21

40 2 0
                                    

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

الفزاعه


الحياة رتيبة بعد عام كامل من تلك الأحداث
الصاخبة التي واجهتني بتعاقب مخيف، ما جعلني
أتساءل عن ألسر الذى بدأت من أجله تلك الأحداث.
والتي من أجله انتهت.
هل زال النحس عني؟
هل انتهت لعنة قريتي بكل ما سفك فيها من
دماء؟
لا أعرف حقا.
وما أعرفه أن البشر، أكثر مخلوقات الأرض قدرة على
التكيف والنسيان، بل والمضي قدما مهما كان
هول الكارثة التى يواجهونها.
ولم أكن أتوقع أن هذا الهدوء الطويل.. هو الذي
كان يسبق العاصفة.. وللدقة نقول: كان يسبق
الزلزال..
نعم مازال طالعي نحس.. ومازالت قريتي ملعونة..
والابتلاء هذه المرة كان شديدا..

لن أتحدث عن البيوت التي هدمت
على ساكنيها..
لن أتحدث عن عدد الموتى غير المسبوق..
لن أتحدث عن الخسائر المادية والمعنوية،
فجميعها معروفة ومتوقعة ونراها في نشرات
الأخبار.
سأتحدث فقط عن الهول الذي ظهر بعد الزلزال.
فبعد الزلزال مباشرة، وبعد أن لملم أهل القرية
جراحهم، وشرعوا في استعادة حياتهم الطبيعية،
زادت الشكوى من تعرضهم لهجمات الطيور
الغاضبة، وخاصة الغربان، وتحديدا بالقرب من البئر
الجوفي الوحيد الموجود في قريتنا.

ذلك البئر الذي أصبح محاطا بالحكايات والأساطير،
خاصة مع الأصوات الغريبة والمؤلمة القادمة من تلك
الفجوة التي ظهرت بأعماقه.
حتى هذه اللحظة لم أعرف سبب وجود هذا البئر
إلى الآن، ولماذا لم يتم ردمه بعد جفافه منذ زمن
عيد؟.
كان البئر يقبع بقلب إحدى الأراضي البور التي تقع
على الطريق السريع الذي يمر بالقرب من قريتنا،
وهو الطريق الوحيد الذي يربطنا بالمدينة القريبة.

استخدم بعض الناس البئر الجاف، في فترة من
فترات الهدوء التي أصبحت قريتي تفتقدها هذه
الأيام، كبئر للأمنيات، كما يحدث منذ زمن مع بئر
مسعود في الأسكندرية، تلك المدينة الساحرة
التي لم أزرها إلا مرة واحدة في حياتي.
وكانوا يلقون فيه ببعض القطع النقدية المعدنية
التى كانت تصطدم بصخرة قابعة في أعماقة
فتدوي برنين خاص.. فيؤوله كل منهم حسب
رغبته، وحسب ما تميل له روحه.
نوع مخادع من الدعم النفسي، بحثا عن تلك القوى
الخفية، التى ستساندهم من العالم الآخر، وتحقق
لهم أمنياتهم.
كانوا يتفائلون به.. وذاع صيته لفترة ما، قبل أن
ينساه الجميع مع تعاقب الأجيال وتبدل الثقافات
والاهتمامات.
لا أعرف حقيقة تحقيقه للأمنيات، ولكنني تسلقته
هابطا أكثر من مرة مع بعض الرفاق وجمعنا من
داخله العديد من القطع المعدنية، بعضها كان
يحمل وجه الملك فاروق، ومازلت أحتفظ بها في
دولابي.
كان عمق البئر خمسة أمتار..

وبعد الزلزال أصبح حفرة عميقة لا قرار لها، تخرج
منها رائحة كبريتية مؤذية، وأصوات مرعبة ذكرتني
ببئر برهوت باليمن.
تلك البئر سيئة الرائحة التى قيل أن أرواح الكفار
تذهب إليها، وألتي وصفها البعض
والخاطئين
بسجن الجان، والتي تحدث عندها بعض الظواهر
المريبة كالأصوات والرائحة الكريهة كحال بئرنا هذا.
الجديد في الأمر هنا، هو الشائعات الكثيرة التي
بدأت تتدأول عن ظهور الفزاعة العشوائى في
المنطقة المحيطة بالبئر، وبجوار حافته القديمة،
المصنوعة من الأحجار.
كان هذا خبرا ثقيلا على روحي.. بل ثقيلا جدا.. فهو
يعني أن اللعنة مستمرة..والخطر مستمر. وأن
المزيد من الكائنات الشيطانة باتت تظهر فى
قريتنا.. وإن كان هذا أكثرها حميمية، وقربا من
أجوائنا.
الفزاعة مرعبة دون إضافات، فما بالكم عندما
تكتسب حياة وتتحرك في قلب الظلام.
هل تعرفون الفزاعة خيال المآته- ذلك التمثال
البدائي المليء بالقش، والذي يرتدي قبعة كبيرة
من القماش، وملابس رثة مهلهلة، وينصبه الفلاح

على عمود خشبي بقلب الحقل ليخيف به الطيور
واللصوص والغرباء ويحمي أرضه..
إنه شيء مرعب عندما يفاجئنا في الظلام.. ولا
أنصح أحدا بأن يمر بتجربة مماثلة.
الشيء الغريب في الأمر أكثر، أنهم يقولون أنها
فزاعة أنثى، ولا تحمل أي من تلك الملامح المبهمة
المعتادة، التي توحي بكونها رجلا.
والعديدون أضافوا أنها تحمل بين يديها طفل
رضيع، تقبل يده أحياناً.
وأكد معظهم أنه طفل
تحدث عن تلك الأفاعي، التي تخرج
كما أن البعض
من قلب البئر الملعون، وتعشش فى المكان الذي
تقوم فيه بدفن طفلها في كل مرة.
ويحدث الأمر دوما قبل شروق الشمس.. وكأنها
تخشى الشمس، فبعدها لا تعود للظهور إلا ليتا.
والمخيف أن سرب كامل من الغربان كان يصحبها
في تحركاتها، على عكس الهدف الحقيقي من
وجودها، بأن تعمد إلى إخافتهم، لا جذبهم إلى
حيث تتواجد، وكأنه سحابة سوداء قاتمة..
بالهول القادم.
البعض قال أنها تشبه الغولة..
وأحدهم تظرف وقال أنها تشبه زوجة أبيه التي
يكرهها..
وآخر قال إنها أبشع شيء رآه فى حياته، غير
عشرات الأشكال التي كانت تظهر بها.
والثابت هنا أنها أنثى..
وأنها تمثل
تجسيدا لمخاوف العديدين.
أنا نفسي أخشى الفزاعة بشكل مرضي، من حادثة
قديمة حدثت لي، عندما ضللت الطريق في صغري
بداخل حقل للذرة وفاجأتني الفزاعة المنصوبة
هناك.. كانت تجربة مروعة وغير سارة لطفل في
سني المبكر هذه.
قبل ساعة واحدة، لم أكن على دراية بأي شيء

حول هذا الموضوع، وعلمت كل هذه المعلومات
من شقيقي عبد الهادي، الذي بدأ يصدق في
الخوارق والأمور غير الطبيعية، بعد ما مر به من
أهوال، وأنا أقوم بمساعدته في إعداد جثمان

مصطفى شديد سيء السمعة، وهو آحد رجال
قريتنا المنكوبة الذي لا أتمنى لأحد أن يقابله.
ببنيته النحيلة، والتي لم تخل من مكان واحد
فيها، لم تمزقه مناقير الطيور ومخالبها.
جاء في ذهني على الفور شخصية الفزاعة في
كوميكس دي سي والتي ابتكرها كل من بوب
كين وبيل فينجر، وهي تدور حول طبيب نفسي
كان يستخدم مجموعة متنوعة من المخدرات
والأساليب النفسية لاستدعاء مخاوف خصومه،
واستخدامها لهزيمتهم والتخلص منهم.. ولمن لا
يعرف، يعتبر الفزاعة من ألد أعداء باتمان، وأكثرهم
خطورة..
وكان مصطفى شديد مو أول ضحايا الفزاعة،
وغربانها..
ولم يكن الأخير..
وبرغم نهايته الشنيعة.. لم يقبل أهله أن يذهب
جثمانه إلى المستفى العام ليفحصه الطبيب
الشرعي كي لا يخضع للتشريح- فهم يعتبرونه
تدنيس وإهانة للميت- كما أنهم أرادوا إكرامه
بدفنه، وقطع الأقاويل عن حقيقة تواجده في تلك
المنقطة النائية في هذا الوقت من الليل.
شديد هو تاجر مخدرات معروف، ويدير
دولابه الشهير هناك في مزرعته التى تقع بالقرب
من البئر، ولذلك لا تنقطع الأقدام عنها.

وهذا يحيلنا إلى جانب آخر مثير للشكوك، أن كل
من نقل القصص الغريبة السابقة حتى وصلت إلى
عبد الهادي؛ كانوا مجموعة من المدمنين، فاقدي
الأهلية والتمييز.
وهذا أراح قلبي قليلا، فربما هي هلاوس نوع جديد
من المخدرات.
ولكن عندما وقع خطيب أختي خلود ضحية
لطيورها الغاضبة.. وخسر عينه اليمنى، مع العديد
من الإصابات الأخرى.
كان علي أن أتحرك وأتحرى الأمر..
لذلك أنتظرت حلول المساء، وذهبت إلى هناك..
نوارة بالطبع لم تكن في الأنحاء لتخبرني عن
حقيقة الفزاعة وطبيعة الخطر الجديد ككل مرة،
ولهذا سبب حزين وقاتم.
فهي قبل أن تختفي من القرية ومن عالمي، قبل
شهر كامل أخبرتني، أنها ستذهب.

ستذهب ولن تعود، ككل من ذهبوا ولم يعودوا.
وفسرت الأمر، بأن جسدها لا يتحمل ما يدور بداخله
من تحولات، وصراعات، وآلام. بعد أن عبثت بخلاياها
تلك البكتيريا التي كانت موجودة في النيزك،
وفضلت أن تحتضر وتموت وحيدة على أن أشاركها
محنتها.. لأنها لن تحتمل أن تكون مصدرا لمعاناة
الشخص الوحيد الذي أحبته في هذا الكون.. حسب
تعبيرها الرقيق.
قلبي يخبرني أنها ما زالت على قيد الحياة..
هناك رابط لا شعوري ينمو بداخل كل العشاق،
حتى ولو كان أحدهما مصاب بلعنة، ومن بعد آخر..

إنها مازالت على قيد الحياة ..
ربما تعانى ..
ربما تتألم..
ولكنها ستعود..لابد أن تكود..
ومعنى هذا الآن أنني سأكون وحيدا في مواجهة
الفزاعة..

وربما آذهب مثلها..
ولا أعود.



سر الحانوتى لعمرو المنوفى(مكتمله)Where stories live. Discover now