واشنطن ..
- وهل سنجلس هكذا مكتوفي الأيدي ؟
قالتها جيليان بتذمر , وجهها محمر من شدة الإنفعال والغضب , ليأتيها الرد بصوت ناعم وهادي , تنبههم من شرودهم بسبب ما حلّ بهم من حزن وصدمة :
- في الواقع ستجلسين مكتوفة الأيدي ممددة الأرجل , لا أظن أنك ستتمكنين من فعل شيء وأنتِ هكذا .
التفتت إليها بغضب :
- يا لظرافتك , أنا لا أدري مالذي فعلته بحياتي حتى أقابل فتيات غريبات الأطوار مثلك أنتِ والحقيرة الأخرى أليس .
عقدت لورنا حاجبيها وهي تجيبها بسخرية وحدة في ذات الوقت :
- رجاء لا تقارنيني بتلك الــ أليس , أنا على الأقل كنت رفيقة أختك في الشدة قبل الرخاء .
تأففت جيليان وهي تدير وجهها وتشتمها في داخلها , ثم التفتت إليها مرة أخرى بقوة تهاجمها :
- حقا ؟ إذا لماذا كانت هي كبش الفداء دونك ؟
صمتت لورنا قليلا , ثم ردت بهدوء :
- لأنها كانت الرأس المدبر لكل ما حصل , وعلى ما أعتقد .. أليس كانت مصرة لأخذها لأنها تعلم عن ذلك المكان أكثر مني , يعني إن وصلت جوليا إلى الشرطة وأعلمتهم بالأمر واستطاعت أن تنقل التفاصيل , سيكون ذلك المكان اسطورة من الأساطير خلال عدة أيام مقبلة .
عضت جيليان شفتها بغضب وهي تهز رجلها , وتشعر بضغطها يرتفع أكثر كل ما سمعت شيء عن أليس , التي لم ترتح إليها منذ البداية , قبل أن ترد قاطعها زياد :
- حسنا جيليان , هذا ليس الوقت المناسب لحرب الإناث , وأنتِ يا لورنا .. ألستِ أنتِ أيضا ربما تتمكنين من إخبار الشرطة ؟ أعني .. الأمر رغم كل شيء يبدوا غريبا , لمَ قد تتركك حرة طليقة وتأخذ جوليا ؟ هل تعرفين شيئا آخر ؟
صمتت لورنا وكأنها تفكر وتحاول إيجاد شيء في عقلها :
- لا , ولكن .. ما أتذكره هو أن جوليا أخذت بعض الأوراق والملفات الطبية قبل هروبنا , أعني .. ربما رأوا ذلك من خلال الكاميرات , وأرادوا تلك التقارير , ربما .
عقد زياد حاجبيه :
- هل تعلمين عن فحوى تلك الملفات والتقارير ؟
- لا مطلقا , لم أهتم .
ضحكت جيليان بقهر :
- طبعا , كان الهروب هو كل ما يهمك .
صرخت لورنا وهي تنظر إليها :
- يا إلهي , هل يمكنك السكوت للحظة ؟ ما أدراك أنتِ عن كل ما واجهناه سويا أنا وجوليا ؟ لا تعلمين شيئا , نعم فكرت في الهروب , ولكننا كنا معا حتى آخر لحظة , لا تعلمين كم شعرت بالغضب حين ترجت أليس وجعلتها تتركني , كنت أريد الإكمال معها إلا أنها أبت , شعرت بالوحدة الفظيعة حين اختفت من أمام ناظري , والآن تأتين أنتِ لتلوميني ..!
صمتت جيليان من هجومها المباغت والغير متوقع , وفتحت فمها تنوي الرد .. إلا أن لسانها كان خاليا من أي كلمة مناسبة , لتغلقه وتزم شفتيها .. وتوليها وجهها .
تبكي بصمت .
غير قادرة على السيطرة على نفسها أكثر .
منذ أن سمعت بالخبر من زياد , أصابها حزن عظيم .
إلا أنها كتمت في نفسها الألم والعبرات إحتراما لزياد وصدمته .
ولكنها لم تعد تستطيع .
كل ما وقعت عيناه على لورنا , تمنت لو أنها جوليا .
تظن أنها ( جيليان ) السبب في كل ما حصل لتلك المسكينة .
لو بحثت أكثر , لما ضاعت بهذه الطريقة المفجعة .
تنهد زياد بهم , وهو يمسح وجهه بقوة , ليسأل لورنا الفاقدة أعصابها أساسا :
- أليس أخبرتنا أنهم وجدوا بقعة دم في المكان حيث هربتما منه , لمن كان ؟
تصلب جسدها حين سمعت هذا السؤال الغير متوقع , ثم ضحكت :
- أنا متفاجئة , لمَ لمْ يجروا تحليل فحص الـ DNA ؟
لم يرد عليها زياد , ينتظر الإجابة , وأكملت هي :
- كان دمي , سقطت على وجهي ههههههههههه كان موقفا عصيبا وجميلا في ذات الوقت .
عادت بذاكرتها إلى ذلك الموقف .
حين ركضا ناحية الباب الحديث , ثم وقفا أمامه .. تمكنا من فتحه بطريقة أو أخرى .
حين غمرتهما السعادة , وبكتا من شدة الفرح
تفاجئا من خلو المكان من أي سلم .
كيف سينزلان الآن ؟
جلست لورنا على ركبتيها بصدمة وهي تجهش بالبكاء دون صوت .
جوليا بقيت واقفة , بملامح واجمة .
غير مستوعبة ما ترى .
كيف ذلك ..!
ماذا يعني هذا الشيء ..!
شهران من العذاب والمعاناة وألم الإنتظار , ألم الذل والمهانة .
وهذه هي النتيجة ..!
يا رب رحمتك ولطفك .
تنهدت بحزن :
- لنعد إلى حيث أتينا منه يا لورنا , ليس هناك أي مهرب من هذا المكان البائس .
التفتت إليها لورنا بفزع , وهي تمسك بقدمها :
- لا جوليا , لا .. لن أرضى بذلك , أبدا .. أرجوك جوليا , أنا لم أتحمل كل ما حصل طوال الشهرين لأستسلم في النهاية , دعينا نهرب .
نظرت إليها جوليا متفاجئة وهي تجلس :
- ولكن كيف ؟ لورنا هل ترين ما أراه ؟
- نعم أرى ما ترينه , ليس هناك أي سلم ينزلنا إلى الأسفل , ولكن .. ولكن , يمكننا .. نعم , يمكننا أن نقفز , لسنا بذلك العلو .
اتسعت عيناها بذهول :
- أنتِ لستِ بوعيك لورنا , هل مرضتِ حقا ؟ تريدين أن تقفزي من هنا ؟ يا لغبائك يا لورنا , هل تفضلين الموت على البقاء هنا ومواجهة بعض المصاعب .
بكت لورنا مرة أخرى بانهيار :
- نعم يا جوليا , أفضل الموت , أقسم أني أفضل الموت .. على البقاء هنا وتذوق كل هذه الآلام .
لانت ملامح جوليا , وهي تتنهد وتعود لتنظر إلى الأسفل .
إلا أنها تفاجئت وبشدة , ثم غطت فمها تمنع نفسها من الصراخ .. وهي ترى لورنا تقف وتقفز .
وقفت ببطء لتنظر إلى الأسفل وهي تزدرد ريقها , تريد أن تصدق ما رأته بعينيها .
اتسعت حدقتاها أكثر وهي ترى ظهر لورنا , يعني أنها سقطت على وجهها تلك المسكينة .
بكت بخوف , ثم ذكرت الله .. وبقيت واقفة عدة دقائق .
قبل أن تغمض عيناها , وتقفز .
فسقطت جالسة وتأوهت بألم .
ظلت على حالها للحظات , مغمضة عينيها .. تتحسس جسدها .
تنفست بعمق , وهي تجلس ببطء .. تشعر بأن ظهرها انكسر من قوة السقوط .
لتتسحب وتتلمس ظهر لورنا , التي بقيت على حالها .
تسارعت دقات قلبها , وهي تظن أنها فقدت الوعي .
سحبت يدها حين تحركت لورنا , وجلست .. التفتت إلى جوليا , لتطلق صيحة فزع خافتة .
كان وجه لورنا مليء بالدم , الخارج من أنفها .
وجبهتها المتشققة , وبعض الكدمات هنا وهناك .
اقتربت منها أكثر وهي ترفع يدها وتتلمس بها وجه لورنا المنعدم تماما :
- يا إلهي , لورنا هل أنتِ بخير ؟
أجابت لورنا بعد صمت قصير , بصوت أشبه بالهذيان :
- أشعر بالدوار , و .. ألم شديد في وجهي .. آآآه .
تأففت جوليا :
- يا إلهي , هل كان عليك أن تقفزي بهذا الشكل أيتها الحمقاء ؟
فتحت لورنا عينيها :
- ماذا ألم يصبك شيء ؟ هل .. خططتِ للسقوط بطريقة لا تؤلمك .
تأففت جوليا مرة أخرى من غبائها :
- بالطبع أيتها المغفلة .
تأوهت لورنا , وسرعان ما بكت وهي تمسك بذراع جوليا :
- آآه ليتك أخبرتني منذ البداية , أشعر أن جميع عظام وجهي تكسرت .
ابتسمت جوليا بخوف وغباء .
ثم ما لبثت أن ارتفع صوت لورنا وهي تضحك بسعادة .
تمكنتا من الهرب أخيرا ..!
ابتسمت لورنا :
- وهذا كل ما حصل , هل ترون هذه الندبات على وجهي ؟ لقد نتجت عن سقوطي بتلك الطريقة هههههههههههههه .
ابتسم الجميع لضحكها رغما عنها , ثم قال زياد بهدوء :
- وأنا الذي كدت أموت خوفا من أن يكون ذلك دم جوليا , حسنا .. ماذا الآن ؟ أود أن أعرف وبشدة , سبب تركها لك , لا بد من أن هناك شيئا , لو أنها تخاف من إبلاغك للشرطة , لأخذتك غصبا .
عم الصمت , الكل يفكر في السبب .
بما فيهم لِيام الصامت .
الذي صُدِم وبشدة , مما فعلته أليس .
كان يشعر بأن قلبه انجذب بطريقة ما نحو أليس , لذا لم يتوقع أن يصدر منها مثل هذا الفعل .
تحدث دون وعي :
- لقد أخبرتنا أليس أنها عانت وبشدة من الظلم في ذلك المكان , لمَ قد تؤذي غيرها من أجلهم ؟
نظروا إليهم متفاجئين , لترد جيليان بسخرية :
- ربما دفعوا لها من المال ما جعلها تنسى كل شيء .
- أنتِ لا تعرفين شيئا عن نظامهم , المبدأ الأول لديهم هو الدين , لا يتعاملون بالمال عزيزتي .
ابتسمت جيليان :
- لو لم يستفيدوا ماديا لم ينشؤوا ذلك المكان البغيض الغير قانوني .
ليجيب زياد وهو شارد الذهن :
- إلا إن كانت أليس تعمل من أجل مصلحتها الخاصة وليس من أجلهم , أليست هي من ساعدتك على الهروب يا جيليان ؟
جيليان بعدم فهم :
- بلى .
- إذا .. ربما , تريد منك أن تبلغي الشرطة حقا يا لورنا .
نظرت إليه لورنا ببلاهة :
- أنا .. لا أفهم .
_______
أقسى ما عاشته طوال عمرها كله , وأكثر ما عاشته أيضا .. هو عدم معرفة الوقت .
عدم معرفة الوقت , وعدم الشعور به .
يؤلم قلبها بشدة , ويجعلها تشعر بالغصة تقف في حلقها .
المكان غير مهم , لا تريد أن تعرف أين هي .
ولكن على الأقل , تعرف كم الساعة .
هل الشمس حقا لا تشرق في هذه البقعة من الأرض ؟
منذ أن استيقظت لم ترّ النور .
حلقها جاف تماما , لم تشرب قطرة واحدة من الماء , ولم تبتلع شيئا من الطعام .
ما هذا الظلم ..!
وحين استيقظت , فزعت كما لم تفزع في حياتها قط .
إلا أن الخوف بدأ يتسلل من قلبها ويخرج وهي تسمع صوتا مألوفا , ينطق بإسمها :
- جوليا ؟ هل استيقظتِ ؟
اتسعت عيناها بغرابة , ما الذي تفعله أليس معها في ذات الحجرة التي حبستها بها ؟ :
- أليس ؟ هذه أنتِ ؟
أجابتها بصوت مختنق :
- نعم جوليا , هذه أنا أليس .. أردت أن أؤذيك , ولكن الآية انقلبت ضدي , كما ترين , أنا الآن محتجزة معك .
صمتت جوليا من الدهشة والصدمة , ثم سألتها بهدوء :
- ماذا تقصدين ؟
ضحكت أليس بحزن :
- تلك الــمـــــ ……………… ستيلا , هي من حبستني معك , القصة طويلة .. لست أملك مزاجا يسمح لي بسردها عليك الآن .
ابتسمت جوليا في الظلام بسخرية :
- لست ممن يشمتون بالآخرين , ولكني الآن سعيدة حقا , وأنا أرى عواقب ما فعلته بي .
عم الصمت أرجاء المكان بعد عبارتها .
لوقت طويل .
كانت تود لو تقطع الوقت بالحديث مع أليس .
إلا أن التعب تمكن منها , هي وأليس .
التي نامت بالفعل .. وعلا صوت شخيرها .
والذي اعتبرته جوليا أرحم من الصمت المهيب .
منذ ذلك الوقت , أليس نائمة .. لم تستيقظ بعد .
وهي أيضا , بقيت على حالها , مقيدة .
تحاول أن تحرر نفسها بالقوة , ومحاولاتها كلها بائت بالفشل .
بيد أنها تمكنت من الجلوس بالقوة , لتزحف حتى وصلت إلى حائط ما .
استندت عليه , تريح جسدها .. أو توهم نفسها بذلك .
كيف لذلك الجسد الضعيف أن يرتاح وهو مقيد ؟
فوق ألم القيود .. ألم الجوع والعطش .
حتى رأسها لم يسلم من الألم , حيث داهمها صداع شديد .
جعلها تعيد رأسها للخلف وتسنده إلى الحائط .
بعد دقائق ..
أغمضت عيناها بقوة , حين أتى نور مفاجيء على عينيها .. جراء فتح أحدهم للباب .
فتحتهما ببطء , لكي لا تؤلمهما بعد اعتيادهما على الظلام الحالك لوقت طويل .
نظرت إلى ظل الشخص الذي دخل .
من هيئته في الظلام , تأكدت أنها ليست الرئيسة التي حبستهم , بل كان آخر شخص توقعت رؤيته ..!
تسارعت أنفاسها , بدت كأنها تلهث من شدة التعب .
تسمع بأذنيها دقات قلبها , وهي ترى ذلك الوجه الذي يبعث الطمأنينة في نفسها .
منذ أول يوم رأته فيه , ولجأت إليه .
حتى آخر يوم تركته فيه .
كان آخر موقف تتذكره معه , حين جلست تشكوا إليه طرد أبيها لها , وسكنها مع رفيقتها في الجامعة .
تبكي وتشهق , فينطق من الكلمات ما تشبه البلسم .
تهدأها وتطمأنها كما لو أنه لم يحدث شيء ..!
أما هو ..
كان يراها وينظر إليها , ويشعر بنفسه في حلم في منامه .
لا يستطيع أن يصدق ما يراه .
انفصل عن العالم تماما , وأصبح بمفرده في عالم لا يسكنه أحد .
سواه وجوليا ..!
تسمرت قدميه عند الباب , لا يدري لمَ لا يتمكن من السير نحوها والإقتراب منها .
بالرغم من أن شوقه لها قاتل , لدرجة تفوق القدرة على التحمل .
حين اقترب من هذه البناية المهلوكة , والشبه محطمة .. أقسم أنه إن أبصرت عيناه جوليا , سيركض نحوها بأقصى سرعة , وسيضمها حتى تتكسر أضلاعها ربما .
لن يتركها حتى يشعر أنه بخير .
لقد انتظر طويلا , وتخيل لقاءهما .
إلا أن كل التخيلات والتوقعات ذهبت سدى , حين أبصرها بذلك الوضع المحزن .
ربما ..
لأنه صُدم مرات عديدة , وفُجِع قلبه المسكين مرات لا تحصى .
فقد الشعور الجميل , حين اللقاء ..!
ظلا ينظرا إلى بعضهما لمدة طويلة .
حتى لم يعرفا كم مر الوقت .
لتأتي المبادرة من جوليا , وهي تنطق بصوت مكتوم ومتحشرج :
- زياد .
نسيت جوليا صدمتها منه , حين قالت أليس أنه من أوصلها إليهما .
وبقيت فقط , تشعر بسعادة لا مثيل لها .
وهي ترى شخص من المدينة .
شخصا تعرف وتثق فيه , تشعر بالراحة حين يكون متواجدا .
انتبه زياد من غفلته حين سمع ذلك الصوت الذي يكاد يموت من شوقه إليه .
ليتقدم منها ببطء .
يبتلع ريقه , ويغمض عيناه مرارا .. كأنها لم يستوعب بعد .
حتى وصل أمامها , وانحنى يجلس على ركبتيه .
ظل ينظر إليها لعدة ثوانِ , قبل أن يمد يده ويلمس بشرتها الرطبة بفعل الدموع .
حين شعرت جوليا بيده على خدها شهقت وهي تبكي .
زمّ زياد شفتيه , وأحنى رأسه متأوها بألم هو الآخر .
ثم ما لبث أن بدأ يبكي بعدم تصديق .
أسرع يفتح قيودها القوية , وشتم المرأة التي قبض عليها بالخارج مرارا وتكرار وهو يرى أثار القيود عليها .
حين انتهى من قدميها , أمسك بكفيها .. ثم رفع رأسه مرة أخرى .
عيناه بعينيها المبللتين .
ثم إلى جسدها المرتجف بسبب شهقاتها .
فتح القيد سريعا , ليمسك بكتفيها .. ويسحبها إلى حضنه .
ليعانقها عناق العمر , عناق طويل .
علّه يخلصه من كل مرّ به بعد فراقها , ومن كل ما مرت هي به .
لفت جوليا يديها الواهنتين حوله وضمته إليها بقوة , بالرغم من أنها لا تتذكر أنه زوجها .
إلا أن الموقف جعلها لا تستوعب شيئا , غير وجود أحد تعرفه .
يعني أنها وأخيرا , حرة ..!
نسيا ما حولهما تماما , وجوليا تبثه أشواقها وحزنها بصوت نحيبها .
أما هو ..
فكان مغمضا عينيه .. يدفن وجهه في شعرها .
دموعه تسيل بصمت وهدوء .
كأنه حقا , يريد أن يدخلها داخل صدره .. حتى لا تغيب عنه مرة أخرى .
ولا يعاني من غيابها أبدا .
لم ينتبه زياد إلى ما حوله , إلا حين ابتعدت جوليا عنه بطريقة جعلته ينظر إليها بغرابة , كأنها تكهربت .
ثم أخذت تزدرد ريقها بخوف , وهي تعود إلى الخلف حتى عادت والتصق ظهرها بالجدار خلفها .
تحت عينا زياد المصدومتين .
نطق أخيرا بإسمها هامسا :
- جوليا .
هزت رأسها نفيا عدة مرات , قبل أن تخفض رأسها وتقول بصوت مرتجف :
- أعتذر , لم أكن أقصد .. أنا .. لم أقصد أن أضمك بهذه الطريقة , لقد نسيت نفسي .
أي ألم , هذا الذي شعر به زياد في تلك اللحظة ..!
شعور فظيع , أقسى من ذلك الذي شعر به حين سمع عن وفاتها لأول مرة ..!
بعد أن وصل لها , يجدها تجهل أمر زواجهما ..!
نعم سمع عن ذلك , يعرف أنها فاقدة لذاكرتها .
ولكن نبرتها وهي تقول ذلك , وأسفها الواضح على ملامحها وجهها ..!
يا إلهي ..!
لم يملك الوقت ليشرح لها شيء آخر , حين دخل أفراد الشرطة يبحث عنهما :
- هل وجدتهما .
وقف زياد , وهو للتو يستوعب أن هناك فتاة أخرى مسجاة على بعد عدة خطوات من جوليا .
نظر إليها عاقدا حاجبيه , وحين دقق النظر إليها انصدم .
ماذا تفعل أليس هنا ..!
ألم تكن من خطفت جوليا ؟
خلال لحظات …
كانت جوليا داخل سيارة الإسعاف , وأليس الفاقدة للوعي في أخرى .
ينظر أحد الممرضين إلى حالة جوليا .. وزياد يجلس على يمينها , لا يحرك عيناه من عليها , حتى شعرت بالإرتباك والتوتر .
لتقطع ذلك الصمت المربك بسؤالها :
- كيف عرفت عن مكاني ؟ أهو ذلك المخطط الذي أوصل أليس إليّ ؟
أطال النظر إليها مرة أخرى دون أن يقول شيء , حتى ظنت أنها أخطأت بسؤالها , ولفت وجهها عنه بإرتباك .
نفس النظرة الغامضة بعينيه .
نفس الغموض , ونفس الوجوم على ملامح وجهه .
لطالما تمنت أن تعرف ما يفكر به , وما يدور بداخله .. حين يصمت , ويتضح من ملامحه أنه شارد , يفكر في أمر ما .
كانت تلك النظرات تفتنها كثيرا , وكانت تحب أن تراه بتلك الطريقة .
رغم محاولاتها الكثيرة في كبت مشاعرها , ومحاولاتها في منعها من الوقوع في حبه .. إلا أنها كانت تشعر بشيء ما تجاهه .
نسيت كل شيء خلال الخمس سنوات , إلا أنها الآن …
وفي هذه الدقائق القليلة , حين وقعت عيناها على عينيه .. بدأ قلبها ينبض من أجله مرة أخرى , تبا ..
- تلك قصة طويلة جوليا , سأخبرك عنها فيما بعد .. ارتاحي الآن وابقي هادئة , لا تتحدثي أكثر , دعي عيناي تشبع منك .
أجفلت جوليا مما قاله , خاصة حين التفتت لتنظر إليه , وأبصرت تلك النظرة العميقة في عينيه .. ارتجف قلبها بين أضلعها , وشعرت به يخفق بقوة .
ماذا يقصد ..!
هل كان يفتقدني ؟
هل حقا .. اشتاق إليّ ؟
هل أعني له شيئا ..!
وإلا لماذا عاد بعد خمس سنوات ؟
ظلت أعينهما متعلقتان ببعضهما , حتى وصلا إلى المدينة .. ثم إلى المستشفى .
في قلب زياد , فرح عظيم .. يشعر أن الكون لا يسعه من شدة فرحه بعودة محبوبته إليه .
ولكن .. هل حقا عادت ؟
كيف وهي لا تتذكر أنها زوجته ..!
نعم , أمرها بالصمت وعدم الحديث , لأنه لا يريد أن ينجرح أكثر .
من عباراتها الغريبة , التي تؤكد لقلبه بقسوة , أنها نسيته .
بينما هو ..
مكث وتقلب في النار طوال خمس سنوات .
لا بأس , بما أنها صارت هنا .. بجانبه أخيرا .
____
الماضي ..
تقف أمام المرآة , تحاول جمع شعرها الطويل في ظفيرة واحدة .
تظفر من جهة , وتخرج بعض الخصلات من جهة أخرى .
من شدة نعومة شعرها .
تأففت وهي ترتب الخصلة الأخيرة بدبوس شعر صغير .
دارت لتنظر إلى ميسم التي تراقبها منذ البداية :
- خير ؟
تنهدت ميسم :
- بموت من الطفش , ليش ما تأخذيني معك ؟
ابتسمت رؤى بسخرية وهي ترتدي عباءتها :
- اللي يسمعك يقول إنك اجتماعية ودايم تجلسي مع الناس .
وقفت ميسم :
- غرفتي غير عن غرفتك , لدرجة إني لو حبست نفسي فيها شهرين ما مليت دقيقة وحدة , لكن في غرفتك أنا صدق مخنوقة .
زمت رؤى شفتيها , وقبل أن تفكر أكثر قاطعتها ميسم :
- ومثل ما قلت لك يا رؤى , أنا أعرف عن اللي صار أكثر من أي أحد .
تكتفت بعد ما قالت تلك العبارة التي حيرت رؤى , وصارت تدقق النظر فيها .
تبدوا صادقة .
أساسا ميسم دائما تبدوا جادة .
تعابير وجهها تجعلها تثق فيها .
تنهدت رؤى :
- أنا ما أدري ليش ما تعلميني يا ميسم , وتبين تقابلين الغريب ؟
- الغريب محقق , يقدر يتصرف بالطريقة الصحيحة .. أقدر أفيده بالمعلومات اللي عندي وهو يتصرف بطريقة قانونية , أما إنتِ لو علمتك أدري راح تفقدي أعصابك بسرعة , واحنا مو ناقصين مصايب .
صمتت رؤى بحيرة مرة أخرى , ثم قالت بهدوء :
- خلاص بقول لزين .
خرجت رؤى واتجهت حيث ينتظرها زين , والذي وقف ما إن رآها :
- يلا ؟
ترددت رؤى قبل أن تخبره :
- ميسم .. تبي تروح معانا .
نظر إليها بإستغراب :
- ليش ؟
ازدردت ريقها , هل تخبره الحقيقة ؟ وتقول أن ميسم تعرف شيئا ؟
لا .. سيغضب بالتأكيد .
إن علم أن أخته تخبيء أمرا هاما :
- تقول طفشانة , وودها تطلع تشم هوا .
فكر لعدة ثوان قبل أن يوميء بإيجاب :
- يلا خليها تطلع بسرعة .
أسرعت نحو حجرتها لتخبر ميسم , ثم خرجت هي إلى زين .
أصابها التوتر من جلوسها بجانبه بعد وقت طويل .
هو أيضا , راوده شعور غريب .
وهذا الشيء آلمه بشدة .
أن يشعر بالغرابة والإرتباك .
هل ابتعدا إلى تلك الدرجة ؟
ماذا يحصل بينهما ..!
ومن أجل ماذا ؟
زفر بصوت مسموع وهو يدير وجهه إلى جهة النافذة , يريد أن يتحدث إليها وينهي كل شيء .
إلا أنه غير قادر , ما فعلته رؤى ليس بهين .
جرحته بقوة .
لن يتمكن من النسيان بسهولة .
وهو يعلم جيدا , أنها إن سمعت عن نية سامي في الزواج في نهاية الأسبوع , ستغضب مرة أخرى .
وستفقد أعصابها .
لذا لا داعي لأن يتصالحا , ثم يختلفا مرة أخرى .
وأخيرا أتت ميسم لتريحهما من قبضة صدريهما .
وساد الصمت في السيارة , حتى وصلوا إلى وجهتهم .
مؤسسة والد زين , حيث ينتظرهم فواز هناك .
دخل زين إلى مكتبه تتبعه رؤى وميسم .
- السلام عليكم .
ألقى زين السلام وهو يقترب من فواز الذي وقف مبتسما .
حيّا بعضهما وجلسوا حول الطاولة الصغيرة في ركن المكتبة .
ليبدأ فواز بإلقاء الأسئلة الروتينية المعتادة عن القضية التي سترفعها رؤى ضد فهد .
خلال ذلك الوقت , كان زين يكتم غيظه وغضبه .
كون رؤى تجيب على الأسئلة بكل ثقة , وكأنها متأكدة تماما أن فهد هو القاتل .
بينما ميسم تراقب رؤى وتتأملها , كانت رؤى متحفزة تماما .
وتتحدث دون توقف .
تجيب على الأسئلة بسرعة .
حواسها كلها منتبهة مع المحقق أيضا .
تود أن تضحك بصوتها العالِ .
كونها تعرف ما تجهله رؤى .
وكل إجاباتها خاطئة .
حتى سأل المحقق بهدوء :
- ودي أعرف السبب اللي خلاك تكوني متأكدة لهالدرجة , يعني .. اللي يسمعك يقول إنك كنتِ موجودة في مسرح الجريمة وشفتي فهد يطعن أخوك ..!
صمتت رؤى من الغيظ .
ثم قالت بقلة صبر :
- قاعدة أقول لك من الصباح , لما سألت ماهر مين اللي طعنه قال فهد , يعني أكذبه ..!
ابتسم ثم قال بهدوء يهز رأسه نفيا :
- ما أقول تكذبينه , بس ماهو دليل كافي أخت رؤى , أعتذر إني ضد اللي تقولينه , لكن عشان نقدر نرفع القضية بثقة لازم تكون عندنا أدلة واضحة .
أغمضت عيناها بقهر , تعرف هذا الشيء .
ولكن من أين لها أن تأتيه بالدليل ..!
هي متأكدة من أنها سمعت إسم فهد .
يعني أنها لا تمتلك أي دليل , سوى أذنيها ..!
تبا ..!
فاجئت ميسم الجميع حين تحدثت بهدوء :
- الجثة , الصور من تشريح الجثة قبل ثلاث سنين , راح تساعد .
عقد فواز حاجبيه بغرابة :
- شلون يعني ؟
اعتدلت ميسم في جلستها , تكمل بنبرتها الغير مبالية :
- مثلا مكان الطعنة , وطريقة الطعن كلها راح تكون واضحة بالصور .. فهد أعسر , يعني لو صدق هو اللي قتل ماهر راح يوجه السكين من المرة الأولى من دون ما يغلط على المكان اللي يبي يطعنه فيه.. بحكم إن يده ثابتة , لكن لو بينت الصور إن الطعنات غير ثابتة وبيد مرتجفة , معناته فهد ما له دخل .
اتسعت أعينهم بدهشة وذهول .
كان فواز أقلهم ذهولا بما أنه يعرف الكثير عن الجنايات .
ولكن هي , ما أدراها بتلك الأشياء ؟
قبل أن يتحدث , قاطعه زين بسؤاله الموجه إلى ميسم :
- شكل الكتب أثرت فيك صدق ميسم .
ابتسمت وهي تجيبه بكل ثقة :
- هي فادتني صحيح , بس أعرف هالشيء من زمان .
- كيف ؟
رفعت كتفيها بلا مبالاة :
- أعرف وبس , المهم الحين نشوف الصور ونتأكد .
ساد صمت قصير , قبل أن تسأل رؤى بهدوء :
- وش تعرفين بعد يا ميسم ؟
- ولا شيء .
ابتسم فواز وهو يقف بعد أن أجمع أوراقه :
- أعتقد اكتفينا لليوم , مثل ما قالت الأخت .. نتأكد من صور الجثة ثم نكمل .
سلم على زين والتفت ليخرج , ولكن ميسم باغتته مرة أخرى :
- جوال ماهر , راح يكون دليل كافي ؟
التفت إليها الجميع بصدمة , لتكمل هي بإرتباك من نظراتهم :
- أقصد .. ما دام رؤى مصرة إنه ماهر قال إسم فهد , يمكن نقدر نسترجع المكالمة ؟
سألت رؤى بلهفة وهي تمسك بذراعها :
- تعرفين وينه ؟
هزت رأسها نفيا :
- لا , بس أسأل .
أطال فواز النظر إلى جهتها , ثم هز رأسه بإيجاب وهو عاقدا حاجبيه , لا بد من أن هذه الفتاة لديها الكثير :
- أكيد راح يكون دليل كافي , لكن وينه الحين ؟
- ما أدري , بس بحاول ألاقيه .
أومأ بإيجاب وخرج , والكثير من الأسئلة تدور في عقله .
بدت واثقة وجادة , ومتأكدة من كلامها تماما حين تحدثت عن فهد .. وعن كونه أعسر , وكيف يمكنه إستخدام السكين .
كأنها اطلعت على كل شيء قبل إتيانها .
هل يعقل وأن تعرف الجاني الحقيقي ..!
في الداخل ..
أقفل زين الباب خلف فواز , ثم اقترب من ميسم .
- وش تعرفين ؟
أنزلت ميسم نقابها وجلست بكل هدوء :
- وش أعرف ؟ ولا شيء يا زين , هذي بس شوية معلومات ممكن تفيد في القضية .
صرخت رؤى بقهر من المحقق الذي لم يأخذ بما قالته على محمل الجد :
- إلا تعرفين كثير يا ميسم , ليش ما تقولين وتريحينا ؟
كانت تريد أن تقول عما أخبرتها في المنزل , أنها تعرف المجرم الحقيقي .
ولكنها خافت من زين .
رفعت عيناها بهدوء :
- كل اللي عندي قلته للمحقق يا رؤى لا تسوين دراما .
عضت رؤى شفتها السفلى بقوة وهي تغمض عيناها وتدير عنها .
نظر إليها زين لعدة ثوان :
- يلا برجعكم البيت , وانتي يا ميسم .. أول ما توصلين تجهزين أغراضك وأغراض تميم .
وقفت ميسم بسرعة , ووجهها اسودّ من الهم فجأة :
- ليش ؟ تكفى زين لا ترجعني بيتنا وأمي مو فيه .. استأجر لي غرفة في فندق بس نجود ما أقعد معها لوحدنا .
صمت زين قبل أن يلقي عليهما الصدمة :
- أمي رجعت قبل شوي , استعجلت عشان تساعد نجود وتجهزها للزواج .
انصدمتا مما قال , لتسأله رؤى :
- أي زواج .
نظر إلى كل شيء عداهما :
- زواج سامي ونجود , راح يكون بنهاية هالأسبوع .
ليكمل بعد صمت قصير :
- وفهد ولجين بعد بنفس اليوم .
صمتتا من فرط الدهشة .
بهذه السرعة ؟
لم يطول صمت رؤى التي وقفت أمام زين بوجه محمى , تقول بصوت غاضب :
- مو بهالسرعة يا زين ما راح أسمح لهم , والله ما راح أسمح لهم يتزوجون قبلنا أنا وإنت , خربوا علينا كل شيء ويتزوجون بسهولة ولا كأن في شيء صاير , وأنا اللي بموت من القهر .
أمسك زين بذراعها مقطبا جبينه بإنزعاج :
- انتي اخترتِ هالشيء يا رؤى , فضلتي طريق الإنتقام لأخوك واللي ما راح يجيب لك غير هالقهر اللي ماكل قلبك , وتاركة الكل يعيش بهناء , وبعدين تعالي .. تقولين هالكلام وانتي طالبة الطلاق من يومين ؟
شهقت ميسم وهي تعود إلى الخلف غير مصدقة ..!
حقا ؟
أحصل هذا ؟
هل رؤى طلبت الطلاق من أخيها ؟
تعرف أنهما يحبان بعضهما بجنون , ولم تتوقع يوما أن يختلفا بهذا الشكل .
آلمها قلبها وهي ترى هذا المنظر .
كلاهما غاضبان .
وهي تعرف ما سيجعلهما يرتاحان ويعودان كما كانا في السابق .
ولكنها لا تملك الدليل .
إن أخبرتهم , ستفسد الأمور أكثر .
ابتعدت رؤى عن زين وولته ظهرها وهي تمسح دمعتها الخائنة .
ثم ارتدت نقابها على عجل .
لتخرج من مكتبه دون أن تنتظرهما .
تأفف زين وأغمض عيناه وهو يتنهد بقوة .
لا يعرف ماذا عليه أن يفعل .
التفت إلى ميسم :
- اللي صار هنا ما احد يعرفه يا ميسم , ما يطلع حرف واحد من اللي انقال , مفهوم ؟
هزت رأسها يإيجاب .
- يلا .
- روح انت خلني أعدل حجابي .
خرج زين تاركا إياها في المكتبة , وهي تباطأت حتى ابتعد واختفى عن ناظريها .
لتسرع نحو الطاولة .
وتفتح دفتر ملاحظات صغير , موضوع بجانب شاشة الحاسوب .
فتحته لتبحث بعينيها عن رقم المحقق .
حتى وجدته .
أخرجت هاتفها من جيب عباءتها , وسجلته بسرعة .
ثم خرجت بخطوات سريعة .
_____
الحاضر ..
بعد أن انتهى الجميع من تناول الطعام .
اتجهوا إلى الملحق في حديقة المنزل , لمشاهدة أحد الأفلام .
حين رنّ هاتف الجوهرة , بإسم عالية .
ابتسمت وهي تقف وتخرج لترد عليها .
هينا التي كانت تجلس بجانبها , تتبعتها بعينيها حتى خرجت .
وقلبها يخفق بعنف .
يا الله .
أرجوا أن تكون المكالمة عن الخطبة , ولكن الخبر يكون في صالحي .
أرجوا أن يرفضني العريس .
ظلت تنظر ناحية الباب كل بعد دقيقة .
تنتظر والدتها تلقي عليها الخبر .
أي خبر , لينتهي هذا القلق .
تأخرت والدتها .
وقفت وهي تتنهد , وخرجت بخطوات بطيئة .
وجدت أمها واقفة بالقرب من باب المطبخ .
ملامحها غير واضحة في الظلام .
والديها يحرصان على إطفاء أنوار المنزل كلها , إلا المكان الذي يتجمعون به .
اقتربت منها تضم كفيها ببعض , حتى وقفت أمامها .
حتى بانت لها ملامحها الباردة , والتي لم توضح أي شيء .
- خير يمه ؟ مين اللي اتصل فيك ؟
دققت الجوهرة النظر إلى إبنتها , وتأملتها طويلا .
حتى أن هينا شعرت بالقلق .. لتجيبها الجوهرة بإبتسامة واسعة :
- مبروك .
اتسعت عينا هينا بصدمة , وشعرت بضيق شديد يكتم أنفاسها , حتى شعرت بقلبها يهوي ويسقط بين رجليها , هل ذلك السخيف وافق أن يتزوجها ..!
هل يعني هذا أنها فعلا ستصبح ملكا لشخص آخر ؟
غير الذي ملك قلبها ..!
شعرت بالدموع تبلل عينيها , حتى أوشكت على السقوط .
حين ضحكت الجوهرة :
- دموع الفرح ؟
تقوست شفتا هينا بزعل .
كادت أن تصرخ من قهرها الشديد .
إلا أن منظر أمها منعها من ذلك , لن تصرخ أمامها ولن تغضبها .
لم تشعر بمثل الشعور الفظيع في حياتها قط .
فكرة أن أمر زواجها من شخص آخر غير زياد سيصبح واقعا , يجعل قلبها يتحطم تماما .
تأملتها الجوهرة بإبتسامة هادئة , قبل أن تسند ظهرها على الحائط وتتكتف :
- تذكرين لما خطبك محمد ؟ ونزلتي لنا أنا وعمتك العنود ؟ كانت إبتسامتك شاقة الوجه , يوم قلتِ اتخذت قرارك وهذا وجهك .. توقعت إنك وافقتِ , خدعتينا يا هينا وصدمتينا لما قلتِ إنك ما تبيه , قررت أرد لك نفس الحركة .
رفعت هينا رأسها بذهول :
- إيش قصدك ماما ؟
ضحكت الجوهرة :
- ماما ؟ قد كذا مصدومة ؟ عموما .. مبروك لأن أخو عالية ما يبيك , تقول استخار وما حس إنه مرتاح .
فغرت هينا فمها بذهول , تنظر إلى أمها بتلك الطريقة .
بعدم إستيعاب .. بسعادة , عدم تصديق .
حين أومأت الجوهرة برأسها بإيجاب .
صرخت هينا بصوتها العالي وهي تقفز وتحضن أمها , ودموعها تغرق خديها :
- الحمد لله الحمد لله .
تركت والدتها وركضت إلى الأعلى .
لا تسعها الأرض من شدة الفرح .
رفعت الجوهرة قبضة يدها على صدرها وهي تتنهد بضيق .
تألمت بشدة حين رأت فرحة هينا .
هل حقا كانت ستفعل ذلك ..!
تجبرها على الزواج بمن لا تريد ؟
حقا .. أعجبها فواز , أكثر من أي عريس تقدم لها في السابق .
سمعته جيدة جدا في مجاله .
ولكن هل كان عليها أن ترغم إبنتها على الزواج منه فقط لأنه أعجبها ..!
يا لها من إنسانة عديمة الضمير .
الأمر الذي جعلها تغضب إلى تلك الدرجة , وترغم هينا على الموافقة .
ما كتبته هينا في مذكرتها .
لا تريد لإبنتها أن تتألم من حب عقيم , من طرف واحد .
هذا ما فهمته حقا مما قرأته .
ولكن أيضا , يمكن تلك الخاطرة .. والقصيدة المرفقة , فقط كتابة عادية لا تقصد هينا نفسها بها ..!
فالكاتب مثله مثل الشاعر , يقول ما لا يفعل .
سامحها الله , إذا ضيقت على إبنتها وبكرها بتلك الطريقة .
هينا …
دخلت إلى حجرتها , وأطلقت صرخة عالية تعبر بها عن سعادتها العظيمة .
حمدا لله الذي استجاب لها دعوتها .
وخلصها من هذا الزواج السخيف .
فعلا ..
والدتها لعبت بأعصابها , وخدعتها حتى شعرت بقلبها يسقط في الهاوية .
اتجهت إلى حاسوبها .. وفتحته لتشغل أغنية ترقص عليها , بعد أن فتحت ربطة شعرها .
وصارت ترقص على صوت الحاسوب الصغير وهي تضحك أمام المرآة .
حين انتهت , أقفلت الجهاز واستلقت على سريرها وهي تنظر إلى السقف وتضحك .
ثم ما لبثت أن قالت بحنق وغيظ :
- بعدين هاللي ما يستحي كيف يرفضني ؟ كيف يتجرأ يرفض هينا بنت سعد ؟
وكأنها ليست التي كانت تدعو عشية وضحى أن لا يتم الأمر .
ثم أغمضت عيناها بحالمية :
- آآخ الحمد لله , يلا يا زياد تعال الحين وينك .
كأن زياد استمع إلى ندائها له بينها وبين نفسها .
ليستجيب سريعا .
ويصلها رد متأخر .
على رسالة أرسلتها قبل عدة أيام , حين سألته عن سبب ذهابه إلى واشنطن .
جلست ببطء وهي تقرأ رده المؤلم جدا , الموجع حد الموت .
القاتل ..
بعد أن كادت تصاب بسكتة قلبية من شدة فرحها .
( سمعت أخبار عن جوليا , وإنها ما ماتت .. جيت أتأكد , وتعبت كثير عشان أوصل لها , والحمد لله كان الموضوع يستاهل كل هالمعاناة .. لأني لقيتها أخيرا بعد ما دورت عليها )
الصورة المرفقة , كانت مؤلمة أكثر من رده .
صورته برفقة جوليا .
يجلس على مقعد بجانب السرير الأبيض في المستشفى .
والذي ترقد عليه جوليا .
تبتسم إبتسامة رائعة , رغم شحوب وجهها .
إلا أنها بدت رائعة .
إبتسامة زياد كانت أكثر روعة وجمالا .
لدرجة أنها شعرت بها تصيب قلبها بشدة فتقتله .
ذلك البريق في عينيه , لم تره قط قبل هذه المرة .
سهَت تماما وهي تدقق النظر إلى كليهما .
حتى قطع زياد غفلتها برسالة أخرى
( أعتذر لأني ما رديت عليك من أول , بس مثل ما قلت لك كنت مشغول حيل , ما قعدت إلا لما لقيتها , ما تدرين قد إيش مرتاح ومبسوط الحين ) .
أنا أيضا , يا جارحي .. وقاتلي .
كنت ( مبسوطة ومرتاحة ) بعد أن سمعت أن فواز رفضني .
أملا مني بأن أستطيع أن أجتمع بك .
لم أنتظر مثل هذه الرسالة القاتلة منك .
كلماتك أشد وقعا على قلبي من السيف والله .
أقسم أني لم أشعر بمثل هذا الشعور من قبل .
_____
مضت حوالي النصف ساعة .
وهو يراقب تحركاتها داخل الحجرة .
بالرغم من أنها كانت نظيفة ومرتبة تماما .
إلا أنها تتظاهر بترتيبها مرة أخرى .
وتمثل أنها تنفض الغبار عن الآرائك , تمسح طاولة الزينة .
لم تنظر إليه أبدا منذ أن دخلا إلى المنزل .
تنهد وقد ملّ من انتظاره لها .
وقف خلفها وهي تمسح طاولة الزينة , وأمسك بعضديها ليقرب وجهه منها , ويهمس في أذنها :
- خلاص لين متى بتسوين نفسك مشغولة ؟ ترى رتبت البيت ونظفته كل يوم من رحتي بيت أهلك .
ازدردت عالية ريقها , وهي تتجاهله وتكمل ما بدأته .
عقد محمد حاجبيه , وأمسك بيدها ليسحب منها القماش , ويرميه جانبا .
التفتت إليه بغضب , قبل أن تهطل عليه بكلماتها الغاضبة .. باغتها بقبلة على جبينها .
رقّت ملامحها وتجمعت الدموع في محاجرها , وهي تبعده عنها بخفة .
تنهد وهو يمسك بكتفيها ويسحبها إلى حضنه , ضمها بقوة وهو مغمضا عيناه .
يستمع إلى شهقاتها الخافتة .
يشعر بأظافرها المنغرزة على ظهره .
ظل ساكنا حتى هدأت .
أبعدها عن حضنه بلطف , ليمسح دموعها بكفيه .
أمسك بكفها وساقها نحو الأريكة , أجلسها وجلس بجانبها .
قبل وجنتيها ثم أمسك بكلتا كفيها , ليقول بهدوء :
- أنا فهّمتك يا عالية وشرحت لك كل شيء , ليش إلى الآن زعلانة ؟
شهقت عالية التي لم تذهب عنها آثار البكاء بعد :
- مو قادرة يا محمد , ما تدري كيف حسيت لما هينا قالت لي هالشيء , وقبلها إنت لما عارضت ما علمتني بالسبب , جرحتني يا محمد .
أغمض عيناه متأففا .
لا زالت تردد نفس الكلام , وتلك الكلمة السخيفة ( جرحتني ) .
لم يقصد ذلك أبدا .
ولكنه لم يتوقع من هينا ذلك التصرف الأحمق .
نعم ربما لم ترغب في الزواج من أحد يقربه , ولكن …
كيف لها أن تفسد الأمور بتلك الطريقة ؟
هي ليست طفلة .
عهدها متهورة , ولا تنتبه لما تقوله أو تفعله .
ولكن ليس إلى ذلك الحد ..!
منذ تلك الليلة , وبعد أن عادت عالية من منزل والد هينا .
لم تصلح الأمور بينهما .
غضبت بشدة , اختلفا .. فذهبت هي إلى منزل والدها , ومعها حقيبة متوسطة الحجم .
لم تعد إلا قبل قليل .
اقترب منها محمد أكثر , ورفع كفيها ليقبلهما بعمق , وهي ترتجف وكأنها تشعر بالبرد الشديد .
ليقول بهدوء :
- ما قلت يا عالية عشان ما تفهميني غلط , لو كنت فعلا أكن لها مشاعر تتوقعي كنت أقدر أحبك إنتِ بهالسهولة ومن أول ما تزوجنا ؟ من الدقيقة اللي صرتِ فيها ملكي وعدت نفسي إني ما أجرحك ولا أزعلك , وإني انتبه لك ولمشاعرك زين , واني أمنع نفسي من أي شيء ممكن يضايقك , ما أدري إذا قبل كذا تضايقتي من شيء سويته من دون ما أقصد , عشان كذا ما قلت لك السبب اللي خلاني أعارض فكرة زواج فواز وهينا , وهو مو مثل في بالك .. مو لأني كنت أحب هينا أو أميل لها , إيه صدق تعرفت عليها لما رحت أمريكا , وخطبتها لأنها بنت عايلة طيبة ومعروفة , لكن بعد ما رفضتني نسيتها تماما , ما عمري رجعت أفكر فيها .
قاطعت عالية حديثه الطويل :
- طيب إيش السبب ؟ ليش ما تعلمني ؟
نظر إليها طويلا , ثم تنهد بضيق :
- لأنها تحب واحد .
اتسعت عينا عالية وفغرت فاهها بذهول تام :
- نعم ؟
ابتسم محمد :
- لا تفهميني غلط الحين بعد , عرفت هالشيء لما رفضتني .. كنت شاك , لكن تأكدت بعد ما رفضها .
ازدردت ريقها عالية , وشعرت بألم في قلبها .. صعب , صعب جدا أن لا تفهمه خطأ .
حتى وإن أثبت لها العكس .
أن يعرف عن حبها لشخص آخر لمجرد الرفض , يعني أنه كان مقربا منها كفاية .
يا إلهي .. كم كنت مغفلة .
وكنت مغمضة عيناي لأخدع بهذه الطريقة .
حاوط محمد وجهها بكفيه , عيناه بعينيها اللامعتين :
- عالية يا روحي , صدقيني ماحد في قلبي غيرك .. كنت خاطب أبرار صح , لكن فرقتنا المشاكل اللي صارت , وبعدها خطبت هينا ورفضتني .. والحين والله إني نسيت كل اللي صار في الماضي , لا تخلين أي شيء يخرب بيننا .
صمتت عالية وهي تسمح لدمعتها بالنزول , والتي مسحها محمد بأصبعه سريعا .
قبل أن يقبلها بحب .
وتتقبل هي تلك القبلة بصمت .
وقلبها يتألم بشدة .
نعم يا محمد .
أنا ساذجة , وغبية .. وحمقاء تماما .
لأصبح البديلة المناسبة لحياتك .
حتى وأنت تريد أن تصلح ما أفسدته , تجرحني دون أن تشعر .
وهذا ما أكرهه فيك .
أنك تجرح دون أن تشعر , وتعتقد أنك تفعل الصواب .
كانت أبرار .. ففرقتكما المشاكل كما قلت .
ثم هينا , فرفضتك بسبب حبها لشخص آخر مجهول .
ثم أنا .. قبلت بك , بسبب جهلي وغبائي .
نام محمد هانيء البال مرتاحا .
يحسب أنه انتهى من مهمته في الإعتذار منها وإرضائها .
لا يعلم شيئا عن البركان الثائر داخل صدرها .
منظره وهو يعارض فكرتها في خطبة هينا لأخيها , يتكرر أمام عينيها ألف مرة .
فتتألم كل مرة , ويعاودها ذلك الشعور حين أخبرتها هينا بالخطأ عن خطبة محمد لها .
سألته عدة مرات , عن سبب رفضه .
إلا أنه لم يخبرها بشيء .
وهي أيضا لم تبالي كثيرا .
حتى سمعت ما سمعته من هينا , فانقسم قلبها إلى نصفين .
ظنا منها أنهما عاشا قصة حب مخفية عن الجميع .
لذلك هينا أيضا ترفض شقيقها .
ولكن بعد أن عادت إلى المنزل , وواجهته بالحقيقة .
أقسم لها أنه لم يحبها ولم يحدث بينهما شيء مما خطر على بالها .
لم يمضِ على زواجهما سوى ثلاثة أشهر .
إلا أنها أحبته بجنون , وتعلقت به بشدة .
ليقتلها الشعور بالغيرة , ويدفعها لتوضيب حقيبتها والذهاب إلى منزل والدها القريب جدا من منزل محمد .
كطير جريح .
هو لا يدري عن ذلك الشعور المرير في قلبي .
والذي لن يذهب أبدا , مهما فعل ومهما نطق من الكلمات .
وإلا لما تمكن من النوم أبدا .
____
انتهى الفصل