الأدب الأندلسي في عهد سيادة قرطبة

220 37 5
                                    


ألهبت طبيعة الأندلس الجميلة قرائح الشعراء، فرسموا لوحات شعريةً متنوعةً أودعوها خيالهم وعواطفهم...

سابقًا، كان الغناء الشرقي معروفًا للجواري اللواتي يعزفن الموسيقى ويلقين الشِّعر للأمراء وسادة القوم، فكان الغناء من أكبر العوامل التي مكّنت للنماذج المشرقيّة في البيئة الأندلسيّة، فإن التفاعل بين الموسيقى والشِّعر ذو قدرةٍ على توجيه الشعر وتحديد قوالبه، وقد كاد اعتماد الأندلس يكون كليًّا على التلاحين المشرقيّة.

وكان أمراؤهم يؤمنون بتفوّق الجواري المشرقيّات في هذه الناحية، ويبذلون في استقدامهن الأموال الكثيرة فابتاع عبد الرحمٰن الدَّاخل جاريةً تدعى العجفاء وكانت تغني بالمدينة عند أحد موالي بني زهرة، كما اشترى عبد الرحمٰن جاريّتين مدنيّتين أيضًا هما «فضل» و«علم» وأضاف إليهنَّ جاريةً ثالثةً بشكنسيّةً اسمها «قلم» وكان يؤثرهن لجودة غنائهنَّ ورقَّة أدبهن.

واشترى إبراهيم بن حجاج اللخمي صاحب اشبيلية جاريته قمر وكانت بغداديةً ذات فصاحةٍ وبيانٍ ومعرفةٍ بصوغ الألحان، ويروي ابن حزم عن أحد أساتذته أن رجلًا من أهل المشرق دخل الأندلس فسكن قرطبة على شاطئ الوادي بالعيون، وأنه امتلك جاريةً مدنيَّةً عذبة الصوت، تقرأ القرآن وتغنِّي، وأنه دعا قاضي المدينة حينئذٍ فأسمعه من قراءتها وغنائها.

وإذا عدنا إلى تلك القائمة من الكتب التي أُلفت في الأدب في ذاك العصر سيلفت نظرنا من بينها كتاب الحدائق لابن فرج، وكتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، وكتاب الشعراء من الفقهاء، بالإضافة إلى كتابين آخرين يقعان في أعقاب هذه الفترة وهما: البديع في فصل الربيع والارتياح بوصف الراح لأبي عامر وهو كتابٌ تضمَّن ما قيل في الراح والرياحين والبساتين والنواوير - تبين لنا بوضوحٍ أي الموضوعات الشعرية هي التي كانت تستأثر باهتمام الأندلسيين، وهي على التحديد: شعر الخمر ووصف الطبيعة والغزل والزّهد.

ولا نملك صوَّرًا مكتملةً لهذه الموضوعات لكن يبدو مما وصلنا إليه من شعرٍ غزليٍّ أن هذا الموضوع لم يتفرَّد بشيءٍ واضحٍ وكذلك شعر الخمر.

أما شعر الزّهد في الأندلس فقد ولد في أحضان الثورة على الحكم الربضي، إذ كان الأتقياء ينظمون أشعار الزهد ويتغنون بها في الليل ويضمَّنونها التعريض به، ثم أخذ هذا الأدب يقوِّي ردًّا على الحياة اللاهيَّة في المدن أو انقيَّادًا لداعي التقوى في النفس أيام الشيخوخة كما في زهديات الغزال وممحصات ابن عبد ربه وهي قصائدٌ تكفيريَّةٌ نظَّمها لينقذ القصائد اللّاهية التي قالها في أيام الشباب.

ووجد من الأتقياء من تخصص في هذا النوع من الشعر مثل ابن أبي زمنين صاحب ديوان «النصائح» وقاسم ابن نصير، الذي ألَّف كتابًا في الشعراء من الفقهاء تكملةً لهذا الاتجاه الذي كان قد أنتجه في شعره.

ويقابل هذا المظهر العابس الباكي ناحيةٌ فكاهيّةٌ ضاحكة، لكنها أضعف ظهورًا وتميُّزًا، فقد قال صاحب النفح: «ولأهل الأندلس دعابةٌ وحلاوةٌ في محاوراتهم وأجوبةٌ بديهيَّةٌ مسكتةٌ والظرف فيهم والأدب كالغريزة.»

وقد يكون في هذا الكلام عن الأندلس عامَّةً قسطٌ من الحقِّ غير قابل، إلا أننا نتحدث في هذه الفترة عن قرطبة، ولم تشتهر قرطبة كثيرًا بهذه الروح مثلما اشتهرت اشبيلية مثلًا.

وتشير النوادر الأندلسيَّة إلى الحدَّة وشيءٍ من البذاءة اللفظيَّة، وكثيرٌ منها يعتمد على أساس عمليٍّ حركيِّ، لا لفظيّ، وهي تبليغٌ في حدّة منطقة الهجاء نفسه، وكان كلٌّ من القلفاط والغزال ومؤمن بن سعيد وابن الشمر، يمزجون الفكاهة بالهجاء، وهم من أشهر الشعراء ميلًا إلى الدعابة في ذاك العصر.

وكان القلفاظ وهو أحد المعلمين وذا ولع بالأدب الفكاهي والهجاء فكان يعبث بهم، وكان الغزال ومؤمن بن سعيد لا يدعان فرصةً من العبث تفوتهما وكثيرًا ما تكون ضحاياهما من القضاة أنفسهم.

يروى أن ابن الشمر طرح ذات يومٍ بين سحيات القاضي يخامر الشعباني سحاءةً مكتوبٌ فيها:

يونس متى والمسيح بن مريم، فخرجت السحاءة إلى يخامر:

يخامر ما تنفك تأتي بفضحة ... دعوت ابن متى والمسيح بن مريمـــا.

قفاك قفا ضرب ووجهك مظلم ... وعقلك ما يسوى من البعر درهما.

وتتراوح أشعار هؤلاء الأمراء بين الغزل بجواريهم والشعر الحماسيِّ، ويتميَّز منهم الشريف الطليق والمستعين.

فكان كثيرٌ من الحكام الأمويِّين والأمراء بالأندلس شعراءً ومنهم المتفوق المكثر ومنهم المقل، ولكنك قلَّما تجد من بين الأفراد المشهورين من لا يمارس قرض الشعر، ابتداءً من عبد الرحمٰن الداخل حتى آخر العهد الأموي.

المقال من كتابة توباك.🔱

تمرّد مقالاتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن