عيون الريان (مكتملة)

Por nellyelattar

886K 18.5K 1.6K

كانت في حبها ملاكاً وأنا لم أكن افلاطوناً كي لا أحلم بها بين ذراعيَّ Más

المقدمة والفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
تنويه
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
طلب خاص
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
"جزء مالوش أي تلاتين لازمة"
الفصل السادس والعشرين
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الواحد والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الغلاف وتواقيع الأبطال
🧡حبايبي متابعين التعديل🧡
إعلان روايتي الورقية الأولى
اقتباس من رواية وريث كايميرا
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
سالخير عليكم 🤸‍♀️😅
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
🙈عين الهِرّ🙈
الفصل الواحد والأربعون
اعتذار
🙂
الفصل الأخير
إعلان مهم ❤️
الخاتمة
شكر وامتنان ❤️
👋
💥حفلة توقيع وريث كايميرا💥
لينك الـ pdf ❤️
❤️
عيدكم مبارك ❤️
خادم الوشم
💔
تنويه مهم جداً

الفصل الحادي عشر

21K 425 27
Por nellyelattar


لا تجرحي التمثال في إحساسهِ

فلكم بكى في صمته .. تمثالُ

قد يُطْلِعُ الحَجَرُ الصغيرُ براعماً

وتسيل منه جداولٌ وظلالُ

حسبي وحسبك .. أن تظلي دائماً

سِراً يُمزِّقني .. وليسَ يُقالُ ..

(نزار قباني)

________________

لم يدري يوسف كيف تعاقبت عليه لياليه المبللة بملح دمعه المُحرِق الذي يدعس بكل ثقله فوق قلبه ويتساقط ليهشم أحلامه كعاصفة هوجاء جردته من الأدوار التي لعبها طيلة حياته ..لم يعد إبناً لأحدهم فوالديه تركاه منذ نعومة أظفاره ليعض اليُتم أصابعه الصغيرة.. ولم تكتمل فرحته بحب عمره التي انتقلت إلى الرفيق الأعلى دون سابق إنذار ومن بعدها عمه ولحقت بالجميع نفسه القانطة .. أصبح عبارة عن قلب ممزق وروح ذابلة وجسد مُتعب .. هناك جرح في خاصرة روحه لا يبرأ ولا يطيب.. إنه يتلاشى كالدخان وكل مابداخله ينتهي ويكاد يوشك على الرحيل.. نهض من نومته المُنهكة ليروي عطشاً جفف حلقه فوقعت أنظاره على صورة شقيقته الموضوعة أمامه .. توقف هنيهة يتأملها وللحظة أحس بأنه يظلمها بضعفه واستسلامه لذلك الانهيار الذي يؤخره الوصول إليها فقرر خلع لباس الهشاشة .. وبعد دقائق قضاها في التفكير اغتسل وبدل ملابسه ثم خرج منطلقاً إلى حي الأربعين " حيث بيت والده القديم .. وفي غضون ربع ساعة كان يقف أمام الباب المُغَبر بالتراب الذي أصدر صريراً عتيقاً عندما فتحه ليدخل .. أضاء مصابيح الإنارة ووقف في منتصف البهو الواسع وذكريات طفولته تداهم عقله..رائحة الحياة المنقوشة على الجدران مازالت كما هي.. أصوات الضحكات وأنين الأوجاع وعطر الأبوين الراحلين ينتشر في المكان كزخات حنين تهديه إياه الزوايا والأركان .. تفاصيل كثيرة نحتها فتات السنوات التي عاشها في ظل أبيه.. نظر لصورته المُعلقة على حائط صالة الاستقبال بعينين غائمتين يحدثه بهما (لقد كبرت سريعاً يا أبي .. نضجت مبكراً لكن الشيب لم يعلُ رأسي بل حط في نفسي وملأت التجاعيد طرقات ضحكاتي وروحي داهمها الهِرَم) .. أطلق تنهيدة مرتعشة من عمق الليل الحالك بداخله ثم نفض الغبار عن أحد المقاعد ليجلس عليه بقلة حيلة ولسان حاله يسأل كيف سيخوض المعركة بمفرده؟ ..ومن سيشجعه على إكمال الطريق إذا فقد الأمل؟ .. فكر قليلاً ولم يعلم لماذا خطرت هي بباله .. أمسك هاتفه واتصل بها دون تردد .. أتاه صوتها عذباً يشوبه نبرة عتاب خفية لِمَ بدر منه في حقها (ازيك يا يوسف)

ظل ساكناً لثواني ثم أجابها بخجل من نفسه (عايز اشوفك ضروري يا أميرة)

ردت عليه بثبات زائف (لو عايزني عشان موضوع الإستقالة فانت عارف تقدمها لمين)

قاطعها برجاء أن تسمعه (أنا عارف اني كنت قليل الذوق معاكِ بس مش لاقي حد اشرح له اللي بمر بيه غيرك)

شعرت بالقلق من كلامه قائلة (خير .. فيه حاجة حصلت تاني؟)

أجابها بصوت مرتجف (مش هاينفع نتكلم فالتليفون)

خلعت معطفها الطبي سريعاً و سألته بلهفة (انت فين؟)

تنهد يجيبها بحزن (في بيت أبويا القديم)

لملمت متعلقاتها الشخصية ثم حملت حقيبتها قائلة باهتمام (أنا فاكرة انه كان في الأربعين.. مسافة السكة واكون عندك) ... أغلقت الخط ثم اندفعت إلى الخارج تستقل سيارتها وانطلقت نحوه ومُحيّاه الحزين يرتسم بمخيلتها .. ثمة شئ يُحدث ضجيجاً صاخباً داخلها لتلبي نداءه بلا تردد ودون اكتراث لتشابك أفكارها وشعور خفي يحركها لتقترب منه رغم أنه آلمها .. وبعد قرابة النصف ساعة وصلت أمام المنزل .. هاتفته حتى تتأكد من المكان فأخبرها أنه ينتظرها بالطابق العلوي.. صعدت أميرة الدرج المغطى بالأتربة وخيوط العنكبوت بقلب مقبوض وجدته يجلس على أحد المقاعد وملامحه يكسوها الحزن وقلة الحيلة .. ابتسم يوسف عندما رآها تلج بهدوء لم يخفي قلقها فنهض يرحب بها على استحياء شديد (أنا آسف المكان كله تراب)

نظرت إليه متسائلة بخوف (يوسف.. انت كويس؟)

أخفض أنظاره قائلاً بوجع (تايه يا أميرة..الدنيا كلها قفلت بيبانها في وشي)

حاولت التخفيف عنه قائلة بمواساة (كلنا هنموت لازم تبقى مؤمن بقضاء ربنا أكتر من كده)

رد عليها بتنهيدة متألمة (ونعم بالله بس مش هو ده الموضوع)

توجست من الأمر ثم قالت (تعالى نقعد نتكلم في أي مكان بره)

أومأ برأسه موافقاً واصطحبها لمكان عام قريب من المنزل ليسرد عليها كل الأحداث التي مر بها منذ وفاة خطيبته و عمه حتى إعتراف خالته بما فعلته بشقيقته .. لم يخفيها سراً فالوضع يزداد سوء ولا ضوء يكسر عتمته ووحدته تحاصره أينما كان والحرب بداخله يشتد وطيسها كنار لا تريد أن تنطفئ أبداً .. تأثرت بما سمعته على لسانه وسألته بأعين دامعة (إزاي طنط سمية جالها قلب تعمل كده؟)

ابتلع حسرة الخذلان ثم أجابها (مش لو كان عندها قلب أصلاً)

مسحت دمعة تسللت من مقلتيها بكفها قائلة بابتسامة مرتعشة (انا متأكدة انك مش هاتسيب ريم وهتلاقيها ان شاء الله)

رد عليها بضعف (قلبي مكسور أوي يا أميرة ومش قادر أصلب طولي)

عقدت ذراعيها قائلة بتعقل (عشان مستسلم لحزنك وسايبه يهزمك مع انك كنت طول عمرك قوي وصعب تتكسر)

نظر إليها بأعين غائمة ثم قال (سبحان مغير الأحوال.. كل حاجة اتقلبت 180 درجة فرحي اتقلب عزا وعمي اللي كان صوته مالي عليا الدنيا مات حتى خالتي ماطلعتش زي ما كنا شايفينها)

ابتسمت قائلة بنبرة رزينة (ربنا له حكمة فأقداره.. بعد سنين هاتفهم انه منع عنك شئ بتحبه عشان يعوضك ويراضي قلبك)

تحدث محاولاً شرح مايختلج صدره (الحياة عاملة زي الرمال المتحركة كل مابتعلق فيها بتسحبني لتحت ومفيش معايا حد أتمسك بيه عشان يخرجني)

عاتبته بلهجة حادة قليلاً (انت متخيل اني ممكن أسيبك في الدوامة دي لوحدك؟)

سألها بترقب (يعني ايه؟)

أجابته بإصرار (احنا دلوقتي بقينا في مركب واحدة وطالما استأمنتني على سرك يبقى نقسمه سوا .. كتف لوحده مايشيلش الهم يادكتور).. صمتت لثواني تمعن التفكير في الأمر ثم تابعت (أول خطوة لازم تاخدها انك ترجع شغلك ماينفعش تهد إسمك اللي بنيته السنين دي كلها)

تنهد قائلاً بإذعان (ممكن ارجع المستشفى لكن العيادة ماعتقدش اني هاعرف افتحها اليومين دول)

انفرجت أسارير قائلة (أول الغيث قطرة انهاردة المستشفى وبكرة العيادة) .. سكتت هنيهة ثم أردفت بحماس (إيه رأيك ترجع تعيش في البيت القديم وتنقل العيادة فيه .. وجودك فالمنطقة هنا بصفة مستمرة هايساعدك تلاقي أي خيط يوصلك لجابر)

استند بمرفقيه فوق الطاولة يبدو على ملامحه الاقتناع (والله فكرة حلوة اوي.. انا ممكن أعيش فالدور الأول وانقل العيادة فالدور التاني)

تحمست أكثر قائلة (خلاص من بكرة هاشوف لك حد ينضفه كويس من التراب وهاخدلك أجازة مفتوحة من المستشفى عشان.....)

قاطعها بحزم (قبل ماتكملي كلامك انا مش هاعمل أي حاجة غير لما توافقي على شرطي الأول)

رفرفت بأهدابها متسائلة بتعجب (شرط ايه؟)

أرجع ظهره للخلف قائلاً (تشاركيني فالعيادة الجديدة)

فغرت فاهها من المفاجأة ثم سألته (انت بتهزر؟)

رد عليها محاولاً اقناعها (البيت كبير وبدل يافطة واحدة هانعلق يافطتين واحدة باسمك وواحدة بإسمي)

حركت رأسها برفض قائلة (ماينفعش طبعاً ....أنا متخرجة جديد وانت بقالك سنين وإسمك معروف ومستحيل استغل ده أبداً أو اسمح لك تخاطر بسمعتك عشاني)

قال بلهجة جادة مصمماً على كلامه (على فكرة الفرق بينا فالتخرج أربع سنين يعني مش كبير للدرجة وبعدين انتِ دكتورة شاطرة وهايبقى ليكي مستقبل أحسن مني) .. صمت لثواني ثم استطرد بتأكيد (ها.. موافقة ولا تاخدي استقالتي من المستشفى فإيدك؟)

ضحكت قائلة (لا خلاص موافقة)

ابتسم قائلاً وهو ينهض ( كده بقى تاخدي اجازة ليكِ انتِ كمان عشان تبدأي التجهيزات معايا)

حملت حقيبتها و تبعته قائلة بقلة حيلة (هاكلم عمو أسامة انهارده وأمري لله) ...

أومأ لها إيجاباً ثم أشار أن تتقدمه في السير قائلاً (ماتقلقيش .. إن شاء الله هايوافق) .. خرجا سوياً بعدما قام يوسف بمحاسبة النادل ليستقل كلاً منهما سيارته على أمل اللقاء وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه بينهما .. هي سعيدة لأنه فتح قلبه لها واستعان بها لتجاوز محنته الصعبة فكما قال ابن الرومي (وقد يأتي أحدهم خفيفاً يطفو بجانبك في كل هذا الغرق كجذع شجرة يصلح للنجاة).. أما هو فكان يدعو بقرارة نفسه (ياالله قلبي بين يديك اغرس فيه القوة وعلمه الصبر والاعتياد على كل الأيام التي تُشعره بقلة الحيلة دون أن يُهزم)

*************

لم تستوعب مريم الوجع الذي احتل كيانها بعد رحيل ريان.. وفقدانها للوعي آنذاك كان بمثابة هرب من الموقف .. فزعت ريهام كثيراً عندما وجدتها تسقط كزهرة تبعثرت وريقاتها في مهب ريح نكباء كسرت غصنها الرقيق.. استدعت طبيبة الدار على الفور والتي أتت برفقة السيدة وسيلة وصباح بذعر شديد .. ساعدتها الطبيبة على الاستفاقة قليلاً و اسندتها هي وريهام لتنتقل إلى غرفتها حتى تفحصها بشكل جيد وهناك استطاعت قياس ضغط الدم وضربات القلب .. أخبرتهن أن ما أصابها نتيجة لاضطرابات نفسية وسوء تغذية أدى لضعف عام لم يتحمله جسدها الصغير ثم كتبت لها روشيتة تتضمن بعض الأدوية التى ستساعدها على التعافي وأوصتها بتناول قدر كافي من الأطعمة الغنية بالفيتامينات وانصرفت .. جلست صباح بجوارها على الفراش تحتضنها قائلة بخوف (ألف سلامة عليكِ يانور عيني)

أجابتها مريم بصوت ضعيف (الله يسلمك يا دادا) .. بينما اقتربت منها وسيلة تسألها بخوف (مالك ياحبيبتي انتِ زعلانة من حاجة؟)

أومأت مريم نفياً فبادرت ريهام بالرد سريعاً (هي بقالها فترة مابتاكلش كويس وبترهق نفسها مع الولاد) ..

انحنت وسيلة لتمسد خصلاتها الناعمة ثم طبعت قبلة رقيقة فوق جبهتها مبتسمة بحنو (ينفع كده يامريومة؟.. لازم تتغذي عشان تقدري تقفي على رجليكِ والوش القمر ده يرجع ينور تاني) صمتت لثواني تتأمل شحوب ملامحها المتلونة بحزن لم يُخفى على فطرة السيدة وسيلة الأمومية وتابعت موجهة الحديث لصباح (خدي بالك منها ياصباح)

قالت صباح وهي تقبل رأس مريم (ماتقلقيش يا أستاذة انا هافضل جنبها لحد ماتخف خالص) .. وبالفعل رافقتها مربيتها ولم تتركها إلا بعد تماثلها للشفاء .. وانفرطت الأيام واحداً تلو الآخر كخرزات مسبحة انسل خيطها من ثقوب قصبتها لترتطم بالأرض محدثة صدى موجع بصدر المليحة المجروح بالاشتياق.. حاولت مريم الخروج من تلك الحالة بشق الأنفس.. تقضي وقتها مابين مكانها المعتاد في غرفة الموسيقى لتلتهي مع الصغار أو نائمة بفراشها لتهرب من واقعها المؤلم فلا أمسها يمضي .. ولا غدها يأتي بما تشتهي سفنها.. ولا حاضرها يتغير وسيف الفراق القاطع مغروس في غمد فؤادها وصوت أنينها يردد (غيابك كان متوقع لكن التوقيت ياشقيق الروح كان صادماً حد الموت).. وأثناء جلوسها بغرفتها خلف مكتبها الصغير مستندة برأسها فوق حافته بيأس دخلت عليها ريهام .. سحبت كرسي وجلست بجوارها تسألها بقلة حيلة (وبعدين معاكِ يامريم؟)

رفعت مريم مقلتيها الدامعتين نحو الفراغ تقول بحزن (وحشني أوي .. صوته وريحته وكلامه حتى ضحكته..كل حاجة فيه وحشتني)

ضمتها ريهام بحنان قائلة (وهو مشي ورجع لحياته الطبيعية .. لازم انتِ تفوقي لنفسك.. وشك بقى دبلان وعينيكِ مدمعة على طول وانا مش هاشوفك بتضيعي قدامي وهاسكت)

مسحت مريم دموعها بجانب راحتيها قائلة بصوت مبحوح (غصب عني ياريهام مش قادرة)

احتوت ريهام وجه صديقتها الغالية بين كفيها قائلة بمزاح (والله أروح أجيبه من قفاه زي حرامي الغسيل وامسمره هنا عشان يحترم نفسه)

ضحكت مريم على دعابتها فتابعت هي بمرح أصبغته بجدية زائفة (بني آدم مهزأ بصحيح.. مش كفاية خد قلبك وسكتنا.. عايز كمان يجننك خالص .. انا لا يمكن أسمح له بكده أبداً)

تعالت ضحكات مريم أكثر واستطردت ريهام بسعادة لرؤيتها تضحك أخيراً بعد كل هذا الحزن (ان شالله تدوم لي حلاوة الضحكة يارب).. صمتت لثواني تتأمل ملامح مريم التي بدأت تتبدل للإرتياح ثم أردفت مبتسمة (على فكرة عندي ليكِ مفاجأة حلوة)

سألتها مريم بترقب (مفاجأة ايه؟)

أجابتها ريهام بحماس (الجمعة الجاية أول جمعة من إبريل واستاذة وسيلة بلغتني عشان نجهز حفلة يوم اليتيم)

انفرجت اسارير مريم كثيراً قائلة (جاية في وقتها جداً)

نهضت ريهام تمسك بمرفقها قائلة بتشجيع (يلا بينا عشان ورانا حاجات كتير لازم ننجزها سوا و مفيش وقت ياست البنات)

****************

الوداع لا يقع إلا لمن يعشق بعينيه أما ذاك الذي يحب بروحه فلا ثمة انفصال أبداً

(جلال الدين الرومي)

عاد ريان إلى عمله في الشركة لكنه لن يعود كما كان في سابق عهده..حنينه إليها يقتله وكرامته تمنعه من الذهاب إليها فما ذنبه إن أراد وصلها ووجدها تنأى بالرفض فما أشقاه مُريدا ظن أنه لا يُراد ولايستطيع ترميم داخله المهجور من أثر فعلتها وقلبه في بعدها يسوده صمتاً خانقاً رغم ازدحام رأسه بالذكريات والتفاصيل.. معركة حامية بين كبرياءه وأشواقه تخلف ضجيجاً يبتلعه كفوهة البركان .. وكل محاولاته في التجاوز والمضي قدماًً باءت بالفشل وتأكد أن لقاءه بمريم لم يكن صدفة عابرة طريق وكفى بل كانت عابرة عمر اقتطعت مسافتها من شريانه الأبهر ووزعت ملامحها بين خلايا دمه.. لترتقي للدرجة الرابعة من الحب ألا وهي الكَلَف فهواه مُتَكَلِفاً في ستر الألم وما من عاشق شوقه ستَّار .. وبالتأكيد لاحظ من حوله تغيراته الواضحة ..حاول والده فهم مايمر به لكنه دوماً يتهرب من الحديث متظاهراً بكتمان حزنه وسرعان ماتفضحه ابتسامته الباهتة ووميض عينيه المنطفئ.. حتى كريم لم يستطع اختراق هالة الإكتئاب السوداء التي تحاوطه من كل جانب وأصبح العبوس ملازماً لخطوط جبهته واختفت الإبتسامة التي كانت لا تفارق ثغره .. قرر الحديث معه بجدية أكثر فهو لن يتحمل الوقوف مكتوف الأيدي أمام حال رفيق عمره الذي انقلب مائة وثمانون درجة .. دخل عليه مكتبه وجده يتابع أعماله في صمت ..
(انت هاتفضل على الحال ده كتير؟) .. قالها كريم متخصراً والغيظ يتقافز من كلماته بينما نظر اليه ريان بعيون زائغة قائلاً (اقعد ياكريم الله يرضى عليك .. وسيبني اكمل شغلي)

أغلق كريم الملفات التي يدعي الإنشغال بها قائلاً بعصبية (أنا كل مابشوف حالتك دي ببقى عايز أضربك خمسين قلم على وشك)

وضع ريان قبضته أسفل خده مستنداً بمرفقه على سطح المكتب ثم سأله باستسلام (عايز إيه يا آخر صبري؟)

جلس كريم يرمقه بضيق قائلاً (من امتى وانت قليل الحيلة وخايب كده؟)

ابتلع ريان غصته المتورمة قائلاً بتنهيدة عميقة (من ساعة ما قابلتها وضعفي زاد أكتر لما إتأكدت اني بحبها)

حاول كريم مناقشته مُظهِراً بعض القسوة (انت جبان واللي بيخاف مابيحبش وافتكر انك اختارت الطريق ده بإرادتك.. جيبت ورا ليه من أول مواجهة؟)

زفر ريان قائلاً بنفاذ صبر (يابني قولتلك كنت رايح اتكلم معاها لقيتها بتصدني بطريقة وحشة جداً ..انا أهون عليا الموت ولا إني اترفض بالشكل ده)

سأله كريم بحنق شديد (انت بتحبها ولا لا؟).. نظر إليه ريان باستغراب ولم يرد فهدر به عالياً (رد عليا .. بتحبها؟)

أجابه ريان بتعابير تقطُر حزناً (بموت في التراب اللي بتمشي عليه).. صمت لثواني يقاوم غلالة دموع وخزت جفنيه ثم قال بصوت مختنق (هو الفراق بيوجع أوي كده ولا قلبي هو اللي بيبالغ؟)

تأثر كريم بحالته قائلاً بزفرة حانقة (روح لها ياريان وريح قلبك)

مسح ريان وجهه بكفيه قائلاً بثبات زائف (ماتيجي نروح أي مكان نغير جو شوية)

ابتسم كريم قائلاً (خلص شغلك وليك عليا هاسهرك سهرة ليها العجب بالليل)

أجبر ريان ملامحه على الابتسام يسأله بمزاح (سهرة محترمة ولا زي عادتك؟)

ضحك كريم قائلاً (زي عادتي طبعاً)

تبادل ريان معه الضحكات بشق الأنفس بينما انصرف هو لمتابعة أعماله وتركه شارداً لا يعلم كيف سيتخلص من هذا الوخز الذي يرافق أنفاسه وكأنه مسامير تُطرق داخل رئتيه لكنه لن يستطيع رد صديقه تقديراً لخوفه وقلقه الدائم عليه خاصة أنه يوجد مايدعو للقلق وبعد قرابة الساعتين عاد ليصطحبه إلى أحد الأماكن الترفيهية علّه يلتهي عن همه ولو قليلاً .. توجس ريان من هيئة المكان كثيراً وإضطر للدخول كنوع من الفضول وللأسف لم تخب توقعاته .. نظر إلى كريم يسأله بضيق (انت جايبنا كباريه؟)

أجابه كريم وهو يطوف المكان بعينيه (ده كافيه لسه فاتح جديد.. تعالى نقعد نشرب حاجة)

أطاعه ريان على مضض وجلس معه على طاولة بعيدة نوعاً ما عن زحام الفتيات المتكدسات بشكل مبالغ فيه عند المرقص.. يتمايلن بمياعة وضحكاتهن الرقيعة تجعل من الأجواء شبيهة بالملاهي الليلية .. أشار كريم إلى النادل فأتاه مُرَحِباً ليدون طلباتهما التي لم تتعدى كوبين من القهوة التركي وزجاجة مياه فقط.. أخرج ريان هاتفه متظاهراً بالإنشغال به حتى لا يتهور ويعنف ذلك الأحمق الذي أحضره لمكان كهذا ثم قال بتعابير واجمة (أنا هاشرب القهوة وهامشي على طول)

وضع كريم ساقاً فوق الأخرى يمازحه قائلاً (ماتيجي نجرب حظنا الليلة يمكن ربنا يكرمنا)

رفع ريان حاجبه يسأله باستنكار (انت عايز ربنا يكرمك وانت بتشقط؟)

ضحك كريم قائلاً (هو فيه كرم اكتر من كده؟)

رمقه ريان بنظرات تحذيرية أن يكف عن استفزاره ثم قال (مفيش فايدة فيك عمرك ماهتنضف) .. وأثناء حالتهما تلك كان على الطرف الآخر فتاة تتابع مايحدث بينهما وهي تبتسم وتغمز لهما بطريقة وقحة .. انتبه إليها ريان فأشاح بوجهه بعيداً عنها يصك أسنانه بغيظ (منك لله ياكريم الكلب)

سأله كريم باستغراب (انا عملتلك حاجة ياجدع انت؟)

جحظت عيني ريان عندما بدأت الفتاة بالتحرك نحوهما بتمايل شديد وملابسها العارية تحدد مفاتنها بشكل مثير للغثيان .. اقتربت منه تصافحه قائلة بنبرة مائعة (هاي.. أنا شاهي)

بادلها ريان تحيتها على استحياء قائلاً (أهلاً وسهلاً)

غمزت له الفتاة قائلة بإغواء متعمد (ممكن تقبل عزومتي نشرب حاجة سوا عالبار؟)

رد عليها ريان بامتعاض من طلبها ومظهرها عامةً (آسف والله مابشربش.. شوفي كريم كده لو بيشرب خديه هو)

التفتت شاهي لكريم قائلة بدلع سخيف (سوري ما أخدتش بالي انك موجود)

ابتسم اليها كريم غامزاً (ولا يهمك ياقمر)

مالت شاهي نحو ريان تقول بنفس طريقتها الجريئة (ماتيجي نرقص شوية ولا انتم هتقضوها قهوة كده وخلاص)

نهض ريان يضع هاتفه في جيب بنطاله ثم أمسك بمفتاح سيارته قائلاً (لا طبعاً كريم هايطلب زبادي بالمانجة حالاً)

ضحك كريم على دعابته قائلاً (انت رايح فين؟)

حدجه ريان بنظرات معاتبة وهم بالانصراف قائلاً (ماتسهرش كتير عشان عندك شغل بكرة بدري)

تتبعه كريم بأنظاره حتى خرج تماماً من المكان ثم قال للفتاة (أصله المدير بتاعي وشديد أوي مع الموظفين)

سألته الفتاة بإحباط (هو انت شغال معاه؟)

عض كريم شفته السفلى قائلاً (أنا الليلة شغال معاكِ انتِ يامزة) ... أطلقت الفتاة ضحكة رقيعة ثم جذبته لينهض معها نحو البار ..وعلى صعيد آخر إستقل ريان سيارته بغضب من تصرفات صديقه التي لطالما حذره منها ثم غادر سريعاً .. ظل يسير بلا وجهة وصدره يضيق بغربة موحشة ودون أن يدري ساقه قلبه إليها فوجد نفسه أمام الدار .. توقف ينتظر علّها تخرج لشرفتها ويراها لكن للأسف مر الوقت ولم يلمح طيفها.. مشط خصلاته الناعمة بأصابعه واشتياقه لرؤيتها يداهمه بشدة وأنفاسه تصرخ داخله (ليتنا نطرق الأبواب ونحتضن فإكرام المشتاق احتضانه).. وعندما تملك منه اليأس رحل بقلة حيلة وكأن أحلامه أُلقيت في بئر يوسف وروحه ترجو لقاء القافلة

*****************

في صباح اليوم التالي /

استيقظ ريان بعد نوم متقطع وليلة مرت عليه بشق الأنفس .. ظل مستلقياً فوق الفراش يحدق بالسقف يعاتب طيفها الذي لا يفارق ناظريه منذ تركها ورحل (كنت أود محادثتك ولكنكِ لم تودي ، فأخفيت ودي .. ماضرّك إذن؟).. وبعد دقائق قضاها في تفكير أضنى فؤاده وزاد من اشتياقه لها نهض مفوضاً أمره لله لعلّه يُرتبه بعد كل هذه الفوضى .. أنهى روتينه الصباحي وتسلل بهدوء إلى الخارج كي يهرب من تساؤلات والديه عن أحواله المتغيرة.. ورغم كل مايمر به لم ينسَ غضبه من كريم وقرر أن يتجنبه تماماً فهو بالفعل لا يريد رؤيته بسبب رعونة تصرفاته وتجاهل تحذيراته المتلاحقة بعدم الاستهانة بالمعصية بل وصل به الحال أن يصطحبه لمكان مشبوه كهذا وتعمد ألا يهاتفه كعادته كل صباح وبينما كان منشغلاً في متابعة أعماله دخل عليه كريم يلقي التحية بتوجس من تعابير وجهه الجامدة (إيه ياريكو مفيش صباح الخير؟)

رد عليه ريان وهو يوقع بعض الأوراق بعدم اكتراث (هو فيه صباح الخير بتتقال الساعة 3 العصر؟)

حاول كريم تلطيف الأجواء قائلاً بمزاح (خلاص مساء الخير)

ترك ريان القلم من يده ثم استند بمرفقيه على المكتب يضم قبضتيه أمام صدره قائلاً بغضب واضح (مساء الزفت على دماغك)

إبتسم كريم بسماجة قاصداً استفزازه (ويهون عليك كركورك حبيبك؟)

صك ريان أسنانه بعصبية (اطلع برا ياكريم أنا مش طايق أشوفك)

أخفض كريم بصره خجلاً منه فهو يعلم جيداً أنه لن يمرر ماحدث مرور الكرام فتابع ريان هادراً (انت مش هاتبطل رمرمة يالا؟)

أطرق كريم رأسه لأسفل كتلميذ راسب يتلقى العقاب من ولي أمره قائلاً (بحاول والله ومش بروح الأماكن دي غير لما بكون مخنوق).. صمت لثواني يستجمع الكلام في عقله ثم أردف (أنا عايش لوحدي ياريان وانت عارف)

قاطع ريان تبريراته الواهية بنبرة مرتفعة (ماتتجوز وتلم نفسك ولا انت فرحان بالأشكال القذرة اللي بتعرفها .. وكام مرة حذرتك انك ماتجرجرنيش معاك فالقرف ده وبرضه مفيش فايدة).. حاول ضبط انفعالاته كي لا يتهور ويلكمه في وجهه ثم سأله بأعين مشتعلة (روحت إمتى امبارح؟)

أجابه كريم بخوف (قعدت عالبار شوية وبعد كده سيبت البنت ومشيت)

باغته ريان بسؤال آخر وصوته بدء يعلو أكثر (شربت خمرة؟) .. أومأ كريم إيجاباً دون حديث فخبط ريان بكفه على المكتب بنفس النبرة المرتفعة (امشي من وشي ياكريم ، ومن انهارده انا مش عايز اعرفك)

رفع كريم عينيه الغائمة ينظر إليه برجاء (لا ياريان كله إلا انت) .. زفر ريان وأشاح بوجهه بعيداً عنه ولم يرد فاقترب منه يقبل رأسه قائلاً (حقك عليا والله أنا آسف)..

بادله ريان نظرته الراجية بأخرى معاتبة قائلاً بجدية (انت عارف ان جسمك كله هايفضل غير طاهر ولا هايتقبل لك صلاة ولاهايترفع لك دعوة لمدة أربعين يوم ولو لا قدر الله مُت هاتبقى ميت على معصية؟).. صمت لثواني يحاول تهدئة أعصابه ثم تابع (أنا دايماً بدعي اننا نفضل صُحبة دنيا وجنة.. عايز تحرمني منك فالآخرة بغبائك؟)

احتضنه كريم يقول بندم (والله آخر مرة اعملها)

شدد ريان عناقه ثم أبعده برفق قائلاً (ربنا قال * إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا*)

ابتسم كريم قائلاً (صدق الله العظيم.. وانا اوعدك اني عمري ماهقرب من أي حاجة حرام تاني)

وأثناء حالتهما تلك قاطعهما رنين هاتف المكتب معلناً عن اتصال من رانيا السكرتيرة.. أجابها ريان سريعاً فأتاه ردها الرسمي المعتاد تبلغه (فيه دعوة لسه واصلة حالاً من دار وسيلة علوي.. أدخلها لحضرتك ولا أسلمها لمكتب بشمهندس سعد؟)

انفرجت أسارير ريان كثيراً قائلاً (دخليها فورا) ... وفي غضون ثواني كانت رانيا تسلمها له يداً بيد ثم انصرفت.. فتحها ريان بلهفة شديدة وكأنه سيرى وجه مريم بين دفتيها.. اتسعت ابتسامته عندما عَلِمَ أن الدار تدعوه بصفة رسمية لحضور حفل يوم اليتيم الموافق أول جمعة من شهر إبريل الجاري.. أطلق تنهيدة عميقة من جوف رئتيه فسأله كريم بترقب (فيه ايه؟)

ناوله ريان إياها قائلاً بابتسامة عريضة (افتحها وانت تعرف)

أخذها كريم ليفتحها ويقرأ مابها ثم قال متهللاً مثله (ايه الخبر الحلو ده؟)

أجابه ريان بسعادة (شوفت تدابير ربنا؟.. وانا اللي مانمتش من امبارح وبفكر في طريقة عشان اشوفها)

ضيق كريم عينيه يسأله بمرح (وحشتك؟)

مسح ريان وجهه وخصلاته بكفيه قائلاً بتعب (روحي رايحة من غيرها ياكريم)

اسند كريم مرفقه على المكتب واضعاً قبضته أسفل خده قائلاً بطريقة عاطفية مبالغ فيها (طبعاً هاتاخدني معاك يانحنوح؟)

رفع ريان حاجبه قائلاً (آه ولا البيه ليه رأي تاني؟)

رد عليه كريم مستنكراً (ماهو انا العبد الحبشي اللي امك اشترته ليك)

ضحك ريان قائلاً (انت سايب شغلك وقاعد مآنسني ليه؟)

خبط كريم على المكتب يقول باعتراض (ولا .. ولاااا ماتعملش مدير عليا دول كلمتين كنت بظبطك بيهم قدام المزة)

أشار ريان نحو الباب قائلاً بغرور زائف (مدير غصب عنك ويلا انجر على مكتبك بدل ما أخصم لك نص شهر)

نهض كريم يقول بمزاح (حسبي الله ونعم الوكيل فيك انت وابوك يامفتريين ياللي واكلين شقايا وتعبي)

عقد ريان ذراعيه قائلاً بتعابير أصبغها بجدية مصطنعة (أقسم بالله لو ماخلصت شغلك لاخصملك بجد)

اتجه كريم نحو الخارج وهو يدعو (تصرفوهم عالأدوية والدكاترة يارب) ..قهقه ريان بشدة على دعابته يراقب خروجه الكارثي حتى تأكد من مغادرته كلياً ..توقف عن الضحك بشق الأنفس ثم أمسك بطاقة الدعوة يتأملها وكأنها مفتاح دخوله إلى الجنة وقلبه يتراقص بين أضلعه طرباً

**************

في ڤيلا سعد زين الدين /

انهى ريان عمله ثم عاد إلى الڤيلا بعد يوم طويل ومرهق على جميع الأصعدة النفسية والجسدية.. صعد بهدوء لغرفته ولم تنجح محاولات نجاة في اقناعه بتناول بعض الطعام فالجوع آخر شعور ممكن أن يشعر به .. أخذ حماماً دافئاً وارتمى فوق فراشه بتعب وقلبه يتأرجح بين سعادة تبكي وإحباط يضحك على خيبته .. ورغم انها لم تكن الليلة الأولى التي تخلو من رؤية مليحته إلا إنه يفتقدها أكثر من ذي قبل وأثناء حالته تلك انتبه لصوت طرقات خفيفة على الباب نهض بتثاقل ليرى من الزائر الداعي وجد والدته تقف أمامه بملامح يبدو عليها القلق (كنت عايزة أتكلم معاك شوية)

دعاها للدخول قائلاً بتعجب (انا تحت أمرك طبعاً ..اتفضلي )

جلست على الأريكة المقابلة للفراش وأشارت إليه أن يقترب منها قائلة بابتسامة مشجعة (تعالى اقعد جنبي)

أطاعها متوجساً بينما أمسكت هي كفه تقول باهتمام (نجاة قالتلي انك مارضيتش تاكل).. صمتت لثواني تتأمل وجهه المُتعب ثم تابعت متسائلة بحنان ليس متبادل بينهما (مالك ياريان.. فيك إيه؟)

تفاجأ من سؤالها لكنه لم ينكر سعادته لأنها أحست بما يختلج صدره قائلاً بتنهيدة متوجعة (مفيش حاجة.. ممكن يكون إرهاق من ضغط الشغل)

رفعت كفها الحر تمسح به على وجنته قائلة (وما بتاخدش أجازة تريح فيها أعصابك ليه؟)

نظر إليها وعينيه تلتمع بدموع حبيسة يغذيها شعور بالألم وقال بصوت مهزوز (ممكن أطلب منك طلب؟)

لم تدري لماذا آلمها قلبها عندما انتبهت لمقلتيه الغائمتين قائلة بتأثر (اطلب ياحبيبي)

حاول السيطرة على ارتعاشة ملامحه قائلاً بصوت مختنق (احضنيني)

كلمته البسيطة نزلت على قلبها كضربة خنجر قاتلة فتته ولأول مرة منذ عودتها من السفر تشعر بأنها لا تريد سوى رؤية ابتسامته.. ذلك الحزن الذي يكلل نظراته لا يليق به ..ريان مازال صغير جداً عليه .. صغير في نظرها بحجم عصفور لم ينبت ريشه بعد.. قوست رويدا شفتيها لأسفل بطريقة طفولية تقاوم البكاء ثم احتضنته بقوة وكأنها هي التي تحتاج حضنه ليس هو.. أطلق ريان آهة عالية بين ذراعيها كمغترب عاد لأرضه بعد ضياع وتيه ورغماً عنه خانته دموعه .. هنا وطنه حيث يمكنه البكاء بحرية ..هنا وسادة أمه الناعمة وصدرها الآمن و زاده من خير الدنيا .. هنا فقط ينضج قلبه وتطيب له الحياة.. وبعد وقت ليس بقليل هدء روعه وبدء يستكين قليلاً ثم ابتعد عنها برفق يمسح وجهه المُحمر من أثر البكاء قائلاً بخفوت وخجل (أنا آسف ماقدرتش أتحكم فنفسي)

احتضنته رويدا مرة أخرى بقوة أكبر قائلة بنبرة يغلفها الندم (أنا اللي آسفة).. صمتت لثواني تقاوم غلالة دموع وخزت جفنيها ثم استطردت بشهقة بكاء فقدت السيطرة عليها (آسفة عشان ما استاهلش أكون أم ليك..)

أبعدها عنه قليلاً يطبع قبلة عميقة فوق جبهتها قائلا (ماتقوليش كده تاني عشان خاطري.. أنا بحبك أوي يا ماما.. بحبك أكتر مما تتخيلي.. ولو حطوا الدنيا كلها في كفة وانتِ في كفة هاختار كفتك)

رفرفت بأهدابها تسأله بفرحة كالأطفال (يعني انت مش بتحب جدتك أكتر مني؟)

ابتسم قائلاً (أبداً والله.. أنا طول عمري بدور عليكِ في حضنها)

أخفضت بصرها قائلة (كان نفسي أكون أقرب حد ليك ، واتمنيت كتير افتح قلبي واتكلم معاك ، بس ميلك لأهل ابوك عمل حاجز بيني وبينك ، وبدل ما اعوضك عن السنين اللي غيبتها عنك خليتك عايز تسيبني وترجع تعيش معاهم تاني)

رد عليها بعتاب (بالعكس انا متمسك بوجودك جداً وإلا كنت مشيت بعد ماضربتيني عشان چيسي)

رفعت أنظارها إليه قائلة بأسف (حقك عليا)

لثم ظاهر كفها بقبلة عميقة ثم قال (تعيشي وتضربيني يا ست الكل)

مسدت خصلاته الناعمة قائلة بحنان (انت حلو أوي ياريان ، حلو لدرجة اني مستخسراك فيا ، الحسنة الوحيدة اللي بشكر جدك وجدتك عليها انهم ربوك كويس)

سألها بعدم فهم على ذكر سيرة أهل والده (ممكن أعرف انتِ ليه واخدة موقف منهم؟)

تنهدت بعمق ثم قالت (زمان أول ما اتجوزت ابوك كان لسه مهندس صغير على قده ، عافر كتير هنا وحاول يعمل كيان ويأسس شركته الخاصة ، بس للأسف الظروف ما ساعدتوش ومابقاش قدامه حل غير انه يسافر بره مصر ، مسك في أول فرصة وقرر الهجرة وطلب مني أروح معاه ، انا وافقت لأني كنت بحبه أوي وماقدرتش أسيبه يتغرب لوحده ، لكن جدك وجدتك رفضوا ومن ضمن حججهم كنت انت)

قاطعها متسائلاً بتعجب (أنا؟! .. ليه؟)

إرتفع جانب وجهها بشبه ابتسامة متهكمة (جدتك كانت متعلقة بيك اوي ، ولما ابوك قال ان كلنا هنسافر تعبت ودخلت المستشفى ، وطبعاً جدك ماقدرش يشوفها بتضيع منه وحكم علينا نسيبك معاهم).. صمتت لثواني تبتلع غصة تورمت بحلقها أثراً للذكرى السيئة التي مرت بها ثم أكملت (عيطت كتير وتعبت أكتر لما خدوك من حضني غصب ، وياما اتحايلت على ابوك يرجعني مصر عشانك ، وكل مرة كان يقوللي السنة دي بس يارويدا وهانرجع لحد ما عدى عليا 23 سنة وأنا مقهورة وقلبي بيتقطع عليك ).. لم تتمالك رويدا نفسها وسقط قناع القسوة الزائفة التي لطالما ادعتها وبكت بحرقة شديدة تقول من وسط دموعها (23 سنة ياريان كنت بموت فيهم بالبطئ وانت بتكبر بعيد عن حضني وبتتعلق بأم تانية غيري ، 23 سنة كنت كل يوم اشتري لعبة جديدة واقعد اتخيل اني بلعب بيها معاك ، 23 سنة اتحرمت من صوتك وانت بتقولي ياماما ، وأصريت ان ابوك يعمل أوضة ليك عشان لما توحشني ادخل انام فيها واحضن حاجة من هدومك واشم ريحتك).. احتضنها ريان يمسح على ظهرها بحنو بالغ بينما تابعت هي بنشيج مرير (كنت بدخل الأوضة دي اكلم نفسي واحسب عمرك واقول ياترى طوله بقى قد ايه، كنت بعمل الأكل اللي بتحبه وأكله لوحدي ، وأكتب الحدوتة اللي كنت بحكيهالك وأقراها لوحدي ، واغنيلك الأغنية اللي كنت بغنيهالك وانام عليها وانا بعيط لوحدي).. صمتت لثواني تشهق ببكاء أعلى فضمها إلى صدره أكثر قائلاً (بابا كان فين من كل ده؟)

أجابته منتحبة أكثر بالبكاء (كان أناني مابيفكرش غير في نفسه) ..

طبع قبلة عميقة على وجنتها قائلاً (إهدى ياحبيبتي .. أنا خلاص معاكِ وجنبك)

ردت عليه بقهر (بعد ماسرقوا مني أجمل سنين عمري ، وفاطمة هي اللي بقيت أمك مش انا؟)

ابعدها عنه قليلاً ثم احتوى وجهها بين راحتيه قائلاً (مفيش حد فالدنيا قدر ياخد مكانك في حياتي ، جدتي بكل حنيتها وحبها ماعرفتش تعوض وجودك ، و كلمة ماما مطلعتش من قلبي إلا ليكِ) .. صمت يزيل دموعها بإبهاميه وأردف مبتسماً (فيه حاجات ماينفعش تتعوض زي حضنك ، ولعلمك بقى أنا فاكر الحدوتة والأغنية بتوع زمان) ..

بادلته ابتسامته بأخرى مرتعشة رغم ما يعتريها من ألم تغني بصوت مبحوح (سوسة سوسة سوسة .. سوسة كف عروسة)

أسند رأسها على صدره مكملاً الأغنية (سوسة واللي يسقف يستاهل مني بوسة.. يستاهل مني بوسة).. بدأت رويدا في الغناء معه ليتحد صوتيهما معاً ويستعيدا ذكريات تخلت عنهما غصباً (سوسة خبط خبط .. طبطب يابو كف مبطبط .. ولا تغلط ولا تتلخبط ده مفيش أسهل من سوسة.. صقف خلي الضحكة ترف .. وارقصلي ولف ولفلف.. رقص قلبي المتلهف على تصقيفة ننوسة.. على تصقيفة ننوسة)... أنهى المقطع ضاحكاً يقول بمزاح (عاجبك كده مرمطةkg2 اللي احنا فيها دي؟)

ضحكت على دعابته قائلة (ما شاء الله أطول مني وقاعد تغني ولا كأنك لسه راجع من الحضانة)

أبعد ريان رأسه عنها قليلاً قائلاً باستنكار (انتِ بتعملي فيا حاجات غريبة على فكرة)

أمسكت ذراعه تحثه على النهوض قائلة بمرح (تعالى عشان احكيلك الحدوتة قبل ماتنام)

اطاعها مستسلماً ببراءة مصطنعة (مش حلوة في حقي والله ، ده انا بيقولوا لي البشمهندس راح ، البشمهندس جه)

جلست على الفراش ثم جذبته ليستلقي بجوارها قائلة وهي توسده أحد ذراعيها (بشمهندس على نفسك ، انت هنا ابني وبس)

إختبأ في حضنها أكثر قائلاً بخفوت (ماما! ، حطي ايدك على راسي)

وضعت يدها على رأسه وبدأت تمرر أصابعها برفق فوقها قائلة (لسه بتحب الحركة دي قبل ماتنام؟)

رد عليها بصوت ناعس متأثراً بتلك الحيلة القديمة التي كانت تمارسها لتجعله ينام أسرع (آه ووحشتني أوي منك).. مسدت خصلاته الناعمة بحنان بينما أحاطها بذراعه يهمهم قبل أن يغلبه النعاس (تصبحي على خير)

طبعت قبلة رقيقة فوق جبهته قائلة (وانت من أهله ياحبيبي).. ولم تمر دقائق حتى لحقت به وغطت في سُبات عميق ولأول مرة تشعر بتلك الراحة منذ عودتها من سفرها الطويل.. وبعد قرابة الساعتين وصل سعد إلى الڤيلا.. تفاجئ كثيراً عندما أخبرته نجاة بمكوث رويدا مع ريان بغرفته وزادت دهشته وانفرجت أساريره بمجرد رؤية نومتهما اللطيفة ... تلك اللحظة التي انتظرتها زوجته طيلة سنوات عاشتها تتجرع مرارة حرمانها من صغيرها عنوة.. غصة لم تتجاوزها وزادت من حدة عداءها الصريح لأهله بل تطور الأمر وساءت معاملتها لريان غيرةً وغضباً من تفضيله لهما عليها أو كما تظن.. ولم ينكر أبداً خطأه الجسيم بحقها وحق ولده أيضاً ، لذلك يتغاضى عن معظم تصرفاتها كنوع من تأنيب الضمير وأخيراً استكان قلبها بالقرب منه بعد شقاء وغربة موحشة أصابت علاقتهما بالعطب

*************

ابتسم النهار بإشراقته المنعشة وافترشت الشمس قلب السماء مّسدِلة جدائلها البهية على زجاج نوافذ المحبين .. تغمز بطرفها لأحلامهم وتنقشها بلآلئ نورها الحاني.. استيقظت رويدا وجدت نفسها نائمة بجوار ولدها في غرفته.. ظلت لبضع دقائق تتأمل ملامحه الجميلة بعين أم حقيقية تحبه كثيراً .. مازالت تراه ذاك الطفل الصغير الذي يركض حولها ويملأ الدنيا ضحكاً ولعباً .. كان شقياً .. خفيف الظل ويتلعثم دوماً في أغلب حديثه لكنه لم يخطئ أبداً نطق كلمة (ماما).. لطالما خرجت حروفها من بين شفتيه صادقة لا يشوبها تجميل.. والآن تعترف بقرارة نفسها وأمام عينيه المغمضتين أنه أطهر وأنقى مافي حياتها ولن تكون سبباً في كسر خاطره.. ومن اليوم فصاعداً ستقف بكل قوتها في وجه من يريد به وبقلبه سوء مهما كلفها الأمر ولتذهب ابنة شقيقتها إلى الجحيم .. تنهدت رويدا بعمق و مالت لتقبل وجنته هامسة بجدية وكأنها تحفر الكلمات داخل عقلها (إبني ومن بعده الطوفان) .. استقامت واقفة تلقي عليه نظرة حانية قبل أن تخرج من الغرفة عاقدة النية على تحضير مفاجأة ستسعده كثيراً .. اتجهت نحو المطبخ وأعطت جميع العاملين بالڤيلا أجازة ثم صعدت مرة أخرى لتوقظه .. تمطا ريان بذراعيه عندما فتحت الستائر يتثائب بتثاقل فابتسمت له قائلة (صباح الخير يا حبيبي)

رد عليها بصوت ناعس (صباح النور)

وقفت مبتسمة أمام الفراش تقول وهي تزيح عنه الغطاء برفق (قوم خد دُش بسرعة عشان نفطر سوا واعمل حسابك مفيش شغل انهاردة)

بادلها ابتسامتها بأخرى مُشرقة قائلاً (حاضر ياست الكل ثواني واكون جاهز)

سألته بأسارير منفرجة (هو انا بجد ست الكل بالنسبة ليك ياريان؟)

نهض من الفراش كلياً ثم أمسك كفها يقبل ظاهره قائلاً (انتِ ست الكل وست الدنيا وست قلبي كمان)

مسحت على وجنته بكفها الحر قائلة بأعين دامعة (قولتلك قبل كده اني بحبك أوي؟)

ضحك بخفة قائلاً وهو يضم رأسها لصدره طابعاً قبلة عميقة فوق جبهتها (لا والله ماحصل)

نظرت إليه بتعابير مرتعشة أيقن منها أنها على وشك البكاء فضمها مجدداً يقول (عشان خاطري ماتعيطيش تاني يا ماما دموعك بتوجعني) .. صمت لثواني ثم أردف بمزاح (هاتفطرينا ايه يارورو؟)

أجابته وهي تبتعد عنه برفق (تعالى عالمطبخ انا عاملة ليك مفاجأة)

تحرك ريان نحو خزانته ليأخذ منشفة قائلاً بسعادة (هاغير هدومي بسرعة واحصلك)

خرجت رويدا من الغرفة بينما وقف هو يراقبها بأنظار فَرِحة.. الآن يشعر بالاكتمال وأخيراً والدته وهبته لحظات من الحنان الذي كان مندثراً بينهما.. فتحت له قلبها وسكبت آلامها جميعها فوق صدره .. وكم كان مشتاقاً لهذا الانسكاب المُلوَن بعاطفة فطرية خالصة لوجه الأمومة .. تلك التفاصيل الرائعة والذات الملائكية شُوِهَت رغماً عنها وحمّلتها من الوجع ما لا تطيقه أنثى.. رغبة في البكاء اجتاحت مشاعره عندما تذكر حديثها ووصفها لمعاناتها طيلة السنوات التي عاشتها بعيدة عنه داخل هوة سحيقة من الغربة الموحشة لكنه تماسك حتى لا يفسد صباحه الجميل وأقسم أن يعوضها عما آذاها فهي أمه و حبه الثابت الذي لايتغير ولا يُعاد..أفاق من شروده على رنين الهاتف باتصال من كريم.. أجابه سريعاً ليخبره بعدم ذهابه للعمل اليوم ثم شرع في انهاء روتينه المعتاد وبعد دقائق لحق بها نحو المطبخ كما طلبت منه.. فغر فاهه بمفاجأة فلأول مرة يرى رويدا هانم صاحبة المقام الرفيع تقف أمام الموقد مرتدية (مِرْيَلَة المطبخ) تجهز طعام الإفطار بنفسها.. إفترَّت شفتيه بابتسامة واسعة واقترب منها قائلاً بمزاح (أنا مش مصدق عينيا .. أمي حفيدة أوغلو أغا واقفة بتعمل بيض بالبسطرمة)

شهقت رويدا قائلة بحنق (مين حفيدة أوغلو أغا دي؟)

قبل ريان وجنتها قائلاً بمرح (ده اسم كريم مطلعه عليكِ)

لكزته رويدا في كتفه متذمرة (بقى كده سايبه يتريق عليا؟)

أحاط ريان كتفها قائلاً ببراءة مصطنعة (بيهزر معاك ياسليل البشوات يا أرستقراطي انت ياجميل)

ابتعدت عنه رويدا سريعاً تحمل المقلاة الساخنة لتضعها فوق الطاولة الموجودة بمنتصف المطبخ قائلة (لما اشوفه هاشده من ودانه)

ساعدها ريان في تجهيز باقي المائدة متسائلاً (هو بابا فين؟) .. لم يكمل ريان كلمته حتى وجد والده يدخل عليهما مرتدياً ملابس بيتية مريحة فأدرك أنه لن يذهب أيضاً للشركة اليوم .. ابتسمت رويدا عندما رأته قائلة (كويس انك صحيت عشان نفطر كلنا سوا)

بادلها ابتسامتها بأخرى مُشَجِعة يسألها (إيه الروايح الحلوة دي عالصبح؟)

أجابته بحماس (ده بيض بالبسطرمة عملته عشان ريان)

سحب الكرسي ليجلس على رأس المائدة قائلاً بأسارير مبتهجة (شكله يفتح النفس جداً)

جلست على يمينه تقول لريان (اقعد جنبي ياحبيبي)

أطاعها ريان قائلاً بنبرة ممتنة (تسلم ايدك يا ست الكل).. أنهى حديثه بنظرة حانية ثم لثم ظاهر كفها وشرع في الأكل بينما هي ظلت تتأمله وفرحتها بكلمة (ست الكل) تشبه فرحة طفلة صغيرة تستقبل سكاكر العيد من يدي والدها .. ران صمتاً هادئاً عليهم قطعه سعد موجهاً الحديث لزوجته (بقالنا زمان ما أكلناش من إيدك يارورو)

إبتلعت رويدا طعامها الممتزج بغصتها المؤلمة ثم قالت بهدوء ينافي ماتشعر به (من يوم ماسافرت وسيبت ريان)

وزَّع سعد نظراته بينها وبين ولده الذي توقف عن الأكل يحدق في الفراغ أمامه وعلامات الحزن تعتلي وجهه وتولى هو مبادرة الرد عليها محاولاً التخفيف عنها (انتِ عمرك ماسيبتيني ياماما)

تركت رويدا الطعام ثم طالعته بأعين غائمة متسائلة (الأكل عجبك؟)

أجابها ريان مبتسماً رغم وجعه لمنظر الدموع المتحجرة بمقلتيها (أجمل مرة أكلت فيها بيض بالبسطرمة) .. صمت لثواني يستجمع نفسه المشتتة بين دموعها ومحبته الكبيرة لوالده الذي أحس للحظة أنه مستاء منه لخطأه في حقها وحقه أولاً ثم قال (بعد إذنك يا بابا .. أنا مش هاروح الشركة انهاردة)

أومأ له سعد بموافقة وأسف في آن واحد (مفيش مشكلة ياحبيبي.. وعلى فكرة انا كمان قاعد معاكم)

تهللت رويدا كثيراً وسألته بفرحة (بجد ياسعد؟)

رفع سعد كفها نحو شفتيه يقبل ظاهره قائلاً (بجد يا أم ريان) .. وكان لوقع الكلمة أثراً عميقاً في نفسها.. دوماً أرادت سماعها منه بهذا الصدق.. أن يعطيها حقها المسلوب ويسميها بإسم صغيرها فهي كانت ومازالت وستبقى أم ريان الوحيدة .. لا حنان الجدة ولا رعاية المربية ولا حب ذلك العالم الأجوف بدونه يعوض نظرة من عينيها أو مسحة بكفيها فوق رأسه ولا حضن يتسع لقلب المرء ويدثره أدفأ من حضن أمه .. حاولت رويدا السيطرة على انفعالاتها ورسمت ابتسامة مرتعشة على وجهها تسأل ولدها (فاكر بيتنا القديم ياريان؟)

رد عليها ريان بهدوء (طبعاً فاكره.. تقريباً كان في المنيل).. بينما قال سعد بتعجب (ايه اللي فكرك بيه أنا بيعته من زمان؟)

ردت رويدا على زوجها بصوت مهزوز (أصله وحشني اوي)

حانت من ريان التفاتة تجاه والده يصحبها نظرة معاتبة تحمل الكثير من التساؤلات أولها وأوجعها (لماذا قتلت كل ذكرياتها وأهدرت سنوات عمرها في الغربة بجوارك؟.. ولماذا أرضيت والديك على حساب أمومتها وشوهتها نفسياً بهذا الشكل المزري؟).. لم يتحمل سعد نظرات ولده اللائمة وأخفض بصره دون حديث بينما حاول ريان تغيير الأجواء قائلاً لوالدته بلطف (ماتيجي نعمل حاجة جديدة انهاردة يا ماما)

تحمست رويدا قائلة (انا كنت هاعمل ورق عنب عالغدا.. إيه رأيك تساعدني؟)

ضيق ريان نظراته ثم وجهها نحو والده قائلاً (قصدِك نساعدِك)

قلَّب سعد عينيه بينه وبين زوجته ثم تنحنح قائلاً بحرج وهو يشعر بالتدبيس (آه وماله نساعدها مفيش مشكلة)

تهللت أسارير رويدا كثيراً ونهضت تنفض يديها من آثار الطعام متجهة نحو البرَّاد تقول بسعادة (أنا عندي الحاجة كلها جاهزة)

رد عليها ريان متعمداً إثارة غيظ سعد (بابا شكله متحمس أوي عشان يخرط البصل)

رفع سعد حاجبه بحركة اعتراضية صامتة فتابع ريان متسائلاً بمكر (ولا إيه ياسعودي؟)

لكزه سعد في ذراعه هامساً بحنق (قصدك سعدية ياحيوان)

كتم ريان ضحكته بشق الأنفس هاتفاً على والدته (البصل يارورو بسرعة لاحسن سعودي مش قاعد على بعضه)

فَرَدَ سعد كفه أسفل ذقنه ثم سحبه لأسفل ضاماً أطراف أصابعه قائلاً بتوعد (لينا شركة تلمنا يا ابن رويدا)

ابتسم ريان بسماجة قائلاً (بكرة الجمعة ومش هاتعرف تعمل معايا حاجة)

هم سعد بتلقينه درساً في بر الوالدين لكن اقتراب رويدا منهما وهي تحمل أطباق عديدة مملوء بمكونات الطبق الشهير أسكته قسراً .. وضعت ماتحمله فوق المنضدة قائلة بلهجة آمرة (اغسلوا إيديكم والبسوا مرايل المطبخ وغطوا شعركم).. تبادل كليهما النظرات المتعجبة ولم ينبسا ببنت شفة بينما أشارت هي نحو خزانة مخصصة لتلك الأغراض تقول بحماس (هتلاقوها هنا).. إمتثلا لأمرها في صمت ونهضا بتريث لينفذا ماطلبته منهما ثم عادا ليلتفا حول الطاولة في انتظار إشعار آخر من سيدة المطبخ الراقي التي وزعت المهام عليهما وشرع الجميع بتنفيذ ما أُسنِدَ إليه وسط أجواء يسودها المرح لكن كُلٍ يخفي في نفسه شئ من بقايا الماضي.. رويدا تريد صُنع ذكريات جديدة مع ولدها عِوَضاً عن التي اندثرت بين طيات سنوات الهجرة.. وسعد يجاهد على التعامل بصورة طبيعية أمام ريان متحاشياً النظر إليه مباشرةً حتى لا يشعر بالخجل من سوء تصرفه.. أما عن ريان فكان يتظاهر بأن الوضع على مايرام لكن الحقيقة أنه يحمل عتاباً كبيراً تجاه والده ولا يعلم كيف سيتجاوز تلك الغصة المريرة التي نبتت في قلبه مما بدر منه .. الأمر أكبر من مجرد تعاطف مع حزن والدته الذي أكل عمرها وحولها لشبح إمرأة تعيش فوق أطلال أمومة سُلِبَت منها.. هو يشعر لأول مرة في حياته بالخذلان.. وممن؟!.. من أقرب الناس إليه .. وكعادته خانته عيناه وحانت منه نظرة طويلة نحوه أيقن منها سعد أن صورته إهتزت داخل إبنه الوحيد.. مرَّ الوقت سريعاً وبعد إنتهائهم من إعداد الوجبة الشهية قامت رويدا بضبط الأواني فوق الموقد وإشعاله بدرجة حرارة معينة ثم استأذنت لتبدل ملابسها التي اتسخت بعض الشئ تاركة إياهما في مواجهة بعضهما البعض دون قصد.. وبعد دقائق من الصمت المتخاذل قرر سعد الإجابة على كل الأسئلة التي تدور في محجري ولده دوران المُقَل وتحدث بحرج (بلاش تبصلي كده .. أنا مش هاستحمل نظرات الإتهام اللي باينة في عينيك دي)

عقد ريان ذراعيه أمام صدره متسائلاً بلوم (ليه يا بابا؟)

أجابه سعد بثبات زائف (عشان ده كان الصح وقتها)

سأله ريان مجدداً بنبرة شديدة العتاب (الصح إنك تحرم أمي مني؟.. ولا الصح إنك تحرمني منها؟)

رد عليه سعد محاولاً إختلاق الأعذار (كنت عايز أرضي كل الأطراف.. إتشتت بين أهلي وبينها وحاولت أعوضها عن..)

قاطعه ريان بحدة طفيفة (تعوضها عني؟).. صمت ريان لثواني ثم أردف متعمداً الضغط على منطقة الشعور بالذنب لديه (عن ابنها الوحيد؟)

تنهد سعد بألم قائلاً (ماقدرتش أشوف جدتك تعبانة وبتموت وأقف أتفرج عليها.. بالذات ان عمتك ليلى الله يرحمها اتجوزت في بلد تانية وزياراتها ليهم كانت قليلة جداً ، وانت أكتر واحد عارف هي متعلقة بيك قد إيه ، ده غير إني كنت حابب تتربى على إيد جدك)

_ (مش على حسابي وحساب أمي).. قالها ريان بحزن إرتسم بوضوح فوق ملامحه المكفهرة ثم استطرد بوجوم (انت ظلمتها زمان ودلوقتي بتخلق أعذار لظلمك وبترمي الغلط على غيرك يابابا.. وكرهها لجدي وجدتي حصاد للبذرة اللي زرعتها جواها ناحيتهم)

فغر سعد فاهه بصدمة من حديث ولده (كنت عايزني أعمل إيه؟)

نظر ريان إليه قائلاً بعبوس (أي حاجة غير إنك تفرق أم وإبنها عن بعض)

شعر سعد بخزي شديد جرَّاء تلك المشادة الحزينة بينهما وقال مطرقاً برأسه لأسفل (اللي حصل حصل ياريان وربنا عالم إني بحاول أعوضها عن الغلطة دي )

تسربت بعض الشفقة عليه لقلب ريان فربت فوق كفه قائلاً بأسف (ماتزعلش مني ...)

قاطعه سعد متفهماً لمشاعره (ماتعتذرش يابني إنت عندك حق وأمك كمان عندها حق.. وكل اللي بطلبه منك إنك تقرب منها بس ماتكرهنيش)

لم يتحمل ريان كلمات أبيه المتألمة ونهض يحتضنه بشدة قائلاً بصوت مختنق بالبكاء (أنا لا عشت ولا كنت يوم ما أكرهك ، إنت روحي يا بابا)

شدد سعد عناقه قائلاً بحب (وإنت نور عينيا وعمري كله)

ابتعد عنه ريان برفق يقول بابتسامة جميلة (حقك عليا والله ماقصدتش ازعلك)

مسح سعد على وجنته قائلاً بلطف (ولا يهمك ياحبيبي أنا مقدر تعاطفك مع أمك)

رد عليه ريان بإيماءة صامتة فاستطرد سعد وهو ينهض من مقعده (أنا هاطلع أغير هدومي واشوفها بتعمل ايه)

تبعه ريان يقول غامزاً بعبث (دلعها ياسعودي الست محتاجة احتواء)

أحاطه والده بذراعه ليسيرا سوياً قائلاً بمرح (بحتويها والله بس هي اللي قلبها لسه شايل)

أجابه ريان ضاحكاً (ماتعملش عقلك بعقلها وخدها بالراحة لحد ماتنسى ، دول 23 سنة ياجبار)

تعالت ضحكات سعد على حديث ولده قائلاً (ربنا يستر من لمتكم سوا)

وصلا كليهما للطابق الأعلى وقبل أن يدخل ريان لغرفته نظر لوالده قائلاً بنبرة هادئة (هاخد دوش سريع وانزل استناكم عشان الغدا).. صمت لثواني ثم أردف بتشجيع (عايزين نقضي يوم حلو مع بعض)

أومأ له سعد إيجاباً ثم قال بموافقة (ماشي)

وبعد قرابة النصف ساعة تجمع ثلاثتهم مجدداً حول المائدة ليتناولوا طعام الغداء في جو أسري هادئ .. لطيف.. ليس من طبيعة هذا البيت الذي شهد الكثير من المشاحنات والشجارات المبررة والغير مبررة.. وعلى مايبدو أن الضحكة الغائبة عادت بعودة حقيقية للإبن إلى أحضان والدته.. عودة خالية من الأحقاد والعناد والغيرة من اللاشئ.. مليئة بالحب والاحتواء والتعويض عن سنوات عجاف عاشها الطرفين ممزقين بين الغربة والجفاء.. انقضى الوقت بينهم سريعاً وأثناء اندماجهم في مشاهدة التلفاز استلقى ريان لينام واضعاً رأسه في حِجر أمه .. يشعر بأن قلبه أصبح أكثر نبضاً وأن رجولته اكتملت تحت أصابعها التي تعبث بخصلات شعره الناعمة..

*********************

مرت الأيام سريعاً واكتملت تحضيرات الحفل المُرتَقَب.. الجميع على أهبة الاستعداد لتقديم الأفضل ولم تتوانى ريهام في اختيار كل شيء على ذوقها الخاص بدءًا من ملابس الأطفال مروراً بديكورات القاعة حتى فستان مريم الذي ستظهر به أمام الجمهور .. أما عن مريم فكان حال قلبها كما هو.. رغم محاولاتها في الالتهاء عن التفكير به إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً في إخراج ذلك الشعور المؤلم من صدرها .. وآثرت الصمت لعل الأيام تداويها لكن الوجع الحقيقي لا يُحكى .. قد يُقرأ في الملامح.. في نبرة الصوت.. في لمعة العبرات داخل الأعين وفي رجفة الكلمة لكنه لا يُحكى أبداً.. ولم تنكر أن أمر الحفل هوَن عليها بعض الشئ خاصةً بعدما أخبرتها رفيقتها بالدعوة التي أرسلتها الدار إلى شركة الريان فبات الأمل بداخلها يبهجها ويمنيها بسماع صوته أو حتى مرور عبيره من حولها ليسد رمق اشتياقها إليه وعلى صعيد آخر كان ريان يعد الدقائق والثواني المتبقية على موعد الحفل بشق الأنفس.. يود لو ينفرد بها تلك الليلة ليحادثها عن غربته في غيابها .. ويخبرها أن بين قلبيهما حَصُل كل شئ حتى لو كان لا شئ بينه وبينها .. أنهى ارتداء ملابسه وتأكد من أناقة إطلالته ولم ينسَ وضع العطر الذي تميزه مريمته على ثيابه .. نظر في ساعة يده بتوتر ثم هاتف كريم ليؤكد عليه الموعد للمرة المائة في خلال الساعات القليلة الماضية.. وأثناء خروجه من غرفته وجد والدته تقف أعلى الدرج تنتظره بابتسامة أصبحت محببة له .. طالعته بنظرات إعجاب متسائلة بمرح (الحلو بتاعي لابس ومتشيك كده ورايح على فين؟)

بادلها ريان ابتسامتها بأخرى قائلاً (رايح مشوار مهم أنا وكريم)

مسحت رويدا على وجنته بحنو بالغ قائلة (خد بالك من نفسك)

أمسك ريان بكفها يقبل ظاهره قائلاً (تسلميلي ياست الكل) .. أنهى حديثه بابتسامته الرقيقة ثم هبط الدرج بخطوات سريعة وفي غضون دقائق كان يستقل سيارته متجهاً نحو منزل صديقه ليصطحبه معه لكنه تفاجأ به مُصِراً على الذهاب بسيارته تحسباً لأي تصرف قد يصدر منه فالأمر منذ لقاء ريان بمريم لم يخلُ من الجنون واللامنطقية .. أخذ الطريق وقته وأخيراً وصل الرفيقين أمام الدار.. قام كليهما بصف سياراتهما ثم ترجلا وساراً جنباً إلى جنب ضاحكين على الموقف الذي أظهرهما ككبار رجال الأعمال على الرغم من بساطتهما وعدم تكلفهما لا في المظهر ولا السلوكيات.. وما أن انتبه الحارس لوجود ريان حتى سارع في إخبار السيدة وسيلة بوصوله .. خرجت مديرة الدار لاستقبال الضيف العزيز وصديقه ..وبالطبع رحبت بهما بحفاوة شديدة ثم اصطحبتهما نحو الداخل واختارت لهما مقعدين مميزين ليتابعا فقرات الحفل بوضوح..ولم يكن ريان مهتماً بشئ سوى البحث عنها بعينيه هنا وهناك.. يفتش عن طيفها بين الأركان والزوايا وفوق خشبة المسرح حيث وطن لقائهما ..أخرجه من شروده إزاحة الستار لتكشف عن شاشة عرض كبيرة مُشَغَل عليها مقطع مُصور للدار والتجديدات التي قامت بها مؤسسة الريان .. وتفاجئ بالسيدة وسيلة تدعوه لتوجيه كلمة أمام الحضور بصفته الجندي المجهول الذي وقف وراء هذا العمل العظيم .. أطاعها بتوتر حاول إخفائه وتناول منها الميكروفون على إستحياء شديد.. توجه إليها أولاً بالشكر وأثنى على مجهودها الرائع في رعاية الأيتام ثم أردف بجدية (أنا فخور إني واقف انهاردة على منصة واحدة من أحسن دور الرعاية على مستوى الجمهورية .. وأي حاجة قدمتها مؤسستنا قليلة جداً قصاد مجهود إدارتهم المتفاني في رعايتهم للأيتام وذوي الإحتياجات الخاصة واللي أكيد مكانتها وجزائها عند ربنا كبير..وحقيقي الأولاد الموجودين هنا محظوظين جداً انهم تحت رعاية أم عظيمة زي أستاذة وسيلة) .. أنهى حديثه بابتسامة مجاملة ثم صافح السيدة وسيلة بود شديد بينما هي شكرته بحبور وامتنان لإشادته بها أمام الجميع .. عاد ريان لمقعده بجانب كريم وسط تصفيق الحضور المعجبين بلباقته والمتعجبين في نفس الوقت من صغر سنه فكان من المتوقع أن يظهر أمامهم رجلاً كبيراً فالسن نوعاً ما لكنهم اندهشوا من أن ذلك الشاب هو الذي قام بكل هذا الإنجاز الكبير .. أُسدِلَ الستار لحوالي عشر دقائق ثم تمت إزاحته مرة أخرى ليظهر المسرح كاملاً والذي كان عبارة عن ديكوراً مصغراً مقتبس عن فيلم ديزني الشهير ( الجميلة والوحش ) ..بدأ الأطفال بالظهور واحداً تلو الآخر مرتديين ملابس مناسبة لتأدية مشاهد الفيلم الذي يحفظه جميعنا عن ظهر قلب .. ومَن مِنا لم يعشق الجميلة " بيل " التي كان لها الفضل في تخليص الأمير الوسيم وقلعته من السحر الأسود وأعادته إلى هيئته السابقة بعد ما كان وحشاً ضخماً يخافه الناس .. كان ريان منبهراً كثيراً بالفكرة وبالرغم من عدم ظهور مريم بينهم إلا أنه كان مستمتعاً للغاية بما يقدمونه وأحس أنهم أعادوه إلى ذكريات طفولية لذيذة .. انتهى العرض اللطيف وفجأة اُعتِم المسرح وثواني وانقشع الظلام تدريجياً وأضيئت دائرة بلون أزرق خافت لاتظهر سوى شريطين حريرين من اللون الأبيض معلقين بالهواء تشكل نهاية طرفيهما أرجوحة تجلس فوقها حورية رائعة الجمال برداءِ سماوي طويل .. كلما تحركت لأعلى تخطف قلبه وكلما هبطت لأسفل تهوي به في غيابات جب عميق لايعلم نهايته .. إنها " مريم " حوريته الهاربة من الفردوس الأعلى لتقيم جنة الله له على الأرض .. وأينما رفعها الهواء لاحقها بأنظاره المنشدهة كزهرة عباد شمس تتبع شمسها ولا ترى من الحياة سواها ومهما رَصِفَ من كلمات لن تسعفه في وصف ولو جزء يسير من شعوره فما بقلبه تجاوز كونه حباً وتجاوزه أساساً.. إنحبست أنفاسه داخل صدره عندما صدح صوتها بأغنية الفيلم الشهيرة التي حازت على أكثر من جائزة وأولها الأوسكار فشدت مليحته بتلك الكلمات العذبة كملامحها /
من عمر الأيام ♫
حدوته فقلبين ♫
حتى مش أصحاب ♫
ولأهون أسباب ♫
تلقى ده مع دي ♫
في تغيير بسيط ♫
لو قاسي ما تلمحش ♫
الأثنين خايفين ♫
مش مصدقين ♫
جميلتنا والوحش♫
هي كده يا بلاش ♫
قصة الإندهاش ♫
نفس حكاية الخوف ♫
والقلب الملهوف ♫
من الحلم ما يصحاش ♫
من عمر الأيام ♫
لحن فقلب القلب ♫
القلب اللي مال ♫
للسحر الحلال ♫
من العيون ينصاب ♫
زي طلوع الشمس ♫
و إزاي ماتطلعش؟ ♫
حدوته يا سلام ♫
من عمر الأيام ♫
عن جميلة و وحش ♫
حدوته يا سلام ♫
من عمر الأيام ♫
عن جميلة و وحش♫
إنتهت مريم من آداء الأغنية وسط تصفيق حار من الجمهور وأضاء المسرح بشكل كامل ليظهر البيانو والذي كان يجلس خلفه طفل صغير هو من قام بعزف الأغنية كاملة .. تهلل الولد كثيراً من حفاوة الحضور به وركض نحو معلمته ليساعدها على النزول من فوق الأرجوحة ثم احتضنها بشدة.. تفاجئت مريم بأصوات تطالبها بالغناء مرة أخرى وما كان منها إلا أنها إمتثلت لرغبتهم وطلبت من الصغير أن يجلب لها الميكروفون .. تناولته منه بأيادي مرتعشة لتوجه كلمة لأحد الموجودين الذي هبت نسمات تحمل عطره إليها فأدركت أنه يجلس بينهم ويشاهدها مثلهم ورغم حيائها وخجلها الشديد تحدثت بصوت مرتجف (قبل ما أغني تاني أنا حابة أوجه كلمة لحد عزيز عليا قاعد بينكم دلوقتي و عارفة إنه شايفني وسامعني).. صمتت مريم لثواني تستجمع رباطة جأشها واستكملت بنبرة حزينة (الأغنية اللي هاغنيها دلوقتي كل كلمة فيها بقولها ليك وبعتذرلك بيها لو كنت زعلتك).. قاومت مريم غلالة دموع وخزت جفنيها وأردفت بخفوت مسموع (أنا آسفة)... أنهت كلماتها بتنهيدة متوجعة وأشارت للصغير أن يساعدها لتجلس خلف البيانو.. شرعت المليحة في عزف إحدى روائع قيثارة السماء التي تلازمها وتضئ ظلمة خيالها وغردت مرة أخرى /

سألوني الناس عنك يا حبيبي

كتبوا المكاتيب و أخدها الهوا

بيعز عليي غني يا حبيبي

و لأول مرة ما منكون سوا

سألوني الناس عنك سألوني

قلتلن راجع أوعى تلوموني

غمضت عيوني خوفي للناس

يشوفوك مخبى بعيوني

و هب الهوى و بكاني الهوى

لأول مرة ما منكون سوا

لم يتحمل ريان البقاء بعيداً عنها أكثر من ذلك ونهض من مقعده يجاهد على ضبط أنفاسه المضطربة ليقف خلف الستار حتى يتسنى له تأملها عن قرب .. شعرت مريم بوجوده ورغماً عنها اهتز صوتها أثناء غناء المقطع الأخير /

طل من الليل قلي ضويلي

لاقاني الليل و طفى قناديلي

و لا تسأليني كيف إستهديت

كان قلبي لعندك دليلي

و اللي إكتوى بالشوق إكتوى

لأول مرة ما منكون سوا

سارعت ريهام التي كانت تراقب الموقف من بعيد بإسدال الستار بعدما انتهت مريم من الأغنية فاقدة السيطرة على دموعها حتى لا يلاحظ الجمهور بكائها بينما تسلل هو إلى خارج الكواليس وداخله يحترق كمِرْجَل جَفَ مائه من كثرة الغليان.. وأثناء وقفته المحتارة تلك انتبه لريهام تهتف عليه بنظرات قاتمة وهي تتجه نحوه وما أن اقتربت منه حتى هدرت به عالياً (إنت بتعمل فيها كدة ليه؟)

سألها ريان متعجباً (بعمل ايه مش فاهم؟)

صرخت ريهام في وجهه (بتعلقها بيك وانت مش مستعد تعمل عشانها حاجة ..بس انا مش هاسيبك تدمرها أكتر من كده وها.....)

قاطعها ريان بغضب من طريقتها المبطنة بإهانة صريحة لذاته (انتِ اتجننتِ؟!..أنا مش هاسمحلك تعلي صوتك عليا تاني.. فاهمة ولا لا؟..وإذا كنت عديت إهانتك أول مرة فده عشان شوفت حبك لمريم وقدرت خوفك عليها مني)

حاولت ريهام تهدئة أعصابها قائلة بإصرار (وأنا مش هاقف أتفرج على صاحبة عمري وهي بتنطفي قدام عينيا بسببك)

رد عليها ريان بنبرة يشوبها الألم (ومين قالك اني مش تعبان أكتر منها؟)

سألته ريهام بعدم فهم (يعني ايه؟)

أجابها ريان بعصبية من الموقف ككل (يعني بحبها وكنت رايح أتكلم معاها وأقولها عاللي فقلبي لقيتها بتصدني وبتقولي إبعد عني .. عايزاني أعمل إيه؟.. أترجاها تحبني بالعافية؟)

عقدت ريهام ذراعيها قائلة بتهكم (تصدق وتؤمن بالله انك انت اللي أعمى ومابتشوفش).. صمتت لثواني ثم سألته بلهجة ساخرة (انت عارف هي عملت معاك كده ليه؟)

ابتلع ريان إهانتها رغماً عنه ثم أجاب سؤالها بسؤال آخر (ليه؟)

أجابته ريهام وهي تصرخ بوجهه مجدداً (عشان البعيد صنم مابيحسش).. سكتت لثواني تحاول تنظيم أنفاسها المضطربة من فرط عصبيتها وأردفت بضيق بالغ (إنت مش راجل وماتستاهلش حبها ليك)

هم ريان أن يرد لها الإهانة بعيون حمراء من الغضب لكنها باغتته بصراخ أكبر (الراجل مايخليش البنت اللي بتحبه تتعذب كده.. الراجل اللي يحب يقول ويتحمل نتيجة اختياره ..ويا تبقى راجل وتعترف لها بِحُبك يا إما ماشوفش وشك تاني ولا ألمحك قريب منها وإلا أنا اللي هاكسرلك رجلك ، انت فاهم؟)
أنهت حديثها بأعين يتطاير منها الشرر ثم دفعته بعنف لتبتعد عنه وتركته يقف مصعوقاً من كلماتها التي نزلت كوابل من سهام مسمومة إخترقت صدره وجعلته ينزف من كل جزء في جسده ..وللأسف كانت محقة في كل كلمة تفوهت بها لكنها ضغطت على جرحه بلا هوادة وبقسوة .. اندفع ريان خارج الدار والرؤية أمامه تكاد تكون منعدمة.. لا يعلم كيف استقل سيارته التي قادها بسرعة جنونية جعلته قاب قوسين أو أدنى من الإصطدام ..أوقفها فجأة فأرتد جسده إلى الأمام وبائت كل محاولاته في تهدئة ثورة أعصابه بالفشل ..ظل يضرب المقود بعنف حتى كاد أن يكسر معصمه وكأنه يعاقب تلك اليد التي لم تمتد لتأخذها بين أحضانه وتطمئنها بأنه لها ويعشقها حد الاختناق.. والآن من يراه يدرك وصوله للدرجة الخامسة من الحب ألا وهي العشق .. ذلك التعلق العذري المُفرِط بحبيب غزا القلب واحتله خِلسة دون سابق إنذار.. لم يدري كم مر عليه من وقت وهو يطفو فوق بركان مشاعره المهتاجة حتى أنه لم يكترث لرنين هاتفه الذي انقطع شحنه من كثرة اتصالات صديقه وعندما لم يجد شئ يوقف نزيف روحه المُثقلة قرر العودة إلى الڤيلا والاستسلام لواقعه المؤلم ..

يتبع..... إلى اللقاء مع الفصل الثاني عشر

***************

Seguir leyendo

También te gustarán

1.9K 365 13
هذه الرواية هى الجزء الثانى من رواية الفرصة الثانية صدرت عن دار لوغاريتم للنشر والتوزيع عام 2017 الحب شئ رائع ومن يجده يجب أن يتمسك بهِ ويجب أيضًا أ...
46.8K 1.8K 12
الحب الأول.. أحيانا يكون محض وهم بخيالنا وأحيانا أخرى يكون هو الحب الحقيقي بطلاتنا منهم من أحبت ولم تجد صدى لهذا الحب ومنهن من وجدت حب حياتها ومنهن م...
515K 24.2K 35
احبك مو محبه ناس للناس ❤ ولا عشگي مثل باقي اليعشگون✋ احبك من ضمير وگلب واحساس👈💞 واليوم الما اشوفك تعمه العيون👀 وحق من كفل زينب ذاك عباس ✌ اخذ روحي...
247K 4.4K 37
رواية عاطفية فى غاية الروعة أتمنى أنها تعجبكم للكاتبة سارة محمد سيف/ عصير الكتب للنشر