عيون الريان (مكتملة)

By nellyelattar

886K 18.5K 1.6K

كانت في حبها ملاكاً وأنا لم أكن افلاطوناً كي لا أحلم بها بين ذراعيَّ More

المقدمة والفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
تنويه
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
طلب خاص
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
"جزء مالوش أي تلاتين لازمة"
الفصل السادس والعشرين
الفصل السابع والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الواحد والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الغلاف وتواقيع الأبطال
🧡حبايبي متابعين التعديل🧡
إعلان روايتي الورقية الأولى
اقتباس من رواية وريث كايميرا
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
سالخير عليكم 🤸‍♀️😅
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
🙈عين الهِرّ🙈
الفصل الواحد والأربعون
اعتذار
🙂
الفصل الأخير
إعلان مهم ❤️
الخاتمة
شكر وامتنان ❤️
👋
💥حفلة توقيع وريث كايميرا💥
لينك الـ pdf ❤️
❤️
عيدكم مبارك ❤️
خادم الوشم
💔
تنويه مهم جداً

الفصل الثامن والعشرون

15.2K 357 55
By nellyelattar


إذا رُزقت يقظةً فصُنها في بيت عُزلة،فإن أيدي المعاشرة نهابة ، واحذر معاشرة البطالين فإن الطبع "لِصّ" ، لاتُصادقن فاسقًا ولا تثق إليه ،فإنّ من خان أول مُنعم عليه لا يفي لك.

— ابن القيم —

**************

-(چيسي!) .. قالها ريان بحدقتين متسعتين من المفاجأة..فاقتربت تتفقد الدماء التي تسيل من أنفه ثم جذبت مرفقه نحو سيارته قائلة بخوف مصطنع (اركب بسرعة قبل مايفوق)..

امتثل لطلبها دون اعتراض خاصةً بعدما سمع زمجرة خفيضة للرجل المُستلقي على الأرض يسألها بعدم اتزان (انتِ عربيتك فين؟)

جاوبته مشيرة لسيارتها المصفوفة بعيداً (ركنتها هناك)

فتح الباب المجاور له يقول باستعجال (اركبي اوصلك)

أطاعته متسائلة ببراءة مزيفة (والعربية؟)

أدار المحرك ليبتعدا عن المكان بأقصى سرعة قائلاً (الصبح ابعتي حد ياخدها)

تابعت چيسي بتمثيل مُتقن (مناخيرك بتنزف ، تعالى نروح أي مستشفى)

تناول محرمة ورقية من التابلوه يمسح أنفه قائلاً (دي حاجة بسيطة ، مش مستاهلة) .. ثم استطرد مستفهماً (انتِ بتعملي إيه فطريق مقطوع زي ده بالليل؟)

ردت عليه وكأنها لم تدبر شيئاً لتستكمل خطتها الحقيرة (كنت راجعة من النادي وعديت بالصدفة من هنا، وفجأة سمعت صوت ، ركنت العربية ونزلت اشوف في إيه لقيت الحيوان ده مكتفك ، فضربته بالـ self defense)

نظر إليها ريان ويبدو أن كذبتها أقنعنه يقول بامتنان (شكراً ، انتِ انقذتي حياتي)

ابتسمت بتعبير ظاهره لطيف لكن باطنه ساخر (حياتك غالية عليا ياريان) .. بادلها ابتسامتها بأخرى متوترة ولم يرد فأردفت هي بنبرة هادئة (احنا في كل الأحوال ولاد خالة ، وبينا صلة دم)

تحدث وهو يوزع بصره بين الطريق وبينها (أنا آسف لو كنت ضايقتك قبل كده....)

قاطعته واضعة سبابتها فوق شفتيه قائلة (ماتعتذرش، إنت ماغلطتش) .. ثم سحبت يدها لتفرك أصابعها ببعضهما واستكملت مطأطأة رأسها بأسف كاذب (لو فيه حد المفروض يعتذر ، فالحد ده يبقى أنا، واتمنى إنك تسامحني ونتعامل مع بعض كولاد خالة وبس) .. سكتت لتعطيه فرصة لاستيعاب حديثها المخادع وأردفت راسمة الحزن على ملامحها (أنا محتاجة في حياتي إنسان زيك ، يعلمني الصح من الغلط ، وإحساسي إني خسرتك بسبب غبائي بيعذبني)

شعر بالتعاطف معها وللأسف تأثر كثيراً ليس حماقة منه لكنها شيطانة ، يتلون جلدها كالحرباء قائلاً (ومين قال إنك خسرتيني؟ ، لو جيتِ وطلبتِ مني أي حاجة، عمري ما هاتأخر عنك)

شهقت متصنعة الفرحة (بجد ياريان؟)

ضحك على ردة فعلها قائلاً (هو مش انتِ لسه معترفة إننا ولاد خالة؟) .. أردف بلهجة جادة (الطبيعي نكون سند وضهر لبعض يا چيسي، ومش شرط نتجوز عشان علاقتنا تفضل كويسة)

التمعت مقلتيها بوميض خبيث لم يلحظه قائلة (تعرف لما فكرت فالموضوع بهدوء فهمت إن عندك حق ، عشان كده ماحاولتش أقرب منك ولا اظهر فحياتك تاني ، احتراماً لقرارك) .. سكتت مجدداً وسكوت إبليس في ثوب تلك الغانية خراب وحروب مضيفة بصوت أبدعت بإصباغة بالتأثر (ومع ذلك كنت بدور عليك الفترة اللي فاتت عشان أكون جنبك في محنتك)

قال ريان متعجباً (مش فاهم)

قاتلة وينطبق عليها مقولة تقتل القتيل وتسير بجنازته ولتضمن سير تمثيليتها القذرة ادعت البكاء قائلة (قصدي حريق الدار وموت حبيبتك)

سألها ريان مندهشاً ( انتِ كنتِ عارفة بعلاقتي أنا ومريم؟)

جاوبته بدموع التماسيح (من ساعة ماجيبتها تشتغل فالنادي ، شوفتكم مع بعض أكتر من مرة ، وقلبي وجعني أوي عاللي حصلها)

إحساس بالذنب تولد بداخله تجاهها قائلاً بألم (ادعيلها بالرحمة هي وكل اللي راحوا معاها)

استمرت في البكاء قائلة بشهقات أعلى نسبياً (مش قادرة أنسى منظر الأطفال وهم متكفنين ، وبنهار كل ما اتخيلهم وسط النار ياحبايبي وعايشة عالمهدئات والمُنوم)

يصدقها مع الأسف ، يصدقها ويصدق تدليسها القميئ بطيبة قلب لم يعرف يوماً إلا حُسن الظن قائلاً بتعابير متأثرة (إنتِ رقيقة أوي ياچيسي)

كفكفت عبراتها بجانب كفيها قائلة بصوت تعمدت إخراجه من حنجرتها خافتاً ، مبحوحاً (أنا عمري ما كنت وحشة ، يمكن الناس بتشوفني مغرورة بس الحقيقة إني ضعيفة وهشة وبتكسر بسرعة) .. تنهدت بطريقة تجعل الشيطان يتعاطف معها وأضافت (وتمسكي بيك وبجوازنا كان عشان استقوى بيك واتحامى فيك من الدنيا) .. لم تعطه فرصة ليرد على حديثها مستطردة بابتسامة مشجعة (تعالى نفتح صفحة جديدة مع بعض ، وننسى أي خلافات عبيطة حصلت زمان، الدم اللي بينا يستحق محاولة للصلح) ..

يالجبروتها! .. تريد التصالح على الدم بدم .. وهل يصير الدم المُراق ظلماً ماءً؟! .. تذكره بأنهما ذوي قُربى وبينهما صلة أرحام .. وهل راعت القُربى و الرحم فيمن ماتوا إحراقاً؟! .. وهو المقتول بسيفها الذي أثكله وفَقأ عين قلبه بادلها ابتسامتها وأجابها (موافق وعفا الله عما سلف)

تهللت أساريرها قائلة بسعادة بالغة (وبمناسبة الصفحة الجديدة ياريت تقبل عزومتي بكره على مكان تحفة)

توقف بالسيارة بعدما وصل بها لبيتها قائلاً بتوجس (انتِ عارفاني مابحبش جو الحفلات والسهر...)

قاطعته محركة رأسها بنفي (انت دماغك راحت فين؟ ، ده مكان حلو جداً وهيعجبك)

نظر إليها نظرة استرضاء يقول بترحيب (خلاص هاستناكِ بعد ما اخلص شغل)

مدت يدها لتصافحه ضاحكة (اتفقنا يابشمهندس) ..

صافحها بودٍ لكنه لا يعلم أن تلك اليد التي صافحها ، والأصابع المُلتفة حول كفه، تنسج مصيدة من خيوط العنكبوت لتصطاده كفريسة انتقاماً لطالما وعدت روحها المريضة بتحقيقه .. ترجلت من السيارة تودعه بتلويحة أنيقة وانتظرت حتى اختفى متخذاً طريق العودة إلى بيته ثم أخرجت هاتفها تكتب رسالة لصديقتها عبر الواتساب قائلة باستهزاء (صاحبك بلع الطعم)


*************


في صباح اليوم التالي /

نهار آخر أشرقت شمسه الجديدة على منزل الغائب جسداً ، الحاضر روحاً "عبدالرحمن السويسي" .. واستيقظت مْدللته ، شبيهة القمر ، ليلى الصغيرة كما كان يسميها في حياته مبكراً ، فاليوم ستتحقق أمنية غالية لطالما دَعَت الله بها ، ويشاء السميع ، العليم أن يستجيب لها و كأنه يراضيها ويمسح على قلبها ، انتظرها أخيها حتى تجهزت للخروج ومثلما وعدها أخذها لزيارة والديها الراحلين ، المدفونين في مقابر العائلة .. وقفت مريم يداً بيد مع يوسف يقرآن الفاتحة وماتيسر لهما من آيات الذكر الحكيم على أرواح فقدائهما والمسلمين جميعاً ، وبعد وقت ليس بقليل طلبت منه أن يساعدها لتجلس فأسندها على مقعد حجري أمام القبرين الهادئين ، وأحس بحاجتها للاختلاء بنفسها معهما ، فتركها مستئذناً لزيارة قبر عمه وابنته بالجهة المجاورة .. مثل طفلة تائهة كانت تبكي بألم يفوق سنوات عمرها طولاً ، وأعمق من أن تسميه حزناً ، نسمات عليلة أرسلتها السماء تبشرها برحمة شملت أبويها لتثلج صدرها وتكفكف عبراتها مبتسمة ، سحبت نفساً عميقاً ، تعبأ رئتيها برائحتهما كما يكونا بجانبها ويسمعانها قائلة بصوت مرتجف (أنا زعلانة منكم عشان مشيتوا بدري وسيبتوني للدنيا تدوس عليا) .. سكتت تقاوم البكاء مجدداً وأضافت بحسرة (كلهم رفضوا وجودي ورموني ، من شارع لشارع ، ومن بلد لبلد ، ومن إيد عمتني لإيد حافظت عليا) .. ضحكت بسخرية مريرة (واضح إني كنت طفلة غلسة وحملي تقيل ، وماصدقوا خلصوا مني) .. توقفت عن الضحك لكنها مازالت تبتسم بارتعاش طفولتها الضائعة مستطردة بحنين (كان نفسي أشوفك أوي ياماما ، وبفرح لما يوسف بيقولي اني شبهك) .. أردفت بنفس ابتسامتها (عارف يا بابا لو انت لسه عايش ، ما كانش ريان قدر يجرحني كده) .. وعلى ذكره إنهارت حصونها واستسلمت لدموع تطعنها بخناجر ذكريات قريبة واستكملت ببكاء مقهور (ريان ده الراجل الوحيد اللي دخل حياتي بعدك ، وجعني وحوّل فرحتي بيه لكابوس إسود ، كاتم على صدري وقاطع نفسي ، وبرغم ده كله مش قادرة أكرهه ولاعارفة أنساه) .. تعالت شهقاتها تقول وجسدها الصغير يهتز (وحشني إحساسي بالأمان وانا فحضنه ، وحنيته ، وريحته ، وهاموت واسمع صوته) .... وبينما استمرت في شرح آلامها ، وإخراج قيح جروحها على صدر والديها العابرين من الحياة الزائلة إلى حياتهم الأبدية ، كان يوسف واقفاً أمام مدفن عمه سالم رحمه الله يقرأ الفاتحة ويرسل له الدعوات ، ويشعر به سعيد وفخور لأنه أوفى بالعهد الذي قطعه ، كلما أغمض عينيه يراه مُجتمعاً مع والده ووالدته ووالدة مريم في الجنة بوجوه نضرة ، راضيين عنه ، وأرواحهم مُرتاحة بعودة الإبنة المفقودة .. وبعد دقائق معدودة اتجه نحو قبر "بسمة" .. استند بكفه عليه ، يمسح التراب عنه ومقلتيه غائمتين بالدموع .. هنا ترقد بسمته العصية على النسيان لتدفع ثمن إثم لم ترتكبه ، ويدعو الله أن يجعل عز شبابها في ميزان حسناتها .. وأثناء وقفته الحزينة انتبه ليد تربت فوق كتفه وصوت يعرفه حق المعرفة يقول بضعف (وحشتني أوي يا يوسف)

التفت بخضة طفيفة ليجد سُمية خالته تنظر إليه باشتياق شديد لكنه تراجع مبتعداً عنها بتعابير جامدة ولم يرد فأخفضت بصرها تقول بندم عظيم (أنا عارفة إنك مستحيل تسامحني ، قلبك الطيب على قد مابيحب ، على قد مابيقسى)

رمقها بأعين كارهة (انتِ لو بينك وبين الجنة ذنبي وذنب أختي مش هاسامحك) .. سكت لثواني يتابعها وهي تنسحب باكية لتجلس بجوار قبر ابنتها ثم قال باستهزاء (نسيت أقولك صحيح،مش أنا لقيت ريم)

هتفت بفرحة من وسط دموعها (بجد؟ ، الحمدلله يارب ، أنا كنت خايفة أموت قبل ما....)

قاطعها هادراً بملامح مظلمة (عارفة لقيتها فين؟) .. انكمشت ذعراً فاغرة فمها فاستطرد هو بغضب عارم (في دار الأيتام اللي ولعت بالأطفال من كام شهر)

سألته متلعثمة بخوف (ماتت؟)

أجابها بنبرة عالية (لا، عايشة بإسم غير إسمها وإسم أبوها) .. اقترب منها يمسك معصمها قائلاً بانفعال (بنت عبدالرحمن السويسي عاشت عمرها كله مكتوبة بإسم أخو البواب) .. تركها ليقف قبالتها مستكملاً بغصة مسننة شقت حلقه (البواب اللي أمه ضربتها على دماغها عميتها ، ولما الدنيا قفلت في وشه خدها لأهل ماما ليلى الله يرحمها ، عشان تقابله واحدة حقيرة ماتفرقش عنك وتهدده ، فيضطر يسمع الكلام ويرميها تاني كفيفة في دار أيتام ، بعد مازورت له شهادة ميلادها وغيرت إسمها ونسبها وسنها)

شهقت قائلة بصدمة (أكيد قابل رويدا مرات خالها سعد ، هي اللي زورت شهادة وفاتها)

صرخ بوجهها فاقداً أعصابه (انتم ايه؟ ، شياطين؟ ، منكم لله ياشيخة ، منكم لله)

طأطأت رأسها قائلة بتأنيب ضمير لم يستيقظ إلا بعدما ذاقت ألم الفقد (أنا مستعدة أتعاقب على أخطائي، ومش عايزة حاجة من الدنيا غير إن ربنا يسامحني وبنتي ترتاح في نومتها)

تعمد الضغط على جرحها بلارحمة قائلاً بقسوة (ماتخافيش عليها هي مرتاحة ، بسمة ماتت لأن عمرها خلص مش عشان تشيل ذنبك) .. أنهى كلماته الموجعة بنظرات مشمئزة وهمّ بالانصراف لكنها استوقفته (انا كتبت أملاك سالم الله يرحمه كلها بإسمك ، حتى البيت الكبير هتلاقي مفتاحه والأوراق عند المحامي وعايشة دلوقتي في دار مسنين)

رد عليها باستنكار (انتِ فاكرة انك لما تعملي كده هاسامحك؟)

أومأت نفياً (لا ومش متوقعة منك تسامحني ، ولو عايز تبلغ عني في قضايا التزوير ماعنديش مانع)

التوت زاوية فمه بشبه ابتسامة ساخرة قائلاً (ولاد عبدالرحمن السويسي ما بيرموش لحمهم فالسجن ، ريم بنت الأصول ، طلبت مني ما اقفش قصادك فالمحاكم ، إكراماً لعضم التربة اللي للأسف هايفضل ما بينا)

نهضت من مكانها لتغادر وهي تبكي قائلة بنحيب متقطع (قلبها طيب زي ليلى الله يرحمها..ربنا يشفيها ويعوضها خير فيك) .. لم تعطه فرصة لحديث أطول.. فلا يوجد شئ يقال أكثر مما قيل وانسحبت لتترك له المكان بخطوات عاجزة ، وسط أنظاره التي تراقب وجهها الممطر .. يتردد بداخله الكثير من الأصداء الغامضة ويتخبط بين ذنبها ودمه المُشفق عليها .. هو ربيبها وابن شقيقتها اليتيم ، وهي لم تبخل عليه بحنانها طيلة سنوات عاشها آمناً في كنفها وكنف عمه.. واقع لا يستطيع تغييره وذكريات ماضية ستظل تلاحقه مهما حاول إظهار القسوة .. تنهيدة عميقة خرجت بحسرة من شفتيه ثم تحرك ليتفقد مريم على الطرف الآخر .. وجدها تجلس باستكانة وجمال يسر الناظرين ، اتخذ مقعده بجوارها يحيطها بذراعيه فانتفضت مختضة بخوف لكنها هدئت عندما وصل صوته لمسامعها يقول ضاحكاً (الجميل سرحان فإيه؟)

مالت برأسها لتستند على كتفه قائلة (فيك وفي حنيتك عليا، انت انهاردة حققت لي أمنية طول عمري بحلم بيها ، ربنا مايحرمني منك تاني أبداً يا يوسف)

ضمها إلى صدره مؤمناً على دعائها بدعاء آخر أكثر حباً (اللهم آمين ، ويفرحني بيكِ يافرحة يوسف)

مازحته مريم برقة (خلي بالك انت مدلعني أوي ، وانا دلعي رخم وهايتعبك)

داعب وجنتها بأطراف أنامله قائلاً بابتسامته العذبة (على قلبي زي العسل، وتعيشي وتدلعي ياست البنات) .. أبعدها قليلاً عنه برفق يتأمل تقاسيمها المليحة مردفاً بمرح (أنا جعان ، إيه رأيك نروح نتغدى في مكان حلو زيك؟) .. أومأت إيجاباً بلطفها المعهود الشبيه بندى الفجر ثم غادرا المقابر سوياً مثلما جاءا.. وقلب يوسف يشكر الله على كل ثانية أوصلته فيها الأقدار إليها وقادته نحو ظلها

***************

الحب حقيقة غير مضمونة الثبات ، هو الوهم الأكثر تصديقاً في العالم ، طائر أسطوري يحلق بروحك يوم فوق السماء وبين قطن الغيوم ، ويأسرها بالفراق لمدة لا يعلمها إلا الله تحت جحيم الأرض .. هكذا كان حاله مأسوراً وراء قضبان عذابه ولا فكاك من القيد المُشتعل الذي يغُل أطرافه الأربعة.. قيدٍ ناره لا تنطفئ.. تجعله يحترق من أعمق نقطة برأسه حتى أصغر إصبع في قدميه .. وبعد انتهاء ساعات العمل ومشارفة النهار على الانقضاء خرج ريان من الشركة وحيداً ، بهيئته الحزينة ، المختلفة.. الساحرة للغاية ، ليجدها تقترب منه بسيارتها فاستقبلها مبتسماً بترحيب (مواعيدك مظبوطة)

بادلته ابتسامته بأخرى واثقة (تضبط ساعتك بالدقيقة عليا)

سألها وهو يميل قليلاً بجسده ليستند على إطار النافذة الزجاجي (هاتركني عربيتك وتيجي معايا؟)

اتسعت ابتسامتها تجيبه بانتشاء لاقترابه منها بهذا الشكل الغير معتاد بينهما (انت اللي هاتيجي معايا)

اعتدل في وقفته ثم التف ليستقل السيارة بجوارها قائلاً باستسلام (ماشي ياستي ، أما نشوف هتوديني فين)

أدارت المحرك لتنطلق سريعاً قائلة بضحكة خبيثة (هاخطفك)

نظر إليها بعقل مُعتم ، لا يستطيع قراءتها.. وكأن تفكيره محبوس داخل دوار أفقده قدرته على التمييز .. أرجع الكرسي للوراء قليلاً ليفرد ظهره المُتعب وقرر ترك نفسه لأصابع الرياح تعبث بدواخلها ، فما عادت سفينته تشتهي شيئاً ، ظل صامتاً طوال الطريق وملامحه تحاكي شجرة السرو التي تُمثل الموت في لوحة " ليلة النجوم" لڤان جوخ .. وبعد وقت ليس بقليل أوقفت السيارة أمام مبنى كبير يبدو من شكله الخارجي أنه منتجع سياحي ، أمسكت بكفه تضغط عليه لتستحوذ على انتباهه وتخرجه من شرنقة شروده قائلة بغموض (سيب نفسك ليا خالص وماتفكرش فأي حاجة ، انت انهاردة بتاعي وبس) .. إيماءة بسيطة بموافقة كانت رده ثم ترجل معها ليعبرا البوابة الخارجية يداً بيد .. تأمل ريان المكان حوله باعتيادية .. مجرد نادي خاص به مطعم كبير يملأه الناس بضجيجهم ، وممر يؤدي لصالة ألعاب رياضية ، يجاورها أخرى خاصة بالتدليك ونشاطات الاسترخاء ، وأخيراً تحدث بمجاملة (مكان لطيف)

تأبطت ذراعه قائلة بلهجة أصبغتها بالمرح (ده مشروعي الخاص ، ماحدش يعرف عنه حاجة غيرك)

توقف يسألها بعدم فهم (انتِ بتشتغلي؟)

رفعت خصلة من شعرها المتطاير حول وجهها تقول بثقة (أكيد طبعاً ، مش هافضل طول عمري معتمدة على بابي ، وحلمي أعمل سلسلة منتجعات سياحية ومطاعم بإسمي ، زي باريس هيلتون كده) .. تشاركه أحلامها الكاذبة ، وتصنع له خيال من ورق لإنسانية لا تمت لواقعها المؤذي بصلة ، ولأنه ريان صدقها ، ويكفي أن يكون ريان ليقتنع بأوهامها..

-(بدأت أحس إني فخور بيكِ).. مازحها بتعابير مُشجعة فمطت شفتيها لتسحبه وراءها قائلة ببراءة مصطنعة ومرح لا يتناسب مع روحها السوداء (تعالى أفرجك على صالة الچيم ، يمكن تحب تتمرن وتبقى زبوني المفضل)... أطاعها مُستسلماً وفي خلال لحظات كان يقف بجوارها في قاعة كبيرة مخصصة للتمارين والأجهزة الرياضية الحديثة ...

-(إيه رأيك؟)

-(حلوة جداً)

-(تجرب kick boxing ؟)

-(مش معايا لبس للتمرين)

-(ماتقلقش،أنا عاملة حسابي) .. أشارت باتجاه غرف صغيرة منفصلة عن الصالة وأردفت (هنا هتلاقي كل اللي محتاجه)

حك مؤخرة عنقه ولأول مرة لا يشعر بالنفور منها ، واختفى إحساسه بالتورط معها .. يراها الآن إنسانة طبيعية بل وتحاول مساندته بطريقتها الخاصة.. ويكفيه تلك المحاولة.. چيسي؟! ..(وجه مضيقاً عينيه بتعبير مُستنكر) .. استساغ الفكرة وأطاعها بكامل إرادته الحرة بينما وقفت هي تراقب دخوله لغرفة تبديل الملابس بنظرات تشع لؤماً وشماتة وتفاخر بسير مخططها كما تريد وأسرع مما توقعت.. ثم دخلت للغرفة المجاورة له وشرعت في ارتداء أشياء تصلح لممارسة الرياضة .. وخلال ثواني كانا يخرجان معاً .. تبادلا النظرات والابتسامات وبادر ريان بالحديث قائلاً (المقاس مظبوط)

غمزت له متجهة نحو المكان المخصص لرياضة ملاكمة الركل (زي مواعيدي) .. اتخذت وضعية القتال .. تقدم ساقها اليمنى للأمام وتؤخر اليسرى للخلف ،رافعة القفازات أمام وجهها .. تبعها بتحفز ليقف قبالتها بوضعية معكوسة يسراه للأمام و يمناه للخلف ليبدء بلكمة مستقيمة قاطعتها سريعاً بواحدة اعتراضية .. فاجأها بضربة مباغتة تعرف طريقها نحو وجهها لكنها قابلتها بركلة مستديرة جعلته يترنح قليلاً .. وهكذا استمر التمرين.. لكمة تصد لكمة وركلة تتفادى ركلة حتى أحس ريان بأن عنفه يتصاعد فتوقف بأنفاس ناهتة (كفاية)

حفزته تهتف عالياً (ماتوقفش ، جسمك هايبرد)

صك أسنانه يقول بانفعال (هأذيكِ)

ضربته بالقفاز أعلى معدته تقول بغل (ماتقدرش)

تأوه بخفوت يقول وحدقتيه تشتعلان بالغضب شيئاً فشيئاً (ماتستفزينيش)

استمرت في الوثب أمامه قائلة (وريني نفسك)

وبحركة مباغتة ركل ساقها لتقع أرضاً صارخة بألم فقال لها والشرر يتطاير من مقلتيه (قولتلك كفاية) .. خلعت قفازيها ثم رفعت كفيها باستسلام وأشارت له باتجاه كيس الملاكمة المُعلق بمنتصف القاعة قائلة وهي تدلك ساقها (كمل تمرين لوحدك ، وانا هاتفرج عليك من بعيد) .. لم يدري بنفسه إلا وهو يلكم الكيس بقوة شديدة ، وكأنه يضرب حزناً لا يفارقه ، جسده يستدير فاقداً السيطرة على أعصابه ليركل نيران أكلتها وأبعدتها عنه وقبراً يأخذها بين أحضانه ويحول بينه وبينها ، وعمراً يأبى الانتهاء ويبقيه على قيد الحياة ميتاً ، وغدراً فرّقهما بلا شفقة ... بلا أدنى شفقة .. وبعد وقت طويل قضاه في قتال عنيف لآلامه سقط على ركبتيه صارخاً بأعلى وجع في حشا روحه المُعذبة ، صرخة تردد صداها بأعماقه (أيا مريم! ، ياضلعي المكسور عودي إلى القلب الذي خُلقِتِ من نِخابه) .. وانهياره أمامها فرصة واجبة الاقتناص ، فأول أبوابه الموصدة انفتح لتدخله بسهولة.. ركضت نحوه تخلع عنه قفازاته واحتضنته قائلة بتمثيل متقن (اهدى يا ريان)

تشبث بها باكياً (موتها كسرني)

غيرة حارقة اعترتها تحكمت بها ببراعة قائلة (الموت مش نهاية الدنيا ، انت لسه في عز شبابك والحياة قدامك)

انتحب بقهر شديد (أعيش شبابي ازاي بعد ما شبابها راح؟ ، ياريتني كنت مُت معاها)

حاولت إخفاء ضيقها من كلامه قائلة (انت عندك ناس بيحبوك ، مامتك وباباك وكريم .. وأنا) .. أبعدته عنه برفق لتمسح دموعه بجانب كفيها متابعة (حاول تبقى كويس عشانهم و... وعشاني) .. القدر حينما يسخر يقسو .. أي لعنة حلّت عليه ليبكي فوق كتف عدوته؟ .. وهل رأينا يوماً شيطان يواسي ضحيته ويمد يد العون ليخلصها من جهنم التي ألقاها بها؟.. نحن نعلم أن الأفعى تحتضن لتلدغ ، لكن أفعى تداوي لدغتها؟ .. هذا إصدار جديد من فصيلة زواحف نادرة أم ماذا؟ ..

-(نمشي؟) .. قالتها بتأثر زائف فأومأ لها موافقاً دون حديث واستقام لينهض من مكانه متجهاً لغرفة تبديل الملابس، وفي غضون دقائق كان يستقل السيارة بجوارها مجدداً متولية مهمة توصيله إلى منزله ، وابتسامة نصر تعتلي تعابيرها.. أما هو مازال غارقاً في صمته ، يتابع الطريق بأعين تائهة ، والصداع يشقق جدران دماغه ، ولا يرغب سوى بحبة مُهدئ تسحبه لنوم عميق هارباً من واقعه المرير .. اتخذ الطريق وقته المُستحق وتوقفت چيسي أمام الڤيلا قائلة بهدوء (كان يوم جميل ، ياريت نكرره تاني)

رد عليها بامتنان (شكراً على كل حاجة)

أمسكت كفه متصنعة الطيبة (مفيش شكر مابينا، ده واجبي ياريان) .. صمتت لبُرهة ثم قالت بخبث وهي تترجل من السيارة معه (آنطي رودي لو عرفت اني جيب ومشيت من غير ما اسلم عليها هاتزعل)

رمقها بنظرة جانبية قائلاً بامتعاض طفيف (چيسي! ، قولي خالتي زي الناس، أنا مرارتي مش مستحملة الله يسترك) .. تعمدت الضحك بصوت عالي ممسكة بمرفقه عندما لمحت خالتها جالسة بالحديقة ومعالم الصدمة تلون صفحة وجهها بسواد قاتم لرؤية تلك الثعبانة تسير بجواره ، وبحرفية أخفت بغضها لها كي لا يلاحظ توتر الأجواء بينهما وعانقتها قائلة (إزيك ياخالتي) .. ابتعدت عنها تمازح ريان قاصدة إغاظتها (حلو كده؟) .. ثم ضحكت مجدداً توجه حديثها لرويدا (أصل كلمة آنطي مش عاجبة ريان) ..

أجابتها رويدا بابتسامة سخيفة (آه ياحبيبتي ، طول عمره بيتضايق من تقل الدم) ..

ابتلعت چيسي الإهانة ببرود تقول لريان (اطلع ارتاح يا ريان ، ماتتكسفش مني أنا مش غريبة)

خلل أصابعه بين خصلات شعره يقول بتعب (أنا فعلاً صاحي بدري ، وعايز أنام) .. أنهى كلماته مستأذناً بتهذيب وتركهما وسط اندهاش والدته وذهولها من اجتماعه بهذه اللعينة ، انتظرت حتى تأكدت من انصرافه كلياً ثم أمسكت ذراعها تسألها بغضب عارم (انتِ بتعملي ايه مع ريان؟)

تخلصت چيسي من مسكتها قائلة بتحدي (أنا حرة ، أعمل اللي يعجبني)

هدرت بها رويدا بأعصاب منفلتة (بتدبري لأيه تاني يابنت محمود؟)

نفضت چيسي شعرها بخفة قائلة بسخرية (اهدي يا آنطي ليطقلك عرق)

دفعتها رويدا بعصبية مفرطة (وحياة ريان لو مابعدتي عنه لافعصك تحت جزمتي زي الحشرة)

تحدثت چيسي بنظرات مظلمة (ماتقوليش كلام أكبر منك) .. تراجعت لتجلس واضعة ساق فوق الأخرى وأضافت بلهجة مُهددة (تخيلي لما يعرف ان انتِ اللي مخططة لكل حاجة، من أول تحريضك لابوه عشان يسفره ، لحد وجودك معايا فالدار وانا بمسح بكرامة حبيبته الأرض) .. أطلقت ضحكة فجة مستكملة (ده مش بعيد يشك ان انتِ اللي ولعتي فيها عشان تخلصي منها) .. نهضت ببطء مدروس لتقف قبالتها مباشرةً هامسة بالقرب من وجهها بفحيح كريه (ولا تحبي نرجع بالزمن ورا شوية، وأنكل سعد يعرف عملتك السودة في بنت أخته الوحيدة؟) .. فغرت رويدا فاهها بخوف ، لا تصدق أنها تتعرض للتهديد.. ومِمَن؟ .. من ابنة شقيقتها التي لطالما أرادت تزويجها لولدها وحاربته لأجلها.. وقبل أن تتدارك الموقف ، أشعلت چيسي سيجارة لتنفث دخانها في الهواء قائلة (نصيحة مني قبل ما تفتحي صدرك اعرفي الأول صباعك تحت ضرس مين)

تراجعت رويدا ليتهاوى جسدها على المقعد خلفها قائلة بتوسل (انتِ عايزة منه إيه تاني؟.. سيبيه فحاله وكفاية...)

قاطعتها چيسي بوقاحة (ما تتفرجي وانتِ ساكتة ، وماتحشريش مناخيرك فاللي مالكيش فيه) .. سحبت آخر نفس من سيجارتها وألقتها لتدوسها بحذائها قائلة قبل خروجها ومغادرتها بسيارتها (هاتسكتي وتحطي لسانك جوه بوقك ، كان بها وهاسكت أنا كمان وسرك في بير .. هاتتكلمي كتير وهاتصدعينا ، هاهد المعبد على دماغك ودماغ أبويا قبل دماغي) ..... انتصاراً آخر حققته ، وهدفاً جديداً أصابته وهي تدرك جيداً أن تهديدها سيؤتي ثماره وخالتها لن تجرؤ على معارضتها أو فتح فمها مجدداً، إلا إذا أرادت خسارة ريان للأبد ومعه زوجها وحياتها كهدية إضافية فوق البيعة ... ألقت قنبلتها المدوية تاركة رويدا خلفها كطير ذبيح، مُكبل الأرجل ، مقطوع العنق .. صدمتها تخطت كل الحواجز وستضطر التزام السكوت صاغرة فكما قالت الشيطانة الصغيرة (إصبعك تحت ضِرسي) .. والحقيقة أن كفيها بالكامل مغروزين بأنياب وحش جائع سيلتهم من سيقف بطريقه

************

انتهى يوسف من فحص آخر حالة بعدما عاد للعمل في عيادته بكامل طاقته ، وبينما كان يجلس خلف مكتبه يأخذ استراحة قصيرة قبل انصرافه ، دخل عليه صديقه " الطبيب حسام" .. استقبله بابتسامة مُرحبة كعادته ودعاه للجلوس ينظر إليه مترقباً لملامحه التي توضح أنه جاء لطلب شيء ما منه فبادر بالحديث قائلاً (خير ياحسام ، شكلك عايز حاجة)

تنحنح حسام بحرج (الصراحة آه بس خايف تزعل مني)

سأله يوسف باستغراب (وانا من امتى زعلت منك؟!)

تشجع حسام يرد على سؤاله بسؤال آخر (إيه رأيك فيا؟)

أجابه يوسف وتعجبه مستمر في الازدياد (جدع ، ومحترم ، وابن ناس، وعشرة عمر طويلة ، وماشوفتش منك غير كل خير)

ابتلع حسام ريقه قائلاً بتوجس (يعني لو طلبت منك إيد مريم هتوافق؟)

تفاجأ يوسف بطلبه قائلاً بتشوش (مريم؟! ، أختي؟!)

رفع حسام حاجبه متزامناً مع شفته العلوية هاتفاً باستنكار (لا خالتك) .. ثم خبط كفيه ببعضهما مردفاً (انت عندك كام مريم يا يوسف؟!)

ضحك يوسف يرجع رأسه للخلف ضاغطاً بسبابته وإبهامه أعلى أنفه تحديداً مكان مساند نظارته الطبية التي تسبب له صداع يصيبه أحياناً بعدم التركيز وقال (حاجة زي دي لازم هي اللي توافق عليها مش انا)

تحدث حسام بصراحة (أنا معجب بيها من ساعة ماشوفتها)

احترام متبادل بينهما منذ نشأة صداقتهما أثناء دراستهما بكلية الطب لذا لم يتردد يوسف في سؤاله (ومستعد تتحمل مسئولية زوجة في ظروفها؟)

ابتسم حسام يجيبه بنظرة واثقة (انت ناسي اني دكتور عيون يا يوسف؟)

تحفز يوسف لحديثه الذي أعطاه بادرة أمل في شفاء شقيقته قائلاً (يعني إيه؟)

شرح حسام مقصده باستفاضة (أنا رسالة الدكتوراة بتاعتي عن عمليات إعادة الإبصار ، وحالة مريم زي ما حكيت لي محتاجة عملية بنعيد فيها تنشيط مركز الإبصار في المخ ، ودي احتمالاتها كويسة بس للأسف مابتتعملش في مصر لأنها دقيقة جداً ،وبتحتاج إمكانيات عالية عشان تنجح والمريض يرجع يشوف بشكل طبيعي) .. صمت هُنيهة يتابع بسعادة ردود أفعاله المستبشرة خير وأضاف (لو موافق ، خليها تجيلي نعمل فحوصات القرنية والتحاليل اللازمة وبإذن الله ربنا يكتب لها الشفا)

انفرجت أسارير يوسف بشدة قائلاً وهو ينهض بحماس (هانزل افاتحها فالموضوع حالاً)

تبعه حسام متسائلاً (والجواز؟)

تناول يوسف متعلقاته الشخصية قائلاً (هي اللي هاتقرر لما تعمل العملية وتقوم بالسلامة)

أومأ حسام موافقاً بتفهم قائلاً بمشاعر صادقة (وانا مستعد استناها العمر كله بس تخف وتبقى كويسة)

احتضنه يوسف قائلاً بامتنان (أنا مش عارف أشكرك ازاي)

شدد حسام عناقه قائلاً بمزاح (لو عايز تشكرني اقنعها بيا وحاول تبقى خال العيال)

ابتعد عنه يوسف ضاحكاً على دعابته يقول (لا ياحبيبي ، أنا أخ ديموقراطي ، واللي هاتقول عليه مريم هاعمله بدون نقاش)

شاركه حسام الضحك (انت أخ ديموقراطي بس صاحب ندل يادكتور)

تأهب يوسف للانصراف قائلاً (ابذل مجهود واقنعها بيك كعريس ، ولو وافقت أكيد مش هلاقي أحسن منك استأمنه عليها) .. خبطه بخفة على كتفه قبل خروجه تماماً مستكملاً بتحذير (ابذل مجهود كلابي كده على خفيف ، عشان ما اقطعش رقبتك واخرجك من الدنيا قبل ماتدخلها ، أنا أخ ديموقراطي آه بس راجل أوي) ..

دلك حسام مكان خبطته قائلاً بخفة ظله اللطيفة (انت ديموقراطي مش جدع على فكرة) ..

عاد إليه مجدداً يقول بنظرات ضيقة (عيب لما تبقى دكتور كبير كده وتبرطم بعد ما الناس تديك ضهرها) ...

قذفه حسام بميدالية مفاتيحه لكنه تفاداها قائلاً بحنق (ياعم امشي ، جاتك نيلة انت واللي يفكر يناسبك)

وعلى الطرف الموازي كانت مريم تجلس وحيدة بهدوءها المُعتاد على أريكة متموضعة في صالة استقبال المنزل ، لاشيء يملأ رأسها إلا الرياح العاتية التي رمتها بطول ذراعها بعيداً عن روحها ، وقلبها المسافر غاضباً عبر المسافات بينهما كنجمة تائهة في مدار عشقهما المجروح يسألها لماذا اختارها هي تحديداً دوناً عن جميع النساء ليقتل أحلامها فيه؟ ، ألم تكن جديرة به يوم أنجبته من ظُلمة عينيها نوراً ليضئ بصيرتها؟ .. قاطع خُلوتها صوت انفتاح الباب يتبعه دخول يوسف عليها مُلقياً التحية بنبرته المُطمئنة ، ابتسمت بتعجب فكيف لإنسان أن يحمل بين طبقات صوته كل أمان الدنيا هكذا وكأنه خُلِق من السلام .. ردت تحيته بعذوبة ، فاقترب منها ليجلس بجوارها ثم أحاطها بذراعيه دامغاً خصلاتها بقبلة حانية قائلاً (الحلو قاعد لوحده ليه؟)

أجابته مبتسمة (ريهام نزلت مع أميرة يشتروا شوية حاجات عشان الفرح)

تنهد مُشفقاً عليها ، يغص بقلبه رؤية ملاكه البرئ ينقصه شئ ، ولو كان الأمر بيده لخلع عينيه وأعطاهما لها لتبصر بهما ، ضم رأسها لصدره أكثر قائلاً بفطرة أخوية تحولت بداخله لأبوة حقيقية (عارفة ؟! ، لما بشوفك قاعدة منورة زي الحورية ، بحس إن الدنيا لسه بخير)

أطبقت جفنيها تقول له بطريقة لطيفة (ده بس عشان انت أخويا شايفني حلوة ، حاجة كده شبه القرد في عين أمه غزال)

داعب شعرها بكفه يضحك قائلاً (قرد؟! ، ده انت قمر القمامير ياحبيب قلب أخوك) .. صمت لبرهة يستجمع رباطة جأشه ليفاتحها في أمر عملية إعادة بصرها ثم أردف (مش آن الأوان عشان تفتحي عيونك عالدنيا يامريم؟)

سألته بعدم استيعاب (يعني إيه؟، مش فاهمة)

أبعدها عن حضنه قليلاً يقول متابعاً ردود أفعالها (يعني ست البنات مطلوب منها شوية تحاليل وفحوصات للقرنية ، عشان هنسافر تعملي العملية)

قالت مريم بتوتر (أنا عمري مافكرت فالموضوع ده خالص)

ربت على وجنتها يقول (لأن قلبك راضي ومؤمنة بقضاء ربنا ، بس سبحانه زي ماخلق الداء ،خلق معاه الدواء ، وحالتك نسبة الشفا واحتمال نجاح العملية فيها كبيرة)

فغرت شفتيها تقول بتلعثم طفيف (انت بتتكلم جد؟)

احتوى وجهها بين راحتيه قائلاً (جد ياحبيبتي والله)

لم تتمالك دموعها فبكت قائلة بتأثر ممزوج بالفرحة (انا مش عارفة هارد جمايلك دي كلها إزاي ، لو بابا عايش ما كانش عمل أكتر من اللي بتعمله عشاني)

احتضنها مجدداً يقول بعتاب (جمايل ايه يابت ياعبيطة انتِ؟! ، هو فيه مابينا الكلام الفارغ ده؟) .. مازحها ليخفف حدة توترها قائلاً (وبعدين أنا مكان بابا فعلاً ، والعرسان بيخطبوكِ مني ياهانم) ..ضحكت مريم مُعتقدة أن مزحته وهمية لا تعلم أنها تُخطب منه بالفعل والعريس مُتيم بها ويقف رهن إشارتها .. تحدث يوسف بجدية طبيب وبحرص أخ على سلامة أخته (المهم، احنا هانبدء الإجراءات من بكره ، مش عايزك تخافي وتسلمي أمرك لله) ..

تنهدت هامسة بيقين عظيم (ونعم بالله ، سلمت أمري ليك يارب)

****************

أصوات كثيرة ، متداخلة تصل لآذانه لا يميز منها إلا صوتها ، تناديه بلهفة عاشقة كتبها شاعر من العصور الوسطى كبيتٍ مضئ في قصيدته ، تلفت يبحث عنها هُنا وهُناك ، ولم يجد إلا فراشة تحوم فوق رأسه ، وفجأة ومن العدم اشتعلت النيران حوله لتطال قميصه فخلعه سريعاً ، وركض مذعوراً مع الفراشة حتى وصلا لشاطئ البحر، لمحها تجلس مُتلاعبة بالرمال ، ناداها مِلأ جوفه من بعيد ، فانتبهت له فاتحة ذراعيها لتستقبله استقبال اليُتم واللهفة ، دفن وجهه في حنايا عنقها النقي مثل الثلج، يستنشق رائحتها هامساً إسمها بشوق ثم قال (وحشتيني)

ردت عليه بصوت كشدو العصافير (وانت كمان)

ضمها إليه يعتصر جسدها بين ذراعيه يسألها بلوم (سبتيني ليه ياروحي؟)

أجابته تختبئ في صدره العاري من مخاوفها (هم مش عايزينا نكون مع بعض)

تأوه مغمضاً عينيه (قالوا إنك مُتِّ)

ردت عليه وأنفاسها تلمس عنقه (كدابين ،أنا مسافرة سفر طويل)

أسند جبينه على جبينها يتوسلها باكياً (خديني معاكِ ، مش قادر اعيش من غيرك يامريم)

مسحت دموعه بأطراف أناملها قائلة بحزن (على عيني ياحبيب قلب مريم) .. ثم احتوت وجهه المليح بين راحتيها الرقيقتين تغمر شفتيه بقبلة هزّت كيانه، وعصفت كالإعصار في وتر روحه ، وما كان منه إلا ردها بأخرى يودعها حسراته وصرخات يأسه .. قبلة أشعلت قش عمره برغبة اعتصرت رئتيه لينزف اشتهائه لها مع الزفير ، كان يشدُّ أضلعها إلى حضنه ، لينام بها ويرش وديان صدرها بهمهمات تُعزف بموسيقى أنين افتراقهما الحزين .. ظل يقبلها وكأن القبلات ستنتهي وتغادر كوكب الأرض ، ويحتجز أنفاسها لوقت لم يحسبه حتى اختنق بها ، فابتعد عنها شاهقاً بعينين متسعتين بنشوة حُب يهفو للإكتمال.. لكنها صرخت بفزع (حاسب يا ريان) وإذا بأفعى سوداء ، ضخمة تزحف نحو جسده حتى وصلت لمؤخرة عنقه وهجمت عليه تغرز أنيابها السامة في لحم كتفه .. هجمة عنيفة استيقظ على أثرها متألماً بشدة .. أشعل زر الإنارة الجانبي بجوار فراشه بيد ترتجف خوفاً ، يحاول استيعاب أن ما رآه حلماً .. لأول مرة تزوره في منامه منذ فقدها .. زيارة أوجعته بقدر حلاوتها وذكرته بأنها لم تعد موجودة واقعاً .. نهض بتثاقل يشعر بحاجة قوية للهواء ففتح الشرفة ، ووجهها المفقود يتجلى على صفحة السماء أمامه بكل بهاء الأحلام المستحيلة ، تنهد ينطق حروف إسمها بشوق كبير أحرق لسانه فخرج مُلتاعاً (يامريم) .. انسحب للداخل بساقين كالهُلام ليجلس خلف مكتبه ثم فتح الدرج وأخرج سوارها يرفعه عند شفتيه يقبله مطبقاً جفنيه مهمهماً بعذاب (ياوجع قلبي عليكِ يانور عيني ، وجع قلبي عليكِ مابيخلصش ياروح ريان) ..

************

الوقت يمضي سريعاً ، وقطار الأيام ينهب المسافات بين بدء الفاجعة والتأقلم مع الفراق.. تأقلم فقط .. مجرد تأقلم يُسكن الأوجاع ولا يشفيها ، وصاحب مقولة "البعيد عن العين ، بعيد عن القلب " أكبر كاذب على مر التاريخ ، فالقلب يحمل حبيبه أينما ارتحل ، وهي تجسيداً حياً لذلك .. تحمله كله بداخلها ولا تفكر إلا فيه ، رغم انشغالها بفحوصاتها الطبية وخوفها من الخضوع لجراحة إعادة الإبصار ، وروحها الجريحة تأن بحقيقة تنهشها (ما فائدة النظر إذا لم أراك يانظري) .. واليوم أنهى يوسف إجراءات السفر بعدما أثبتت التحاليل والفحوصات سلامة قرنيتها ، وعماها نتيجة تلقيها ضربة قوية على رأسها تسببت بإحداث قطع في أعصاب العينين وفصلها من الجزء المسئول عن الرؤية بالدماغ ، وعملية إعادة توصيل تلك الأعصاب مجدداً ، دقيقة وخطيرة وستستغرق ساعات طويلة داخل غرفة العمليات ... وأخيراً تحدد موعد الطائرة المتجهة نحو مدينة بريستول بإنجلترا ، حيث تقع واحدة من أكبر وأشهر المستشفيات المتخصصة في جراحات العيون حول العالم ، وبالفعل غادرت مريم مصر برفقة أخيها ، وريهام ، وحسام بصفته الطبيب المعالج لحالتها ، أما أميرة فاضطرت للبقاء بجوار والدتها نظراً لمرضها المفاجئ لكن قلبها سافر معهم ولسانها يجري بالدعاء لتعود سالمة، معافاة ، ويصبح الفرح فرحين ، فرح بزواجها من يوسف ، وفرح بنجاح العملية .. إسبوع كامل قضته بالمستشفي تتلقى الرعاية الكاملة والتأهيل النفسي والصحي تحت إشراف طاقم طبي متميز .. وبعد طول انتظار حبس الأنفاس قرر الطبيب الأجنبي إجراء الجراحة صبيحة يوم الجمعة في تمام التاسعة بتوقيت جرينتش .. استأذنت مريم من الممرضة التي دخلت عليها لتجهزها أن تمنحها دقائق قليلة لتصلي ..ساعدتها ريهام على الوضوء ، وفردت لها سجادة الصلاة لتقف بين يدي الرحمن مستيقظة قبل تخديرها ، رفعت كفيها تدعو بيقين صادق (اللهم إني أمتك، ابْنة عبدك، ابنة أمتك، نَاصيتي بيدك، ماضٍ فِيَّ حكمك، عدلٌ فِيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أَنْ تخرجني من حلقة الضيق إلى متسع رحمتك ، واغفر لي ذنوبي إذا قُبِضَت روحي ، واجعل هذا البلاء في ميزان حسناتي) .. أنهت مناجاتها ماسحة وجهها المُستنير براحتيها ثم أشارت لصديقتها بالاقتراب.. أطاعتها ريهام وجلست بجوارها تمسك بكفها فابتسمت برضا توصيها (خدي بالك من نفسك، ولو جرالي حاجة خليكِ مع يوسف)

احتضنتها ريهام قائلة بخوف (بعد الشر عنك، انتِ هاتقومي بالسلامة و...)

قاطعتها مريم تمسح على ظهرها بحنو بالغ (أنا هاكون بين أيادي ربنا كمان دقايق ، اسمعيني يمكن تكون آخر مرة نتكلم فيها مع بعض) .. أبتعدت عنها برفق مستكملة وصيتها (إذا ماخرجتش من العملية وربنا استرد أمانته ، روحي لريان واحكي له اللي حصل ، وقوليله إني مسامحاه ، حتى لو كان ظالمني) .. استطردت محاولة الثبات أمام رفيقة العمر الحزين (وزوري ماما وسيلة ،وعرفيها انها وحشتني ، وكان نفسي افضل جنبها)

انهارت ريهام قائلة بنحيب متقطع (كفاية يامريم عشان خاطري ، انا اللي هموت من قلقي وخوفي عليكِ)

مدت مريم كفها تربت على وجنتها المُبللة قائلة بابتسامة جميلة (عايزة اقولك حاجة أخيرة، اتبرعي بفلوس ورثي كلها ، عشان الدار تتبني تاني ، وخلي ريان اللي يعمل كده ، هو مهندس شاطر) .. أنهت كلماتها بهدوء تعانقها عناقاً طويلاً وكأنها تشبع من حضنها.. ثم قاطعهما دخول يوسف عليهما ، ليتولى تحضيرها للجراحة بنفسه بعدما أخبر طاقم التمريض أنه طبيب .. عقم يديه بالكحول أولاً وبدقة متناهية وخفة يد مُتمرسة غرز الكانيولا في وريدها.. ثم ساعدها لتخلع ملابسها وترتدي ثوب العمليات الأزرق القصير، ذو الفتحة الطولية من الخلف وأحكم رباطه جيداً كي لاتتكشّف ، لملم شعرها الطويل تحت غطاء الرأس وغمرها بحُضن دافئ قائلاً بصوت مرتجف (استودعك الله يامريم)

طوقت رقبته بذراعيها تضم نفسها إليه أكثر قائلة (أنا ماعرفتكش غير من وقت قصير ، بس ربنا يعلم بحبك قد ايه ،ولو مُت هاقوله إنك أحسن أخ فالدنيا كلها)

طبع قبلة عميقة فوق جبينها يمازحها ليطمئنها رغم خوفه عليها (هاتقوم بالسلامة ياحبيب قلب أخوك ، وهاتلبسني بدلة فرحي بإيدك الحلوة) .. أبعدها عنه برفق ينظر لساعة معصمه قائلاً (يلا؟) .. أومأت إيجاباً دون حديث وتحرّكت معه لتتسلمها الممرضة وتأخذها إلى غرفة العمليات ، وبعناية فائقة أسندتها لتستلقي على السرير النقّال استعداداً للتخدير الكلي ، بغضون ثواني كانت غائبة عن الوعي تماماً وآخر كلامها اللهم وكلتك أمري والشهادتين

***********

مثل كوة جحيم مفتوحة على مصراعيها ، تهب منها ريحٌ حزينة بقدر اشتعالها تهزُّ غصنه الأخضر لتحرقه وتحيله سواداً ، هكذا أصبح.. لا يهدء ، ولا ينام إلا تحت تأثير عقاقير تخمد نيران وجعه لساعات قليلة، والوقت يمرّ ثقيلاً .. كثيف العواصف ويسحبه نحو هاوية الظلام ، وتكررت لقاءاته مع چيسي حتى اعتاد رؤيتها يومياً .. غير مدرك لسلوكه الذي بدء يتغير نتيجة ارتياده لنادي الملاكمة ، تحوّل من شخص هادئ لآخر عنيف ، تتملكه رغبة جامحة في تحطيم مايجده أمامه إذا غضب .. إخفاق جديد له ، وانتصار عظيم لها..(چيسي : 1، ريان : 0 ) .. وأثناء عودتهما معاً بسيارته ، طلبت منه التوقف بمكان هادئ ، خالي من البشر نسبياً، متعللة بأن الجو رائع وتود الاستمتاع ببدايات فصل الشتاء ، امتثل لرغبتها باستسلام وأرجع ظهر كرسيه للخلف مُطبق الجفنين، يغطي جبهته بذراع ويسند الأخرى على إطار النافذة المفتوحة .. جلسة تبدو مسترخية لمن ينظر له دون علم بحاله ، ولا أحد يدرك تعبه وإنهاكه في عراكه مع نفسه القانطة وطيف مريم الذي يشاغل خياله .. متعب إلى حد عدم القدرة على رفع يده وإبعاد أفعى سامة تحاول خرق لحمه بأنيابها .. بينما اعتدلت چيسي في جلستها تتأمل هيئته بأعين قنّاصة للفرص ، اقتربت منه حتى تقلصت المسافة بين جسديهما كثيراً ثم أسندت رأسها على صدره وأناملها تتسلل بخفة كاللصوص لتفك أزرار قميصه .. لم يعترض تلك المرة ، ولم يزجرها كما فعل من قبل ، فتحول توجسها لجرأة جعلتها تلتقط شفتيه بقبلة قاتلة .. وللعجب أنه تركها تمتص بمناشيرها ما يطيب لها من دمه المتخثر  .. ولتكمل خطتها الحقيرة جذبته ليعتليها كي توهمه بأنه المُبادر بإشعال الحرائق، وهي البريئة المُستسلمة .. وتحت تأثير المُهدئ تتلاعب صورة مريم بعقله ، فتحرّكت شفتيه يبادلها قبلتها بلا وعي أن التي يطأها أسفل جسده بفعل مُحرّم ليست مريم ..  حرّر أنفاسها المُتهدجة يهمس بزفرة مُحترقة (وحشتيني) ، فرحت للحظة لكن سرعان ما خبت فرحتها عندما قال (سبتيني ليه يامريم ،انا مش قادر اعيش من غيرك) .. لم تعطه مجالاً للاسترسال واقتحمت ثغره بعنف شديد وكأنها تعاقبه لذكره إسم غريمتها ، ولمساتها المُحترفة تجلد كل إنشٍ من صدره.. متعمدة إيلامه وغرز أسنانها في شفتيه ، وهذا الألم أيقظ عقله ليحدثه (توقف يا أحمق! ، أنت لم تلمس مريم قبلاً إلا في حلم وحيد ، مهلًا ياريان أنت لا تحلم .. وهذه ليست شفتي مريم .... وهذه ليست مريم.........مريم ماتت)..  وقبل عبوره لعتباتها المُدنسة أصدر أنين مكتوم لاستمرارها في عض فمه ثم توقف فجأة يبعد يدها عنه متراجعاً نحو كرسيه بذعر ، وببراعة وتمثيل محبوك نظرت له راسمة الصدمة على تعابيرها .. تتحسس ملابسها وتعدل وضعية جلوسها قائلة مُدعية البكاء (انت ازاي تسمح لنفسك تعمل كده؟) .. حاول الرد لكن صوته هرب منه فضربته بقبضتها على صدره العاري تصرخ (روحني يا ريان)

تأوه بخفوت قائلاً (أنا آسف ، ماكنتش ف وعيي)

غطت وجهها بكفيها مستمرة في إظهار موهبتها التمثيلية (قد كده شايفني رخيصة؟) .. وتابعت بنحيب زائف (ده انت الوحيد اللي وثقت فيه) .. وهم كبير نسجت خيوطه حول معصميه وقيدته به لتسحبه بكل سهولة نحو عالمها المسموم ، وتقنعه أنه صار مُدنساً بخطيئة لم يرتكبها ولتكمل الخطة وتضخم الذنب بعينيه فتحت باب السيارة وترجلت تطالعه بمقلتين ممتلئتين بدموع زائفة (امشي، مش عايزة أشوف وشك تاني) .. استدارت لتبتعد عن مرمى بصره بالقدر الذي سمح لها بالضحك عالياً .. ضحكت حتى أدمعت عينيها، وشعور بسعادة مريضة يكتنفها من رأسها لإخمص قدميها .. والأبجدية تنحني خجلاً من وصف عطب روحها التي تحوّلت بفرط عُهرها إلى صخرة تنام عليها عارية مع الشيطان .. أخرجت هاتفها تتصل بدينا لتشاركها آخر الإنجازات وما أن فتحت الأخيرة الخط حتى هتفت ضاحكة بصخب (الحمار بلع الطُعم تاني) .. ولأنها مكالمة غاية الأهمية لم تغفل الصديقة عن تسجيلها بحرص لتصبح النتيجة (دينا : 10، چيسي : 2، ريان : 0)

**************

Continue Reading

You'll Also Like

975K 33.4K 40
جميع الحقوق محفوظة للكاتبة
55.9K 1.7K 30
رواية نور بقلم مروة جمال (مكتملة)
1.7K 898 12
هى غامضه جداا والغموض كتب حرف من معانى اسمها «الماجك» وهو عشقها من اول نظرة القاها القدر فى طريقه لاكنه لايتذكر حياته السابقه هل سوف يتذكر انه صقر ا...
58.6K 2.3K 42
بدأنا الرحلة في الماضي والأن سنكملها، ستكون سعيدة أم حزينة لا أعلم ولكن كل ما أعلمه أنها مثالية، ليس لها شبيه، هي... لقد مللت فلتمضي قدمًا وتراها بنف...