12

44 5 0
                                    

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

استيقظت من غيبوتي التي لا أعرف كم مضى
على وجودي بداخلها، على هزات قوية من يد
شقيقي عبد الهادى، الذي بدا على وجهه كل ذعر
الدنيا، وهو يحاول إفاقتي، وأنا لا أستجيب له.
الرؤية مشوشة، والبصر غائم، ولكني أعرف من
صوته المذعور أنه هو، ولو لم يكن هو، لما
استطعت القيام بأي ردة فعل..
كان شعوري بأطرافي منعدما، وسمعته يردد في
توتر يشوبه بعض الراحة:
- «الحمد لله.. أنت حي.. قم أيها الأحمق أقلقتني
عليك».
هل أخبرتكم من قبل أني أحب شقيقي عبد
الهادي، وأن موقفه هذا زاد من مكانته في قلبي.
فرغم أنه كان يردد سابقا، أنه لا فائدة من وجودي
على سطح الأرض. وأن للأموات فائدة عني. إلا أني
أدرك الآن أن صورته الجامدة، وهالة القسوة التي
يبثها حوله، هى مجرد ستار يحكم به زمام الأمور.
وأن بأعماقه قلب طيب ومحب.
نصف ساعة ظل فيها بجواري، يأخذ بيدي حتى
تمالكت روحى، وصفا بصري بعد الغشاوة التى
أصابته، وقل الصداع الرهيب الذي اكتنف رأسي.
وعادت الحركة لأطرافي، والقدرة على التحدث
لأحبالي الصوتية، فسألته في اضطراب:
- «أين ذهب، هل تركته يمضي؟».
نظر نحوي في حيرة وقال:
«إنه نفس السؤال الذى كنت سأسأله لك».
تبادلنا النظرات، ثم تبادلنا المعلومات

وأخبرني هو أنه عندما استيقظ من غيبوبته، ورآني
ممدا على الآرض، ورآي أبناء المنشاوي متكومين
فوق بعضهم ظن أننا جميعا أموات، ففزع إلي.
وعندما وجدني أتنفس، عاد لهم، فوجدهم جميعا
على قيد الحياة، عدا عبد المحسن الذى بدا، وكأن
عقله لم يتحمل هجوم المخلوق العقلي..
مد عبد الهادي يده لي ليساعدني على الوقوف،
وهو يقول:
«كل المعزون فى نفس الحالة من فقدان الوعي،
وهي فرصة رائعة لأي لص يجرؤ على دخول سراي
المنشاوي في هذا التوقيت».
لم أعلق على جملته الأخيرة، فلا وقت للمزاح هنا..
وعاد يكمل هو ويخبرني، أنه بعد أن فحص الجميع
عاد لي وعمل على إفاقتي، وتطلب هذا الأمر منه
ساعة كاملة.
ساد الصمت بيننا للحظات، قبل أن تستدير أبصارنا
معا نحوالمرآة، وبصوت يحمل كل هدوء الدنيا قال
عبد الهادى:
- «هذه المرآة يجب أن تدمر بأي شكل».
هززت رأسي بأني أوافقه، ولكن كيف؟
إن العنف لم يجد معها..
نظر لي بدهشة وكأنه يتعجب من جهلي
وحماقتي، ثم أخرج من جيبه علبة ثقاب، لوح بها ثم
قال:
- «إن هذه الأشياء لا يصلح معها إلا شيء واحد».

اتسعت عيناى في دهشة عندما فهمت قصده،
فقلت له في سرعة:
- «هل تقصد ما فهمته، هل نجرؤ على فعلها؟».
لم يرد علي، بل قام وتركني وحيدا أحرك أطرافي
في عصبية، محاولا إعادتها لسيرتها الأولى، فعاد
لي حاملا في يده، جركن بلاستيكي، يحتوى على
ذلك السائل، نفاذ الرائحة ..»البنزين».. لابد وأنه
المستخدم في تشغيل المولد المنزلي.
فنظرت له في إعجاب وقلت:
- «هل ستفعلها حقا؟!، قد يشتعل المكان كله،
ويحترق على رأس من فيه».
بدا وكأن الفكرة تسيطر على تفكيره، إنه لم
يتجاوز بعد رؤيته للمخلوق الرهيب الذي استحوذ
على الجثة، ثم رؤيته لها تنهض من الموت.
تابعته ببصري، وكأني أشاهد مشهدا مثيرا في
فيلم أكشن يعرض في سينما المركز، فرأيته يزيح
الأثاث من حولها، ويجذب المفرش الحريري. والتحف
التي فوقه ليبعدها، قبل أن يهيل السائل نفاذ
الرائحة على المرآة بالكامل ويخرج علبة ثقابه،

ويشعل طرفها الخشبي المليء بالنقوش التي
تشكل وجه الشيطان.
اشتعلت النيران في المرآة دفعة واحدة..
وبدا الرضا ظاهرا على وجه شقيقي..
لا أعرف إن كان مستمتعا بمنظر النيران التي كانت
تحرق جزء من ممتلكات المنشاوي الذي لم يكن
يطيقه، أم أنه سعيد بالتخلص من تلك المرآة
الملعونة، التي عبرها كائن مخيف قادر على سكن الاجساد الميته وإعادتهم الي الحياه


النيران تلتهم الأخشاب في سرعة وكأنها كانت
مغموسة من قبل في سائل سريع الاشتعال،
سطح المراة يتموج في قوة، وتخرج منه ترددات
عنيفة، لو كانت صدرت عنها في وقت سابق، لربما
أنقذتها قبل أن تتقوض.
تسيل المرآة وكأنها مصنوعة من الشمع، أو الفضة
السائلة، ليدوي بعدها انفجار محدود، ويتناثر
رمادها في كل ألأنحاء.
شقيقي عبد الهادى يسعل مقتربا مني، وهو
يتعامل مع يده الخشبية في محاولة فاشلة
لإعادتها لموضعها، وهو يقول:

«آلم آخبرك!!؟»
أنظر لمكان المرآة الذي تشوه، وإلى الرماد الكثيف
الذي غطى الأثاث، ثم أنظر له مجددا في إعجات
ممزوج بالقلق، وأنا أقول:
لقد فعلتها حقا.. ولكننا بهذا قطعنا خط
الرجعة على المخلوق الثاني».
نظر نحوي في قلق، ثم صمت قليلا وقد ظهر على
وجهه ملامح تفكير عميق، قبـل أن يقول،
- «ساعدنى لإفاقة الرجال، وتغطية الميت، ولنرى
بعدها ماذا سنفعل، فلن نستطيع إقناعهم مهما
حاولنا، بأن يحرقوا أبيهم حتى لو كان ميتا من
قالها ثم صمت قليا، ونظر في عيني قائت:
«ألا تعتقد أنك نحس يا شقيقي العزيز. لا مكان
تذهب إليه إلا وتقوم قيامته، ويسقط ضحايا».
نظرت لوجهه كان يتحدث بجدية عجيبة، فأشحت

بيدى التي آلمتني، وقلت:
- «لو كان ما تقوله صحيحا.. فنحن سويا أبناء النحس و
الأحداث الكارثيه  والماساويه

تحدث في وجودك».
ظهرت على وجهه ملامح تفكير عميق قبل أن
يقول،
- «لا أعتقد هذا.. فأنا لا تصاحبني عفريتة مثلك».
كدت أدخل معه في نفس الجدل البيزنطي الذي لا
ينتهي حول نوارة، ولكنه أشار لي بأن أحضر الكفن
الساقط على الأرض والذي تركته خلفها الجثة التي
عادت إلى الحياة وأختفت عارية، وقمنا سويا بجر
جثة عبد المحسن الهامدة، ووضعناها في جانب
الغرفة، وغطيناه بالكفن، ثم شرعنا في إيقاظ
الجميع..
لن أحكي عن حالات الفزع ولا الهلع، ولا ما تلا ذلك
من محاولات استنكار أو شرح لتوضيح أن في الأمر
مرآة تعود لعصر المماليك، وأنها ثغرة تقود
مخلوقات شريرة لعالمنا..
وأن أباهم الذى عاد للحياة ميت..
وأنه يجب علينا حرقه، أو في أحسن الأحوال، قتله.
وبعدها جرت عمليات بحث كثيرة لم تنته لشيء..

فقط شريط طويل من الفاقدين للوعي على طول
الطريق... انتهى إلى حيث توجد محطة القطار،
وبعدها لا شيء..

لا أثر للجثمان..
ولا أثر للمخلوق المخيف..
قمنا بواجبنا نحو عبد المحسن، فغسلناه ودفناه،
وكفناه، ثم واريناه التراب، دون أن نطلب مقابل
إضافي، أو يمنحنا أحدهم شيء وسط حالة الذهول
التي عمت الجميع..
كان ما دفع للأب يكفي ويغطي مراسم وداع الابن..
وانتهت القصة مع الجميع إلى هنا ..
إن كان للأطياف أن
ولكنها لم تنته معي..
لقد عادت نوارة..
حبي المستحيل..
عادت وقد كساها الشحوب،
يغزوها الشحوب
شكرت بها مريضة وضعيفة، حتى إنها لم تجلس
معي كعادتها حتى يحضرني النوم..
وقبل أن تغادر سألتها،
- «ألا تعرفين أين ذهب؟».
استدارت نحوي..
ثم أشارت إلى أسفل..
دون أن تضيف أي كلمة..
كانت إشارة بليغة ومخيفة..


ولكنها لا تعني أن الخطر قد زال ..
إن كم الأخطار الذي يتربص بقريتنا وقاطنيها
ي
يتضاعف كل يوم..
ترى ما السبب؟
أحكي عن ركاب قطار..
يندفع بقوة مليون حصان..


وبسرعة ريح مجنونة..
نحو الهاوية بقاع الغمر
«بروتوكولات حكماء ريش ٢»
نجيب سرور
#سر الحانوتي
#كوالا

سر الحانوتى لعمرو المنوفى(مكتمله)Where stories live. Discover now