عيون الريان (مكتملة)

By nellyelattar

874K 18.3K 1.6K

كانت في حبها ملاكاً وأنا لم أكن افلاطوناً كي لا أحلم بها بين ذراعيَّ More

المقدمة والفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
تنويه
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
طلب خاص
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
"جزء مالوش أي تلاتين لازمة"
الفصل السادس والعشرين
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الواحد والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الغلاف وتواقيع الأبطال
🧡حبايبي متابعين التعديل🧡
إعلان روايتي الورقية الأولى
اقتباس من رواية وريث كايميرا
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
سالخير عليكم 🤸‍♀️😅
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
🙈عين الهِرّ🙈
الفصل الواحد والأربعون
اعتذار
🙂
الفصل الأخير
إعلان مهم ❤️
الخاتمة
شكر وامتنان ❤️
👋
💥حفلة توقيع وريث كايميرا💥
لينك الـ pdf ❤️
❤️
عيدكم مبارك ❤️
خادم الوشم
💔
تنويه مهم جداً

الفصل الرابع عشر

18.5K 387 25
By nellyelattar

أبلِغ عَزيزاً في ثنايا القلبِ مَنزله
أني وإن كُنتُ لا ألقاهُ ألقاهُ
وإن طرفي موصولٌ برؤيتهِ
وإن تباعد عَن سُكناي سُكناهُ
ياليته يعلمُ أني لستُ أذكرهُ
وكيف اذكرهُ إذ لستُ أنساهُ
يامَن توهم أني لستُ أذكرهُ
واللهُ يعلم أني لستُ أنساهُ
إن غابَ عني فالروحُ مَسكنهُ
مَن يسكنُ الروح كيف القلبُ ينساهُ؟

(أبو الطيب المتنبي)

****************

حاول الرجل البحث في ذاكرته المنسية عن إسم صديقه القديم.. ظل صامتاً لبضع دقائق يعصر مخه ليجد شيئاً يفيد به هذا الشاب الذي أشفق على توسلاته ثم تحدث وكأنه تذكر شيئاً (أيوه افتكرت) .. انتبه له يوسف بكل جوارحه كغريق يتمسك بقشة نجاته فتابع هو بنظرات زائغة من اشتداد المرض عليه (إسمه بالكامل جابر محفوظ المسيري .. متهيألي كان معاه ولد إسمه محروس وبنت إسمها فريال .. زمانهم كبروا دلوقتي) صمت هُنيهة يستجمع كل ما أسعفه عقله على تذكره من معلومات ثم أضاف (من قرية صغيرة في أسيوط إسمها نجع خضر)

أمسك يوسف بكفه المجعد يشكره بأسارير منفرجة (ربنا يشفيك ويبارك فعمرك ياحاج .. أنا بجد مش عارف أشكرك إزاي)

رد عليه الرجل متسائلاً بفضول (العفو بس انت بتدور على جابر ليه بعد العمر ده كله؟)

أجابه يوسف وهو ينهض من مقعده (عنده أمانة تخصني وجه الوقت اللي استردها منه)

دعا له الرجل دعوة صادقة لِما استشعره من أسى وحزن يرتسم فوق ملامحه (ربنا يبلغك مرادك ويعترك فيه إن شاء الله)

ابتسم يوسف قائلاً بتمني (يارب).. ثم هَمَّ بالإنصراف مع أميرة معتذراً عن مجيئه المفاجئ (عن إذن حضرتك وآسفين عالإزعاج)

بادله الرجل ابتسامته بأخرى مُرَحِبة (خطوة عزيزة يابني .. آنستونا وشرفتونا)

خرج يوسف من منزل الرجل البسيط بوميض أمل في أن يجد ضالته المفقودة.. يشتهي صدقاً في رحلة بحثه التي أخذت منحنى آخر بسهمٍ يؤشر نحو صعيد مصر ليخفف عنه وطأة هذا العمر بينما كانت تسير أميرة بجواره تخبئ عِلَّة الحزن في ملامحها المُستبشرة بالخير .. وجهه الذي يعتقل ألم الفقدان داخل إطار صورته المُنهكة يحرِّض الدمع بمقلتيها لكنها عاهدت نفسها ألا تتركه يحارب أشباح الخذلان بمفرده وستكون له كتفاً يسند عليه آثار الذكرى الموجعة حتى يعود معافى تمامًا مما يعانيه

************

الحب معجزة إلهية لم يستطع أحد تفسير كُنهها منذ خطيئة آدم الأولى وإقصائه من الجنة إلى الأرض مفتوناً بتفاحة.. حتى حصوله على الغفران لم يُعِده لجنته فأنشأ الله به خلائق لكل منهم معجزته الخاصة.. وكان هو مُصمّما على أنْ يظفر بذات قلبه مهما كلفته الدنيا من معارك .. سيركض بشبابه وعطش عمره نحوها شغفًا ليؤسَّس في خافقها وطنًا يتسع لجنونه.. وبكامل لهفته سيؤرخ غدهما القادم بضوء السعادة ويصير للفرح عائلة وقصيدة يتلوها من بعدهما العاشقين ..استيقظ ريان مُبكرا كعادته وجميع فكره مع مريمته بطلة أحلامه الوردية وابتسامة هادئة تزين مُحيَّاه المليح.. نهض من فراشه بنشاط لينهي روتينه الصباحي ويذهب إلى الشركة حتى ينجز أعماله المتراكمة وأثناء هبوطه الدرج قابلته نجاة بابتسامتها البشوشة قائلة (ابن حلال كنت طالعة أصحيك)

بادلها ابتسامتها بأخرى صافية (صباح الخير يانوجا)

ردت عليه بنبرة حانية (صباحك مسكر زي وشك وابتسامتك يا نور عيني)

داعبها بخفته المعهودة قائلاً (انتِ ياست انتِ مش هاتبطلي دلع فيا؟)

عبست نجاة قائلة بطريقة طفولية (انت هاتكبر عليا ولا ايه ياواد انت؟ .. انا ادلعك براحتي واهننك واهشكك كمان)

مازحها بلطف مُحبب إليها (تهشكيني؟..انتِ مُدركة إن اللي بتقوليه ده ضد قوانين الطبيعة لأني أطول منك أو زي ماكريم بيقول بقيت شحط كبير قد الدنيا وعمودك الفقري مش هايستحمل؟)..

خبطته في كتفه قائلة بغيظ (قصدك إني كبرت ياولا ومش هاعرف اشيلك؟.. نسيت زمان لما كنت بتتشعلق فرقبتي زي القرد؟)

انفجر ضاحكاً على حديثها الطريف أمسك كفها يقبل ظاهره قائلاً بامتنان (طول عمرك شايلاني ياحبيبتي.. ربنا يبارك في عمرك ويقدرني وأرد جمايلك اللي مغرقاني من صغري)

ربتت على وجنته قائلة بمحبة صادقة (ويفرحني بيك ياضنايا واشوف ولادك بيتنططوا حواليا)

غمز لها قائلاً بمرح (قريب إن شاء الله)

ابتهجت كثيراً قائلة بسعادة (بجد؟.. مين؟.. حد اعرفه؟....) وقبل أن تكمل سيل تساؤلاتها قاطعها مغيراً الموضوع (هاتعرفي في الوقت المناسب.. المهم دلوقتي بابا لسه نايم؟)

زمت شفتيها قائلة (لا صحي وفطر وراح عالشركة من بدري)

تعجب ريان قائلاً (غريبة أوي .. بابا مابيروحش الشركة قبلي)

تحدثت نجاة بحيرة (مش عارفة بس شكله كان متضايق شوية انهاردة)

ازداد ارتيابه من الأمر قائلاً وهو يتابع خروجه من الڤيلا (ممكن يكون زعلان مني عشان ماروحتش الشغل امبارح.. عامةً أنا رايح له أشوف في إيه)

لحقت به تهتف من خلفه (استنى افطر الأول)

لوح لها مودعاً ثم استقل سيارته قائلاً (مفيش وقت) .. انطلق مُسرعاً قدر استطاعته والحيرة تمتزج بالقلق داخله فوالده غير مُعتاد على الذهاب إلى الشركة قبله إلا إذا كان غاضباً منه أو هناك شئ هام يستوجب حضوره مبكراً .. استغرق الطريق وقته المُستحق وفي غضون دقائق كان يستعلم من السكرتيرة عنه فأخبرته أنه موجود منذ قرابة الساعتين وينتظره في مكتبه .. دخل عليه ليعرف ما الأمر ويرتاح باله وجده يجلس مكفهر الملامح بل تجاهل النظر إليه مُدعياً الإنشغال ببعض الأوراق أمامه ..أدرك ريان أنه غاضب منه لكنه لا يعلم السبب فبادر بالحديث مُترقباً (السكرتيرة بلغتني إن حضرتك عايزني..خير؟)

سأله سعد بنبرة يشوبها الاستياء (إنت كنت فين من أول إمبارح؟)

رد عليه ريان بتوتر (كنت مشغول شوية....)

قاطعه بصرامة (إزاي دار وسيلة تعمل حفلة إفتتاح وانا ماعنديش علم بيها؟)

شعر ريان بالاختناق فهو غير معتاد على تلك الطريقة في الحديث من والده تحديداً قائلاً بثبات زائف (أنا روحت بصفتي المهندس المُشرف عالإصلاحات وماعرفش إن الموضوع هايزعلك مني كده)

تحدث سعد بعصبية (يعني ايه شركتي تبقى هي المُتكفلة بالشغل ده كله وتروح الإفتتاح من غير علمي وكمان أعرف من حد غيرك ..انت اتعمدت تلغيني)

أخفض ريان أنظاره قائلا بتهذيب (أبداً والله أنا ماقصدتش...)

لم يعطه فرصة للتبرير أو الدفاع عن نفسه قائلاً بلهجة آمرة (اتفضل على مكتبك وتاني مرة ماتتصرفش من نفسك.. مفهوم؟)

_(مفهوم) .. قالها ريان بطاعة مُقدراً أن من يوجه له اللوم في تلك اللحظة رب عمله قبل أن يكون والده ثم انصرف إلى مكتبه وهو يشعر بالدنيا تطبق على أنفاسه

***************

في النادي /

لم يهدأ الوضع عند چيسي بالعكس رغبتها المتأججة بالإنتقام ازدادت اشتعالاً بشكل مرعب والحقد الذي كانت تمارسه في الخفاء صار شغلها الشاغل .. تنفث دخان غضبها مع أنفاس سجائرها وتغرق داخل كؤوس الرذيلة كنبّاش القبور حتى أصبحت مثل مومياء ملفوفة بقماش ردئ من العُهر .. وبينما كانت تجلس بملامح توحي بالشر برفقة صديقتها المُقربة (دينا) تلك الفتاة التي لا تختلف عنها كثيراً .. تفكر في طريقة تمكنها من الوصول لحبيبة ريان المزعومة وبعد تخلي خالتها ونفض يدها منها أصبح عليها الإستعانة بطرف جديد .. أقوى وأقرب..

_ (أنا مش فاهمة انتِ عايزانا نعمل إيه بالظبط).. قالتها دينا وهي ترتشف بعضاً من كوب العصير خاصتها ..

ردت عليها چيسي بنبرة مغلولة (أعرف مين البت اللي بيحبها ريان ورفضني عشانها)

سألتها دينا بتعابير مستنكرة (يابنتي كبري دماغك وفكك من ريان ده خالص.. لا هو شكلك ولا لايق عليكِ أصلاً وبعدين هيثم لو عرف مش هايسكت)

تحدثت چيسي بحقد دفين (يتحرق هيثم عاليوم اللي عرفته فيه.. الزفت ده لازم يدفع تمن عملته غالي.. وغالي أوي كمان.. چيسي الصرّاف مابتسيبش حقها يادينا)

زفرت دينا بنفاذ صبر قائلة (مجهزة خطة ولا لسه هانفكر؟)

أجابتها چيسي مبتسمة بمكر (قبل الخطة لازم أضمن الحماية)

_ (وبعدين؟)

= (أول ما اوصل لطرف الخيط هاحرقه عشان يقول حقي برقبتي)

_ (القرصة هاتطلع بدم ياچيسي؟)

= (مش هاسمي عليهم)... ثم نهضت تجمع متعلقاتها الشخصية لتستعد للمغادرة أو بالمعنى الأصح لتذهب لطلب المساعدة متابعة بطريقة مريبة (لو وصلتي لأي جديد بلغيني).. أنهت كلماتها واضعة نظارتها السوداء فوق عينيها وانصرفت تدق الأرض بنعليها متجهة نحو أفضل شخص سيستطيع مؤازرتها في نواياها الشيطانية فلابد من الاختباء خلف حصن منيع تعلم جيداً أنه خير معين على ماتنتوي فعله .. وفي غضون دقائق كانت تفتح عليه باب مكتبه دون استئذان لتجده في وضع مُخل بالآداب مع سكرتيرته الخاصة.. لم تكترث ولم تُعِر الأمر أدنى اهتمام .. فهي لا تتذكر عدد المرات التي رأته فيها يمارس أفعاله المشينة .. انتفضت السكرتيرة من مكانها بذعر تُعدل من وضعية ملابسها الفاضحة ثم اندفعت إلى الخارج بخطوات مُسرعة بينما وقفت هي ترمقه باستهزاء قائلة (ذوقك بقى local أوي يا بابي)

رد عليها محمود بتلعثم محاولاً تبرير الموقف المخزي (چيسي حبيبتي .. ياريت اللي شوفتيه يفضل سر مابينا)

أطلقت ضحكة ساخرة تقول (كل حاجة ولها تمن)

تنحنح محمود قائلاً بابتسامة مرتعشة (طلباتك أوامر ياحبيبة بابي)

جلست چيسي على الكرسي المقابل للمكتب واضعة ساق فوق الأخرى قائلة (عايزاك تساعدني)

سألها محمود بعدم فهم ( أساعدك فإيه؟)

_(ريان)

=(ماله سي زفت؟)

_(البيه بيحب وكل اللي عمله معايا ده بسبب واحدة تانية فحياته)

=(انتِ عرفتِ هي مين؟)

_(لسه.. بس هاعرف قريب)

_(إعرفيها الأول وبعدين نتفق).. قالها محمود بنبرة شيطانية فردت عليه متسائلة ونيران الحقد تأكل أحشائها (هاتحميني؟)

رفع حاجباً واثقاً ثم قال وهو يربت فوق كفها بكفه (بنت محمود الصرّاف دايماً في أمان .. مفيش حد فالدنيا يقدر يقف قصادك أو يمِّس شعرة منك)

تنفست چيسي بارتياح ونهضت لتغادر قائلة (كنت عارفة إنك هاتقف معايا).. أضافت بنبرة ذات مغزى (ميرسي يا بابي .. وماتقلقش مش هاقول لمامي عاللي شوفته انهارده .. هي أصلاً تستاهل تخونها) .. أنهت كلماتها بنظرات شامتة يشوبها حزن خفي .. كابدت على مداراته حتى رصفته بينها وبين المسافات التي نحتت منها مثالاً لفتات قلب ضَلّ وتاه في دروب سوداء مهّدها أقرب الأقربين إليها بأكفهم .. ناثرين أشواك الوحشة بهيئة ريش ناعم ومُخمل تحت أقدامها ...

**************

في الشركة /

تعمد ريان الانتهاء من أعماله دون الإحتكاك بوالده حتى يهدأ قليلاً وبرغم ضيقه مما حدث إلا أن قلبه كان يركض في مكان آخر .. ينقب عن لمعان لؤلؤته المكنونة داخل صيرورتها.. وعقله يلهث بتفكيره ويختصر الحياة بلحظة شوق والكثير من (أحبك) عالقة بحنجرته وليس من العدل أن يمر يوم عصيب كهذا ولا يُطلق سراحها لتطير نحو مالكتها كعصفور صغير يشقشق فرحاً ببزوغ خيط الفجر الأبيض..ابتسامة عذبة ارتسمت فوق وجهه المليح عندما تذكر رقم هاتفها الذي أخذه من السيدة وسيلة وبلا تردد قرر الاتصال بها .. انتظر لبضع دقائق حتى أتاه صوتها رِقراقاً مثل ينبوع ماؤه من الفِضة فبذل تنهيدة طويلة... بعمق حبه لها قائلاً بصوت هادئ (وحشتيني)

توترت مريم كثيراً عندما أدركت أنه المتصل متسائلة بسعادة ممزوجة بالتعجب (ريان!.. جيبت رقمي منين؟)

أجابها بنبرة معاتبة (أخدته من أستاذة وسيلة .. ثم إن مش ده الرد اللي مستنيه)

ابتسمت بينها وبين نفسها قائلة بخجل (وانت كمان وحشتني)

ساد صمت عميق .. مُتخماً بالاشتياق .. مُحملاً بنسمات ندية بينهما لدقائق قطعه هو فجأة وبصدق قال (مريم .. أنا محتاج أشوفك أوي) ..

شعرت مريم ببعض القلق لكنها أخفته قائلة (انهاردة عيد ميلاد سلمى وكنا بنحضر لها احتفال صغير.. ممكن تيجي؟)

تهللت أساريره كثيراً يقول بسعادة عارمة (مسافة السكة وأكون عندك)...ثم سألها وهو ينهض من خلف مكتبه ليجمع متعلقاته الشخصية (ينفع كريم ييجي معايا؟)

ردت عليه بترحيب (آه طبعاً ينورنا)

_(ماشي ياحبيبتي .. إن شاء الله مش هنتأخر) ... قالها ريان بحماس ثم أغلق الخط متجهاً إلى مكتب كريم ليصطحبه معه وكان الأخير أكثر من مُرَحِب ولسبب لا يعلمه يشعر بأنه يشتهي (الفراولة) .. شئ لم يفعله من قبل .. أن يشتاق! .. منفذ غير محسوب يتسرب إليه منه بعض من لهفة ومذاق حامض لفاكهة لاذعة اكتشف لذاذتها ذات لحظة عابثة لكنها لم تكن عابرة أبداً .. انطلق الشابين خارج الشركة نحو أحد المحلات الكبرى المخصصة لبيع الهدايا وألعاب الأطفال والدُمى المحشوة بالقطن من أجل الصغيرة اللطيفة ورفقاؤها .. وبينما كان كريم يحاسب البائع ويضع الحقائب الكثيرة في السيارة أُعجِبَ ريان بسِلسال من الفضة يتوسطه قطعة رقيقة من حجر العقيق الكريم مثبت به دلايات صغيرة تحمل حروف متفرقة بترتيب لتشكل إسم (مريم) باللغة الإنجليزية وبدون تردد اشتراها ليقدمها لها كقُربان عشق ومحبة خالصة وماذا أجمل من إسمها ليهديه إليها؟! .. وبعد وقت ليس بقليل كان يصف السيارة أمام الدار .. ترجل سريعاً هو وكريم وسط ترحيب الحارس وحفاوته الشديدة بهما والذي أدخلهما فوراً بل ساعدهما في حمل الحقائب والهدايا وأوصلهما إلى غرفة الموسيقى حيث يتجمع الصغار ويرقصون على أغاني أعياد الميلاد.. وقعت أنظار ريان على مريمته تجلس خلف البيانو بأناقة مثل شعلة نور تختبئ في منجم من السعادة يحفزه أن يحمل مِعوله ليغير خارطة العالم لأجلها ولأجل عينيها حبيبتيه .. وكانت صباح أول من انتبهت لوجوده بسبب ركض سلمى نحوه مُبتهجة لرؤيته .. حمل الصغيرة يداعب وجنتيها الرقيقتين قائلاً بابتسامة حانية (كل سنة وانتِ طيبة يا جميلة).. بينما صافحته صباح قائلة بسعادة (أهلاً يابشمهندس .. الدار نورت والله) .. رد عليها بتهذيب (الدار منورة بيكِ وبأصحابها).. قاطعهما كريم وهو يتناول سلمى ليقبلها ويدغدغها برفق قائلاً بمرح (القمر الصغنن ده عيد ميلاده انهاردة؟) .. ضحكت الطفلة ببراءة أثلجت صدره فوضعها فوق أكتافه منطلقاً وسط باقي الأطفال الفَرِحين بالهدايا والألعاب .. وعينيه مُسلطة على تلك التي توليه ظهرها ولم تكتشف وجوده بعد فاقترب منها هاتفاً بطريقة جعلتها تقفز مكانها بخضة (يلا حالاً بالاً بالاً حيوا أبو الفصاد)

التفتت شاهقة قائلة بمفاجئة (يخرب بيتك خضتني)

ضحك كريم قائلاً بمزاح (إزيك يا أم لسان عايز قصه من لغلوغه؟)

ردت عليه مبتسمة بسماجة قاصدة إغاظته (أحسن منك)

بادلها ابتسامتها بأخرى ممتعضة قائلاً (رخمة أوي على فكرة)

سألته ريهام مدعية عدم الاهتمام به (هو ريان جه معاك؟)

أجابها رافعاً حاجبه بالتزامن مع زاوية شفته العلوية (آه ياختي وواقف بيسبِّل لصاحبتك زي سوما العاشق) .. انفجرت ضاحكة على دعابته فأضاف بحنق (مفيش ازيك ياكيمو؟.. إيه الأخبار ياكيمو؟ .. وحشتنا ياكيمو؟.. جالوص طين واقف قصادي؟)

لكزته في كتفه قائلة بغضب (أنا جالوص طين يا متخلف؟)

مازحها قائلاً وهو يبتعد قليلاً عنها (إجري يابت هاتيلي حتة جاتوه ولا حاجة ساقعة أبلع بيهم كلامك الماسخ)

تخصرت قائلة بغيظ من تصرفاته (انت بالذات مش هتاخد حاجة عشان طولة لسانك دي)

ضيق عينيه قائلاً بمشاكسة (بقى كده؟)

عقدت ذراعيها قائلة بتحدي (آه وأعلى ما فخيلك اركبه)

_ (يابنتي ماتستفزينيش)

= (ولا تعرف تعمل حاجة)

_ (اشطا.. انتِ اللي اخترتِ الحرب)... قالها كريم بعفوية ثم نادى على الأطفال ليلتفوا حولهما قائلاً (مين عايز ميس ريهام ترقص ياحلوين؟) .. هلل الصغار بشدة مصفقين ليهتفوا دون وعي مطالبين ريهام بالرقص معهم بينما اتجه هو نحو جهاز الموسيقى ليقوم بتوصيله بهاتفه عبر خاصية البلوتوث ويشغل أحد الأغاني الشعبية المعروفة مؤخراً بالمهرجانات ليصدح الصوت عالياً بتلك الكلمات /

عود البنات عالي
شقلب لي انا حالي
يرخص لك الغالي
ياللي سحرتيني
عود البطل ملفوف
وانا لسه ياما هشوف
جايلك و مش مكسوف
ماانتِ قتلتيني

ارتبكت ريهام كثيراً من الموقف خاصةً أن الأطفال يقفزون بإلحاح لتشاركهم الرقص فاضطرت لتتمايل بحركات خفيفة معهم وهي تنظر إليه بتوعد فبادلها نظرتها بأخرى شامتة ثم غمز لها عندما اشتغل المقطع التالي من الأغنية والذي يصف حالته معها /

واخداني عالهادي
و جمالها مش عادي
لما بتيجي قصادي
بموت ٢٠٠ مرة
مبحبش غير هي
وعايزها تعيش ليا
الحب بالنية
عايزك وانتِ حرة

لم يستطع الثبات والوقوف بعيداً عنها أكثر من ذلك .. اقترب منها ليقف أمامها وهو يمسك بذراعي سلمى التي مازال يحملها فوق كتفيه يفردهما في الهواء راقصاً بشقاوة وصوته يختلط بصوت المغني مُردداً مقطعه المفضل من الأغنية والذي يصفها هي تلك المرة /

يا شاغلة افكاري
حسي بقي بناري
يا احلي بنات جاري
يا فراولة الحتة
عاوزك يا بونبونتي
يا صاحبتي و بنتي
علشان اشوفك انتِ
بعمل مليون خطة

وبينما الجميع منشغلين بمشاهدة تلك اللقطة الطريفة كان ريان في وادٍ آخر .. يطالع ابتسامة مليحته التي تملأه ببهائها كورود ندية بسَكرة الرحيق .. انفراجة ثغرها الرقيق تحفّزُ أرضَ روحه على الاخضرار .. وتقود غزالة العمر إلى ينبوع قلبه الدافئ لتشرب وترتوي وأثناء جلستها الهادئة استشعرت كفه الممسك بخاصتها ونبرته الشجية تطرب آذانها هامساً بالقرب منها (وحشتيني)

خجلت مريم كثيراً قائلة بتوتر (ريان!..انت جيت إمتى؟)

عاتبها بلطف (دي تاني مرة تردي غلط على فكرة) .. توردت وجنتيها ولم تستطع الحديث مكتفية بابتسامة عذبة فتابع بحنق طفولي (مش عايزة تقولي حاجة؟)..أومأت نفياً بصمت مجدداً مما جعله يشعر بغيظ حقيقي من طريقتها الرقيقة بشكل مبالغ فيه .. هو ألف اشتاق .. ومليون أحب وعدد لا نهائي من أشتهي عناق يخفف وطأة أحزانه العصيّة على الفهم.. يريد أن يطمئن.. فقط يطمئن وسيكتفي بمعجزة وجهها المُضيئ كبدر كامل ليلة التمام .. لم يتحمل دقائق إضافية من صمتها المستفز فحثّها على النهوض معه قائلاً (تعالي نقف فالبلكونة بعيد عن الدوشة).. أطاعته باستحياء شديد .. غير قادرة على التفوه بكلمة أمامه ولا تمتلك الجرأة لتعبر عن اشتياقها إليه وما أن أغلق باب الشرفة عليهما حتى سألها مستنكراً (أنا ماوحشتكيش؟)

أخفضت رأسها قائلة بخفوت (وحشتني طبعاً)

رفع ذقنها بأطراف أنامله ليتأمل وجهها المُحمر قائلاً بحب (بتدلعي؟)

فركت أصابعها بتوتر قائلة (مش قصدي والله ....) .. قاطعها مداعباً وجنتها بنبرة والهة (أهوَاكَ يَا قَمَراً عَلى رَأسِ المَلاَ .. لَمَّا رَآنِي فِي هَوَاهُ مُتَيَّماً .. عَرفَ الحَبِيبُ مَقَامَهُ فَتَدَلَّلاَ)

ابتسمت مريم قائلة (انت تعرف ابن سهل الأندلسي؟)

رد عليها ضاحكاً بخفة (من أيام ما كان إسمه ابن سهل الإسرائيلي)

فغرت فاهها بدهشة متسائلة (إزاي عندك ثقافة أدبية غنية كده مع إنك مهندس ودراستك بعيدة جداً عن المجال ده؟)

استند بظهره على السور من خلفه ثم قرّبها منه لتقف قبالته مباشرةً واضعاً كفها فوق شقه الأيسر وكأنه يشحن قلبه بحضورها قائلاً (أنا عشت عمري كله مقسوم نصين.. نص بيحب الأدب والشعر والتواشيح الصوفية وده بفضل جدي والنص التاني بيجري ورا حلم إني أكون مهندس وده إرضاءً لوالدي)

أحست مريم ببعض الشفقة عليه قائلة (المهم إنت بتحب إيه)

أزاح خصلة هاربة من شعرها فوق جبهتها قائلاً (بحبك انتِ) .. ثم أخرج من جيب بنطاله علبة حمراء مخملية .. فتحها برفق ليتناول السِلسال الذي اشتراه لها وبدون مقدمات لف ذراعيه حول عنقها ليلبسها إياه .. لحظات مرّت بينهما كرّفة الفراشة والحب يعبأ رئتيهما بعطر الخُزامى والعنبر .. لم تستطع مريم اخفاء ذهولها من حركته المفاجئة ومعدن السِلسال الملامس لبياض بشرة جيدها حفّزها على سؤاله بصوت جاهدت على اخراجه مُتزناً (إيه ده؟)

أجابها مبتسماً وهو ينظر لجمال العقيق وإسمها المستقر فوق صدرها (المسيها وقوليلي رأيك)

تحسست مريم السِلسال بأطراف أناملها قائلة بانبهار (ده إسمي؟)

تناول كفها الآخر يقبل باطنه قائلاً (مالقيتش أغلى منه عشان أهاديكِ بيه)

استمرت مريم في استكشاف الهدية بأصابعها قائلة (متهيألي فيه حجر كريم فوق الإسم)

تألم ريان كثيراً ففي كل مرة يشعر بعجزها يُقتلع قلبه من مكانه فجذبها حتى تقف بجواره ثم أحاطها بذراعه لتستقر رأسها فوق كتفه قائلاً بحنو بالغ (ده عقيق أحمر .. الدمج بينه وبين إسمك عبقري كأنها معمولة عشانك)

لم تدري من أين أتتها الشجاعة لتعترف له بشعورها في تلك اللحظة (إنت نور عين قلبي وحاسة اني شايفة جمال الدنيا كله بيك)

تنهد بعمق قائلاً (أخيراً قولتي كلمة حلوة ياست الحلوين)

ضحكت قائلة برقة (ماتكسفنيش ياريان)

تأمل ملامحها الجميلة هامساً ورغبته في تقبيلها تنهش صدره (ياسنين ريان اللي مش فايتة) ... حاول استجماع ذاته الضائعة في حضرتها ثم أضاف (عايز أسألك على حاجة محيراني)

اعتدلت في وقفتها قائلة بهدوء (اتفضل)

أعاد كفها مرة أخرى فوق شقه الأيسر تحديداً عند موضع النبض قائلاً (ليه عاملتيني وحش وأحرجتيني فآخر موقف بينا قبل ما اخلص إصلاحات الدار؟)

تحدثت مريم بحزن خفي (كنت خايفة ومازلت)

_(من إيه؟)

= (من اختلافنا.. ومن الدنيا اللي هاتقف قصادنا لما يعرفوا إن ريان ابن رجل الأعمال المعروف سعد زين الدين بيحب بنت كفيفة عايشة فدار أيتام)

تجهمت ملامحه قائلاً بجدية ممزوجة بالغضب (ماتسترجليني شوية يامريم ولا أنا مش مالي عينك؟) .. لم تستطع الرد عليه فتابع هو بندم لأن طريقته كانت فظة بعض الشئ (ربنا خلق الحب جوانا وألهمنا الطريق اللي وصلنا لبعض هو وحده قادر يعيننا عشان نعافر ونحقق حلمنا .. ربك كريم يامريم ماتيأسيش بسرعة)

وكأنه أشعل بارقة الأمل بداخلها فقالت بخشوع ورضا (حاشا لله إني أيأس لكن غصب عني بفكر)

زفرة حانقة خرجت من رئتيه قائلاً (ماتفكريش)

ضحكت رغماً عنها قائلة (أحسن برضه على رأي الراجل فالفيلم ده حتى التفكير بيتعبني)

أجبرته بدعابتها اللطيفة على الضحك قائلاً (الله ينور عليكِ .. ماتشغليش مخك وسيبيني انا هاتصرف)

_ (صدقني ثقتك المبالغ فيها دي بتقلقني)

= (ماتنبريش فيها ياوش الغم واهدي وسيبينا نعيش اللحظة شوية ونقطينا بسكاتك) .. قالها ريان مازحاً فلكزته في كتفه هاتفة (أنا وش غم؟)

جذبها مرة أخرى ليقرّبها منه قائلاً (ونكدية كمان بس زي القمر وبموت فالتراب اللي بتمشي عليه) ..

افترّت شفتيها بابتسامة حُلوة قائلة (بتثبتني؟)

_(أبداً والله دي الحقيقة)..سكت لبرهة ثم تابع مداعباً خصلاتها (منك الحُسن ومني النظر لحد اليوم اللي هايجمعنا ببعض تحت سقف واحد وانتِ رزقي من الدنيا وحلالي) ..

زحفت حُمرة الخجل نحو وجهها فحولت دفة الحديث نحو موضوع آخر (على فكرة ماما وسيلة اتفقت مع سواق هايوصلني انا وريهام كل يوم للنادي)

تضايق من الأمر قائلاً (ومين قالها إني هآمن عليكِ مع راجل غريب؟)

_ (ده عمو فهمي أخو دادا صباح يعني مش غريب)

= (لا غريب .. أي راجل فالدنيا غيري غريب عنك يامريم)

قوّست شفتيها لأسفل قائلة (انت مش واثق فيا ولا فيه؟)

صك أسنانه قائلاً بغيظ (غباء مش عايز .. فيه فرق بين الغيرة وعدم الثقة .. وانا بثق فيكِ ياحمارة بس مش هاثق فواحد ماعرفوش واستأمنه على أهل بيتي)

_ (بس انا لسه مابقيتش....) .. قاطعها بحزم (هاتبقي وياريت ماتضغطيش عليا تاني بموضوع الثقة والكلام الاهبل ده) .. صمت لثواني ثم أردف بلطف قاصداً ممازحتها (أنا الحريم بتوعي مايتكشفوش على حد أبداً)

عقدت ذراعيها قائلة باستنكار (حريم؟! .. انت مفكر نفسك السلطان سليمان؟!)

أحاط رقبتها من الخلف قائلاً وهو يهزها مرات متتابعة (آه سلطان .. وسلطان السلاطين كمان وإذا كان عاجبك)

_(عاجبني يا باشا .. عاجبني).. قالتها مريم وهي تضحك باستسلام بينما هو أحس أنه سيفقد سيطرته على نفسه فقال لها وعينيه مُسلطة فوق ثغرها (عدي يومك معايا على خير وتعالي نطلع نقعد مع الولاد شوية) ...

*******************
جَلّ من سَوّى أعجوبةً الحب ونفخ معجزة الروح لتسكن روح أخرى كفراشة مُتلاعبة ترقص فوق مياه الينابيع وتقاوم كثافة رمل الوديان القاحلة وتلبسها أثواب الخُضرة المُوشاة بعطر السفرجل ومسك الروم .. انقضى الوقت سريعاً واضطر ريان للمغادرة وترك مليحته في الدار وهذا يؤلمه كثيراً لكنه تصبّر بموعد لقائهما غداً عندما يوصلها بنفسه لعملها الجديد رافضاً أن يتولى أحد غيره تلك المهمة .. أما عن كريم فكان يعيش حالة من التخبط لم يعهدها قَبلاً .. جانب منه سعيد ومنبهر ويتفتّح كوردة تتسع وتتفرّع براعمها.. وجانب آخر خائف يرفض الاعتراف بشئ مجهول يحتدم بين دواخله ويشدّه نحو تلك الفتاة .. ربما إعجاب أو بعضٍ من لطفٍ برّاق تعثر به محض صدفة ليس أكثر .. لكن حُب ومشاعر وحنين وأشواق؟!..لايظن أبداً فهو أبعد ما يكون عن هذا الإستقرار العاطفي .. وبعد وقت ليس بقليل وصل كلاً من الرفيقين إلى منزله وبينما كان يجلس سعد مع زوجته في حديقة الڤيلا دخل عليهما ريان .. ألقى التحية بهدوء متحاشياً النظر نحو والده الذي كان يشعر بالذنب وأنه تعامل مع الموقف بغضب زائد عن اللازم .. بادرت رويدا بسؤاله مبتسمة (اتأخرت كده ليه ياحبيبي؟)

جلس قبالتهما ثم أخرج هاتفه يعبث في أحد التطبيقات قائلاً (كنت مع كريم)

تنحنح سعد محاولاً تلطيف الأجواء (اتعشيت؟)

رفع أنظاره إليه قائلاً بلامبالاة (آه من بدري)

عاتبته رويدا (انا عاملة الأكل اللي انت بتحبه ومستنياك عشان ناكل مع بعض) ..

_ (وانا كمان مستنيك عشان ناكل مع بعض).. قالها سعد قاصداً لفت انتباهه لكنه رد بطريقة باردة متصنعاً الانشغال في النظر للهاتف (مش جعان) ..

اغتاظ سعد منه قائلاً بنفاذ صبر (ماتسيب التليفون ده ورد علينا كويس)

أجابه باقتضاب وهو مازال على وضعه (بلعب بابچي) .. أدرك والده أنه مُستاء مما حدث وأعطاه الحق في ذلك لكنه يحبه ولا يريده أن ينام وهو مكسور الخاطر منه وسيبذل قصارى جهده ليراضيه ..

_(خلي نجاة تحضر الأكل يارورو عشان حبيب بابا هياكل معاه)..قالها سعد وهو ينظر لولده مبتسماً بلطف فأجبره بطريقته المرحة على الحديث قائلاً باستنكار (دلوقتي بقيت حبيب بابا.. أمال مين اللي كان بيهزقني الصبح؟.. خالتي؟)

قذفه سعد بالوسادة الجانبية للمقعد قائلاً بغيظ (ماخلاص ياجزمة ماتحسسنيش بالذنب أكتر من كده)

رد عليه ريان رافعاً أكتافه لأعلى مدعياً عدم الإهتمام (ارفدني .. مش عاجبك ارفدني)

قاطعتهما رويدا ضاحكة وهي تنهض (انا هاروح احضر العشا بنفسي)

أهداها ريان قبلة في الهواء مصحوبة بغمزة شقية (حلاوتك في وقفة المطبخ يا أرستقراطي يا سليل البشوات انت ياجميل)

بادلته والدته قبلته بأخرى حقيقية فوق وجنته (قلب مامي من جوه)

رمقهما سعد بملامح ممتقعة قائلاً (وده من إيه ان شاء الله؟)

قام ريان من مقعده ليقف بجوار والدته ثم أحاط كتفها بذراعه قائلاً (أمي حبيبتي بتدلعني فيها حاجة؟)

صك سعد أسنانه قائلاً (ولا .. عدي ليلتك على خير)

_ (يلا يارورو ياحبيبتي ياقمر ياللي مابتنكديش عليا ولا بتزعقيلي وتسدي نفسي عالصبح فالشغل).. قالها ريان وهو يسير برفقة والدته نحو الداخل بينما مكث سعد في مكانه يخبط كفيه ببعضهما ضاحكاً .. فسبحان مغيّر الأحوال .. البارحة يشكو من تعنت رويدا وأسلوبها الفظ واليوم يمدحها ويتخذها ذريعة لإغاظته وإثارة غيرته .. لم ينكر أنه ندم بشدة لأنه أحزنه ونظرة الانكسار التي رآها داخل عينيه هذا الصباح جعلته يتخذ قرار بألا يراجعه في أي تصرف يصدر منه.. ليفعل ما يشاء ولتبقى ضحكته مضيئة ودافئة هكذا..

*****************

عودة إلى يوسف وأميرة /

منذ خروجه من بيت الرجل الذي أعطاه طرف خيط سيوصله لمفقودته لم يتوانى يوسف عن التحري في كل مكان عن أي شئ يمكنه من العثور على عنوان المدعو جابر في قريته بالصعيد .. حتى أنه حاول البحث في شبكات التواصل الإجتماعي عن أي حسابات لأبنائه لكنه لم يجد لهم أي أثر .. وأثناء عكوفه على التفكير في طريقة تمكنه من تحقيق أمله كانت أميرة تحاول في اتجاه آخر ولحسن الحظ أن أحد معارفها يعمل في السجل المدني والذي لم تتردد ثانية في الإتصال به لتطلب مساعدته وبكل ود وترحيب وعدها الرجل بأنه سيهتم بشأنها وبالفعل أقرن قوله بالتنفيذ وفي غضون ساعات قليلة أرسل لها قاعدة بيانات تخص جابر وعائلته من ضِمنها العنوان بالتفصيل.. تهللت بشدة وأسرعت في الإتصال بيوسف لتزف له تلك البشرى الغالية قائلة بحماس (لقيته يا يوسف)

سألها يوسف عبر الهاتف بعدم فهم (هو ايه ده؟)

_(عنوان جابر)

= (انتِ بتتكلمي بجد؟)

_(والله العظيم لقيته .. أنا بعت إسمه لواحد قريبي شغال فالسجل المدني وهو عرف عنوانه ..فعلاً موجود في نفس البلد اللي الحاج صبحي قال عليها)

انتفض يوسف من مقعده يجمع متعلقاته الشخصية قائلاً بسعادة عارمة (أنا هاسافر له حالاً)

ردت عليه بفرحة لفرحته (وانا هاقول لماما وهاجي معاك)

_(ماشي بس اجهزي بسرعة .. مسافة السكة واكون عندك) .. قالها يوسف دون اعتراض على مرافقتها له في رحلته الطويلة حيث المجهول ثم أغلق الخط سريعاً وخرج من منزله بخطوات أقرب إلى الركض ليستقل سيارته ورغبته في الوصول لشقيقته لم تعد حلمًا.. صارت قضية.. وهو الذي هَرِم قبل وقته وعمره المُخبأ بين أوراقه الثبوتية مجرد وَهم عاهد نفسه ألا يرفع الراية البيضاء مُجدداً .. وبعد وقت ليس بقليل كان بصحبتها خارج حدود محافظة السويس تحديداً على الطريق المؤدي إلى صعيد مصر..هي الوحيدة التي قوّمت انحناءة روحه بل تآلفت مع آلامه التي نبتت بداخلها وتقبّلت ذاك الانطفاء الذي يسري في ملامحه مثل عِلَّة... بيدها رتبت خزائن أحزانه وكدّستها في غرفة خلفية من الذكريات وبحماسها وابتسامتها أعادت تنظيم عشوائيته وفوضى الوجوه وأسماء الراحلين الذين أفِلوا من حياته ومن العالم بأكمله.. أما عنه فكان خائف بقدر حزنه من آفة الفقد التي تطارده .. كلما فتحت له نافذة في خاصرة بؤسه ارتعب .. يراها كما هارون لموسى يشد بها عضده ذات يأس وأحياناً يتعلق بها كالخِضر فيخشى ألا يستطع معها صبراً .. ولما غلبها تعب الطريق والسفر غَفَت رغماً عنها بالمقعد المجاور له فالمسافة بين السويس وأسيوط تستغرق أكثر من خمس ساعات لكنها استيقظت عندما داعبت خيوط الصباح الأولى وجهها.. فرّقت جفنيها بصعوبة قائلة وآثار النوم واضحة في صوتها (أنا نمت كتير ولا إيه؟)

ابتسم يوسف لمنظرها المُبعثر قائلاً (تقريباً طول الطريق)

اعتدلت في جلستها قائلة بخجل (غريبة أوي مع إني مابعرفش أنام في مواصلات خالص)

ضحك يوسف قائلاً (احنا دخلنا أسيوط وانتِ نايمة يادكتورة)

تأملت ضحكته التي تراها لأول مرة لثواني ثم قالت مبتسمة (ضحكتك جميلة أوي)

بادلها ابتسامتها بأخرى ممتنة (شكراً إنك رجعتِيها لحياتي تاني بعد ما كنت نسيتها)

أرجعت خصلة من شعرها خلف أذنها قائلة بنبرة رقيقة (ماتشكرنيش على واجب .. حق الصُحبة تخفيف الأحزان يادكتور)

رد عليها وعينيه تنطق قبل لسانه (يازين الصُحبة والرِفقة يا أميرة .. يازين ما اختارت والله) .. ساد صمتاً خجولاً بينهما حتى انتبها للافتة مكتوب عليها (قرية نجع خضر) ..تابعا سيرهما يسألان المارة عن مكان جابر فدلهما أحدهم على بيت صغير داخل زقاق من أزقة القرية .. صف يوسف السيارة في مكان واسع ثم ترجلا منها بخطوات مُسرعة ليتجها نحو البيت المُهترئ بفعل عوامل الفقر وسوء أحوال المعيشة لقاطنين قرى الصعيد النائية وبدون تردد قام بقرع الجرس .. فُتِح الباب بواسطة طفل صغير يتحدث بلهجة جنوبية لطيفة (عايزين مين عاد؟)

رد عليه يوسف مبتسماً (ممكن تنادي لنا حد كبير ياحبيبي)

_ (وَجِّف إهنِه دَجيجة عبال ما اعيط على بوي).. قالها الصغير باستغراب ثم دلف للداخل حتى يخبر والده بِمَن يريدون مقابلته .. وبعد دقائق خرج عليهما شاباً أسمر البشرة وملامحه تحمل طابعاً مميزاً كسائر أهل الصعيد الكِرام .. نظر إليهما بتعجب من هيئتهما الغريبة عن القرية بل عن بر الجنوب بأكمله متسائلاً (خير ياواد عمي أي خدمة نجدموها لكم؟)

تحدث يوسف بتوجس (كنا عايزين عم جابر أو أي حد من طرفه)

أجابه الشاب بحزن (أنا ولده محروس وأبوي الله يرحمه مات من أربع سنين)

فغر يوسف فاهه قائلاً بصدمة (لا حول ولا قوة إلا بالله .. إنا لله وإنا إليه راجعون).. ثم سأله مجدداً بنبرة متوسلة ( طيب ماتعرفش حاجة عن ريم بنت عبدالرحمن السويسي؟)

حك محروس جانب رأسه قائلاً بحيرة (أنا خابر الإسم ده زين بس مش فاكرها)

ترجاه يوسف أن يدله على أي خيط يوصله بشقيقته (بالله عليك إفتكر ..الموضوع ده بالنسبة ليا حياة أو موت)

أشفق محروس عليه ودعاهم للدخول قائلاً بلهجة عادية ( اتفضلوا ادخلوا على ما أمي تيجي هي أكيد عارفة)

امتثلا لدعوته لكن أميرة سألته بفضول (حضرتك بتتكلم زينا؟)

أجابها محروس وهو يتقدمهما ليوصلهما نحو غرفة صغيرة مخصصة لاستقبال الضيوف (أنا عيشت فالسويس عشر سنين وفاكر إن ريم دي اختفت بين يوم وليلة بعد اللي حصلها) .. انقبض قلب يوسف بشدة فكلام محروس يؤكد أن شقيقته أصابها مكروه لكنه مُجبر على الإنتظار حتى يعرف التفاصيل مُتمسكاً بأي أمل ولو ضئيل وبعد قُرابة نصف ساعة دخلت عليهم سيدة مُسنّة تتوكأ على عصا غليظة مُتشحة بالسواد من رأسها لإخمص قدميها أخبرها حفيدها أن والده يجلس مع ضيوف يسألون عن المرحوم جده .. شعرت ببعض القلق يساورها فشكل هذا الشاب يبدو مألوفاً إليها لكن الزمن وتقدم العمر لم يساعداها على تذكر هويته .. ألقت التحية بصوت مُرهق ثم قالت بتوجس (مرحب بيكم يا ولدي.... واد ابني محروس خبّرني انكم بتسألوا عن جابر الله يرحمه)

لم يطمئن يوسف لهيئتها وعلى عكسها تذكرها إنها الخادمة التي كانت تعمل في منزل والده برفقة زوجها وعرّفها بنفسه قائلاً (أنا يوسف عبدالرحمن السويسي .. مش فاكراني؟)

انتفضت السيدة بفزع من مقعدها تضرب على صدرها قائلة (يا وجعة مربربة انت مين دلك على مكاننا؟)

توتر يوسف من ردة فعلها قائلاً (إهدي من فضلك.. أنا مش جاي أضر حد فيكم.. كل اللي عايز اعرفه أختي فين ويا دار مادخلك شر)

ابتلعت السيدة ريقها قائلة بخوف سكينة (يابيه احنا مالناش صالح بالموضوع ده .. مرت عمك الله لا يربحها هي اللي طلبت من جابر الله يرحمه ...) ..قاطعها يوسف بغضب ( أنا عارف كل حاجة..انطقي ريم فين؟)

خرجت الحروف من بين شفتيها مُتلعثمة ومُختنقة قائلة (ماهو أصل يابيه أختك مش إهنِه)

يتبع ........ إلى اللقاء مع الفصل الخامس عشر

Continue Reading

You'll Also Like

1.3M 4.1K 64
⚠️ القصة دي شبه واقعية وتحكي أحداث معظمها حدث معي شخصياً بالفعل،⚠️ يعني معظم الشخصيات اللي فيها موجودة بمواصفتها لكن الخيال فيها إن مش كلهم بل معظمه...
2.6M 56.7K 61
تعالت همسات الجميع من حولها منهم المشفق منهم الشامت بينما هي تجلس مكانها جاحظة العينين غير مصدقة انه فعل بها هذا لقد غادر بوسط الزفاف تاركاََ اياها ت...
3.1K 264 26
" الشيطان يمتلك الكثير من الأيادي كــالأخطبوط، إذا قُمت بقطع واحدة تجد أخرى تلتف من حولک، احذر تلك اليد الخبيثة التي تمسک بک، قد تكون نجاتک أو هلاکک...
252K 18.9K 36
روايه ذو طابع خاص فتاه ذات السادس عشر عاما تقع تحت ظلمته