اللهم أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق
لا تلهيكم روايتي عن الصلاة وذكر الله
لا إله إلا الله
___
بعد خطوته الخامسة بالضبط , أوقفه صوت مألوف .
محبوب بشدة , وقريب من قلبه .
ينادي باسمه .
ما جعل قلبه يخفق بشدة .
شوقا إليه .
صوت مصدوم ومذهول , ناعم .. يلامس القلب :
- هادي !
التفت , وعلى محياه ابتسامة ناعمة , فرحة ..!
إلا أن تلك الابتسامة لم تدم أكثر من ست ثوان .
اختفت سريعا .
وهو يراها واقفة , بالقرب من شاب يطولها كثيرا .
وسيم , وجميل .
يتأمله هو الآخر , ويبتسم له .
قلبه الذي فرح بشدة , ما لبث أن شعر به ينكسر .
ويؤلمه بقوة .
حين اقتربت منه حتى وقفت أمامه والدهشة لا زالت تعلو وجهها , ابتسمت له ابتسامة واسعة , ارجفت قلبه :
- هادي وش تسوي هنا ؟ ما أصدق والله , صدفة حلو .
ابتسم لها رغما عنه , ليقول بهدوء :
- صــ صــ صــحيح , صدفة حلوة , أأأأأنا جاي أأسوي عملية الــ لــ لــ لــإستئصال .
شهقت هينا لا إراديا , والمعلومات التي قرأتها عن مرض هادي .. وعن نسبة نجاح عملية الإستئصال , تأتي على عقلها واحدة تلو الأخرى , تألمت من أجله , لتسأله بحزن :
- يعني العلاج الكيماوي ما فادك ؟
هز رأسه نفيا , ثم نظر إلى علي الذي وقف بجانب هينا ومد يده ليصافحه .
تأمله من رأسه حتى أخمص قدميه , ثم مد يده عاقدا حاجبيه .
ما هذه النعومة في هذا الشاب ؟
بالنظر إليه عن قرب , يبدوا وكأنه مراهقا .. ولكنه طويل جدا .
من يكون ؟
ولمَ الظن السيء ؟ ربما أخيها ..!
ابتسمت هينا وهي تقدمهما إلى بعضهما :
- هذا صديقي علي , وهذا هادي يا علي .
أومأ علي برأسه بإيجاب :
- تشرفت فيك .
انصدم هادي وهو يسمع ذلك الصوت الناعم , مهلا ..
هل حقا هذا صديقها , مراهق ..!
وليس كما فكر تلك المرة , وظنه شابا .
حتى كاد يموت من الغيرة ..!
ضحك وهو يسأل :
- كــ كــم عمرك ؟
ابتسم له علي :
- 14 سنة .
تنفست الصعداء أخيرا .
وكأن جبل من الهموم سقط عن كاهله .
ضحك بصوته وهو يشتم نفسه على ظنونه .
استغربت هينا , وعلي أيضا .
ثم ما لبثا أن اتسعت أعينهما بخوف ودهشة .
وهما يبصران هادي الذي مسك رأسه بقوة , ثم سقط مغشيا عليه .
صرخت هينا بخوف وهي تغطي فمها بكفيها .
- هادي .. هادي .
جلست على ركبتيها وهي تنظر إليه بعينين دامعتين .
هذا الشاب , لا يتوقف عن جعلها تشعر بالحزن .
ركض علي إلى الداخل , يستنجد بالجوهرة وسعد الجالسين بالداخل .
لحقا به سريعا .
وانصدما من ذلك المنظر .
هادي يستلقي على الأرض , فاقدا للوعي .
وهينا بجانبه , تبكي وتشهق بخوف .
وما إن سمعت صوت خطواتهم حتى التفتت بوجهها الغارق بالدموع , تتحدث بصوت مبحوح ومرتجف :
- يمه تعالي الحقي عليه شوفي إيش فيه , أخاف يموت .. تكفين بسرعة , علي اتصل بالاسعاف خلهم يجون بسرعة .
بالرغم من دهشة الجوهرة على ردة فعل هينا , إلا أنها أسرعت نحو هادي .
واستغربت من عدم معرفتها له .
يعني شاب غريب , لمَ تبكي ابنتها عليه بهذه الطريقة ..!
راودها هاجس غريب .
تجاهلت شعورها , لتجلس على ركبتيها .
وتتحسس نبضه , قطبت حاجبيها بإنزعاج :
- الولد ما يتنفس , حتى نبضه ضعيف .. استعجلهم يا علي خلهم يجون بسرعة .
عادت لتنظر إليه .
ثم فردت يديها , لتحسس صدره ثم وضعت يديها على جانبي قفصه الصدري .
تتبعت بأصبعها حدود الأضلاع السفلية إلى أن وصلت عند عظم صدره .
وضعت أصبعها الوسطى على عظم صدره , ثم السبابة بجانبه .
وضعت راحة يدها الأخرى مكان الأصبعين , واليد الثانية التي أزالتها قبل قليل فوق اليمنى , في وضع تشابك باليدين .
فردت ظهرها وجعلته في شكل عمودي , ثم بدأت تضغط على صدره .. مستخدمة عضلات ظهرها .
بعد ذلك بدأت تضغط على عظم الصدر إلى الأسفل بــ 4 سم , 80 مرة تقريبا في الدقيقة الواحدة .
شعرت بالإحباط والخوف يتزايدان في قلبها , حين لم تجدي عملية إنقاذها أي نفع .
التفتت إلى سعد :
- تعال سو له تنفس صناعي , أخاف الإسعاف يتأخر وما نقدر نسترجع نبضه , بسرعة يا سعد .
اقترب سعد .
ليعمل عملية التنفس الصناعي , والجوهرة مستمرة فيما تفعله .
وهي تتفقد نبضه كل دقيقة بخوف .
مع أنها لا تعرفه .
وراودته الشكوك حين رأت هينا بهذا الشكل .
ولكنها تشعر أن هذا المريض مسؤوليتها هي .
وستحاول إنقاذه بما تستطيع .
وأخيرا , سمعت صوت سيارة الإسعاف .
وصاحت هي بسعادة :
- رجع النبض .
ابتعد سعد وابتعدت هي .. حين اقترب المسعف , وسأل عن الوضع .
شرحت له الجوهرة بإختصار , ليرد :
- أحسنتِ العمل .
أسرع نحو السيارة , ليقول :
- فليأتِ معي أحد من عائلته .
نظروا إلى بعضهم , ثم تقدمت هينا دون تفكير , لتمسكها أمها من ذراعها بدهشة :
- وين رايحة ؟ ومين هذا أصلا ؟ تعرفينه ؟
استنجدت أمها بصوت منخفض :
- يمه تكفين بشرح لك بعدين , لازم أروح عشان أعلم أهله بعد .
أرادت الجوهرة أن تعترض , ولكن سعد ربت على كتفها متفهما وأومأ بإيجاب .. لتركض نحو السيارة وتستقلها , لم ترتَح الجوهرة للوضع بالرغم من ثقتها بإبنتها , لتلتفت إلى علي :
- روح معاها لو سمحت .
هز علي رأسه ليلحق بهينا , ثم انطلقت السيارة بسرعة .
وضعت الجوهرة يدها على جبينها تتأفف , ليخبرها سعد أنه يعرف الشاب .
وأنه أتى لمقابلته .
ولكن يبدوا أنه لم يتمكن من الوصول إليه .
وكان من حظه أن وجدته هينا .
لم يطمئن قلب الجوهرة لذلك الشاب الغريب وإن كان على وشك الموت وأشفقت عليه , لذا أصرت على اللحاق بهم .
______
الماضي ..
عادت إلى الخلف تلقائيا , وهي تغطي فمها بيديها .
وقلبها يدق بعنف .
الخوف بلغ منها مبلغا عظيما .
وهي ترى نظرات فهد النارية والمصوبة نحوها , لتشعر بالرعب يدب في أوصالها .
أقفل الباب , ليتقدم منها ويقف أمامها بوجه محمر من الإنفعال , سألها بهمس غاضب :
- وش كنتِ تسوين هنا ؟ وليش خايفة كذا ؟
هزت رأسها بالنفي عدة مرات , وهي تخفض رأسها وتنزل يديها :
- وولا شيء , بس كنت جاية أدور عليك , عشان توديني السوق , ما لقيت زين عشان كذا جيتك .
نظر إليها بدهشة لبعض الوقت قبل أن يضحك بصوتٍ عالِ :
- لا والله , يعني الحين تتوقعي إني بصدقك مثلا ؟
رفعت عيناها المرتجفتان واللامعتان من الدموع تنظر إليه بخوف , حين أمسك بذراعها :
- قولي الصراحة يا نجود ولا تلفين وتدورين .
زفرت نفسا حارقا , وخرجت دمعة يتيمة كانت عالقة بعينها منذ البداية :
- الصراحة ؟ جاية أدور جوال ماهر .
غضب فهد , وشعر بالشفقة عليها في ذات الوقت :
- وش تبين فيه ؟ ولا .. عرفتي إنه رؤى قاعدة تشتغل على القضية ومع محقق ؟
ردت بإنفعال وهي تدفعه :
- إيه عرفت , وجيت أدور الجوال لأني عارفة إنك ما بتسوي شيء لين تروح في داهية , لو لقيته كل الموضوع بينحل وبنرتاح كلنا .
ضحك فهد بغير تصديق :
- إيش تقصدين ؟
شهقت نجود ثم وقفت أمامه تسأله بتهديد :
- وين الجوال يا فهد وينه ؟ ولا أنا لوحدي بتصرف .
تجاهلها فهد وهو يتجه إلى السرير :
- ما عندي جوال أو أي شيء يخص ماهر , اخرجي لو سمحتي تعبان وأبي أنام , لأن اللي مخوفك في جوال ماهر , هو نفسه موجود في جوال رؤى .
اقتربت منه نجود بغضب :
- ماني خارجة لين تعطيني الجوال أو تقول لي وينه , ورؤى لها سنة مغيرة جوالها أبشرك , ولا كنت أنا بنفسي تخلصت منه من زمان .
تجاهلها مرة أخرى وهو يستلقى ويتدثر بغطاءه مقطبا جبينه .
- فهد لا تطنشني .
تأفف فهد وهو يجلس يقول بحدة :
- هالجوال إذا طلعته صدقيني ما راح تكونين بخير , تفهمين ..! طول ما هو مجهول مكانه أنا بكون بخير , وانتي بعد .
ارتجفت مرة أخرى من تهديده المبطن , لتقبض يدها بقلة صبر وتغمض عيناها بقهر , ثم خرجت تضرب الأرض بقدميها بعصبية .
اصطدم جسدها بميسم التي كانت تنوي الدخول للإطمئنان على فهد .
حين وقعت عيناها بعيني ميسم , نظرت إليها بحقد .. ثم أبعدتها عن طريقها بقوة .. حتى عادت ميسم إلى الخلف عدة خطوات .
واتجهت إلى حجرتها , لتصيح بها الأخرى بغضب :
- يا مجنونة يا مريضة .
حين التفتت إليها نجود تنظر بغضب , ركضت ودخلت إلى حجرة فهد وأغلقت الباب خلفها :
- هذي الحيوانة بتكون سبب موتي الله يأخذها .
وضعت يدها على صدرها تحاول تنظيم تنفسها .
ثم ابتسمت وهي تقترب من فهد , والذي ينظر إليها بغرابة :
- إيش في ؟ تهاوشتي معاها مرة ثانية ؟
- لا .. هي دفتني وراحت , ما عليك منها هالمجنونة , قول لي .. ليش ما رجعت أمس ؟ وأدق عليك ما ترد بعد .
تأفف فهد :
- ميسم يرحم لي والديك , وقفي هالقلق اللي زي العجايز , رجال كبير طول بعرض ليش تخافين عليّ ؟
مثلت الحزن وهي تزم شفتيها :
- يعني الحين أنا الغلطانة يوم أبي أتطمن عليك ؟
جلس وشد خدها بمزح :
- لا يا روحي , أمي هي أمي ما تسأل عني , إنتي ليش تشيلين همي على الفاضي ؟
ضربته ميسم على ذراعه :
- خلاص من اليوم حتى لو كنت تحتضر ما سألت عنك , اسمع .. عندي طلب بسييط , لا تردني الله يخليك .
تأفف فهد :
- ليتك ما خرجتي من القوقعة , من طلعتي منها وانتي بس تسوين مصايب وتطلبين .
صرخت ميسم بزعل وهي تقف :
- ياخي إن شاء الله أموت وما أطلب منك شيء مرة ثانية .
دارت عنه لتغادر بغضب حقيقي , وهي تخاف أن يرفض طلبها بالفعل فيفشل مخططها , ولكن فهد وقف وأمسك بكتفها وهو يضحك , ثم احتضنها بعد أن وقف أمامها :
- أمزح ياختي أمزح , اطلبي اللي تبينه , حتى لو عيوني ما راح نردك .
ابتسمت ميسم بدلال ومكر , حين ابتعدت عنه قالت بإلحاح غريب وهي تمسك بكفه :
- الله يسعدك ويوفقك ويرزقك الجنة , اسمح لي أسوي حفلة في استراحتك , أنا وزميلاتي بالجامعة .
عقد حاجبيه , وعبست ملامحه فجأة , وهو يسأل بهدوء :
- ليش ؟ حفلة إيش ؟
عقد لسانها , لم تفكر بمناسبة الحفل , لترد بثقة رغم ارتباكها :
- بمناسبة إنه الدراسة راح تبدأ قريب , واحنا اغلبنا ما سافرنا , أنا وبنات شلتي , ودنا نفلها في الاستراحة على الأقل .
تنهد فهد وهو يوليها ظهرها ويجلس على السرير :
- أقدر أدبر لكم إستراحة حلوة وسعرها مناسب , ولو تبين أنا بدفع حق كل شيء , بس شيلي فكرة إنكم تروحون استراحتي من بالك , نهائيا .
توقعت ميسم الرفض , تعرف أن ذكرى ذلك اليوم لم تذهب عنه أبدا .
وأن الموضوع يزعجه كثيرا .
أخبرها زين أنه ذهب عدة مرات , وأنه تعب كثيرا .
جلست القرفصاء أمامه , لن تستسلم أبدا .
عادت تلح عليه بنبرة أكثر دلال من سابقتها :
- يعني ليش نستأجر إستراحة وانت عندك وحدة ؟ أصلا أنا وعدت البنات وقايلة لهم إني بسويها في استراحتنا تكفى لا تفشلني , تكفى تكفى .
هزت أعماقه نبرتها , فهد يحب اختيه وأخيه زين كثيرا .
ولم يرفض لهم أي طلب في حياته .
بالرغم من ابتعاده عنهم في الفترة الأخيرة .
ولكن ميسم , طلبها صعب .. صعب جدا .
بيدَ أنه بعد ترجيها لها وبهذه الملامح , لا يعتقد ولا يريد أن يرى البؤس فيهما , ولا نتيجة رفضه .
تنهد ليقول بهدوء :
- تمام , متى تبين تسوين عشان أجيب عمال ينظفونها زين .
قفزت ميسم بسعادة وعانقته :
- شكرا حبيبي والله كنت عارفة إنك مستحيل ترفض , بكرة .. إيه بكرة بسوي الحفل , تدري مو باقي شيء على عرس الجنية وسامي .. ما يمديني أسويها بعد العرس ولا قبله بيوم أو يومين بتذبحني أمي .
تنهد مرة :
- طيب , بس أمرك غريب ميسم , ما توقعت عندك صديقات مثل أول , شلة مرة وحدة ..!
ارتبكت ميسم , هي بالفعل ليست تملك أي صديقة مقربة , أو زميلات تحب الجلوس معهن :
- هنوف , إيه بنت عمتي هنوف تعرفها كيف اجتماعية , بالغصب دخلتني مع شلتها في الجامعة , وعادي يعني .. قدرت أتأقلم معاهم .
هز رأسه بإيجاب :
- طيب يلا روحي بنام شوي هلكان مرة .
قبلت خده بشقاوة لم يعهدها منها , ألهذه الدرجة أسعدتها موافقته ..!
- تصبح على خير يا أحلى أخ بالدنيا .
حين اقتربت من الباب , نادها فهد لتلتفت إليه بتساؤل , قال :
- احترمي أختك الكبيرة يا ميسم , ومثل هالألفاظ جنية ومجنونة وحيوانة هذي ما أبي أسمعها مرة ثانية تفهمين ؟ وحاولي بعد ما تخلين أمي تزعل منك , لأنها إذا زعلت صدقيني بتكرهين حياتك , ما اتمنى تجربين هالشعور لآخر يوم بعمرك .
نظرت إليه ميسم مشدوهة لبعض الوقت , قبل أن تهز رأسها ببلاهة :
- إن شاء الله .
قالتها وخرجت بعد أن أطفأت الأنوار .
وقفت تستند على باب حجرتها بعد أن دخلت إليها وأقفلته .
خانتها عبراتها , لتنزل حزنا على فهد .
يا إلهي ..
كم كانت نبرته مؤلمة وموجعة إلى حد الموت .
وهو يلقي عليها تلك النصيحة الأخيرة قبل خروجها .
ما عرفته من حديثه .
أنه يشتاق , يشتاق إلى أمه جدا .
وتعب من جفاءها له .
مسحت دموعها بعنف , واتجهت إلى هاتفها بعزم .
فتحته وطلبت رقم فواز مرة أخرى .
لتخبره أنها لديها خطة ما , ربما تكون ضعيفة .
ولكنها قد تساعد !
فالإستراحة مسرح جريمة , والمجرم مهما حاول ومهما اجتهد , سيترك خلفه أثرا , قد يكون هو الآخر سخيفا لا يعتبر شيئا في أعين المجرم , إلا أنه يكون بالغ الأهمية .
وربما .. خيط لطرف الجريمة !
وأيضا , قد يُتلف هذا الدليل الغامض , بمرور 3 سنوات !
ولكن لا ضير من التجربة .
أغلقت منه متنهدة بهم , تشعر أن القضية بأكملها أصبحت على عاتقها .
كيف لم تفكر بحلها منذ البداية ؟
كيف لم تفكر ولم توليها أي إهتمام .
لا .. ليست مُلامة بالطبع , كانت أصغر من أن تفهم وتعي كل ما يحصل .
الآن وهي ترى حياة فهد على المحك .
وعلاقة زين ورؤى أيضا على حافة حفرة عميقة , قد يقع أحدهما بها دون أن يشعر , فيندم من بقي خارج الحفرة على تركه للآخر دون إرادته !
وفادية ( نجود ) .. قد تكون مشتبه بها في نظرها , وقد تكرهها أو تغار منها وتخافها , ولكنها في النهاية , تبقى ضحية لأب ظالم , وأم مهملة .
عليها هي على الأقل , أن تقف على رجليها مجددا , وتنتصر لنفسها , لتقف شامخة طوال العمر .
ولكن بالطبع , إن كانت جانية .
عليها أن تلقى حتفها دون أدنى تردد .
ليشفى غليل قلب المسكينة رؤى .
وليؤخذ حق ماهر المغدور أيضا .
غير أن لجين التي لا تعرف أين تضع رجلها , وإلى أين تتجه .
لا يمكن لحياتها أن تضيع هباء , تلك التي لم ترى يوما سوى الدلال .
ولكنها في النهاية وجدت نفسها زوجة لشخص ربما سُيعاقب على خطأ غيره .
ووعد أحمق .. تمسك به ليودي بنفسه إلى الهاوية .
لا يهم بأي طريقة ارتبطا , المهم الآن .. أنها زوجة فهد .
غير أنها هي نفسها ..
لا ترغب بأن تبقى عالقة وسط عائلة , أحد أفرادها قاتل .
دون أن تعرف من هو .
جلست على مكتبها , وأخذت مذكرتها .. وقلم لتدون على احدى الصفحات , بخط يدها ..
المشتبه بهم ..
فهد , فادية , رائد .
فهد كان في موقع الجريمة , ووجدت بعض بصماته على الموقع , دون بعض الأماكن .. مما يعني أنه قد حاول إخفاء بصماته , ليترك بعضها دون إدراك .
ما الذي ذهب به إلى هناك إن لم يكن قاتلا ؟
الدافع : مجهول ( غير معروف ).
فادية ..
أولا / حذرها وتصرفاتها بعد مقتل ماهر مبالغ به , وأفعالها أيضا مثيرة للشك , خاصة مع فهد , ربما يكون ذلك مبررا كونه مشتبه به , ولكنها تخشاه أكثر مما ينبغي , بينها وبين فهد سر ؟ زيادة على تهديد فهد لها صباح اليوم الثاني من طرده بقوله ( تتأدبين وتحترمين نفسك , ولا بقول للكل عن اللي سويتيه بماهر , ومات بهالطريقة ) .
ما الذي فعلته ؟
في ماذا كان لها يد بالضبط !
ثانيا / لم تكن متواجدة في حفل رؤى , غابت في نفس وقت حصول الجريمة بالضبط , أين كانت !
الدافع : مجهول أيضا , ربما يكون بسبب تأثير المرض النفسي الذي عانته سابقا , ولكنها كانت طبيعية للغاية في تلك الفترة !
ولا يوجد دافع آخر معروف ومعقول ( حتى هذه اللحظة ) .
رائد ..
تواجدت سيارته في موقع الجريمة , وحُبِس لمدة شهر بعد مرور 3 سنوات من حصول الجريمة .
كيف عرفوا عن ذلك بعد مرور كل ذلك الوقت ؟
اعترف رائد قائلا أن ماهر استعار منه السيارة في نفس اليوم , لذا تواجدت سيارته أمام الإستراحة .
ولكن حقا كيف علموا عن ذلك ؟
تسجيل من كاميرا مراقبة مجهولة !
الدافع : مجهول .
تركت القلم وقد لمعت عيناها فجأة .
من يكون ذلك الذي أرسل التسجيل ؟
مهلا ..
هذا يعني أن الأدلة لا زالت حية موجودة في مكان ما !
منها ذاكرات تلك الكاميرات المعطلة حاليا في إستراحة فهد !
____
الماضي ..
قبل أشهر قليلة .
صراخ لجين , وغضبها يتراءى أمام عيناها حتى في منامها .
صوتها العالي بات يزعجها ليل نهار , وقد مر يوم كامل على ما حصل .
بعد أن اعترفت لها بالحقيقة الغائبة .. الصادمة .
غضبت لجين بشدة , ودفعتها لتسقط على ظهرها .
ثم استقامت تتأوه , تنظر إلى لجين بذهول , وهي تبكي وتصرخ :
- ليش طيب ؟ ليش ما قلتِ لي من أول ؟ يرضيك إني أكمل حياتي مع مجرم مثل فهد ؟ يرضيك إني أضيع وأنا حتى ما دخلت العشرين ؟ انتِ أنانية يا رؤى أنانية .
ضحكت رؤى بغير تصديق :
- أنا يا لجين ؟ أنا أنانية ؟ ولا انتِ اللي من البداية عاندتِ الكل ..! وأنا ما قلت لك من أول ؟ إيه يمكن ما قلت هالحقيقة لأني ما كنت أبى أحد يعرفها غيري لين أخذ حق أخوي بيديني , لكن صدق .. كل شيء إذا زاد عن حده انقلب ضده , وهاللي قاعد يصير حاليا , عرس سامي ونجود وعرسك انتي وفهد , قاعدين تقتلوني والله تقتلوني , وانتي بعد هديتي حيلي يا اختي , مو قادرة أتحمل أكثر , وبعدين إنتِ وافقتي حتى لما كان فهد ذاك الوقت هو المشتبه الوحيد , الحين جاية تلوميني أنا ؟ تقولين اني أنانية وما علمتك ؟
شهقت لجين وهي تسند ظهرها على السرير , وتضع يدها على قلبها .. تضرب عليه بقوة , تبكي كما لم تبكِ من قبل أمام أحد .
لتدمع عينا رؤى أيضا , على هذا المنظر الغريب أمامها .
قلبها يتقطع إلى أشلاء .
ولكن الصدمة كانت عظيمة , حين اعترفت لجين بشيء أدهشها تماما :
- تدرين ليش وافقت ؟ تدرين ليش أصريت إني أتزوجه ؟ لأني أنا بعد قلبي إلى الآن يحرقني على ماهر , أنا بعد أبي الثار , وكنت أبي أخذ حقه بطريقتي , وما دام فهد هو الوحيد المشتبه فيه قررت أتزوجه عشان أنتقم منه , وكنت بسوي أي شيء عشان أعذبه ويندم على الوقت اللي فكر فيه يأذي أخوي , لكن .. ما أدري إيش صار فيني بعدين , وكأن شيء زي الجليد صار مكان قلبي , شوي شوي بدأ هالجليد يذوب , كل ما قربت من فهد عشان أعرف مواطن ضعفه , قرب هو مني عشان يأخذ مكان من قلبي , إيه كنت معجبة فيه قبل , لكن الحين أحسني صرت أحبه , وما قدرت أأذيه , والله غصبا عني يا رؤى , ويوم شفتك تبكين أمس ما تحملت , حسيتني نذلة , واني كنت قاعدة أماطل بسبب مشاعري الشخصية , عشان كذا توني كلمته وخليته يأجل الزواج .
يا الله , يا الله ..!
هل ما تنطقه لجين يعتبر حديثا حتى ؟
وهل يعتبر إعتراف ..!
زلزال , ذلك الذي شعرت به يهز جسدها بعنف , حتى تدلت يديها بصدمة , ووقعت جانبا .
نظرت إلى رؤى المصدومة , والفاغرة فمها بذهول .
بينما دموعها تجمدت داخل عينيها , وهي تحدق في لجين بغير تصديق .
حياة ..
التي هرعت نحو حجرة لجين حين سمعت صراخها , كما فعلت بالأمس مع رؤى .
وقفت تستمع إلى اعتراف لجين الصادم .
تحركت أخيرا , لتقترب من لجين .
وتجلس القرفصاء أمامها .
ابتعدت رؤى تلقائيا إلى الوراء .
أمسكت حياة كتفي إبنتها بقوة , هزتها بعنف :
- إيش هذا اللي تقولينه يا لجين ؟ عقلك براسك ولا تكذبين .
ازدردت لجين ريقها بخوف , لم تتوقع أن تسمعها أمها , ولكن بما أنها سمعت .
فليحدث ما يحدث .
أساسا حياتها كلها في فوضى عارمة .
هزت رأسها بإيجاب , لتتلقى أقسى صفعة في حياتها .
قبل أن ترفع عيناها وتنظر إلى أمها بذهول , رفعتها حياة وجعلتها تنهض رغما عنها , ورؤى وقفت خلفها تمسك بذارعها تحاول تهدأتها .
أبعدتها حياة بقوة , لتنظر إلى لجين بنظرة نارية :
- مجنونة انتِ ؟ إيش هالعقل اللي عندك ؟ أنا قدرت أسوي كل شيء بالدنيا وقدرت أربي أولاد زوجي , لكن انتِ .. عجزت فيك والله عجزت , لا تبرين فيني ولا تهتمين بنفسك , كأنك حالفة إنك تجننيني وتضيعين عمرك بعد .
دفعتها حياة إلى السرير وهي تنتفض من الغضب :
- أنا شفت أغبياء بس مثلك ما شفتك , تحسبين حياتك لعبة عشان تتزوجين الشخص اللي تعرفين وواثقة إنه قاتل أخوك عشان تنتقمين منه ؟ آآآخ بس آآآخ , ما أدري متى بتعقلين بس .
مسكتها رؤى من ذراعها بقوة :
- يكفي يا حياة , اتركيها الحين , اللي فيها مكفيها .
نظرت إليها حياة بحدة جعلتها ترتبك :
- وانتِ بعد , لين متى بتستمرين في هالشيء ؟ متى بتفقدين الأمل ؟ ولا تفضلين تفقدين حياتك وسنين عمرك في سبيل إنك تشوفين الدم يا رؤى ؟ ما ربيتك وكبرتك عشان هالشيء , خلاص يا رؤى يكفي , اعقلي وعيشي بسلام انتي وزين , وخلي غيرك بعد يعيشون بسلام .
جُرحت رؤى بشدة .
حياة لم تنطق بشيء منذ أن بدأت بهذه الحرب بمفردها .
ولم تدلي برأيها .
ولكنها نطقت الآن , لتصيبها في مقتل .
أجابتها بابتسامة متكلفة :
- ما عليك حبيبتي لا تشيلين همي , صدقيني بكون بخير .. وأنا مو مسؤولة أبدا عن حياة غيري , سوءا أولادك ولا أولاد عمي .
قالت تلك العبارة وغادرت المكان , بقلب بارد وجليدي .
تعلم أنها جرحت حياة بما قالته , وأن قلبها يعتصر ألما من تلك العبارة .
إلا أنها لن تفعل المزيد مما يجرح كبريائها , ويقلل من قدرها .
وللتو عرفت الجهة التي تقف بها حياة .
تريد حماية أبنائها , تألمت من أجل لجين حين بكت بتلك الطريقة , واعترفت أنها تخلت عن سعادتها وحياتها الهادئة من أجل ماهر , ابن عبير .
لا تلومها أبدا ..
هذا حقها كأم .
ولكن هي , رؤى ..
منذ البداية , وحين نوَت أن تأخذ بثأر ماهر , قالتها بصريح العبارة , أنه يخصها وحدها , فمن أراد دعمها ومساندتها فليفعل , ومن أرادا الوقوف ضدها ومنعها .. يتحمل ما يسمعه منها , أو يسكت ويبتلع لسانه أفضل له .
وحياة ليست مستثناة .
حين ينتهي الأمر قريبا , وتنتصر .
ستنظر إلى الجميع بعين الإنتصار والتحدي .
وزين , ليس مستثنى أيضا ..!
حاولت رؤى أن تذهب للإطمئنان على لجين .
ولكنها وجدت ذلك غير منطقيا .
هل تذهب الآن فقط .. لأنها علمت أن لجين منذ البداية في صفها ..!
يا لها من حمقاء , ما تلك الطريقة الغبية التي أرادت بها الإنتقام ..!
أو ربما كانت طريقة ذكية ..
ولكنها لم تستغلها جيدا , بسبب ذهابها في ذلك الطريق بمفردها .
لو أنها أعلمتها مسبقا ..
لنصحتها ووجهتها حتى تصل إلى مرادها , ولكنها حقا .. غبية .
أنا حقا آسفة يا لجين , ولكن ثأرك انتهى هنا
باعترافك لي عن ارتكابك تلك الحماقة .
الآن لم يتبقى سواي , وهادي ..
المختفي منذ مدة .
أخذت هاتفها من على المنضدة , لتجد إسم ميسم يضيء شاشة الهاتف :
- هلا .
- حبيبتي رؤى كيف حالك ؟
عقدت رؤى حاجبيها باستغراب :
- والله ؟ من متى المعرفة يا ميسم ؟ أقصد من متى المحبة ؟
ضحكت ميسم ضحكة ناعمة لتقول :
- من جيت عندكم وطبختي لي , المهم اسمعي .. أنا اليوم بسوي حفلة , وأبيك تحضرينها .
سألت بملل :
- وين ؟ وإيش المناسبة ؟
- بقول لك الصراحة , مافي أي مناسبة .. لكن أنا ودي أروح استراحة فهد , وهذي الحجة الوحيدة اللي كانت في بالي عشان يسمح لي أروح .
جلست رؤى متفاجئة :
- استراحة فهد ؟
لمست مسيم الرجفة بصوت رؤى , لترد بهدوء :
- آسفة رؤى أدري المكان مو مناسب , بس لازم أروح .. أحس إني بلاقي شيء يفيدنا في القضية , وما كنت بزعجك وأعزمك , بس تعرفين صديقاتي عددهم جدا محدود , تقريبا بس بنات أعمامي وعماتي .. وهم بس كم وحدة , حتى ماني قد كذا معاهم , أبيك تكونين موجودة , على الأقل تكون معي وحدة مهتمة وتساعدني , وش قلتي ؟
- بجي .
- صدق , يا الله الحمدلله , لا أجل بروح أتجهز , وانتي بعد لا تتأخرين تمام ؟ تكشخي بنفلها اليوم .
تنهدت رؤى :
- تمام , وبجيب معي خالتي حنين بعد .
- جيبي أي وحدة , أهم شيء تجين انتي , و …. لجين بعد إذا حابة تجي , ولا خلاص أنا بكلمها .
أغلقت منها وهي تتأمل الشاشة للحظة .
قبل أن تطلب رقم حنين .
وتخبرها عن الحفل , وعن نية ميسم .
نعم ..
في مثل هذه المواقف , لن يساعدها أو يدعمها أحد , مثل حنين .
الحاقدة بشدة , على قاتل ماهر .. وتنتظر رؤية الدم على أحر من الجمر .
_______
بعد ساعتين …
كانت الاستراحة تضج وتصدح بأصوات الأغاني الأجنبية , كما تفضل ميسم .
التي قررت أن تتخلى عن جميع قيودها , وتتحرر من الكبت الذي فرضته على نفسها .
ترتدي فستانا قصيرا يصل إلى الركبة , باللون الأسود اللامع .. عاري الكتفين .
ضيق يبرز مفاتنها , تفرد شعرها .
تضع السماعة على أذنيها , وتقف بجانب لوح التحكم التابع للسماعات الكبيرة .
ترقص وتغني , مع بنات عمومتها اللاتي فرحن بشدة بهذا الحفل المفاجيء , مع بعض زميلاتهن في الجامعة .
رؤى أيضا ..
بعد أن تعبت نفسيتها بشدة في الأيام الأخيرة .
بدت فاتنة , بفستانها الأخضر الطويل , والمخصر على جسمها أيضا .
بكم واحد .
ترفع شعرها بطريقة أنيقة , وفتيها بارزتين بلون الكرز .
ترقص هي الأخرى .
أما حنين ..
فتجلس في ركن بمفردها , تنظر إلى الجميع بعينين حاقدتين .
خاصة ميسم التي تضحك وتوزع ابتساماتها على الجميع .
حتى لو أرادت المساعدة , تبقى أخت المجرم الذي حرمها من أقرب أصدقائها إلى قلبها , ماهر .
لم تحرم لجين نفسها من المجيء وإبهاج نفسها .
كانت الأجرأ من بينهن جميعا .
إذ ترتدي ثوبا أبيضا مغطى ( بترتر ) يصل إلى فوق الركبة , يضيق من الصدر حتى خصرها , ثم يتسع من الأسفل قليلا .
تضحك بشدة وتتحدث مع من لم تتحدث إليهم من قبل , ترقص وتغني .. تحاول نسيان حزنها وضيقها .
انتبهت ميسم إلى هاتفها المضيء بإسم فواز , لتخلع السماعة من أذنها وتنادي رؤى :
- خذي مكان لين أرجع .
أسرعت إلى الخارج تبتعد عن الازعاج :
- هلا فواز .
- هاا بشري , سويتي شيء .
- لا لسه , انشغلت شوي مع البنات .
هدر فواز بغضب :
- انتِ رايحة عشان البنات ولا عشان تدورين أدلة ؟ يلا بسرعة .
تذمرت :
- يووه طيب لا تصارخ , ما أقدر أتركهم من بداية السهرة عشان ما يشكون بشيء , يلا مع السلامة .
قبل أن تغلق سألته :
- لحظة وين انت ؟
- جنب الاستراحة من الجهة الخلفية , لو كانت جيّتي من دون فايدة ما راح يحصل خير .
- تمام انتظر , وانتبه لا يشوفك أحد .
تأفف هو الآخر :
- تمام يا ميسم تمام , أشغلتيني والله .
أغلقت الهاتف وهي تبتسم من نبرته , لتلتفت إلى الخلف وتصرخ مذعورة وهي تضع يدها على قلبها الذي يخفق بعنف من الشخص الماثل أمامها .
____
انتهى الفصل .
قراءة ممتعة للجميع
__
اللهم ارحم مارية واغفر لها وعافها واعفُ عنها , برد قبرها وآنس وحشتها .
واجعل الفردوس مقامها يارب العالمين , اللهم آمين .
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين