الجزء الثاني من سلسلة ملامح ا...

By MeEm_marwa

6.6K 121 17

قصص جديدة، وأخرى مكملة لقصص من الجزء الأول 💜✨ More

قريبا ✨
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الواحد والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الثالث والعشرون
الرابع والعشرون
الخامس والعشرون
السادس والعشرون
السابع والعشرون
الثامن والعشرون
التاسع والعشرون
الثلاثون والأخير

الفصل الخامس

269 6 8
By MeEm_marwa

اللهم أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق .
لا إله إلا الله .
لا تلهيكم روايتي عن الصلاة وذكر الله .

___

الماضي ..

___

يدخل زين إلى مجلس منزل عمه الراحل بهدوء وببطء.
وما إن أصبح بوسطه حتى صارت الذكريات والمواقف المتعلقة به تواتيه واحدة تلو الأخرى.
حتى تنهد واستغفر ودعا له بالرحمة ثم جلس.
ليست المرة الأولى التي يأتي فيها بعد وفاة عمه، ولكنها المرة الأولى التي سيرى بها – أخيرا – رؤى.
لم تستقبله ولم ترحب برؤيته مطلقا في الأيام السابقة.
حتى أنها لم ترد على مكالماته.
كان يريد الاطمئنان عليها فقط ليس أكثر، ولكنها امتنعت بشدة.
ولم تسمح له بالتحدث إليها.
فتركها كما شاءت.
حتى أذنت له اليوم، وقد مر أسبوع كامل.

رفع رأسه حين سمع صوت وقع أقدامها.
دخلت، متشحة بالسواد.
من أقصاها لأخمص قدميها.
حتى شعرها الأسود الفاحم بدا مثل ملابسها تماما.
ولكن يا سبحان من خلقها فسواها.
فهي بالرغم من مسحة الحزن التي تغطي وجهها، والهالات الخفيفة التي تحيط بعينيها الواسعتين، تبدوا جميلة.. منيرة.
ابتسمت ابتسامة باهتة واتجهت إليه، ليفتح ذراعيه ويستقبلها بحضنه.
ضمها إليه بشدة، لتدفن هي جسدها الصغير بين أضلاعه.
وكأنها بذلك تريد الخلاص والهروب من واقعها الحزين.
توقع زين أنها ستبلل صدره كالعادة بدموعها الغزيرة، ولكنه تفاجأ جدا حين ابتعدت عن حضنه، ووجهها كما هو.
قبَل جبينها، وسأل عن حالها.. ثم سأل:
- ليش حتى الآن لابسة أسود؟
صمت قليلا ليكمل بهدوء وهو يمسك بكفها:
- تعرفين بعد إنه بدعة ...!

ابتسمت وهي تومئ بإيجاب وتجلس وتجيب بهدوء:
- صح بدعة، بس مدري وش فيني الله يسامحني.. يمكن لأن هالشيء صار عادة عند الناس، المهم.. أنا حدادي مو بس على أبوي، إلا على الثلاثة.. أمي وأبوي وماهر.
تحشرج صوتها وهي تقول تلك العبارة، وتنظر إلى عينيه الحانية، أكملت بذات النبرة الموجعة:
- زين أنا فقدت كل أهلي، مو باقي لي أحد.
مدّ يده ليمسك خدها:
- وأنا وين رحت؟ واخوانك؟ عمتي حياة؟
هزت رأسها بشيء من الوجع، وتحشرج صوتها مرة أخرى وهي تقول:
- ما حد يفكر بالثأر غيري.. أبي حق أخوي.
انصدم زين، لم يتوقع منها أن تفتح ذلك الموضوع مرة أخرى، ولا تفكر بــ (الثأر) بعد مضي هذه السنين.
لقد نسيت ذلك الموضوع بعد جهد طويل، منها ومنه.
إذا ما الذي تقوله الآن؟
ما هذا الذي تتفوه به؟
أكملت حين رأت نظراته المستنكرة:
- لا تطالع فيني كذا زين، ولا تنصدم.. إيه أنا ليومك هذا ما نسيت ولا فكرت أتخلى عن دم أخوي، وليومك هذا قلبي موجوع ويحرقني، راح من قدام عيوني وما قدرت أسوي شيء، صدقني بس أعرف القاتل وتثبت عليه التهمة بنتقم منه وما راح أسامحه لو كان أقرب الناس لي.
أكملت بعد صمت قصير:
- بس توفى أبوي تأكدت من هالشيء، إنه نار قلبي ما طفت.. سكتت لفترة، لكن الحين لا.
أمسك كفيها بيديه وضغط عليهما، ثم نظر إلى الأسفل قائلا بهدوء، بعد أن استوعب ما قالته جيدا:
- رؤى أنا مو ضد فكرتك، ولا كنت راح أمنعك أبدا؛ لكن .... صدقيني بتضيعين سنين حياتك مو أكثر، انسي وحاولي تنبسطي، فكرة الانتقام بتخليك معصبة وزعلانة طول عمرك يا رؤى، كنتِ بخير في الفترة الماضية.

هزت رأسها نفيا وهي تتنهد بوجع:
- لا تحاول تقنعني بأي طريقة، لأني ما راح أسمعك هالمرة.
صمت لبعض الوقت قبل أن يقول بنبرة تدل على عدم اقتناعه:
- براحتك رؤى، بس أتمنى هالشيء ما يمنعنا من الزواج مثل المرة الماضية.
رفعت رأسها لتنظر إلى عينيه ثم تقبل ما بينهما قائلة باعتذار:
- آسفة زين إذا بيضايقك اللي بسويه، أبد ما ودي هالشيء يأثر بعلاقتنا.. هذا ثاري أنا لوحدي لذلك سامحني إذا ضريتك أو أذيتك من دون ما أقصد، وطبعا ... ما راح أخلي أي شيء يوقف زواجنا، إذا كنت راضي وموافق.
ابتسم وهو يحتضن وجهها بكفيه ويستشعر الحرارة التي تعلوه:
- طبعا موافق، صدقيني لو طبيتِ في النار بطب معك.
ضحكت:
- بلا كذب والله ما راح تطب.
ضمته بعد ذلك، تبحث عن الأمان والراحة مغمضة عيناها بكل راحة وهدوء.. حين مد يده يمسح على شعرها:
- غريبة ما بللت ِثوبي اليوم.
ابتسمت:
- شكلي ما عاد راح أبلله، من مات أبوي ودموعي محبوسة ومو راضية تنزل.
قطب حاجبيه بانزعاج، وتنهد.. يدعوا الله أن يبعدها ويحفظها من مثل ذلك الاكتئاب الذي أصيبت به بعد وفاة ماهر.
ضاق صدره بشدة، ماذا يعني أنها عادت تفكر بالثأر؟
هل تريد أن تخلق تلك المشاكل مرة أخرى؟ تحيي ما دفنوه بصعوبة؟
مستحيل.. لن يستطيع أن يؤيدها أو يقف بجانبها هذه المرة، إطلاقا ...!

_______

في المنزل نفسه، حجرة لجين.
كانت تستلقي على الأرضية على الجانب الآخر من السرير، حيث لن يتمكن أحد من رؤيتها ان دخل.
تضع رأسها على مخدة تكاد تلتصق بالأرض، يديها فوق بطنها.. تنظر إلى السقف بذهن شارد.
تشعر بالبرودة تسري بدمها.
بعد أن قضت الأيام الأولى من وفاة والدها في نحيب وبكاء متواصل.
الآن عكس ذلك تماما، حتى الحزن تجاهلته.
بعد الشجار الذي خاضته مع رؤى أولا، ثم رائد.. هادي أخيرا.
منذ ذلك الوقت، دخلت إليها والدتها مرات عديدة.
فتارة تأتيها بالطعام، تارة تداويها بالضمادات لتخفف من حرارة جسدها.
وتارة تأتي لتساعدها وتسأل هل هي بحاجة إلى شيء أم لا.
هل تراها شعرت بالسعادة والراحة حين تم ابعاد ابن ضرتها الشرسة والدة هادي للأبد ربما؟
ولكنها ليست هكذا مطلقا، فهي محبة للجميع.
تعامل جميع أبناء زوجها على أنهم أبنائها هي.
ولم تفرق معاملة هادي أبدا.
إلا أن الآخر بسبب انشغاله مع والدته كانت زياراته قليلة.
الآن هي أبعدته تماما، لا مشكلة.
فهي تكرهه مثلما تكره الجميع سوى رؤى ووالديها.

فكرت لجين بتلك الطريقة عن والدتها، لأنها دائما ما تنتقدها وتوبخها هي وتصرفاتها الغير مسؤولة.
لمَ لا تنتقد؟ لجين عاصية للجميع بشهادة العالمين.
سيئة الخلق تماما.
سامي أيضا كان يأتي ليطمئن عليها دائما، حين يعود من الخارج يأتيها بأي شيء يمكنه أن يبعث السعادة في قلبها، حاول كثيرا.. دون جدوى.
حتى رائد.. حاول أن يأتي ويعتذر، ما جعلها توقن وبشدة.. أن له علاقة في الجريمة الغامضة قبل ثلاث سنوات.
ياسر وقمر، يأتون إليها مع والدتهم ويحاولون إضحاكها وتسليتها بشتى الطرق.
كانت تنظر إليهم وتتفاعل معهم حزنا عليهم.
ياسر الذي يتظاهر بالقوة والصلابة، ما جعلته تلك الأشياء يبدوا أكبر من عمره.
قمر المسكينة.. ربما شعرت بالحزن، ولكنها غير مستوعبة بعد.
والدها كان طريح الفراش وهي طفلة، أنّى لها أن تشعر بتلك الصدمة؟
وهي لم تحصل مثلها مثل الآخرين على الحب الوفير ...!
أعانها الله إن كبرت وفهمت الأمور جيدا، وشعرت بالفقد في وقت متأخر ...!

الجميع كان بجانبها، يواسيها ويحاول التخفيف عليها.
بالرغم أن ذلك كثيرا عليها جدا.
فهي لا تحسن التعامل مع أحد.
ولكن هي، المقصودة.. والتي تحتاجها بقوة، لم تأتِ.. حتى أنها لم تطل برأسها لتطمئن عليها ...!
طوال الأسبوع لم تتذوق شيئا من صنع يدها.
هل هذا بسبب حرقتها على شقيقها؟ ثم حين توفى والدي غضبت أكثر؟
كلنا يا رؤى غاضبون، ولكننا نعبر بطرق تختلف عن طرق الآخرين.
أنا أسوأ من قد تعبر عن غضبي على أخي.
ولكنني مـتأكدة بأنك أيضا مخطئة، إلقاء اللوم على فهد لا يكفي.
أوَ ليست المحكمة هي من برأته؟
بعد أن سُجن لمدة طويلة؟ منذ مقتل ماهر وحتى قبل عدة أشهر؟

تنهدت بغيظ حين سمعت رنين هاتفها المنبه بوصول رسالة، وتناقض تفكيرها بشكل عنيف في داخلها.
كانت تريد الاختلاء بنفسها وأفكارها والتأمل بالسقف الأبيض لوقت أطول.
هاتفها منعها من ذلك حين نسيت أن تضعه في وضع الصامت.
أخذته من فوق طاولة الزينة لتفتح الرسالة من الرقم المجهول بالنسبة لبطاقة الشريحة ولأي رائي.
ولكنه محفوظ بعقلها وعينيها.
كانت أشبه بتحذير
[صحيح الأوضاع سيئة نوعا ما بعد اللي صار، بس انتبهي تأثر عليك هالظروف وتخليك ترفضين.. هالزواج لازم يتم وانتِ عارفة ليش ما يحتاج أشرح لك أكثر].
أقفلت الهاتف بملل.
ثم أعادت شعرها إلى الخلف، لتفتحه مرة أخرى وتسجل ملاحظة صوتية بصوت مبحوح ردا على المجهول، المجهولة ربما [لا مستحيل أرفض، الزواج راح يتم مثل ما اتفقنا].

____________

الحاضر..
واشنطن.

يمرر أصابعه على طرف الكوب الأبيض، كوب قهوته.
شارد الذهن تماما.. حتى عن ابنته التي تجلس بجانبه وتتناول مثلجات من نوعها المفضل، الشوكولاتة.
واتسخت ثيابها من دون قصدها.
انتبه على صوت من جلس أمامه وألقى عليه التحية.
ضحك وهو ينظر إلى آلين:
- يا إلهي ماذا فعلتِ بنفسك أيتها الصغيرة؟
أخرج من جيبه منديلا ومدّه إليها وهو يضحك.
انصدم زياد واتسعت عيناه حين التفت ورآها بتلك الحالة:
- آلين!
مررت ألين أنظارها على جميع أنحاء المكان وإلى جميع الناس سوى والدها ببراءة، ثم مدت شفتيها تحرك يديها بمعنى لا أدري:
- ما قدرت آكله زي الناس.

ضحك بصوت عالٍ وهو يحاول تنظيف ثوبها، بعد ان انتهى التفت إلى لِيام الذي يتأملهما.
ثم ابتسم لزياد:
- حفظها الله لك.
- آمين.
تحدث لِيام بعد صمت قصير:
- هل حقا ستعود إلى ديارك ولن تنتظر؟
ابتسم بسخرية:
- هل ترى هناك أي داعٍ للانتظار؟
هز رأسه نفيا ثم قال بهدوء:
- أنا أيضا مثلك، لست مقتنعا بفكرتهم تلك على الإطلاق.. بل أظن.. أظن أن تلك أوهام، وأن جوليا ماتت بالفعل.
ظهر في حديثه وصوته الهامس بعض الاضطراب، خاصة حين قال الجملة الأخيرة.. ارتجف صوته، وكأنه بداخله ينفي تلك الحقيقة المحيرة.
- تعني أن جيليان تتوهم؟ بعد أن حدثت كل تلك الأشياء المجنونة قبل عدة أشهر؟ ربما جيليان لا زالت تحت تأثير الصدمة.
هز رأسه ينفي بشدة:
- لا مطلقا، فهي قد تعالجت بالفعل.. ولكن، الأمر كله يبدوا جنونيا، فهي قد تم ضربها حين أعلنت إسلامها أمام عائلتي، مرة أخرى في بداية حملها، وتم حقنها بمخدر مميت.. نجَت بأعجوبة، ولكنها بعد ذلك طُعنت، هل يعقل أن تبقى حية بعد كل تلك الأشياء؟ الأمر يبدوا كالحلم تماما.
- ليتها كانت حية فعلا.
كانت نبرته هادئة وموجعة.

ابتسم لِيام بحزن:
- انتظر.. لا أقصد بكلامي أني لا أتمنى ذلك، بل العكس تماما.. جوليا وأنا كنا مقربين جدا وهي بمفردها كانت تؤمن بحلمي حين كانوا جميع إخوتي يضحكون مني، غيابها شطر فؤادي.. ولكن فكرة جيليان ووالدتي غير معقولة أبدا.
- حسنا لنفترض أن جيليان لا زالت مصدومة أو تشعر بالذنب وتفعل كل هذه الأشياء حتى تخفف على نفسها، ماذا عن والدتك؟ ظننت أنها كاثوليكية بمعنى الكلمة.. كيف قبلت بمساعدتكما؟ وكيف اقتنعت؟
ابتسم بسخرية:
- لا أدري، هذه جيليان.. أتذكر جيدا كيف أن أمي غضبت وطردتنا من منزلها تلك الليلة بعد عودتنا من مكة، لأتفاجأ بعد ذلك بفترة طويلة بجيليان تستقبلها في منزلي وتخططان لشيء ما، دون أن يقولا لي أي شيء، صدموني أخيرا حين أمروني بالتوجه إلى ذلك المنزل.
أكمل وهو يضحك:
- تستطيع أن تقول الآن أن سبب عدم تصديقي لهما هو أنهما لا يثقان بي مطلقا، لا أستطيع أن أمنحهما شيء هما لا يمنحاني إياها.
صمت زياد يفكر لبعض الوقت، تفكيرا عميقا ظهر تأثيره على ملامح وجهه، ثم قال:
- أصبحت لديّ وجهة نظر مختلفة الآن، أظن أنني سأنتظر.. لمدة أسبوع على الأقل وأساعدهما حتى أرى ما سيحصل، وإن لم يجدّ شيء سأعود على الفور فأنا لا زلت تحت المراقبة بما أنني طبيب جديد.

نظر إليه لِيام بدهشة، ثم قال بعدم اقتناع والذهول ترك آثاره على وجهه:
- حسنا كما تريد، وأنا أعتذر منك بالنيابة عن أختي، صدقني لو كنت أعلم أنها كانت تنوي الاتصال بك وتطلب منك المجيء لمنعتها.
- لا بأس.
وقف لِيام بعد أن أنهى قهوته وخرج معتذرا من زياد بسبب حلول وقت عمله.
هو أيضا خرج بعد أن دفع، وأمسك بيد ابنته.. يسيران في الشارع على غير هدى.
سرح يفكر.
نعم الأمر يبدوا جنونيا كما وصفه لِيام، ولكن إن كان هناك أمل، عليه أن ينتظر.
انتظر ست سنوات، لمَ لا يستطيع الانتظار أكثر؟
ربما لأنه جُرِح بشدة وانصدم قبل أن يتقبل واقع وفاتها ...!
تلك العبارات من فم امرأة بغيضة مثل كاثرين (جوليا حية).
(كانت في منزل للتأديب قبل شهرين).
(حاولت الهرب مع فتاة أخرى ولكن تم الإمساك بهما).
(هربت مرة أخرى).
بالرغم من أنه كره كاثرين بشدة، إلا أن نبرتها بها شيء مميز وخاص.
جعله يثق بحديثها، ويشعر بشعور مختلف في قلبه.
ويفكر بالأمر مليا.
ولكن ما جعله يفكر بالتراجع وعدم المساعدة، كلمة واحدة (ربما).
كانت قاتلة بشدة.
هل تنتصر تلك الكلمة الصغيرة، على كل الحقائق التي ذكرتها كاثرين والدة جيليان؟
كانت قاسية في السابق ربما، ولكنها أم.
لن تفعل ما سيجرح قلبها أكثر، ويحزنها على ابنتها.. ويشطر قلبها مجددا.

لا بأس، لن يصيبه أي ضرر إن بقيَ أسبوعا واحدا فقط ليس أكثر.
وإن كانت أرض واشنطن تجعله يشعر بالضيق على الدوام.
إلا أن جوليا تستحق.
لن يخسر شيئا.
إن كان الأمر حقيقيا.. فسيسعد طوال عمره.
ستعود إليه جوليا، سيحظى بقربها مرة أخرى.
ستسنح له فرصة الاعتذار منها.
ستكتمل حياة صغيرته بوجود كليهما.
يا الله، افرح قلبي ولا تجعلني أشعر بالخذلان مرة أخرى.

****.

الحاضر

بعد أسبوع كامل، تعافى هادي خلاله من آثار الحادث واسترجع شيئا قوته.
خرج من حجرته بعد أن لبسَ وتأنق.
استقبلته والدته أمام الباب، والتي كانت تحمل بيدها مبخرة.
بخرت ابنها وهي تدعوا له.
قبّل جبينها وودعها ثم خرج.
ركب سيارته وأغمض عيناه يحاول تهدئة نفسه وينسى الحادث البسيط الذي حصل قبل أسبوع.
وأخيرا شغل السيارة وقادها نحو العيادة التي أرسل سعد عنوانها.
حين وصل أغمض عيناه من التوتر، نعم مستعجل وجدا لكي يتعالج ويتخلص من مشكلته هذه، ولكنه غير مستعد لمواجهة الطبيب.
قرأ أذكاره ونفث على نفسه حتى يهدأ.

خرج واتجه نحو العيادة بخطوات بطيئة، حتى وصل عند موظف الاستقبال.
نظر إليه بصمت لبعض الوقت، حتى رفع الآخر رأسه مستغربا من سكوته.
- عفوا أخوي؟
فرك يديه بتوتر، قبل أن يقول:
- أأأبـبــي موعد عــ عــ عــ عند الدكتور عـ .......
قبل أن يكمل نطق اسمه قاطعه موظف الاستقبال بسرعة:
- الدكتور عماد.
تغضن جبينه بشيء من الانزعاج بسبب مباغتة الموظف له وابتسامته التي يحاول كتمها.
فهو أبدا ليس بحاجة إلى أن يكمل أحد عنه ما يريد قوله.
بل يود لو يعبر عما يريد بنفسه حتى لو بصعوبة، ذلك الأحمق الغير مراعي ...!
ابتسامته كم هي جارحة.
تجاهل هادي شعوره ولم يقل شيئا.. بل هز رأسه إيجابا.
نقر الموظف على لوحة المفاتيح قبل أن يلتفت إليه:
- قدامك مريض واحد.
ثم طلب منه مبلغ التشخيص الأولي.
دفع المبلغ المطلوب، وذهب خلف الموظف الذي دله على حجرة الطبيب وأمره بالانتظار خارجها.
المريض أمامه لم يكن سوى مراهقا، يجلس بمفرده.. عيناه لا تبرحان الشاشة التي بيده، يرتدي نظارة دائرية، يمتلك شعر كثيف وطويل يصل إلى رقبته.
حين دخل هادي رفع رأسه قليلا وابتسم له ثم عاد يكمل لعبته.
شعر هادي بشيء من الشفقة تجاهه، لا زال صغيرا.. يبدوا أنه يعاني من التواصل مع من هم حوله وبسنه.
لذا لجأ إلى ألعاب الفيديو؟
أو أنه مدمنها منذ صغره حتى أصيب.
ولكن أين أولياء أموره؟ لمَ هو بمفرده الآن؟
حسنا هذا لا يهم.. عليه بنفسه فقط.
تنهد وهو يريح ظهره على المقعد المريح في صالة الانتظار.
تشغل عقله الكثير من الأفكار.. كلها تخص إخوته من أبيه.
لجين التي أوقعت نفسها في الهلاك.
بالرغم من علاقته المتكهربة معها إلا أنه حزن وأشفق عليها كثيرا.
لا تستحق الشفقة، إطلاقا.
بل كل ما حدث لها نتيجة أفعالها هي، يكرهها كما تكرهه هي.
كان الله بعونها.
مضت ساعة كاملة، انتهى الطبيب خلالها من تشخيص الولد المراهق.
حتى ملّ وأصابه النعاس، أتى دوره.
ليقف مرة أخرى ويتجه إلى حجرة الطبيب بتوتر بالغ.
دخل وصافح الطبيب الذي استقبله بالقرب من الباب بابتسامة بشوشة ورحب به بعبارات جميلة حتى يجعله يشعر بالراحة.

ولكنه على العكس تماما، جعل توتره يزداد أكثر، فهو شاب حسن المظهر، طليق اللسان، واثقا من نفسه.
وكأن ذلك الطبيب قرأ أفكاره حين وضع أمامه شاشة صغيرة، وشغل مقطع فيديو.
اتسعت عينا هادي بدهشة وصدمة.
كان المقطع الصغير للطبيب عماد، قبل عدة سنوات حين كان بسن أصغر.
يتأتئ بشدة.. حتى أنه لا ينطق الكلمة الواحدة إلا بصعوبة.
بعد أن انتهى المقطع رفع رأسه إلى الطبيب، ابتسم:
- شفت يا هادي؟ لا تخجل من نفسك أبدا ولا تتوتر.. محدثك كان يتأتئ وطريقته في الكلام كانت جدا سيئة، لكن بفضل الله هذا أنا الحين قدامك، أحاول أساعد أكبر قدر من الناس اللي يعانون.
هزّ رأسه بإيجاب وابتسم، نعم ذلك أمر يدعوا للراحة.
أن يكون طبيبك ومعالجك سبق وأن عانى من نفس مشكلتك.
يعني أنه يفهمك تماما.. ولن تشعر بالحرج أمامه.
سأله الطبيب:
- وش مشكلتك هادي؟ ومن متى بديت تتأتئ؟
فكر هادي قليلا، هل يخرج هاتفه ويكتب؟ أم يتحدث؟
آثر الخيار الأخير.. هو أتى للعلاج وليس ليخبئ مشكلته، أساسا حتى الطبيب لن يسمح له:
- أأأأنا أأتأتئ كــ كــ كــثير، مــ مــثل مـ انت شــ شــ شـايف.
توقف ليملأ رئتيه بالهواء:
- وووومــ شكلتي بــ بــدأت قــ قــ قــبل سنة لـ لـ ـما تــ تــ وفي أبوي.

وضع الطبيب يديه فوق الطاولة باهتمام، بالرغم من أنه علم عما سيقوله هادي قبل أن ينهي عبارته حتى، إلا أنه لم يفكر بمقاطعته وإكمال عبارته.. لأنه يعلم أن ذلك سيسبب له الحرج:
- يعني اللي انت فيه حاليا بسبب الصدمة؟
هز كتفيه بمعنى لا أعلم.
- طيب في أعراض ثانية يا هادي؟ مع التأتأة والتلعثم؟
تنفس بعمق قبل أن يقول بأحرف متقطعة، أنه يعاني من صداع شديد، ويسمع في رأسه أصواتا غريبة تجعله يشعر أنه على حافة الجنون.. وأنه يشعر بالغثيان في أحيان قليلة.
انصدم الطبيب وطرق بقلمه على الطاولة وهو يتنهد، ثم قال:
- لازم تسوي أشعة الرنين المغناطيسي.
تنهد حين لاحظ الإحباط الذي حلّ على هادي:
- أعتذر يمكن مثل ما جا في بالك بيأخذ وقت شوي، بس صدقني راح تستفيد بالأخير، انت لا زلت شاب صغير وأنا فاهم وعارف إنك مستعجل للعلاج ومصدوم من الوضع اللي انت فيه، بس.. الموضوع يحتاج شوية وقت.
هز هادي رأسه بتفهم، يحاول أن يخفي ضيقه.
ماذا توقع أساسا؟
أن يدخل إلى الطبيب مرة واحدة، ثم يخرج وهو سليم تماما؟

وقف الطبيب وأشار إلى كرسي كبير ومريح، ذهب هادي وجلس عليه.. مريحا ظهره ورأسه.
وضع الطبيب أمامه شاشة متوسطة الحجم، ثم عرض عليه بعض الصور.. طلب منه أن يذكر مسميات الأشياء المعروضة.
بعض الأشياء ذكرها صحيحة، ولكنه أخطأ في ذكر مسميات بعض الأشياء.
تضايق بشدة حين انتهى، بعد أن أبعد الطبيب الشاشة وجلس معتدلا نطق يحاول شرح ما يشعر به:
- صــ صــ صـ ــدقني الــجواب والــ لـ لــ كلمة الصـحيحة في بالي، بــ بــ بــ ــس مو قادر أ أ أ أنــطقــها.
- أنا أدري وفاهم، عشان كذا ضروري تسوي الأشعة في أقرب وقت ممكن، عندي إحساس إنك جيتني متأخر، من متى بدأت هالأعراض تظهر؟ بالضبط؟
قطب حاجبيه يحاول التفكير، إنها تلك الفترة البائسة والمرحلة المظلمة من حياته:
- قــ قــ قــبل سـنة تقريبا.
اتسعت عيناه بصدمة، كاد أن يوبخه.. إن كان ما أتى في عقله من احتمال صحيحا، فإن هادي في خطر.
جلس على مقعده وأخذ ورقة وقلم، كتب بعض الكلام ومدها لهادي:
- روح لقسم الأشعة وعطهم هالورقة، خلهم يسوونها لك في وقت قريب، وارجع بكرة.
ثم أخذ ورقة أخرى كتب فيها وصفات لبعض الأدوية:
- هذي الأدوية بتخفف الأعراض لين تطلع نتيجة الأشعة.

أخذ هادي الورقتين ونظر إليهما.. ثم هز رأسه إيجابا وحيّا الطبيب ثم خرج.
يشعر بالصداع يعود إليه مجددا، وعيناه لا ترى بوضوح.
حين وصل إلى سيارته، أمسك بالمقود بقوة.. ثم وضع رأسه عليه.. مغمضا عينيه.
كانت زيارة غير جيدة.
نظرات الطبيب بعد أن أخبره بأعراضه، وردود أفعاله التي حاول جاهدا أن يخفيها عن مريضه.. كانت واضحة بالنسبة له.
وجعلته يخاف على نفسه.
زاد عليه الألم، ما جعله يظن ويوقن أنه لن يستطيع القيادة ولا العودة إلى المنزل.
أخذ هاتفه واتصل بسامي.. يستنجده ويطلب منه المجيء لأجله.

****.

الماضي..

في وقت متأخر من الليل.
حين استيقظ زين من نومه وفجأة ومن دون سبب، ونزل إلى الأسفل ليروي ظمأه.
تفاجأ من نور الملحق المفتوح.
نظر إلى ساعته، كانت تشير إلى الثانية إلا عشر دقائق صباحا.
خرج من باب المطبخ الخلفي واتجه ناحية الملحق.
كان الباب مفتوح قليلا، دفعه بخفة لينفتح كاملا.
ويسعل هو بشدة بسبب الدخان الذي داهمه فور دخوله، والمحمل برائحة نتنة.
لم ينصدم من رؤية أخيه، توقع ذلك.
ولكن الوضع الذي به!
بيده قارورة زجاجية، شكلها غريب.
وبجانبه صحن زجاجي مليء برماد السجائر.
تنهد بضيق واتجه إليه.
كان مستلقيا، يضع رأسه على (تَكّايَة) كبيرة، تكاد تفصل رأسه عن جسده.
مغمض عينيه نصف إغماض.
أخذ القارورة من يده، وقربها من أنفه ليعبس من تلك الرائحة.
يبدوا أنه خمر!

يعلم أنه كان يسكر، ويشرب الخمور في أحيانٍ قليلة.
غضب عليه بشدة حين علم وهدده.
ثم حين سُجِن بعد مقتل ماهر، ظن أنه سيتأدب وسيتوب إن حُرِم من الخمور لفترة طويلة.
متى عاد للشرب؟
هذا الأحمق.
سابقا كان يشرب هذا المشروب الـلـ ............. في الخارج، مع أصحابه وفي أماكن بعيدة.
والآن!
يحضر هذه الأشياء الخبيثة هنا في منزله؟
فهد تعدى كل الحدود.
أصبح لا يخشى شيء.
لا يخشى أحد!
حتى والده.

ما أتى في عقله أيضا، هل لجين الصغيرة مستعدة للزواج بإنسان مثل هذا؟
هو لا يرضى لها هذا الشيء.
مع أنها ليست أخته.
بل مَن يخاف عليها منه، هو أخيه وشقيقه.
هز ذراع فهد بغضب وبقوة.
ليفتح الآخر عينيه وينظر إليه بجحوظ.
صرخ زين بحدة:
- قوم.
تحدث فهد بخمول وبطء:
- نعم؟ إيش في؟
- انت وش قاعد تسوي؟ إيش هذا اللي جايبه في البيت؟
ضحك فهد وهو ينظر إلى القارورة بيد زين:
- عصير كرز مركز، بيعجبك جربه.
اتسعت عيناه، ليمسك بياقة قميصه ويجلسه بعنف:
- يا حمار انت ما تخاف ربك؟ ما تخاف من أبوك؟ شلون تجيب هالشيء الخايس هنا؟ كيف تجرأت؟
- قاعد أعيش حياتي، حرية شخصية.
ازداد غضبه، ضربه على خده بكل ما أوتي من قوة، تطلق عينيه شرارات الغضب الحارقة، ومع كل رد ينطق به فهد يزداد تعجُّبه من تغيير شخصيته بهذه الطريقة المفجعة:
- حرية شخصية وانت تعصي الله قدام الخلق؟
لم يجبه فهد، إذ أصبح يغمض عينيه بين الفينة والأخرى بسبب تأثير المسكر.
تأفف يحاول التخفيف من غضبه.
ثم وقف وسحب معه فهد وأوقفه بقوة.
وَضَعَ ذراع فهد على عنقه، وساعده حتى وصل إلى حجرته.
قاده نحو دورة المياه، حتى استقرت قدميه على الأرض المبللة.
أجلسه داخل حوض الاستحمام، ثم فتح صنبور الماء البارد على رأسه.
ما جعل فهد يشهق من برودة الماء.
همس:
- تنظف من القذارة يا مريض، بجيك بعد ما تخلص.

قبل أن يخرج ويغلق الباب وراءه، عقد حاجبيه بدهشة وهو يسمع ما قاله فهد:
- أنا خايف من نجود لا تخليها تجي غرفتي.
استغرب كثيرا بل انصدم، من نطقه لتلك العبارة التي كان دائما ما يرددها في طفولته هو وحتى المراهقة، ولم يتوقف عن قولها وعن حذره من نجود إلا بعد أن شبّ الاثنان وأصبحت علاقتهما جميلة على نحو غريب ومفاجئ.
ازداد تعجبه وقطب حاجبه أكثر حين رأى نجود المتكتفة بجانب باب حجرة فهد، على محياها ابتسامة مائلة ساخرة:
- وش آخر التطورات زين؟ شفت؟ جايب مسكرات في بيت أبوي؟ هيا تخيل يا عزيزي وش راح يصير بكرة أو وش راح يجيب بعد؟ ممكن بنات؟ أو يسوي نادي ليلي في البيت؟ بارتيات يوميا؟
تنهد بضيق وهو يمسك بذراعها ويخرجها ثم يقفل الباب خلفه:
- اهدأي نجود الموضوع راح ينحل.
احمرّ وجهها وهي ترفع رأسها وتنظر إليه بغضب:
- بينحل؟ متى؟ زين.. فهد مكانه مو هنا، ضروري يرجع للسجن فاهم؟ أكثر من ضروري، أنا ما أتحمل أقعد بهالبيت أكثر من كذا وهالمجرم بيننا، أنا خايفة على ولدي.
أغمض عيناه يحاول تهدئة نفسه قبل تهدئتها هي، أمسك بذراعيها قائلا بهدوء:
- نجود يا قلبي، أنا أدري إنه فهد غلطان ومعاك حق إذا خفتِ منه على نفسك وعلى تميم، بس فكري كويس، إذا ما احتويناه أو ساعدناه راح يغلط أكثر.
دفعته غير مبالية بأي شيء:
- نحتويه؟ نحتوي مجرم؟ نساعد مجرم؟ إذا وقفنا معاه راح يتمادى أكثر ما راح يتوب، بعدين هو ما هو صغير عمره ثلاثين سنة، كبير كفاية عشان يستوعب إن اللي يسويه غلط.
هدأت قليلا لتكمل بنبرة محشرجة:
- زين، كلم الشرطة، الحين، الملحق مليان أدلة ضد فهد، الخمر لوحده بيكون كافي عشان يسجنونه.
- انتِ مجنونة؟
- ماني مجنونة، بس هذا اللي المفروض يصير.
هز رأسه نفيا:
- لا نجود لا، صدقيني أنا بحاول معاه لين يترك هالأشياء، ما راح أدخل أخوي السجن بيديني.
- لو ما كان أخوك؟ لو كان بس قاتل ماهر زوجي؟

صمت لينظر إليها بقلة حيلة:
- ما راح أنظر لأي احتمال، الحين هو أخوي ما هو قاتل ماهر طالما ما في أي دليل ضده تمام؟ وأنا بكون معه وبساعده لين يرجع إنسان طبيعي.
هزت رأسها بالنفي مرات عديدة ودموعها مستمرة بالنزول:
- لا زين ما راح أصدق، انت تقول مثل هالكلام؟ لو مو عشاني وعشان قهري على زوجي عشان رؤى.
- عشان رؤى وعشانك بسوي كل شيء ممكن إنه يخليكم ترجعون تثقون بفهد، وتطالعون فيه على إنه إنسان بريء.
صمتت طويلا قبل أن تقول بنبرة قوية:
- لين بكرة الساعة خمس العصر بالضبط، يا أنا يا فهد بهالبيت.

قالت تلك العبارة وعادت إلى حجرتها بخطوات مسرعة وغاضبة.
قطب حاجبيه، ماذا تعني بما قالت؟
أين ستذهب إن بقيَ فهد بالمنزل؟
ليس لديها أي مكان آخر سوى هذا المنزل.
استعاذ بالله من الشيطان وذكره وهو ينزل من السلم عائدا إلى الملحق.
لينظفه من مخلفات فهد.
قبل أن يستيقظ والديه ويروا هذه المصيبة.

تشغل عقله عبارة فهد (أنا خايف من نجود).
لماذا كان خائفا منها؟
لم تكن عبارة عادية.
بل حقيقية جدا، نبرته أوضحت ذلك.
كأنه بالفعل يخاف منها، وكثيرا.
يحاول نسيان نجود وكل ما قالت.
بل حتى ما قاله هو في محاولة تهدئتها.
يعلم في قرارة نفسه أن فهد له علاقة، وعلاقة وثيقة في مقتل ماهر.
ويعلم أيضا أن كل ما قاله خطأ، وأنه لن يتمكن أبدا بمفرده من مساعدة أخيه.
ولكنه لم يستطع أبدا تحمل غضب نجود وأحاديثها المبالغ بها.
كما أنه ليس عليه أن يسمح لغضبها أن يكبر.
هو الأخ الكبير للمتهم الأول بقتل ماهر، أخ زوجة المقتول وزوج شقيقة المقتول.
على عاتقه الكثير من الهموم والأمور.
إن استسلم أمام كل تلك المصائب.
وإن استسلم لغضبه تجاه أخيه، أو استسلم وصدق شكوكه، سيسوء الأمر أكثر.

فزع بعد قليل حين التفت ووجدها متكتفة تنظر إليه من خلفه بابتسامة غامضة:
- بسم الله وش قومك بهالوقت نانسي درو؟
تقدمت منه وسحبت منه الكيس الذي بيده:
- خلني أنظف عنك، بعدين أنا قايلة لك مليون مرة ماني نانسي ولا أشبهها في شيء تمام.
أعادت شعرها إلى الخلف تتصنع الغرور:
- أنا أجاثا كريستي.
ضحك زين وهو يمسح على شعرها، ثم جلس محني الظهر ويضع مرفقيه على ركبتيه، على قلبه همٌّ كبير:
- ميسم يا حبيبة أخوك، ما دامك طلعتِ من جحرك بالوقت الغلط تكفين ارجعي له وانتِ ساكتة واحبسي نفسك وخيطي فمك بعد، ما أبي أبوي وأمي يدرون، مفهوم؟
هزت رأسها بإيجاب، ثم قالت دون أن تنظر إلى زين:
- فهد ليش خايف من نجود؟
رفع رأسه بدهشة:
- سمعتيه؟
هزت رأسها:
_ كنت بغرفة فهد جيت أسأله بيوديني المكتبة بكرة ولا لا، انصدمت من منظره واستغربت أكثر من سمعت اللي قاله، تتوقع نجود مسوية له شيء!
رمقها بحدة:
- ميسم خليك بعيدة عن السالفة، ولا أسمعك تقولين هالكلام مرة ثانية، مفهوم ولا لا؟
وقفت تتذمر:
- يووه خلاص زين.

____

الحاضر ..
واشنطن .

في منزل ريفي بعيد نوعا ما عن الأنظار.
تجلس فتاة شقراء، متوسطة الطول.. تزين شعرها بشريطة حمراء.
تضع يدها على خدها تفكر في كل شيء إلا واقعها اليوم.
كيف ستعود إلى المنزل؟
أين هي الآن؟
لا تعلم.. كل ما تعرفه أنها بعيدة عن منزلها.
عن عائلتها، تضحيتها انقلبت ضدها.
لتصبح هي ورفيقتها في وضع واحد، مأساوي.
تنهدت عائدة إلى الواقع، على صوت صاحبتها الآتية من جهة المطبخ تحمل بيدها صينية.
وضعتها جانبا وجلست بالقرب منها.
مدت إليها كوب قهوة وفطيرة ساخنة.
ارتشفت جوليا القليل من قهوتها ثم الْتَفَتَتْ إليها:
- ما بك؟ بماذا تفكرين؟
أجابتها بهدوء:
- بماذا لا أفكر؟

نظرت إليها جوليا بحزن:
- أنا آسفة لورنا، أنتِ هنا الآن بسببي.
بملل:
- يكفي جوليا، قلت لك أني هنا بسببي أنا وليس أنتِ.
صمتت لتكمل بهدوء:
- أتساءل أين أمي، وهل بحثت عَنّي أم لا.
وضعت جوليا يدها على كف لورنا، وضغطت عليها:
- بالتأكيد تبحث عنك، لورنا.. سنكون بخير.
ابتسمت بشحوب:
- أتمنى ذلك.
نظرت إلى الخلف، حيث المساحة الخضراء الواسعة.. تجلس عجوز شقراء مثلها، ترعى أبقارها:
- هذه العجوز حتى متى ستظل تعدنا بمجيء قريبها؟ بَدَأْتُ أَسْأَمُ وأمِلّ.
ابتسمت جوليا:
- ليس بيدها أمر مجيئه، يكفي أنها أعطتنا مأوى ومنحتنا الطعام والملبس.
مدت لورنا شفتيها بعدم رضى.
الوضع لا يعجبها إطلاقا.
تشعر أن هذا المكان خطِر جدا.
وغير آمن.
فهو هادئ بشكل مرعب بالنسبة لها.
منعزل وبعيد تماما عن المناطق السكنية.
هذه العجوز الوحيدة، كيف تتمكن من العيش بمفردها في مكان كهذا؟
دائما ما تشعر بالخوف، ولكن جوليا تهدئها وتطمئنها.

وقفت جوليا واتجهت نحو تلك الأرض الزراعية الكبيرة، حقل أبقار.
تمشي بهدوء.
تستعيد ما حصل قبل شهرين.
بعد أن صعدت لورنا، وأخذت تنتظرها بفارغ الصبر.
شعورها بالألم فاق حدود تحملها.
لورنا تأخرت كثيرا.
ولم يأتِ أحد آخر.
بل عَمَّ الظلام فجأة، وجعلها تشعر بِرُعُبْ.
اتسعت عيناها من الوجع والصداع الذي كاد يُفَتِّتْ خلايا رأسها.
فقدت الإحساس بنفسها، حين صرخت بقوة.
حتى شعرت بأن أذنيها تفجرت من صوتها.
ثم رفعت يديها ودفعت اللوح الخشبي بقوة.
تألمت يدها من ثقله.

بعد ذلك فُتحِت الأنوار وجلست هي تمسح دموعها.
وتضع يدها على رأسها وتتحسس جَبِيْنِها المليء بالدم.
رفعت رأسها حين سمعت صوت وقع أقدام، كانت الرئيسة ومعها راهبة أخرى.
شهقت وهي تقترب منها ثم تجلس على ركبتيها، قائلة بخوف:
- ما بكِ جوليا؟ ما الذي أصابك؟
تحدثت من بين دموعها وشهقاتها:
- لا أدري، سقط عليّ هذا الخشب فجأة، وأصيب رأسي.
نظرت إليها الرئيسة بشفقة، جرحها واضح.. والدم الذي نزفته كثير.
أشارت للراهبة حتى تساعدها.
بعد أن ساعدتها الراهبة والرئيسة وصَعَدْنَ بها إلى الأعلى.
ثم أَخَذْنَها إلى العيادة بداخل المبنى.
عالجنَ جرحها وَخَيَّطْنَه.
حتى غرقت جوليا بالنوم، من شدة ألمها وتعبها.

حين استيقظت وفتحت عيناها، شعرت بالرعب من الرئيسة الجالسة على يمينها، ومصوبة نظرات غريبة نحوها.
ابتسمت لها:
- كيف تشعرين الآن؟
ازدردت ريقها، ربما علمت بخطتنا ...!
- أفضل.
اقتربت منها سائلة بهمس:
- جوليا عزيزتي، منذ متى وأنتِ هناك؟
حاولت بقدر الإمكان أن يكون صوتها طبيعيا وعاديا:
- منذ أن تركتِني.
قَطَّبَتْ حاجبيها:
- أَلَمْ تصعدي أبدا؟ كنتِ هناك طوال الوقت؟
- نعم.
- وكيف سقط عليك ذلك اللوح؟
صمتت قليلا، ثم أكملت:
- لا أدري.. بعد أن انتهيت من ترتيب المكان جلستُ أحاول أستعيد بعض قوتِي، ثم بعد ذلك لم أشعر إلا بالخشب يسقط فوق رأسي.
صمتت الرئيسة:
- هل رأيتِ شيئا بعد ذلك؟
مثلت عدم الفهم:
- مثل ماذا؟
- لا أدري، أي شيء.
هزت رأسها نفيا:
- لا أعلم، أظنني فقدتُ الوعي بعد أن سقط عليّ ذلك الخشب، فهو ثقيل جدا والألم كان أكبر من قدرتِي على التحمل.

تنفست الصعداء لدى الرئيسة، ظنا منها أن جوليا لم تتمكن من سماع شيء، ولا رؤية شيء، سألتها:
- هل كان هناك أحد سواكِ؟
ازدردت ريقها، لا بد من أنها تسأل عن لورنا ...!
هي لا تعلم أبدا ماذا حصل معها.
كيف سترد الآن؟
ربما إن قالت إن لورنا كانت هناك ستورطها، وإن قالت إنها لم تكن هناك أيضا ستكون في وضع صعب.!
- أعتقد أني رأيت أحدا ما حين فتحتُ عيناي، ولكني لم أعرف مَن هو.
بعد صمت قصير، نظرت الرئيسة خلاله إلى عيني جوليا بعمق:
- حسنا عزيزتِي، ستمكُثين هنا حتى تتمثلي للشفاء.
غادرت لتترك جوليا في حيرة كبيرة، وخوف على لورنا.
أينها هي؟
ماذا حصل معها؟
لِمَ لمْ تعود.
احفظها يا رَبُّ واحمها، كانت تريد حمايتِي وانقاذي.. لا أريدها أن تتورط بسببي.

ظلت على وضعها لبعض الوقت.
لم تستطِع أن ترفع رأسها بسبب شعورها الفظيع بالألم، ثم إن الممرضة كانت تراقبها طوال الوقت.
حتى سَئِمَتْ من قلقها على لورنا، جلست على مَهْلِها ثم الْتَفَتَتْ إلى الممرضة:
- هل يمكنك أن تأخذيني إلى حجرتي؟ لا أظنني بحاجة للبقاء هنا.
- أعتذر لا يمكنني، هذه أوامر الرئيسة.
- من خوفها عليّ أنا أعلم، ولكني أشعر أني تحسنتْ.. رجاء، فقط اسمحي لي بالخروج.
صمتت تنظر إليها بارتباك، ثم جلست وأخذت سماعة الهاتف:
- سأستأذنها أولا.
تنهدت بضيق، لا يمكنها الرفض.
حتى أعادت الممرضة الهاتف إلى مكانه وَالْتَفَتَتْ إليها مبتسمة:
- حسنا، وافقت.
ابتسمت جوليا، ووقفت.
اقتربت منها الممرضة وساعدتها حتى خرجتا من العيادة.
ورفضت جوليا مساعدتها بعد ذلك.
أسندت يدها على الجدار تكمل سيرها عائدة إلى حجرتها، رأسها ملفوف بشاش أبيض.
تبحث بعينيها عن لورنا.
حتى وصلت إلى الصالة التي جمعت الكثير من الفتيات، حين رأينها اقتربن منها وتَحَمَّدْنَ لها بالسلامة
يسألونها عما أصابها.
أجابتهم بإختصار، ثم سألتهم عن سبب وجومهم وملامحهم الكئيبة في هذا الوقت.
ردت عليها إحداهن وأخبرتها بما حصل للورنا، وأنها الآن في الحجرة المنعزلة التي لا يعلم أحد عن موقعها.
فقط يعلمون أنها حجرة العقاب.

شهقت جوليا واتسعت عيناها بدهشة، تعلم جيدا ما الذي يحصل هناك بالضبط.
السنوات الطويلة التي قضتها في هذا المكان جعلها تعرف كل شيء سوى موقع تلك الحجرة الغامضة.
عاشرت الكثير من الفتيات، واللاتي أغلبهن عوقبوا في تلك.
التفتت تنظر إلى الخلف، حيث تقف الرئيسة بجوارها بعض الراهبات.
ينظرن إليها ويتفحصن ملامحها.
وكأنهن كنّ يترقبن ردة فعلها.
اتجهت إليها الرئيسة بخطوات بطيئة.
بنظرات جعلت قلب جوليا يرتجف خوفا وتوتر، ويرتجف جسدها كذلك بوضوح.
حتى اقتربت منها تماما، ووقفت أمامها.
ثم مدت يدها تمسك بها ذراع جوليا بقوة، قائلة:
- ..................
_____

انتهى ..

توقعاتكم وآرائكم !
اللهم ارحم مارية وجميع موتى المسلمين , واغفر لهم واعفُ عنهم .

لا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك وله الحمد , وهو على كل شيء قدير .
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين .

Continue Reading

You'll Also Like

807K 47.1K 65
مراهقه دفعها فضولها للتعرف على الشخص الخطأ وتنقلب حياتها بسبب هذا الفضول.
282K 5.4K 32
هذه القصة كانت موجودة في الواتباد من قبل لكن حذفة لذا قررت نشرها مرة اخرى و هي ليست من كتابتي بل من كتابة محبوبة 1 في منتدى الغرام و هي قصة تجنن بمعن...
1.3M 59.7K 68
سنكتشف الحقيقة معآ...🤝
363K 5.4K 31
بنت يتيمه الاب وعايشه مع امها وراح تشوفو الاحداث اللي راح تصير معاهم الروايه هاذي اول روايه اكتبها راح تكون قصيرة لانها اول رواياتي ما احلل اي اح...