لا حاجة لك لتتحدث كي أسمعك...!

693 106 66
                                    


وما بين عبارة تُقال كثيرًا... تحدث لكي أراك
وعبارة قد تُقال في هذا المقال... اصمت لكي أسمعك
أفتتح بما يحشو تجويف قلبي

«-يا إلهي! ما أغباك يا جاز.
-ما الذي فعلتُه هذه المرّة؟
-وهل لك عين لتسأل؟ فات الأوان بكل حال أصلًا.
-هه، وكأني أهتم! تلقّي صفة الغباء من غبية؟
-امممممم كلاكما غبيّان في الواقع.
-تبًا لك أنت الآخر، لستُ أنقصك.»

لو أنني كتبت المكتوب آنفًا قبل عشر سنواتٍ من الآن، ما كنت لأرى أي خلل، هو حوار بين ثلاث شخصيات، على حدثٍ ما قد يتم توضيحه لو تم إكمال المكتوب.

لكن الآن بتفكير إضافي وسرحان طفيف لن يستغرق عديد ثوانٍ صفرية الحساب، أقول أني وببساطة لم أفهم شيئًا، وأصيبت خلاياي بشلل نصفي ضرب نصفها الآخر السليم -الذي وحمدًا لله بقي ليكتب ما أكتبه الآن- مانعًا إياي من تخيل أي شيء.

وسؤال واحد لكل قارئ يتم توجيهه؛ لأنكم حتمًا ستفهمون ما أعنيه وتفهمون ما أعانيه!

«هل هناك ما هو أسوأ من قراءة شيء لا تستطيع تخيّله؟»
هل هناك أسوأ من أن يقوم الكاتب بإعدام قدرتك على التخيّل والتركيب بدل إنمائها؟

إن غرض الكاتب -كما يُفترض- جعل القارئ يعيش داخل حروفه بالكامل، أن يرى ما يراه، بل ويندمج للدرجة التي يتهيأ له أنه إحدى الشخصيات بذاتها، ناسيًا أنه قارئ خارجي لا علاقة له بما هو مخطوط سلفًا.
لكن، كم مرّة قرأت -وسأخاطبك كقارئ أول الأمر ثم أنتقل لك ككاتب- رواية هنا من أربعين فصلًا وقد تصل للمئة حتى، لا ترى فيها سوى الحوارات، انتقال من جملة لأخرى كأنها مكالمة هاتفية بين اثنين لا يرى أحدهما الآخر، بل وأسوأ! كأنها محادثة نصيّة تخلو حتى من أبسط مقوّمات الفهم كالنبرة ومستوى الصوت.

هل تحاول أن ترسم في هواء مخيلتكَ شكل الشخصية وهي تتحدث؟ ما ملامحها؟ ما شعورها حين نطقت ما نطقته؟ ما صفاتها من برود أو نقيضه؟ هل هي شخصية سيئة الطباع ونزقة أم طبيعية لكنها فقط غاضبة؟

أنت -وببساطة- لن تملك أدنى فكرة عن ذلك.
مجرّد... كل شيء مجرّد من أي مشاعر وأحاسيس، مما يجعلني كقارئة أتساءل: لماذا أضيّع وقتي بالقراءة؟

لستُ أطالب سوى بما هو أبسط حق من حقوقي.

وانتقالًا الآن لك عزيزي الكاتب، هل تتمنى أن تسمع يومًا جملة «تخيّلت قصتكَ وكأنها فيلم حيّ أمامي!»

النشوة التي تغرق فيها بعبارة كهذه، لو جرّبتها مرّة فلن ترضى سوى أن تفعل كل مرّة في كل حرف تخطّه لنا.

«تمتم بضجر، مفكرًا فيما عليه أن يقوله جوابًا لسؤال مباغت، تنهد ناطقًا بضيق: لستُ غاضبًا.
وكأنه لم يكن الجواب الذي توقعه، خيبة أطفأت إشراقة ملامحه ليجيب بصوت بالكاد يُسمع: هكذا إذن.»

هل هناك فرق بين الاثنين؟ الأول أطول والثاني بالكاد نطقت كل شخصية بكلمتين، لكن أيُّها كان الأقرب للقلب؟ أيُّها ستحظى بشرف القراءة؟ وأيُّها ستحصل بسببها على النشوة التي نبحث جميعنا عنها؟

البعض يعرف رأس المشكلة، لكنه يعالجها بطريقة خاطئة خالقًا بذلك مشكلة أكثر مقاومة للحل.

وضع الأوجه والتعابير الرسمية، وضع الضحكات وكتابتها بصريح شكلها، ووضع رأي الكاتب بجوار الحوار كتعليق خارجي، ناسيًا أنهٌ راوٍ لا يفترض أن ينحاز لشخصية مما يكتب.

إن أفضل طريقة لجعل قارئك يتخيل، هي أن تتخيل أنت بنفسك جاعلًا من ذاتك شخصية لا تُدرك سير الأحداث، مندمجًا كالجاهل بما يجري، وليس ما يُقال صعب التطبيق، اكتب المشاعر لتخلق تصوّرًا كاملًا عن الشخصية قبل أن تتحدث، اجعل قارئك يرى الشخصية متجسدة أمامه كأنها تحادثه هو.

الحوار ليس سوى عنصر من عناصر الكتابة الكثيرة، وعامل يساعد على الربط معززًا قوّة السرد ومضيّ أحداثه، لكنه أبدًا لا يمكن أن يكون العنصر الرئيسي.

«حوارات باردة» هي جملة تصف الكثير الكثير مما نقرؤه هنا، وتطول الأجزاء... تطول حقًا وتطول معها الحوارات التي لا أدرك من سببها وهدفها شيئًا.

أنت لا تكتب لتفرّغ ما لديك من أفكار فقط وترميها هنا عسى أن يقرأها أحد يلائم ذوقه البسيط ما مكتوب، بل أن تكتب آخذًا من نفسك وقتًا وجهدًا وقدرة، وربما صانعًا لذاتك أحلامًا بحروفك، ألا تستحق -أنت قبل أي أحد آخر- أن تكون كلماتك ذات مستوى سمائي الارتفاع؟ غيمي التنافس، عاصفة تقذف بما هو دون المستوى المطلوب بعيدًا إلى منفى النسيان، حافرًا اسمك بما هو مكتوب بقلمك لدرجة تُعرف من كتاباتك قبل أن يُرى من صاحبها، أنت أم غيرك.

هي محاولة بسيطة أنقل من خلالها معاناتي فيما أقرأ من أفكار جيدة حقًا وابتكارية، لكنها منقوشة بأضعف طريقة.
تخيّل... كل شيء سببه وهدفه وطريقته الخيال.
وعودة لأول سطور المقال، مذكرةً إياك بما قيل، لست بحاجة لأن تتحدث كي أسمعك.

لا تتفوه بالكثير بلا مشاعر، بل انطق كلمة تعصف بداخلها أحاسيس العالم أجمع، لا أريد أن أسمع صوتك بقدر قلبك. لهذا أنا أقرأ، ولهذا أنت تكتب.

المقال من كتابة عضونا الجديد ستريغي ❤.

تمرّد مقالاتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن