عيون الريان (مكتملة)

By nellyelattar

883K 18.4K 1.6K

كانت في حبها ملاكاً وأنا لم أكن افلاطوناً كي لا أحلم بها بين ذراعيَّ More

المقدمة والفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
تنويه
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
طلب خاص
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
"جزء مالوش أي تلاتين لازمة"
الفصل السادس والعشرين
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الواحد والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الغلاف وتواقيع الأبطال
🧡حبايبي متابعين التعديل🧡
إعلان روايتي الورقية الأولى
اقتباس من رواية وريث كايميرا
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
سالخير عليكم 🤸‍♀️😅
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
🙈عين الهِرّ🙈
الفصل الواحد والأربعون
اعتذار
🙂
الفصل الأخير
إعلان مهم ❤️
الخاتمة
شكر وامتنان ❤️
👋
💥حفلة توقيع وريث كايميرا💥
لينك الـ pdf ❤️
❤️
عيدكم مبارك ❤️
خادم الوشم
💔
تنويه مهم جداً

الفصل الرابع والثلاثون

27.7K 478 39
By nellyelattar


{إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ (94)}

— سورة يوسف —

****************

وبخطواتها الضعيفة المُتهالكة سارعت نحوها محاولة التماسك ثم جذبتها لأحضانها تغرق وجهها وجسدها وكفيها بالقبلات تقول ببكاء شديد (وحشتيني ياليلىٰ ، وحشتيني ياقلب أمك)

استسلمت مريم لعناق جدتها رغم تعجبها المُتزايد، هذا الصوت سمعته سابقاً ، وتلك الرائحة تعرفها حقاً ، بينما أطل الحاج زين من الداخل ليستنبط سر الحركة الغريبة على أعتاب منزله ، فوجد زوجته تحتضن فتاة لا يتبين ملامحها باكية بحرقة ، اقترب منهما بتوجس كي يفهم مايحدث ، وما أن وقعت أنظاره على مريم حتى انفرجت شفتيه برهبة ممزوجة بالصدمة وعدم التصديق.. هي.. روح عزيزه الصغير ، وقرة عينه ، وقلبه الذي غادره منذ فراقها .. هي .. بكل تفاصيلها ، بحضورها الملائكي ، وبراءة وجهها المليح .. انتبهت الجدة لوجوده فأبعدتها عنها برفق تضحك من وسط دموعها قائلة (ليلىٰ عايشة يازين ، بنتي ما مامتتش زي ما قالوا لنا)

تناول الحاج زين مرفق حفيدته يتأملها قائلاً بابتسامة فَرِحة (دي مش ليلي يافاطمة ، دي مريم ، روح ريان)

خبطت الجدة فاطمة على صدرها شاهقة باندهاش (مريم؟! ، ياضنايا يابنتي) .. احتضنتها مرة أخرى مُردفة بمفاجأة (كنتِ فين ياحبيبتي؟) .. تسارعت أنفاسها بشدة خاصةً بعد رؤيتها لجدها وإحساسها يقودها نحو تأكيد مجيئها إلى هنا مُسبقاً ، وعلى ذكر ريان انعقد لسانها أكثر.. وتاهت المفردات وسط ذهولها فابتعدت عنهما سريعاً تحتمي بشقيقها الذي لم يكن أقل انشداهاً منها ..

(انت مين يابني؟) .. استفسار مُستغرب وجهه له الجد زين بعدما أدرك وجوده .. وما زاد استغرابه ودهشته تعلق مريم بذراعيه وكأنهما تربطهما علاقة وطيدة..

رد عليه يوسف بابتسامة مُلتمساً له العذر (حقك تنساني ، احنا ماشوفناش بعض من يوم وفاة بابا وماما ليلى) .. دقق الجد النظر في ملامحه يحاول تذكره فتابع بحنين بالغ (أنا يوسف)

فَرَج الجد زين فمه وشدّه ليضمه قائلاً باشتياق كبير (انت يوسف ابن عبدالرحمن الله يرحمه)

ربت يوسف على ظهره قائلاً بتأثر (وحشتني أوي ياجدو) .. وانحنى يقبل يده متابعاً باحترام (الحمدلله ان حضرتك وتيتا بخير) ..

قالت الجدة فاطمة فاتحة حُضنها لتستقبله استقبالاً حانياً ، تمسد شعره وكتفيه قائلة (خطوة عزيزة ياغالي يا ابن الغالي، البيت والقاهرة كلها نورت) ..

اِنْتَأى عنها بتَمَهٌّل ليعاود احتواء كف شقيقته البارد أثراً لفرط توترها وتلاشي فهمها لمشاعرها فبادر الجد زين بسؤال مُتحير (انت ايه علاقتك بمريم؟)

أجابه يوسف بترقب (مريم) .. سكت هُنيهة يستجمع رباطة جأشه واستطرد (قصدي ريم تبقى أختي ، وحفيدتكم)

صيحة ضعيفة أطلقتها الجدة وحدقتيها تتوسعان بمُبَادَهَة بينما أصابت رِعْدَة خفيفة جسد الشيخ العجوز فاختل توازنه بعض الشئ ، اختلال فَطِنته مريم وتلقائياً أسندته خشية سقوطه.. سألها بملامح مبهوتة (انتِ بتشوفي يامريم؟!) .. انتفضت رغماً عنها بخوف وتوارت خلف أخيها تجيب سؤاله بسؤال متلعثم (حضرتك تعرف منين إني كنت كفيفة؟)

تحدث الجد مبتلعاً ريقه الجاف بصعوبة (ايه اللي بيحصل؟! ، أنا مش فاهم حاجة)..

رَأْفَة عارمة اختلجت صدر يوسف مآل رؤيته لصدمة الجدين وعدم إدراكهما للأحداث فدَعَم الحاج زين متمسكاً بمرفقه ليساعده على الجلوس وأشار لمريم أن تفعل مثله مع جدتها فأطاعته وسط النظرات المُرْتَابة، والأفكار المضطربة ..

-(اعملي حاجة للولاد يشربوها يانجاة) .. جملة متعثرة نطقتها الحاجة فاطمة لنجاة المشاهدة الصامتة بارتباك لا يقل عنهما ولم يمنحهما يوسف المزيد من استعطاء الشرح .. وأخرج الأوراق الثبوتية الصحيحة لشقيقته وهويتها الشخصية مُرفق بهم تحليل الحمض النووي الذي يؤكد نسبها لأبيها وللعائلة كلها ثم ناولها للحاج زين واتخذ مقعداً قبالته يقول بحذر (الأوراق دي بتثبت كلامي) ..

أعطاه له مجدداً قائلاً برفض (الورق ده مالوش لازمة يابني ، أنا وجدتها عرفناها من ساعة ماشوفناها أول مرة) .. وزّع يوسف بصره بينهما وبين مريم التي كانت تجاهد على الثبات فاستكمل مبتسماً بحزن (لما جات زارتنا مع ريان) .. غَضَا قليلاً يلملم شتات نفسه مواصلاً (ريان حفيدي التاني، ابن خالك سعد)

بتر يوسف استرساله قائلاً بوجوم (وابن الست اللي رمتها في دار الأيتام) .. ألحق إقراره بالحقيقة بالإفراج عن الملف المُحتوي على الأوراق المُزورة التي لفقتها رويدا بمؤازرة صهرها ، لنفي مريم ضريرة داخل دار رعاية بكل قسوة وجبروت وأضاف (الورق ده دليل على إن مرات ابن حضرتك رمت أختي وهي كفيفة في دار أيتام ومش بس كده ، الهانم المُحترمة سلطت ابنها عشان يلعب عليها وفالآخر مراته وحماه ولعوا فالدار...)

قاطعه الجد زين بالتباس (ابنها مين اللي سلطته؟، تقصد ريان؟)

-(هي عندها عيال غيره؟!) .. قالها يوسف هازئاً فتكلم الجد بتشوش (انت فاهم غلط ، وانا كمان مش قادر استوعب كلامك) .. ومن منطلق أول الحكاية استهل يوسف كشف حِجاب الواقع الذي لا يعلمونه .. بدايةً من يوم وفاة والده وابنتهما.. عارضاً نُصب أعينهما جميع الإفتراءات والظلم الذي تجرّعته أخته طيلة حياتها بسبب مجموعة مُجرمين لا تعرف الرحمة سبيلاً إلى قلوبهم السوداء ، وياليتهم اكتفوا بما ارتكبوه من آثام في الماضي.. بل تجرّأوا للشروع في قتلها ودبّروا جريمة نكراء راح ضحيتها عشرات الأبرياء ولولا ستر الله لكانت الآن في عدادهم .. نزلت كلماته فوق رأسي الكهلين نزول كارثة ، وكأن الغالية وارت ثراها اليوم والصدأ المفروك عن الحقائق استقر في حلقوميهما وعبأ جوفهما حد الاختناق، ودَفَقَت المحاجر ندماً بهيئة دمع ملوحته أُجاج شققت تجاعيد وجهيهما وأحرقتهما...بينما كانت مريم عالقة التفكير عند جملة مازالت ترن بآذانها مثل قذيفة مدفع قطفت وعيها (ريان ابن خالك سعد) ،  تلاحقها أخرى كالصفعة (وابن الست اللي رمتها في دار الأيتام) ... والآن أدركت سبب رفض شقيقها حضور جلسات مُحاكمة المُتورطين في حريق الدار وبنبرة مرتعشة قالت (الموضوع طلع أكبر من إنه ضحك عليا ...)

استوقفها جدها مدافعاً عن الغائب جسداً الحاضر بسيرته المظلومة (ريان ماضحكش عليكِ يامريم).. بَسَط ذراعه موعزاً لها بمجاورته فاستجابت بأوصال مرتجفة وجلست بينه وبين جدتها مُطأطأة رأسها ، تداري مقلتيها الغائمتين، ضمها الحاج زين لصدره قائلاً (ريان انضحك عليه زيه زيك بالظبط ، ويمكن أكتر منك كمان) ...

اِسْتَعْلَمَت بصوت هارب أقرب للهمس (ازاي؟ ، أنا شايفة خبر جوازه من بنت خالته بعينيا) ..

-(ربنا ينتقم منها ويجحمها مطرح ماراحت) .. دعوة مُلتاعة حررّتها جدتها من أعماق قلبها فطالعتها بحَصَافَة مطموسة ليستفتح الجد روايته ناطقاً بالحق .. بدءً من سفره المُرتب له ، مروراً بتواطؤ والديه لإبعادهما عن بعضهما ثم رجوعه منكباً على وجهه ، قاطعاً المسافة بين قارتين يمتطي هلعه لأجلها ، نهايةً بحريق الدار وظنه أنها ماتت.. حتى تبيّن إفك واقعه الأليم ، وأماط هيثم اللُثام عن مُخاتَلَةٌ أقرب الناس إليه... وبخِطابه أضاء مصابيح الصواب وانبلجت شمس الحق ، وكانت مريم غارقة في ربط أواصر الأحداث بثغر مُنفرج ، وعقل محصور ، وصدر منقبض .. على مدار عامين كاملين وتقلُّب الزمن ما بين عشق نادر ، وهجر نقي .. بين ذكرى مستعصية النسيان وحزن خالص لوجه الألم .. بين بصر رُدّ لعينيها وبصيرة أُعتِمَت كانت تظن الحق بجانبها وحدها وإن بعض الظن إثم... وقلبها يتمزق ويرددها (إن بعض الظن إثم ياريان .. إثم وضَيْم ياروح مريم)

-(هو فين؟) .. قالتها مريم بجفنين مُعْتَكِرين بسُحُب عبراتها الكثيفة فجاوبها جدها (بيحضر دفنة بنت خالته) .. برِق بصرُها بذهول مهمهمة (ماتت؟)

أَخْبَرَها بإقرار (انتحرت) .. تدخل يوسف متَمَّمَاً حديث الحاج زين (بعد المحكمة، ضربت النار على صاحبتها وعلى نفسها)

نظرت إليه مرفرفة بأهدابها وإِسْتَنْبَأَت (انت كنت عارف؟).. أومأ إيجاباً فعاجلته مُعاتبة (وخبيت عليا ليه؟)

بادلها يوسف نظراتها بأخرى أكثر لوماً وقال (وانت خبيتِ عليا علاقتك بريان ليه؟)

فردت كفيها أمام وجهها رافعة كتفيها قليلاً تجيبه بقلة حيلة وندم (فكرتها خلصت ، ماكنتش أعرف إنه ياحبيبي اتظلم بالشكل ده) .. ثم ضمت أصابعها تقربهم لصدرها في إشارة لنفسها واستطردت باكية بمرارة (وانا كمان مارحمتوش)

وبطبيعته الحنونة غلبته عاطفته نحوها قائلاً بارعواء عن تخميناته الباطلة ضد ريان (لو بيحبك بجد هايتفهم موقفك وهايعذرك)

صَرَّحَ الجد بحقيقة ثابتة لاتتغير كطلوع الشمس من المشرق (بيحبها؟! ، ده روحه فيها)

*************

على صعيد آخر /

كغصن مكسور، استحالت خْضرة أوراقه سواداً كانت تقف على حافة القبر الذي احتضن طفلتها، تبكي بعدما أهالوا التراب فوق جسدها وأغلقوه بأقفال أبدية الصدأ ، ابنتها المعنى الحقيقي للخطيئة تسير بأرجل عارية توحلها الفاحشة .. الصغيرة انطلت عليها خدعة الحياة المقحلة ، واغتال الشر شبابها وقتلها قبل قتلها بعقود ، وفي لحظات رحلت وكأنها لم تكن هنا.. وكأنها لم تأتِ .. وكأنها لم تدخل الدنيا.. وتمر المشاهد دفعة واحدة في ذاكرتها وتتسابق لتواسيها ، والآن رَسَى بها الحال وحيدة ، فزوجها لم يتحمل صدمة وفاة ابنته وسقط مصاباً بشلل عطّل الحركة بجميع أطرافه ، وتم نقله لمستشفى تابعة للهيئة العامة للسجون وسط حراسة أمنية مُشددة ، تليق برجل مثله محكوم عليه بالإعدام ، ولأن السيرة تبقى زماناً بعد صاحبها ، ستظل سيرة محمود الصرّاف العَطِنة حيّة كوصمة عار في جبين كل مايمت له بصلة ...

-(البقاء لله ياخالتي) .. قالها ريان بتأثر معزياً إياها وبمجرد ما رأته ارتمت بين أحضانه تنتحب قهراً (سامحها يابني ، هي بين ايادي ربنا دلوقتي)

أحاطها بذراعيه يقرّب رأسها المُتعب لصدره داعياً (الله يرحمها ويغفرلها)

تشبثت نُهى بياقة معطفه تستجدي دفءً يهدئ رجفتها قائلة بنَدَامَة وتحسُّر (أنا اللي قتلتها بإهمالي ليها وسكوتي على غلطاتها ،  ماعرفتش أربيها ياريان ، وذنبها هايفضل في رقبتي العمر كله)

شدد ريان عناقها ليدعمها حسياً ثم قال (اذكروا محاسن موتاكم ، وادعيلها ربنا يتولاها برحمته) ..

شعر بترنحها وتلاشي قدرتها على الوقوف فسحبها برفق نحو أحد المقاعد الحجرية المقابلة للمدفن وأجلسها وجلس بجوارها يحتويها فقالت بضعف (ماعادش ليا حد ، بنتي راحت وجوزي هايعدموه)

مسد كتفها يقبل مقدمة رأسها بحنان (ماتقوليش كده ، أنا جنبك)

استمرت نُهى في إخراج أحزانها (ماحدش فينا يستاهلك، لا أنا ولا أمك ولا حتى أبوك ، انت جيت وسطنا غلط) ... سكتت تبتلع غُصّة مؤلمة تُقطّع جوفها وأردفت (الوحيدة اللي كانت تستاهلك هي مريم ، ودي كمان ضيعناها منك) ... وأثناء جلستهما المشحونة بالمواساة والبكاء ندماً على اللبن المسكوب دَنَت منهما رويداً بملامح مهمومة وعينيها المُشتاقة لولدها مُعلقة بمُحيّاه الجميل، ابتسمت بتلهُّف واضح لكنه لم يبادلها الابتسامة وانتصب ناهضاً بصمت ، يقاوم شعوره بالتَوْق والحنين لحضنها وقبل انصرافه كلياً حَدَّثَ خالته (شدي حيلك ، ولو احتاجتي حاجة كلميني) .. ثم غادر بهدوء وخطواته الثابتة تعزف لحن خالداً للروسي أندريه ريو ألفه خصيصاً للجيش الأحمر ، واقتبسته قيثارة السماء فيروز في أغنيتها الشهيرة (كانوا ياحبيبي تلج وصهيل وخيل ، مارق ع باب الليل ، وكانت أصواتن تاخدنا مشوار ، صوب المدى والنار) .. توثق بها قصة حزينة لفتاة تُدعى "لولو" شنقوها ظلماً ، واكتشفوا برائتها بعد موتها وصاروا يضعون الورود حول مقبرتها .. هكذا كان هو ، مشنوق ظُلماً مثلها .. استقل سيارته متجهاً نحو المنزل بعدما اتصل بكريم وأخبره أنه مازال مع هيثم منشغلان في استكمال تجهيزات الشركة الجديدة وربما سيتأخرا قليلاً .. تابع الطريق وجميع فكره فيها ولا يعلم لماذا يطارده خيالها .. أينما حل بصره يراها تركض بين الزوايا والأركان ، وشعوره بالفقد تحديداً اليوم وصفه كاتبه المفضل "دكتور احمد خالد توفيق (رحمه الله) " وصفاً دقيقاً حيث كتب ؛ (إن من بترت أطرافهم يعانون لفترة طويلة الشعور الوهمي بها، ويحركون أصابع لا وجود لها ... يشعرون بملمس أشياء لم يلمسوها .. وهو ما يسميّه الجرّاحون بإسم "الطرف الشبح" ، هكذا بترت هي من حياتي ، لكنها بشكل ما، مازالت هنا) .. وبعد وقت ليس بقليل اتخذه الطريق من المقابر إلى بيت الحاج زين الدين أخيراً وصل .. صفّ السيارة في حيّز ليس بحيّزها متعجباً لوجود سيارة غريبة مصفوفة أمام الباب الخارجي .. ثم ترجل والندى حوله يرُشّ عطراً يألفه ، ولو أقسم بالله أنه يتنسّم ريح مريم الآن ويجده قريباً جداً لن يصدقه أحد .. دسّ المُفتاح في قفل المقبض وأداره ببطء ليفتحه .. ولحظات وأطل من بين دُفتيه وبأعين مُتسعة لبث مكانه فاغراً فاهه ، مذهولاً ومصعوقاً ، وعقله يشرّع نافذة دهشة تفتت روحه ، ولسان حاله المعقود يصرخ هل الطيف الذي يراوده منذ الصباح تجسّد بجوار مقعد جده وفي حديقته؟ ، لم يجد بُداً من الاقتراب فانتبه الجميع لوجوده وعمّ السكون وانشحنت الأجواء بالترقب.. ثانية واحدة استغرقتها هي لترفع رأسها وتتطلّع إليه .. وشهقة خفيضة بإسمها خرجت من رئتيه.. خفيضة لكنها مسموعة ، فحمل بَليل الهواء صوته دافىء الغنّة ، منغوم الصدى لآذانها .. وقفت وكل أوصالها ترتجف وتلاقت أعينهما بنظرةِ تعانق فيها النبض ..

-(مريم!) .. همسها بحنجرة مُهتزة وسار نحوها.. خطوة.. خطوتين .. والثالثة تحولت لركض وبكل ما أتاه ربه من قوة جذبها لأحضانه .. يشُدّ على عظامها بذراعيه كالجبيرة ، ودمه يدقّ وعروقه والنخاع ، ويحقن قلبه المُشتاق بعناق يعتصرها فيه كثمرة مَنْدَرِين ... إِرْتَدَّت للخلف قليلًا ، تتحسس ملامحه بأطراف أناملها هاَجْسة بحِسّ رقيق (ريان؟!) ..أومأ لها ايماءة غير متزنة بالإيجاب ، فتحرر من صدرها نَفَساً ناعماً مبتسمة بثغر مفترّ الضياء ..

سألها وأنظاره تطوف بحيرة على تقاسيمها المليحة (انتِ شايفاني يامريم؟) .. والمبادرة بالاحتضان تلك المرة كانت لها تجيبه (شايفاك ياروح مريم) .. ضمها إلى ضلوعه بوَثَاقَة أكبر يتحسس جسدها بكفيه ، وكأنه يعد فقراتها فقرةً فقرة، ويجسّ أوردتها وريداً وريداً ، ويتلمس شرايينها شرياناً شرياناً ، ليتأكد من سلامتها .. دافناً أنفه بين خصلاتها يستنشقها كغريقٍ مُختنقاً بملوحة البحر

-(وحشتيني) .. قالها بعذاب مُطبقاً جفنيه ، أسندت رأسها فوق كتفه تبكي بصمت فسألها بلوعة (كنتِ فين؟)

-(كانت معايا) .. هتف بها يوسف بحدة ممزوجة بالغيرة والحمية الرجولية تجاه شقيقته ، انتفض جسديهما معاً ، وابتعدت عنه تخفض بصرها بخجل ، فالتفت ريان يستكشف صاحب الصوت الغريب مستفهماً باسترابة (انت مين؟)

رمقه يوسف شزراً ورد عليه بتعبير سخيف (أخوها)

تقدّم ريان ليداري مريم وراءه قائلاً بعدم تصديق (أخوها ازاي يعني؟)

وقف يوسف بتثاقل ثم سحب أخته لتعاود الجلوس مكانها قائلاً (أبويا اتجوز امها وخلفوها وبقينا اخوات)

أحس ريان بمعنى غير أخلاقي وصله من حديثه فهدر به غاضباً (ماتحترم نفسك ياجدع انت)

بينما تدخل الجد زين قائلاً لحفيده (اقعد ياريان ، هو ما قالش حاجة غلط) .. فطالعه باستفسار (مين ده ياجدو؟ ، وايه علاقته بمريم؟)

تولى يوسف الرد عليه عاقداً ذراعيه (أنا يوسف عبدالرحمن السويسي ، أخو مريم عبدالرحمن السويسي) .. ثم مال برأسه قليلاً وأضاف رافعاً حاجبه (بنت عمتك يابشمهندس)

أشار نحو المقعد المقابل له قائلاً (اسمع كلام جدك واقعد ، وانت تفهم كل حاجة) .. أذعن لطلبه حفاظاً على ثباته وأنظاره المُشتاقة متعلقة بمريم التي تجلس بتوتر ولم تكف عن فرك أصابعها فأمسك يوسف أوراق شقيقته يناوله إياها (الورق ده فيه شهادات ميلاد أختي الحقيقية ، واللي ست والدتك زورتها عشان ترميها فدار الأيتام)

أخذها منه يتفحصها وعقله لا يستوعب مايسمعه قائلاً باستغراب (أمي؟!)

وتلقائياً دعت الجدة فاطمة بحزن وهي تتأمل حفيدتها (حسبي الله ونعم الوكيل فيها ، ربنا يخلص ذنبك منها يابنتي)

شعور بالبَلاَهَة واضمحلال الإدراك تملك من ريان لكن يوسف لم يعطه فرصة لمزيد من التساؤلات ، وقام بإعادة سرد الأحداث على مسامعه مرة أخرى.. مفشيا كل الأسرار المخبوئة ، استهلالاً بتدبير سُمية لإقصاء الصغيرة من أجل الميراث وتواطؤ رويدا معها ، مروراً بسيرة جابر وإصابة أمه لها بعاهة مُستديمة أعمتها وأفقدتها بصرها ، نهايةً بكارثة الدار والبقية يعرفها .. تسمّر ريان بحال أقرب للجماد من البشر وكأنه رشقه بسهام مسمومة هزّت أركانه وزلزلت أعمدة كيانه ، ولا يدري من أين يرد ولا ماذا عليه أن يقول .. وأنفاسه تتثاقل شيئاً فشيئاً حد الإختناق ، ولا إرادياً فك أزرار قميصه العلوية .. ضاغطاً بكفه فوق شقه الأيسر فخشي جده أن يتعرض مجدداً لنوبة انذباح الصدر وناداه (ريان)

رَنَا إليه بحدقتين مُغبشتين ولم يجبه، ووضع كفه في جيب بنطاله يفتش عن الدواء موسّع الشرايين ولم يجده فنهض والإعياء بدء يسيطر عليه وتكدس صدره بالنبض يخنقه وبالكاد استطاع الابتعاد متجها نحو الداخل هاتفاً على نجاة بتعب ، فقابلته وما أن لاحظت ترنح جسده حتى صرخت بهلع (ابني) ..

تحامل على نفسه بجهد أكبر وقال (مش لاقي الدوا بتاعي)

أسندته لتدعم سيره المُرهق قائلة بخوف (أكيد نسيته فأوضتك) ... لم تقدر مريم على المكوث في مكانها أكثر من ذلك وهي تراه مَنْهُوك بهذا الشكل ، سارعت بالنهوض والخطى ازائه تحاوط جذعه بذراعيها والرعب يظلل نظراتها فأَحْدَقَ بها للحظات ثم سيّجها بحُضنه مجدداً يدمغ جبهتها بشفتيه قائلاً بعَزْف متوجع (أنا آسف) ..

.. مدّت يدها تبسطها فوق موضع نبضه وإِرْتَكَنَت برأسها على كتفه بصمت مهيب ، حركتها الحنونة جعلته يسحبها معه ، وقلبه المُدجج بعشقها يرشده لغرفة الصالون المواجهة للرُدهة الواسعة وليحترق أخيها المزعوم والعالم أجمع  ، أوصد الباب خلفهما وجلس على الأريكة وأجلسها بجواره .. ولم تكن لشهوة اللغة مقاماً بينهما ، فوَجْدهما المُستكين يفيض بأبجدية وَقُورة تخصهما وحدهما ، قاطع خُلوتهما دخول نجاة بعدما جلبت له دوائه وكوب ماء ثم ناولته إياهما بحنوها المُعتاد وخرجت مجدداً فسألته مريم بقلق (مالك ياريان؟، انت تعبان كده ليه؟)

انحنى للأمام قليلاً يرتكز بمرفقيه على ركبتيه مشبكاً أصابعه ببعضهما وقال مُخفضاً بصره (شوية مشاكل بسيطة فالقلب ، ماتقلقيش ، أنا كويس)

وكأنه انتزع كَبِدها بجملته فغيرت جلستها لتجثو أمامه تحتوي كفيه بين راحتيها قائلة بارتياع (سلامة قلبك وروحك ياروح مريم)

افترّ ثغره بابتسامة ضئيلة وسألها (أنا لسه روح مريم ؟) .. أجابت بإيماءة صامتة وتعابيرها تقطُر حباً فعاتبها برفق ولين (وينفع مريم تعيش سنتين كاملين من غير روحها؟) .. لثم ظاهر يدها وتابع بنبرة حزينة (هونت عليكِ؟) ...

نشجت بمرارة والدمع يتساقط من محاجرها كالنجوم وخرجت الكلمات منها متقطعة (والله.. هي اللي قالتلي..انك خطيبها و.. ضرب......) .. لم يدعها تستكمل وجذبها لترتفع وتعاود القُعُود بجانبه وذراعيه الحانيتين تستديران وتلتفان حول جسدها الصغير يوشوشها هامساً (حقك عليا ياحبيبي ، حقك عليا وعلى راسي بالنيابة عنهم كلهم).. طوقت عنقه تخبئ مُحيّاها في أَدِيم حناياه بينما كانت أنامله  تمسد خصلات شعرها فابتسم قائلاً (شعرك طِوِل) .. استمر في ملامستها حتى وصل لخصرها وأضاف متنهداً بشوق (وعودك حلاوته زادت يامريم) ..

فَرَّق عناقهما يسيراً بهَوَادَة وجبينه يستريح إلى خاصتها وأردف بألم طفيف (وعيونك فتحت عالدنيا وانتِ بعيدة عني)

تَكَلَّمَت والجَوَى يشتد بها (عيوني مافتحتش ولا نظري رجع غير لما شوفتك انهاردة)  ..

ضَحِكَ ضَحْكَةً خفيفة وقال ببحة رجولية عذبة (عارفة؟! ، لما أستاذة وسيلة قالت يوم المحكمة إنك عايشة، أنا زعلت منك أوي، وكنت واخد قرار إن لما اشوفك هاخاصمك ، وقعدت اقول لنفسي هاعمل واسوي وبتاع، وسبحان الله أول ماشوفتك نسيت كل الزعل ، كأن الحزن ما مرش على قلبي) ..نَتَرَ شهيقاً عميقاً حتى تَئِقَت رئتيه بأنفاسها وانسدلت كلماته بهُيام (ودلوقتي عايز ابوسك بوسة طويلة ، آخد بيها حق الأيام اللي هجرتيني فيها من غير ذنب) .. خجلت وتضرجت وجنتيها باحمرار لذيذ وتنّحت جانباً متحاشية التقاء المُقل لكنه لم يُفلت كفها مُستأنفاً بوله (احكيلي عملتِ ايه فالسنتين اللي فاتوا) .. وقبل أن تتحدث تذكّر شيئاً هاماً واِسْتَخْبَرَ (صحيح ، هي ريهام فين؟)

جاوبت (عايشة معايا فالسويس)

أخرج هاتفه وفتحه على تطبيق الواتساب تحديداً المحادثة الدائمة بينه وبين كريم وقال (مَلّيني العنوان) .. امتثلت لطلبه فكتبه ورائها ثم أرسله نصاً لصديقه مُرفق برسالة أخرى (روح المكان ده ، ريهام هناك).. عاود تأملها كمعجزة طالعة من ضوء القمر وزَلَّفَها له يُوَكِّدَ رأسها أسفل رقبته قائلاً (اتكلمي ، وحشني صوتك) .. اِبْتَدَأَت روايتها تهدِل كحمامة بيضاء (أنا مش فاكرة حاجة غير إني صحيت من النوم على إنذار الحريق ، وبعدها أغمى عليا ومافوقتش غير في بيت يوسف أخويا)

داعب شعرها بسبابته يقول باسماً (وانتِ أي حد يقولك إنه أخوكِ تروحي معاه؟)

-(ريهام اتأكدت لما شافت تحليل الـ DNa ، وصوري مع ماما)

-(ماما دي اللي هي عمتي ليلىٰ الله يرحمها؟)

-(آه ، بس انا ماعرفتش الموضوع ده غير انهاردة والله)

-(مصدقك من غير حلفان)

-(ريان! ، مش عايزاك تزعل من مامتك...)

ضحكة خافتة أفلتت منه يقاطعها (ازعل؟، الزعل ده مرحلة أقل بكتير من اللي وصلنا ليه في علاقتنا مع بعض ، أنا قلبي كان هايقف بسببهم يامريم) .. سكت لبُرهة يستجمع شتات ذاته واستطرد مازحاً (كملي يابنت عمتي)

دَاوَمَت حكيها (سافرنا السويس واكتشفت إن ليا أهل وعيلة كبيرة ، بس كنت دايماً حاسة إني مقطوعة من غيرك ، مفيش حاجة قدرت تفرحني ، حتى لما عملت العملية وفتحت، فرحتي كانت ناقصة)

-(عملتيها امتى وفين؟)

-( في بريستول من حوالي سنة)

دمغ مقدمة شَعْرها المُسْبَل بشفتيه قائلاً بحنان (مبروك ياروحي ، مع إن كان نفسي أبقى جنبك في اللحظة دي)

أَزاحت ياقة كنزتها وحَرَّرَت السلسال المستتر أسفلها ورَفَعتها أمام ناظريه قائلة (مافارقتش قلبي لحظة ، عيونك كانت معايا ياريان)

ألصقها أكثر بصدره يقول بعشق خالص (حمدالله على سلامتك ياعيون ريان)

توسَّمت في ملامحه وأطالت التحديق ، تتأمل هيئته البَهيّة بانبهار وأعين مُعجبة ، حبيب العمر آيةً من الجمال ، كلما شاهدتها يفر فؤادها منها ويستقر بين الجبين وثغر القمر .. أما هو فعقله كان يردد حديث جده عن معنى فقد يعقوب ليوسف ، والآن أدرك الحكمة ، واليوم رُدَّت إليه رداً جميلاً .. رُدَّت عزيزة ليلىٰ .. قرة عيون ريان .. فارتد ريان بصيراً

طرقات رتيبة على باب الغرفة استرعت انتباههما تبعها دخول حذر لنجاة تقول بتوجس (الحاج زين عايزكم) .. امتثلا لأمر جدهما وقبل خروج ريان كلياً استوقفته تهمس بالقرب من أذنه (أمك وأبوك بره، وغلاوة مريم تهدى عشان صحتك) .. زفر باختناق وأومأ إيجاباً دون إضافة حرف زائد ثم يَمَّم مقصده عائداً نحو الحديقة مجدداً تسبقه مريم بعدة خطوات بسيطة.... والأبوين اللذان تلقيا اتصالاً من الجد يطلب حضورهما سوياً بصرامة جالسان بترقب .. والمواجهة الأصعب ستكون بين الأم وسر ماضيها المُشين .. وبمجرد بزوغ نجم مريم في الأرجاء شخصت أبصارهم  .. "رويدا" سقط قلبها أسفل قدميها واحتبس الهواء داخل حلقها ، و "سعد" عقله لا يستوعب أن الواقفة قِبالته ليست شقيقته ، انتفض قائماً والذكريات تختلط بصورة الحاضر في ذهنه وبتشوش نطق (ليلىٰ؟!)

حَجَبَها ريان خلفه وأمسك بالأوراق الموضوعة فوق الطاولة أمام يوسف يتفحصها مُصححاً لأبيه (لا، ريم عبدالرحمٰن السويسي) .. ثم صوّب نظراته إزائه يرفع حاجبه مبتسماً بتهكم (بنت ليلىٰ) .. تركه يجاهد على الإدراك والتصديق وتقدّم خطوتين باتجاه والدته وأعطاها الملف (اتفضلي يارويدا هانم اقري ، يمكن تفتكري عملتي إيه من 20سنة انتِ وجوز اختك) ..

تجمدت رويدا مكانها ولم تنبس بكلمة فأمسك معصم مريم يجذبها لتواجهها متابعاً (مريم .. غلطتك اللي حاولتِ تبعديها عني، وسلطتِ أبويا عشان يساعدك) .. التفت مرة أخرى يقول لوالده (شوفت يابابا انت أذتني في مين؟) .. .. تعمد الضغط على جملته التالية بقسوة (بنت أختك) ..

أحس سعد بوخز طفيف يختلج صدره وقال (أنا مش فاهم حاجة)

تولّى يوسف إجابته بثبات (اتفضل اقعد ياخالو ، الحكاية طويلة ولازم تسمعها كلها عشان تفهم)

دقق سعد النظر في وجهه متعجباً من لقب "خال" الذي دعاه به، هو لم يكن خال طيلة حياته إلا لطفلة ماتت عقب وفاة أمها بأسابيع قليلة وسأله بفضول (انت مين يابني؟)

رد يوسف باحترام (يوسف ابن عبدالرحمٰن جوز أختك، وأخو ريم، قصدي مريم) .. انفرجت شفتي سعد بدَهْشَة لكنه سارع بمتابعة حديثه (مريم اللي مرات حضرتك، رمتها كفيفة في دار الأيتام بعد ما زورت شهادة ميلادها) .. ابتلع سعد ريقه الجاف بصعوبة وعاد لجلسته بساقين كالهُلام فوَاصل يوسف وأَوْلَجَه في صُلب الموضوع ، وبدء يسرد عليه القصة كاملة بلا نقصان من أولها لآخرها .. بينما كان هو يستمع إليه وصدمته تتزايد.. زوجة العمر التي إئتمنها على حياته، وماله ، وعرضه..  ويأويهما سقف واحد .. ويجمعهما فراش واحد.. وتشاركه قدر واحد .. خائنة ، كاذبة، منزوعة الرحمة ، وعاشت معه قرابة الثلاثون عاماً وهي تغرس خنجراً مسمومًا بخاصرته وخاصرة عائلته ، نفذ إلى قلب ولدهما الوحيد واجتث وريده بلا شفقة ، وياليتها اكتفت بل أجبرته بوسواسها على مساعدتها في إقصاء ابنة شقيقته للمرة الثانية ، واستغلت جهله واستغفلته وخسر فلذة كبده ، وصغيره قاطعه قطيعة موحشة ... أطرق برأسه لأسفل قائلاً بقهر (ياخسارة يارويدا ، أنا كنت عارف إنك قاسية ومغرورة ، لكن عمري ماتخيلت تكوني خاينة وخسيسة كده)

وعلى عكس المتوقع خرجت رويدا من شرنقة سكونها ونهضت تقول بتحدي (انت السبب) .. توجهت نظرات الجميع المتعجبة من صلابتها صوبها فهدرت (مستغربين ليه ؟ ، كنتم فاكريني هاخاف واعيط واتذلل عشان ترجعولي ابني اللي خدتوه من حضني 23 سنة؟) ..

حَوَّلَت حديثها لحموها هازئة (ماسألتش نفسك ياحاج زين ، ريان مالوش اخوات ليه؟) .. وقالت لحماتها بنفور (وانتِ؟ ، ما قعدتيش مع ابنك لما كان بينزل أجازة ، وفهمتي منه مراته ماخلفتش تاني ليه؟) .. فردت كفيها في الهواء مُلوحة بحاجبين مرفوعين وسخرية مريرة (ماسألتوش خالص؟) .. والكفين المفرودين خبطا ببعضهما وضحكتها المُتوجعة تصم الآذان (حقكم ماتسألوش طبعاً ، مش حفيدكم الغالي بينام كل ليلة في حضنكم؟.. تولع أمه بقا ولا تشيل الرحم وهي شابة ، وتتحرم منه ومن الخلفة ، المهم تكونوا مرتاحين ومبسوطين)

فغر الجد فاهه يقول بتخبط (احنا كنا مفكرينك ماخلفتيش تاني بمزاجك..)

قاطعته صارخة (مش بمزاجي ، مفيش حاجة حصلت في حياتي كانت بمزاجي ، سفري وحرماني من ريان ما كانش بمزاجي ، ابنك اللي قاعد بيحاسبني دلوقتي طول عمره لاوي دراعي) .. صاحت بصوت أعلى (اسأله حملت وأجهضت كام مرة عشان اخلف حتة عيل يعوضني غياب ابني الوحيد ، لحد ما شالولي الرحم وقصوني وقصوا أمومتي، زي ماقصيتوا ريان مني) ..

رمقها سعد شزراً وقال (ايه شغل خدوهم بالصوت ده؟ ، انتِ ليكِ عين تتكلمي؟)

نَازَلته بشَراَسَة (ده انا ليا عين وقلب وإيد ورجل كمان)

انتصب زوجها ليتصدى لها (بتبرري ايه بإيه؟ ، ماتبقيش مجرمة وكمان غبية)

عَارَضَته بندية (أنا فعلاً غبية عشان قبلت اعيش معاك مجبورة على وضع مفيش أم تقبله ، غبية واستاهل ضرب الجزمة عشان ما اطلقتش ، وخدت ابني منك ومن أهلك غصب عنكم كلكم)

تدخل الجد زين يقول بتأنيب ضمير (احنا مانعرفش انك كنتِ عايزة ابنك ، سعد عمره ما جاب سيرة لينا ولا قالنا إنك ماخلفتيش تاني بسبب استئصال الرحم)

قالت رويدا بخشونة (عشان أناني ومابيفكرش غير في نفسه)

رفع سعد ذراعه عالياً وكاد أن يصفعها لكن مريم أحالت بينهما ومنعته فضجّ صوت رويدا هاتفة بعنف (زعلان عشان بقول عليك أناني؟ ، مش دي الحقيقة؟) ..

جهَرَ سعد بجَهَامة (اخرسي....) .. ليقاطعهما ريان صادحاً وأعصابه جميعها ترتجف (كفاية ، اسكتوا، انتم دمرتوني، أنا مش عايز حد فيكم ، مش عايزكم فحياتي) ... أنهى كلماته بأنفاس ناهتة وتركهم ليصعد غرفته ، رافضاً مساعدة نجاة ، حتى مريم عندما أمسكت مرفقه جذبه منها بحدة ومضى في طريقه إلى الأعلى يخفي دموعه .. بينما تحدث يوسف سائلاً رويدا (ريم ذنبها ايه في كل ده؟)

جاوبته بحدقتين غائمتين (ذنبها إنها حفيدتهم)

-(أنا مش هاسيب حق اختي)

-(ماتسيبوش، بس هاقولك كلمة أخيرة ، انا ساعدت خالتك انتقاماً لنفسي ، لا عشان ورث ولا فلوس، والغلطة الوحيدة اللي ندمانة عليها اني ماخدتش ريم لما جابر جابها تاني مرة) .. لملمت متعلقاتها الشخصية استعداداً للمغادرة وقالت بمقلتين متسمرتين على وجه مريم (أنا ماعنديش حاجة أخسرها ، تقدروا تبلغوا عني بالورق المزور ، وأعلى ما في خيلكم اركبوه) ..أنهت حديثها وانصرفت بعنفوان أنثى جُرحِت أنوثتها لسنوات طويلة وظلت تُرتقها في الخفاء ، لاتدين لأحد بلمسة مواساة ولا فضل لهم عليها .. ولن تظهر ضعفها قِبالتهم أبداً ولو ستموت .. رويدا لم تختار الشر بإرادتها .. ولم تختار الرحيل بإرادتها .. ولم تختار هجران وليدها بإرادتها .. رويدا لم تختار لنفسها شيء .. كُل عِلَّلها وسقامها وآلامها اختارها لها سعد .. باختصار رويدا إمرأة مكتوبة بحروف الغصب والعنوة .. ومُترجمة بقلم الانتقام ... وأثناء طُلُوعها من باب المنزل الخارجي لتستقل سيارتها بروح متقطعة وقلب مكسور أوقفها نداء أحدهم يقول (استني لو سمحتِ)

***************

Continue Reading

You'll Also Like

978K 17.8K 58
نتحدث هنا يا سادة عن ملحمة أمبراطورية المغازي تلك العائلة العريقة" الذي يدير اعمالها الحفيد الأكبر «جبران المغازي» المعروف بقساوة القلب وصلابة العقل...
4.6K 159 12
حين يعند القدر معك ويجبرك على السير عكس توقعات قلبك ستكون بمأزق الحيرة إما التراجع أو الندم لكن هل سينصفك القدر ويرجع لك ما قد ضيعته بغباء شعورك وسرع...
7.8K 465 8
رومانسي اجتماعي بطابع ديني
297K 1.5K 2
أنا صبا..غجريه أبا عن جد.. هتسألوني يعني ايه غجريه..؟ ـ هقولكو معرفش.. اه معرفش..كل اللي اعرفه اني اتولدت لقيت نفسي بتنقل من مكان لمكان.. عارفين، اح...