمئة , رغم دعواتها الكثيرة ليل نهار .
وافقت على مضض , رغم توقها الشديد وانتظارها الطويل .
فكرة الزواج من رجل متزوج عامة لم تكن بالكبيرة بالنسبة إليها , فوالدها فعل ذلك .
ولكنها تحبه , ربما لن تصبر حين تراه مع غيرها من النساء .
حبها كان أقوى من أي شيء آخر , لتتزوجه أخيرا .
وسرعان ما حملت بإبنها الأكبر , وأنجبته ( هادي ) .
اتخذت زواجها عذرا لها .
للتوقف عن الذهاب إلى العمل .
أسكنها زوجها برفقة زوجاته الأخريات في منزل واحد كبير .
يعدل بالجميع .
ولا يقصر مع أي واحدة منهن .
كان لديه من زوجته الكبرى ( عبير ) ماهر , ورؤى .
توقفت عن الإنجاب بعد إصابتها بمرض السرطان .
حتى حين تزوجت هي ( منال ) كانت مريضة هزيلة , وعلى مشارف الموت .
العلاج الكيماوي أكل جسمها , وقتل ملامحها الجميلة .
أما الزوجة الثانية , ( حياة ) أقرب نساء زوجها إلى قلبه .
هذا ما استنتجته فور أن حطت أقدامها على أرضية ذلك المنزل .
فهي أجملهن , أرقهن .. أكثرهن أناقة وإهتمام بنفسها وجمالها , وأكثرهن إنجابا للأولاد الذكور .
حيث كانت أم لرائد وسامي .
ويبدوا أنها ستنجب أكثر في الأيام المقبلة .

غارت منال , ولم تتحمل ذلك .
إقناع زوجها بمفارقة الأخريات صعب , جدا .
فهن سبقن بالدخول إلى منزله ثم فؤاده .
غير أنه بالتأكيد لن يتخلى عن عبير وأيامها معدودة .
ولا عن حياة التي تهتم بالمنزل بأكمله دون أن تقصر بشيء .
إذا .. عليها هي أن تخرج قبل أن تخسر نفسها بسبب غيرتها الشديدة .
لتطلب الطلاق بعد أن بلغ هادي ست سنوات .
وأنجبت حياة أجمل إبنة في العائلة إطلاقا ( لجين ) .
والتي ما إن أتت على الدنيا حتى نسي زوجها الجميع .
وأحبها حبا جما .
فهي الإبنة الثانية والتي أتت بعد رؤى بسنين طويلة .
وكأنه اكتفى من الذكور وشبع منهم .

حاول تغيير رأيها جاهدا , ولكنه لم ترضخ له أبدا .. إذا أصرت على الفراق , فطلقها رغما عنه .
بعد أن أكدّ عليها وحرص أن لا تقطع الوصال بينه وبين إبنه العزيز ( هادي ) .
عادت إلى أبيها , فاستقبلها بمنزل خاص بها وبإبنها , أحضر لها عاملات وسائق .
لتعيش معززة ومكرمة ولا يضايقها أحدا .
ذهبت هي , وذهبت عبير .. فاضت روحها إلى بارئها بعد سنين طويلة من المعاناة .
وبقيت حياة بمفردها زوجة لــ عبد العزيز , الرجل الطيب الذكر في كل مكان .
وجدت حياة نفسها أما لخمسة أبناء , بدلا من ثلاثة .
ماهر البالغ من العمر آنذاك , 17 عشرة سنة , إبن عبير .
إبنها رائد , 15 سنة .
الثاني سامي , 12 سنة .
رؤى , 8 سنوات .
الرضيعة لجين .

أما هي , فظلت طليقة عبدالعزيز طوال هذه السنوات , أما لهادي .
لتسمع بعد ذلك عن إنجاب حياة لأطفال آخرون , ياسر وقمر .
ندمت نعم , ولكنها رغم ذلك بقيت مرتاحة في منزل والدها .
أحسنت تربية هادي .
أغدقت عليه بكرمها , لم تبخل عليه حتى بأبسط متطلباته .
خاصة بعد أن أصبحت هي الأخرى ثرية , بعد وفاة والدها ورثت عنه مبلغا طائلا .. وبيتها .
كان هادي يعلم عن حب والدته لوالده , والذي لم يموت في قلبها طوال هذه السنوات .
تأكد أكثر حين بكت لأجله بعد مرضه الذي أقعده , ثم وفاته المفاجئة .
أبعد كل هذا , ستتحمل فراقه هو الآخر ؟
موته أو موت دماغه ربما .

تنهد وهو ينظر إلى الخارج من خلال النافذة , ثم سأل سامي :
- ســ ســ ســامي قول لي , إيش صــ صــ صــار معاكم الحين ؟ نــ نــــ نـــجود وينها ؟
قطب حاجبيه بإنزعاج , وقبضته تشتد على مقود السيارة حتى ابيضت مفاصله , ليرد بإقتضاب :
- في مكانها الصحيح , اللي تستحق تكون فيه .
استغرب هادي من إجابته :
- مــ مــ مــ مــافهمت , يعني وين ؟
تنهد سامي :
- هادي إنت فيك اللي مكفيك لا تعور رأسك بمشاكلنا , ولا تسألني أكثر عن نجود , الله يسعدك .
ردّ الآخر بعد صمت قصير :
- ســ ســ ســامي إنتم إ إ إ إخواني , كـ كــ كــ ــيف ما أهتم ؟
تجاهله سامي , بدا مركزا على الطريق أمامه , بينما تفكيره كله محصور في نجود ولجين , والمصيبة العظمى التي حلت بهم منذ عدة أيام .
احترم هادي صمته وعدم رغبته في التحدث عن نجود :
- طــ طــ طــ طــيب لجين ؟ إيش صار عليها ؟
حرك كتفيه :
- وكلنا لها محامي , ولسه مافي أي جديد .

انزعج هادي بشدة , إجاباته المختصرة تدل على أنه لا يريد التحدث إليه أبدا عن الموضوع .. وكأنه ليس أخيه وفردا من تلك العائلة .
ربما أصبح كذلك فعلا بعد أن ابتعد عنهم تماما .
عقب وفاة والدهم .

****.

واشنطن ..

استيقظ زياد من نومه القصير بعد صلاة الفجر .
ليقوم من سريره في إحدى الشقق التي استأجرها داخل المدينة .
والتي كانت عبارة عن حجرة نوم متوسطة الحجم , مع دورة مياه .. صالة صغيرة ومطبخ بسيط .
غسل وجهه , وجلس على المقعد بجانب الشرفة ينظر إلى الخارج .
حركة المدينة في هذا الوقت .
والجو المعتدل , جعل المنظر ساحرا .
الشمس لا زالت باردة .
نوى أن يستلقي وينام حتى آذان الظهر , ولكنه استيقظ فجأة ودون سبب .
حاول أن يعود إلى النوم مجددا , ولكنه فشل .
كل ما به مستيقظا ومتنبها , هل ستنام عينيه بمفردها ؟
عقله مشغول , يحاول التفكير في خطة تمكنه من البحث على جوليا دون اللجوء للشرطة أو أي جهة أخرى مسؤولة .
لأن هذا – وكما قالت جيليان – قد تفتح ملفات قديمة .
وتحقيقات لها بداية , وليس لها نهاية ..!
فالأمر ليس عاديا أبدا .
هناك جرائم حصلت في ذات القضية .
سيطول الموضوع بيدهم أكثر , ولن يبدأو بالبحث سريعا .
وإن تصرفوا هم بمفردهم , هو وجيليان ولِيام ووالدتهم , سيتأخرون نعم .
ولكن النتيجة ربما ستكون أفضل .
مهلا , لِيام غادر بالأمس غاضبا ..!
ربما لن يساعدهم ولن يكون معهم .
ذلك الشاب , لن يكذب إن قال أنه صار يشك به كثيرا .

بالأمس وبعد أن خرج من المطعم .
توجه نحو الجامعة , وإلى مقعده المعتاد على الفور .
ابتسم بحنين وهو يجلس , ويمسح بيده على الطاولة .
ينظر إلى أنحاء المكتبة .
تفجرت مشاعر الشوق بأعماقه , لتجعل ملامحه في غاية التأثر .
حتى اسودّت .
شتم نفسه مرارا وتكرارا .
على تضييع نفسه أولا قبل الجميع .
جلس لبعض الوقت , قبل أن يغادر المكان .. مطلقا تنهيدة وجع مسموعة .
أوجعت صدره وقلبه .
خرج من الجامعة , وقابل بعض أصحابه .. تناول الغداء معهم .
نسيَ القليل من همه وحزنه .

في المساء , اصطحب صغيرته .. وذهب معها إلى العديد من الأماكن .
المساء بطوله .
حتى عادا إلى المنزل والتعب قد تمكن منهما .
أخذ هاتفه , بعد أن أعد له كوب قهوة , وعاد إلى مقعده في الشرفة .
ليدخل إلى حسابه على أحد مواقع التواصل الاجتماعي .
قطب حاجبيه بغرابة وهو يرى إسم هينا في قائمة الدردشات .
فتح الرسالة , وابتسم عندما رأى ما كتبت :
( رجعت لواشنطن ؟ ) .
هذه ليست عودة إلى واشنطن .
بل زيارة , ربما ستقتل ما تبقى بي من روحي .
وربما ستحيي في نفسي الفرح من جديد .
ليتها كانت بالفعل ( عودة ) .
عودة إلى حياتي الهانئة , إلى شبابي الممتع قبل أن أفقد جوليا .
إلى أيام الهناء , والجمال التي عشتها برفقتها .
عودة حيث روحي , وقلبي .
وعودة جوليا إليّ .
فتح المحادثة مرة أخرى , ليكتب ردا سريعا وقصيرا بقصد المزاح :
- إيه , إيش رايك إنتي بعد ترجعين ؟

___

انتهى الفصل

Continue Reading

You'll Also Like

604K 29.5K 45
ندخل انا وياكم و نفتح الابواب عن حياة أنفال و المطبات الي مرت فيها بحياتها و هل وقفت عند هاي المطبات ولم تكمل حياتها ام هناك شخص أمسك بيدها لكي يكون...
32.3K 1.6K 52
🎶صرخات محبوسة ...آهااات مكبوته...قلوب موجوعة ...ابتسامات باهتة ...امآل زااائفة احلام محطمة ....ولكن بالرغم هذا لم تتخلى عن ثباتها وثقتها وإيمانها ب...
29.3M 1.7M 55
حياةٌ اعيشها يسودها البرود النظرات تحاوطني أواجهُها بـ صمود نظراتٌ مُترفة .. أعينٌ هائمة ، عاشقة ، مُستغلة ، عازفة ! معاشٌ فاخر ، صوتٌ جاهِـر اذاق...