تمرّد مقالات

By CriticsTeam

38K 4.6K 6.6K

تمرّدت أقلام أعضاء فريق النقد، وأعلن كل فرد ثورةً لأجل أن يكتب ما يُمليه عقله الناقد، من مقالاتٍ جدليّة فلسفي... More

مقدمة
الجنس في الأدب
متى يعلنون وفاة العرب؟
ألأنني مختلف؟
مقال شبحي
وأدٌ أدبي
أسطورة
العاطفة بين العار والرذيلة
قلم معجب
بين الابتذال وجودة المحتوى
ثورةٌ واتبادية- أسوة
عبر الفضاء والزمن
من الورقة إلى الشاشة
إن لم تكُن ذئبًا.. اكتب عن ذئب!
قهقهات جدي والكوميديا
لا حاجة لك لتتحدث كي أسمعك...!
في غِمار الميثولوجيا
المجرم بريء حتى تثبت إدانته
من سرق كلماتي؟
مصنع الرّجال
Creepy Pasta
مجنون ليلى
إمبراطورية في البحار
كالنقش في الحجر
متلازمة الصفحة البيضاء
ميتافيزقية النفس البشرية
سيكولوجيا الأدب
في الفضاء مع زحل
أدب الحرب
أدب المهجر
متلازمة شبح / ستوكهولم
الرثاء في الشعر العربي
كيف تقولها بلهجتك؟
الأدب خلف أسوار السجن
الكاتب
أبو الطيب المتنبي
الدُّمية
مشنقة المنطق
عُري الكاتب
هل أصابك مسّ من الجنون؟
هل تشرب الأسماك القهوة؟
الأدب الأندلسي في عهد سيادة قرطبة
نجومية الجنسوية
فضاء من ورق
تذكرتان إلى مقبرة النُقاد المنسية
على الخشبة ألوان
جزء من طفولتنا
بساط الريح : قطٌ ونهاية

اغتيال السيد منطق

514 57 192
By CriticsTeam

إن كان على كاتبٍ أن يصف الراحة والسلام فإن الوسيلة المثالية هي (الوسادة) ليس المقصود بها تلك التي تعلو السرير حكمًا، بل أيًا ما يمكن توسده، حتى ذراع المعني الخاصة، ساعاتٌ تمضي وكل ما يتخللها هو نومٌ أينما كان وسيكون... كان داكنٌ، غير مألوف الملامح غارق في نعيمه من اللاشيء.

يُحجب القمر تحت خفقاتِ أجنحة طائرٍ ليلي، ما يجعل وجوده عاملًا مسببًا في نوم أطول، أكثر راحة ومعتم، ريشه المتساقط كنزٌ يُجمع لحشو وسادة عيد الميلاد القادم.

«هل تريد أن نعمل معًا؟» نبرة أقرب للوجوب والتذكرة عن كونه سؤال، نُقر السلام كله من قبل ستريغي.

بدا الداكن يُفكر، والأفكار تساعد على النوم، تلافيًا لإضاعة الوقت تم إخباره عن نوع العمل القادم، شيء بسيط يمكنه القيام به، في غرفة مظلمة إلا من ضوء مُسلط فوق بقعة واحدة لا غير، على زميل طاولته ينتظره، فكانت تلبية وحدته لكسرها واجب.

خلف السائق الخاص جلس كلاهما، ستريغي تتحدث لزميلها ورغم أنه يسمعها معلقًا بين الحين والآخر، لكن تركيزه في هاتفه استفزها غير ناسية أن احتمال عدم استيعابه لما تقوله عالية، فضلت أن تساهم في محو إنقاذ الهاتف من كثرة التقليب العجولة، بذلك هي وجهت أنظارها نحو الشاشة حيث رأت كم الأنواع الكثيرة للأسرة ومكملاتها.

بأي حال انتهى وقت النقاش، أمام مبنى مرتفع زجاجي الواجهة في نصفه الأسفل، مطليًا بطبقات داكنة أعلاه توقفت السيارة، دون تأخير تقدما نحو الداخل، بين الأروقة يبحثان عن الغرفة المطلوبة.

في الملف حوت ورقته الأولى معلومات زائرهما:

الاسم: كاتب.

العمر: سنوات ثقة واتبادية مطلقة.

الجرم: اغتيال المنطق.

رمشت ستريغي عدّة مرّات وهي تقرأ معلومات الملف، متسائلة إن كان العالم فعلًا ما يزال ينتج مثل هذه المخلوقات الغريبة حتى بجرائمها. تقلب البديهي من المعطيات بين الأوراق لتفطن أن ما بين يديها يمثل أكبر ملف سبق ورأته عن أحدهم... فقط، ما حجم الكوارث التي قام بها؟ وإن كانت كلّها تحت ذات المسمى اللامنطقي، فستعتذر ومرافقها عن أي كمية تعاطف تتخلل التحقيق.

انتبهت أن زئبقها الداكن لم يعد يسير بجوارها، وتستبعد أن نشاطه المضمحل قد جعله يسبقها، لذا التفتت هي للخلف تلمحه هناك واقفًا يحدق بعينين فارغتين... أو هما تلمعان حماسًا ناعسًا تجاه شيء ما؟ لقد مرّت قبل قليل من زنزانة ذات سرير ووسادة. قطعت اتصاله البصري مع فردوسه ذاك بالملف أمام وجهه «القضية!».

«كنت أقلب المحتويات سريعًا بينما تثرثرين بما لا أفهم ونحن بالسيارة.» رمى جملته مكملًا ليسبقها فعليًا هذه المرة دالفًا الغرفة التي يجلس بها سيد كاتب.

سار بهدوء غير متعمد قاصدًا الكرسي الفارغ أمام المتهم، هو حتى لم يتعب نفسه بالنظر لوجهه، ما الفائدة إن كان سينساه خلال ثوانٍ؟

«كلما أسرعت بالاعتراف، كلما تقلص وقتنا هنا عائدين للنوم.»

ضرب الطاولة بيديه المقيدتين بالأصفاد «أي اعتراف؟ أنا كاتب! ويحق لي أن أكتب ما أريد.»

حمحمة أشعرتهم بدخولها الملكي رامية الملف على الطاولة، والداكن بالكاد يضبط نفسه من أن يتخذها وسادة يكمل بها شوط أحلامه المقتطع، وتكمل ستريغي الباقي كمتحدث عنه، لكن لا... ليس هذه المرّة!

جولة من صمت بعد أن رُمي الملف مخلفًا نسمة هادئة، نسمة كفيلة بدحرجة الزئبق نحو عالمٍ آخر، لقد كان محبطًا نوعًا ما بعد دخوله، رمق زميلته فهذا ليس ما كان ينتظره وبملل شديد قلب أوراق الملف، شعر بها تستعد لتحفيزه على الحديث فرد على نواياها قبل أن تترجمها قولًا أو فعلًا «يبدو مستعصي الفهم، دعينا نناقش الاتهامات لنضاعفها.» بهذا سيصل لغايته فهو واثق أن جريمته تحوي المزيد منها.

قدمت ستريغي قصاصة من جريدة قديمة محفوظة بين دفتي كيس بلاستيكي شفاف، مجهر الحقيقة الحافظ لبصمات المدان لئلا تختلط مع غيرها، وهناك قرأ المحققان عن أشهر التجارات القديمة، حيث تُكتشف البراعة والإبداع اللاتقليديان.

«جورج.. الابن الثاني لعائلة فانتوم، والوريث بشكل غير متوقع لأملاك ومزارع هذه العائلة. على مدى سنوات طِوال بدأ بها والده -إيلفس فانتوم- من العدم بانيًا الثروة الهائلة هذه، مما دفعه لأن يختار بعناية فائقة من سيكمل البناء والمحافظة على هذا الصرح الكبير متجاوزًا العقدين من العمر الباذخ.

زراعة الضوء وتكثيره عن طريق طمر اليرعات بالتربة لتتضاعف، وتبزغ مرة أخرى بأعدادٍ أكبر تمحو ظلام الليل الطاغي، أذى كبير وخوف من السواد الحالك، يدفع الناس الكثير لأجل الخلاص منه تأمينًا على سلامة مشاعرهم.»

رمق الداكن الكاتب ذا الأنفاس المتسارعة غيظًا، فخره اللامتناهي يعكس حقيقة عمره، وجه كلماته لزميلته «أظن عليكِ ترك العمل في التحقيق، لقد اكتشفتِ توًا الأعجوبة الثامنة للعالم! يمكنك مطالبة الدولة بمبلغ تضعين أسسه بنفسك، ثم تشترين لي بيتًا في الريف الهادئ والمناسب لنشاطاتي اليومية حيث يمكنني تدبر أمر هذه المزارع.»

«الأعجوبة الثامنة؟ من بعد احتسابك كواحدة ضمن المجموعة بالطبع، الصفرية تحديدًا!»

سحبت ستريغي نفسًا عميقًا فالطريق طويل، ولا نهاية كما لا بداية لاستنكار وتذمرات زئبق هذه، يريدان اعترافًا صريحًا لا أن ينتهي الآمر بأن تحاول نهايةً فك عملية خنق ما.

«سيد كاتب، هل تعلمت القراءة والكتابة في المدرسة أم من قرود طرزان؟ أتدرك الفرق بين ما يمكن زراعته وما لا يفعل؟ كلانا هنا أنا والسيد زئبق نحترم الخيال ونقدّسه، لكن للمنطق قدسية أكبر... وها أنت قد أزهقت أول روحٍ منه.»

نظرت لزئبق الذي تتمايل رقبته من الغفوات المتقطعة، أحقًا ينفع أن تسأله «أي إضافات؟».

«وصلني خبر للتو، القرود تقوم بمظاهرات تحتج وتطالب بحقوق اليراعات، فهي تضيء حدودهم مع عالم البشر كيلا يحصل خطأ في التمازج بشكلٍ مهين، ومؤخرًا كان الكثير منهم يختفي... أظنني لجانبهم، فأنا هنا لست ضد هذا الكاتب كما ترين، لكن من يريد المزيد من تقليص الليل؟! إنتاج الضوء! بالكاد يتم التكفل بالقمر ليلًا... لكن من ناحية أخرى لقد أعطانا طريقة مذهلة للقيام بالأشياء، اليراعة كائن حي، زرعه ونجح، إذًا نتوصل لنتيجة منطقية، الكاتب كائن حي، زرعه سيعطينا ثمار ثقته التي لا يحتاجها تقليلًا لها، توزع على من يكتب نصوصًا لا مثيل لها لكنه يختفي تحت أكوامٍ من حجج الردائة الملتصقة بنصه... تجارة مربحة»

انتصبت ستريغي تعدل وقفتها بعد ان انتبهت لإيماءاتها الموافقة على كلام زئبق؛ كم يبدو بائسًا وضع السيد كاتب، لكنهما وبكل بساطة لم يبدآ بعد!

دسّت يدها تبحث بين أعداد القصاصات الورقية الكثيرة تلك، هي واحدة ما ترغب بالوصول إليها.

«ها هي!» هتفت ثم رمقت المتهم الذي يتقلب توترًا على كرسيه، بنظرة متوعدة زادت حدّة ما يمر به.
«ذات يوم ربيعي، وردي البتلات الساقطة على فتاته الرقيقة والتي كانت تبكي بحرقة بسبب أن الزهور تؤلمها ربما، مما جعل قلبه يقع في الحب سريعًا، دون إنذار رغم أنه قرر سابقًا ألا يحب لأن دراسة الطب أهم.

لقد كان متعلقًا بها لدرجة خروجه معها قبل الجامعة، خلال المحاضرات، وبعدها، ثم يعود إليها قبل العشاء، وبعده، لا يمكنه دونها حتى أنه لا يستطيع الدراسة جيدًا لامتحانه في اليوم التالي، ليحافظ على تفوقه يجب أن تكون جواره في وقت قليل من النهار فهو يريد لها التفوق كذلك.

استمر أسابيعًا هكذا وتفوق في كل ما قدمه وهي بالطبع، لكنها اليوم لم تحضر، ذهب لبيتها لتستقبله أمها لتسمح له أن يصعد لغرفتها ليفعل ليراها نائمة وتبدو مريضة.

عرف في ذلك اليوم أن غبار الطلع تؤثر على جهازها التنفسي وجوارها بخاخ ملقى بإهمال، لقد كان لابد أن يسعدها لذلك خرج متعجلًا منزعج، ظنوا أنه غاضب لكونهم أخفوا مرضها عنه، لكنه في الحقيقة يتمزق لأجلها.

في الساعة الواحدة ليلًا اتصل بها وطلب منها أن ترتدي ملابسها لأنه سيأخذها في نزهة لعلها صباحًا تكون أفضل وتذهب لتكمل سلسلة تفوقاتها.

وجدتها أمها التي خرجت لتشرب كوب ماء وتعود لنومها فسألتها مصدومة.

«أين ستذهبين؟»

«سيأتي ماكس ليأخذني» بأعين تلمع حبًا رغم تعبها.

«حسنًا طفلتي لا تتأخري.»

ودعت الأم طفلتها وهي سعيدة أن ابنتها مع شاب موثوق.

الليل أسود للغاية وهما معًا سعيدان رغم مرضها الشديد، وصلا بناء مسبح داخلي فحملها متسلقًا، هو رياضي وقوي بالطبع، ثم أخذها حيث المسبح الكبير، تفاجأت الفتاة والتمعت عيناها بالدموع لقد كان جميلًا جدًا، الزهور تسبح فوق الماء كما لو أنه حوض ورد والكثير من الأغصان مرمية في كل مكان، أحست للحظة أنه بناء من ورد وبكت وكثيرًا تشكره.

ثم دفعها ممازحًا للأسفل ولعبا كثيرًا حتى بدأت تسعل بقوة آلمته، وسقطت محفظتها للقاع منها وبينما هو يحضرها، صعدت روحها وهو لم يعلم كيف ولماذا رغم أنها يفترض أفضل ليلة لهما، سامحه والداها بما أنه منحها أفضل يوم ونهاية بحياتها كلها.»

ناولت القصاصة للداكن المتعب من اللاشيء، فقال بعد ثوانٍ من التحديق «مثير للاهتمام!».

«أليس كذلك؟ إنها مستفزة بشكل كبير! أظنها أكثر الأدلة رداءة.»

«وأكثرها طولًا كما يبدو، أحقًا عليّ قراءتها؟»

ما كاد يكمل تذمراته حتى رفع حاجبه «مثير  للاهتمام بالفعل! لدينا هنا شيء يستحق التأطير وتوسد المتحف! النسخة الوحيدة الأصيلة لكمّ السذاجة هذا. أثق تمامًا أن روح الفتاة هنا ركلت الجسد مشمئزة، تحاول التحرر من جدران الرواية كليًا، كان انتحارًا مُفتعل، مستترًا بحادثة بائسة.»

خلل الداكن أصابعه بين خصلاته يرفعها ليوسع مساحة طباعة شكل المجرم في مخيلته، لقد نجح في اجتذاب اهتمامه «أرى أن تهمك تزيد، يمكننا أن نستمتع على طريقتي قريبًا، أيمكنك أن تخبرني أين أعثر على الأبوين هنا؟! إنها بالتأكيد رسالة لشركاء جريمتك وإلا لما تم التسامح معك... هل لدينا أي معلومات بشأن ذلك؟»

وجه سؤاله الأخير لستريغي، فهما سيكونان من نصيبهما إذا ما أمسك بهما.

«الوالدان؟ بالتأكيد! كمية التسامح خاصتهما تبعث رائحة أدبية نتنة يمكن تتبعها بسهولة.»

وجهت أنظارها للمتهم الذي بدأ يرى عمق المشكلة ثم تحولت لزئبق بعد أن استلذت من الأول.

«هل شعرت بكمية الرومانسية الموجودة؟ أكاد أقسم أن هذا هو سبب عزوبيتي! انتظار قصة كهذه لأعيشها.»

انجرفت بعيدًا جدًا! هذا ما قرأته في عيني الداكن التي تلمع حبًا بالوحدة والارتباط بوسادته وحسب.

«لهذا السبب الطب يتدهور منحدرًا لقاع مجهول النهاية! بينما أحدهم يحتضر، طبيب مستقبلنا المشرق يهيم بحبيبته ليلًا ونهارًا، تبدو دعاية مبتذلة لغراء بشريّ تكللت بالفشل حين عرف متأخرًا مرضها ذاك. أين كان عنه والرحمة!»

«أنتِ فقط لا ترين المغزى، هو يعلم بمرضها حاول معالجتها بعقار الحب، جرعة كبيرة أودت بحياتها، خطأ طبي يحصل بين الحين والآخر، بات حالها مهنة تجارب سحرية بين نص وآخر يختلف استخدام أزمته فيما تتنوع الأعراض، تدفق الدم توقف تدفقه الدراما المفتعلة من الصديق أو الحبيب ريثما تختزن الطاقة العقلية للتفكير بطلب الإسعاف لكنهم وبكل الأحوال سينقذونهم بعد غيبوبة ما، إنها قواعد عامة، يمكنك كذلك رؤية عمليات جراحية تعيد الذاكرة لمن فقدها، في حين عالمنا متأخر في هذا، علينا رفع الملفات لتطبيقها بدل التخلف الذي نحن فيه... كم كان عدد ساعات اليوم؟ يمكننا الاستنباط من هذا النص العبقري جدولًا ينظم وقت الطالب كي يسير في طريق التفوق المضمون.»

أطلقت ستريغي ضحكة باغتها خروجها المتمرد وهي تدون كل ملاحظة يتم ذكرها. لم يمكنها فعليًا السيطرة على نفسها، إذ لطالما فاجأتها كمية السخرية التي تنطلق من شخص لا يبدو أنه يفعل شيئا سوى النوم، والاستيقاظ ليتثاءب مثبتًا لنفسه أنه يحتاج المزيد فيعاود غفوته.

«فلننتقل للقصاصة الأخيرة، ولتعلم أن كلامك وصمتك سيتم اتخاذهما ضدك بجميع الأحوال.»

أهذا الكلام حقا يصدر منه؟ وبقدر استغرابها والمتهم مما يجب عليه فعله ليدافع عن نفسه، كانت راضية بهذا الهجوم فالجريمة كانت لا إنسانية البتة.

سحبت الورقة الأخيرة، راسمة ملامح أسى ظاهري، دفعتها على الطاولة أمامهما متنهدة باستنكار.

«المياه النقية الباردة تدلل حواسه، رغم أنه يرتدي بزّة غوصه الداكنة، إلا أنه يستشعر كل تفصيل يخطف به مرورًا بالأخطبوط قاذف الحبر، انتهاءً بالقرش الذي يطارد فريسته المغلوب على أمرها... سمكة ذهبية تندب حظّها.

فجأة! دوامة كبيرة شعر بها تسحبه، لا! لقد نسي أمر الحدود المحرّم تجاوزها وها هو ذا تعدى على ملكية مثلث برمودا، الذي يستشيط غضبًا من كل زائر غير مدعو.

تم سحبه بقوة ليصل إلى يابسة شاطئ مألوف التفاصيل، هو ذا خاصة مدينته لكن الأشياء تبدو مختلفة... لقد تنبه لمصيبته! أعاده المثلث أربعين سنة للوراء، عشرينيات عمره عادت لمهد الذرّ المجهول. ويقف هو بعد أن ناهز عقده الخامس الآن بمرور الأعوام الأربعين من جديد، يراقب نفسه تغوص كل يوم بنشوة، يتنهد بحسرة، لو أنه فقط يعلم ما سينتظره اليوم بالذات!»

«هذه المرة، وجد السيد منطق مقتولًا في جريمة كادت تكون مثالية.»

رفعت رأسها لتقع على ابتسامة المتهم المنتصرة، فالتفت عليه بأقوى منها هازئة.

«لا تفرح، قلت أنها كادت تكون ولم تكن، مما يزيد براهين تعمدك لارتكاب الجريمة هذه.

ضحية تم إيجاد آثارها الباقية في مثلث برمودا، توقف للزمن هو؟ لوهلة ظننته موضوعًا بالخطأ في ملف القضية لكن لا! بدا في النهاية الدليل الأكثر مكرًا.»

«بين حالةٍ وصلت وقد تعرضت لحادث سرعة على الطريق السريع للإتقان أسرف عن كسورٍ في الحبكة وإصابات متفرقة ترافقًا مع حروق سببت تشوهات دائمة في طبقات اللغة، وحالة أخرى وصل فيها المسعفون حيث المتوفى إثر كسرٍ في رقبة المنطق.

في الأولى كان المشهد مروعًا لكنه حي لبعض الوقت بعد، يتعاطف معه الصغار المتناثرون حوله على الأسرة البيضاء، يستمعون له، ويقدمون النجوم إليه، يوميًا يوميًا يخبرونه بجماله وأن لا حاجة له لعمليات ترميم تجميلية، لم يكن قادرًا على معرفة أنهم صغار ذوي أعين قاصرة عن أداء واجبها التام، أو بعضهم من عقولهم لازالت قيد فارغة قيد النمو... لا يهم بأي حال، طالما هو وهم سعداء.

الحالة الثانية، لقد كان الأمل موجود في قلوب المسعفين حتى تدلى مع رقبة الضحية أثناء معاينتهم مقدار الإصابة بغية تمديده على النقالة! رغم أنه كان شبه وسيم دون تشوهات، لكن حالما يُكسر المنطق سيتوقف الطريق لتروية الحبكة وردود الأفعال المعنية بها، عقدٌ أو اثنين من الأعوام لا يعد خطأ بسيط، وإن كانت الشخصية زومبي له روح فإن اعتزالها للحياة وحده سيعد فعلًا للاشيء ما يترتب عليه نمط معين من ردود الأفعال... لكن لازال ممكنًا استخدام الأعضاء المتوفرة لبعض المسودات المغيبات داخل أسوار النقص، عمليات رابحة.»

كيف يفترض أن يتم تدوين هذا؟ لقد كانت تعليمات رئيس المخفر واضحة أخر مرّة، لا طلاسم تذهب بعقل المتهم وتجرده القدرة على الرد... لكنه السلاح السري لزئبق، وفعّال هو لشدة دقة تصويبه، تظل مشكلة عقل المقابل استيعاب الإصابة من عدمها.

«إن المنطق وقبل الاتصال بالإسعاف لربما كان يحتضر، موته ليس لحظيًا فهو يستمر حتى آخر رمق بطلب النجدة للرأفة به، ولكنه دومًا يكون أكثر الضحايا تضررًا. يمكن للبقية أن يحظوا بفرصة أخرى لكن هو ماذا يفعل؟ بعودته تلك السنوات البعيدة للوراء، أكان يعلم أنه هنا أعطانا لبّ شبابه الجذّاب؟ لكنها صدمة أن نرى عجلة الزمن لم تعد به وحسب بل اختلط عليها الأمر أكثر مما اختلط علينا، معيدة إياه لرحم أمه عمرًا، لكنه ظلّ شاب الجسد لا يدري كيف يعايش حقيقته المرّة هذه.

التعدي على الحقوق، السمة الأبرز هنا! ولكون أحدهم قد تسبب بتدلي رقبة الضحية بميتة شنيعة، سيكون القصاص بالمثل متدلية كل المبادئ والتبريرات خاصته. على وشك الانتهاء نحن، وعلى وشك غلق ملف القضية بذات لحظة رمي أخر غرفة تراب على قبر ضحيتنا مجهولة المعالم، السيد الذي لطالما نال ضياع حقه ومظلوميته.»

حل الهدوء مع نهاية كلمات ستريغي، هدوء تام إلا من دقاتٍ تتسارع، قلبية غاضبة، تترجمها قدمٌ تهتز تباعًا، سنواتٌ من فخر ساعات الشروق والغروب البرتقالية، فإن غابت وقع المكان في ظلمةٍ لامتناهية، لعل العالم ينتهي لحظتها بالمثل -وليته يفعل- مؤمنٌ أنه المتربع على عرش المجد الأبدي، المحمول فوق أيدي الأقزام مغمضي الأعين.

يمدونه بشجاعة صارخة ترفع راية الجدل مغموسة في سحر اللاقبول، فإنهم حين يحدقون بها، تنادي أرواحهم المرهونة لديها، أنهم الأفضل، أن لا شيء يعلو مقامهم الواقع في وادٍ مسقوف.

حاول النهوض تاركًا بصره يتقاطع مع الداكن، يحدق في عمق قزحيتيه المرتجفة، لا يبدو كمن يراهما بل إنه يعبر أشياء أخرى لم يستطع إدراكها، عادت قدماه تسترخيان مثقلتان بماذا؟ لا يعلم... إلا أنه حرك رأسه مبتعدًا يبتغي استجماع شجاعته مجددًا.

ولحسن حظه تقاطع بصره مع ابتسامة رائقة... رائقة تمامًا منتشية بنصرها عليه، شعر أن ستريغي بها تنقر قلبه وعقله، يبقى الطائر الجارح جارحًا، إنها غريزة تظهر لمستحقيه جائزة.
خِتامًا، كان لا بدّ من معرفة المتهم لحيثيات التحقيق، وسبب التحيّز هذا ضده دون إعطائه فرصة ردّ الاتهام والدفاع عن نفسه. إن قضية قتل السيد منطق أخذت صدى واسعًا في مكاتب التحقيقات رغم كونها احتوت أكثر من ضحية كل مرة، لكن لمَ هو تحديدًا من يتم الأخذ بثأره بهذه الاستماتة؟ هو عنصر أحادي ضمن عناصر بنيان الأب الروحي الروائي، بل والكثير ربما يفوقونه أهمية بنظر المجتمع البرتقالي الانتهازي المضطهد لحريات المستضعفين. لكنه يمتلك مفتاح الدخول لقلب القارئ وعقله، فالأخير إما يرى العمل مستحقًا التقييم الجيد وابتسامة ثغر راضية عن المكتوب، أو التوجس منها ومن الكاتب بكل أعماله.

لا بدّ من أخذ حق من لا يملك له نصيرًا له، ومن أفضل من زئبق وستريغي لمهمة كهذه؟ ليس حبًا بالضحية بقدر ما هو سعي دؤوب لجلد المجرم. لا تستغربوا إن رأيتم ذات الضمير الحيّ والرغبة بإحقاق الحق عند ضحية أخرى في ظروف مختلفة. تعددت الأسباب والجرائم ويبقى ضميرهما واحدًا!

«إلى الزنزانة.»

نهض الداكن من مكانه بمجرد سماعه جملة ستريغي متوجهًا نحو الباب تاركًا إياها تلملم أوراق الملف لوضعها في علبة مكتوب عليها «تم حلّ القضية» دون أن يفتح المتهم فمه بشيء... تحقيقاتهما دومًا تخلو من تعليقات المجرم، استثنائيان حتى بهذا!

«ليس أنت!»

«ألم تقولي إلى الزنزانة؟»

«قصدت المتهم! لديك وسادتك المنفوشة تلك! فلنعد للبيت الآن، سأدعوك لكأس نوم هانئ ننعم بنخبه سويًا.»

التفتت للمتهم الذي جاء شرطي يسوقه لزنزانته، تلك التي ما تزال عيون وخلايا الداكن معلقة بها وبوسادتها الكبيرة بنظره.

«رفقًا بسكّان المملكة البرتقالية! إن اضمحل السيد منطق مقدارًا فسنعاني... سنعاني!»

تذمر يعكس نبوءة المستقبل الأقرب للواقع، سلسلة الجرائم هذه ستستمر دائمًا مهما أغرقت الشوارع إعلانات التحذير المتحركة، سيبقى هناك مناضلون لقضيتهم البائسة والتي تعد عنادًا لكبرياء في غير مكانه.

أغلق ملف القضية مختومًا باسمي كلّ من زئبق وستريغي، وقد حانت اللحظة المنتظرة للخروج، لم يكن الأول راضيًا فهو حال تحمس قليلًا تراجع المتهم عن ثورته، لمَ؟! كان ذلك محبطًا نوعًا ما، لم يفعل أي شيء سوى نية حماسية... بنسبة من الحدود الدنيا، لكن الكاتب وحسب عاد أدراجه.

بعد تسليم ملف القضية، وقف كليهما أمام البوابة في انتظار السيارة الخاصة بهما، نهاية يوم عمل، بداية وقت الراحة والنوم، أعطى زئبق معلومات توجيهية للسائق، دقائق ثم تحدثت ستريغي مستنكرة لا تعلم أيهما أغرب أن القائل زميلها فضلًا عن كونه تجاهل تعبه من اللاشيء، أم الوجهة المجهولة «إلى أين؟»

«العيد قريب، علي شراء هدية.»

ردت بحذر أكبر كيلا ترفع سقف توقعاتها «لمن؟»

هالة من اللاحقد أحاطته يحكي عن مأساة حدثت آنفًا «سانتا كان وغدًا معي، أرسلت له مطالبي، لأول مرة أسمع أن الرسالة تعود لصاحبها مع الرفض، لذلك قررت إهداء نفسي بنفسي، قررت بالفعل، سرير جديد.»

حدقت به ستريغي بنوعٍ من ابتساماتها الواسعة اللطيفة والخاصة به وله، وقد أيقنت أنهما غالبًا سينامان في المتجر ما لم تترك زميلها هناك عائدة أدراجها وحدها.  

وإلى كافة الجماهير، المجرمين والمحققين الزملاء أوشحة تدفئة توزع عليهم حصريًا وخاصة بالمناسبة القريبة، سنة جديدة مقبلة حيث سيبقى الاستمرار في الحصاد المُكبل قائمًا، صراع لا ينتهي يحيي الأجواء المملة الباهتة للأيام، دمتم ودام المنطق ذخرًا... إن بقي موجودًا حتى تكملوا القراءة.

Continue Reading

You'll Also Like

13.3M 551K 75
زفر بهوى حار لفح وجهي من قوته، گام وشال السلاح الحاطه ؏ المكتب ولبسه بخصره عدل شواربه ولبس طاقيته بَـس مبين عليه متوتر من هذا الرائد عاصم لكن خاب توق...
477K 27.2K 67
إن كنت صديقي.. ساعدني كي أرحل عنك.. أو كنت حبيبي.. ساعدني كي أشفى منك لو أني أعرف أن الحب خطيرٌ جداً ما أحببت لو أني أعرف أن البحر عميقٌ جداً ...
24.3K 1K 32
الوصف" "قاتل بحق مسجون بضلم" ملاك برئي شيطان لئيم " حملت ذنوب لم ترتكبها " وسيلة قتل واجرام _ من أجل من؟ ...