17

58 3 0
                                    

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

البقعة الباردة

كانت مغامرة رهيبة، لم أشعر خلالها بلحظة
سعادة واحدة، وكأن الكون كله قد تحول لمقبرة لا
باب لها، ولا يعرف ساكنوها الأمل.
امتزاج وعيي بوعي الحاصد الغامض، جعل نوع من
الذنب غير المبرر يتسلل إلى روحي تجاه ضحايا
القطار، وطريقة موتهم البشعة، التي لم تفرق بين
رجال أو نساء أو أطفال.
الجثث المسحوقة، والأعضاء المبتورة، والبطون
المبقورة ستطاردني بشاعتها مدى الحياة.
كما أن ذكريات ذلك الكائن الملعون ستظل هناك
إلى الأبد، عالقة بأعماق عقلى؛ تعذبني وتخبرني
كل يوم، أنه سيعود من أجلي في يوم مأ.
وسيكون غاضب بشدة.
إنه يمثل ذلك النوع الخبيث من المصائر والنهايات
التعيسة، التي لا يتمناها المرء حتى لأعدائه.
والمروع فى تلك الأحداث التي مزقتني نفسيا، أنه
أثناء تلك آلرحلة البغيضة على متن ذلك القطار

الشبحي الملعون، كنت أشعر بشكل كامل أنني
أنا الشرير..
أنا الحاصد..
أنا القاتل..
وهذا كان مرهق، ومدمر للأعصاب بشكل مخيف.
أنا قاتل، ينتظر نهاية مروعة؛ الموت لن يكون أشد


وطأة منها..
ما الذى يحدث حقا؟!
لا شيء طبيعي أو مقبول في كل ما يحدث لى
وحولي
استرجعت كل الأحداث الأخيرة في ذاكرتي، وأيقنت
أنني ملعون بشكل كبير، وليس مجرد نحس، وأن
حياتي تتحول مع الوقت لسيل من الكوارث، وأنني
أنجو من كل هذه المصائب لأن الأسوأ لم أواجهه
بعد، بل ويتربص بي.
وهذا جعل منحناي النفسي في الحضيض، لدرجة
أننى أصبحت أشتاق للسلام والهدوء اللذين كنت

أجدهما في تعاملي مع الموتى، قبل أن تبدأ كل
تلك الأحداث المريعة التي أصابتني وأصابت قريتي.
لست وحدي الملعون إذن.. بل قريتي كذلك!
بشكل غامض، أصبحت قريتي التي لا أهمية لها
على خارطة التاريخ، مغناطيس هائل يجذب
كوارث الكون، على رؤوس قاطنيها.
وهذا جعلني أفكر في غير هدى..
أهى لعنة تهاني الغجرية ؟ أم أن تهاني أثر جانبي
لها؟
تهانى كانت تحيط نفسها بالجماجم، وبخدم لا
رؤوس لهم لأنها كانت تخشى ذلك المخلوق
الرهيب الذي فتك بها في النهاية..
فهل عبثت بما لا يمكنها السيطرة عليه؟
هل جلبت الشؤم لقريتنا وساكنيها؟
أم أنها ضحية هي الأخرى لشيء أكبر أجهل عنه


كل شيء ؟
هل هي سبب نحسي ووصمي؟

لا يوجد متهم آخر آمامي .
الأمر أصبح محيرا ومقلقا بشكل مثير للهلع، لم
تعد أسرتي وحدها في مرماه، بل أصبح الخطر
يحدق بالجميع وفي وقاحة، ولن يكون شقيقي عبد
الهادي آخر ضحاياه.. هو فقد جزء ثمينا من
جسده.. فماذا سأفقد أنا الآخر؟.
اللعنةإل
عقلي لا يتوقف لحظة واحدة عن رجمي بتلك
الأفكار الجهنمية..
إما إنني أصبحت جبانا بشكل لا يتصوره عقلي، أو
أن حاستي السادسة تشم في الأجواء رائحة غير
مقبولة.
حدس غامض بداخلي ظل يلح علي بأن أحذر
الجميع من الهول القادم، ويحثني على أن أهجر
أهتم لأمرهم، ولكن
وإن لم تخل من
شخص كنت أخبره
بنا، كانت تصيبني
قريتي مع أسرتي، وكل من
هل هو حل متاح؟
الأيام التالية كانت هادئة..
السخافات، فردة فعل كل
بمخاوفي والخطر المتربص
بنوع متقدم من الإحباط.

فالجميع ينظرون إلي على أندي شؤم من الآساس؛
بتعاملي مع الموتى وعملي كحانوتي، وبحديثي
الجنوني هذا عن الخطر المجهول؛ أضافوا إلى هذه
النظرة صفة العته والخبال..


البعض أخبرني أني لو لم أتوقف عن طريقتي
الهستيرية هذه، سأصير درويشا آخر، وهو لفظ
منمق كي لا يخبرونني بأنني في طريقي لأكون
مجذوبا.
ثم تذكرت حمدان.. غريب آخر عن قريتي، التي
أصبحت تعج بكل ما هو غريب ومريب..
ظهر فى طرقاتها بعد العاصفة.. وأصبح أحد
معالمها آلرئيسية.. ولم يكن ليلفت انتباهي. لولا
ما مررت به ..
وحمدان، ذلك الشخص البدين، ضخم الجثة خبيث
الرائحة، يطلقون عليه لقب الدرويش..
وهو لقب يليق به تماما.
ربما هو يختلف عن عبيط قريتنا الذي أعتدنا وجوده
طفولتنا، بملابسه النظيفة عديدة الطبقات،
وبعمته الخضراء الضخمة، وذلك العدد الكبير من
السبح التي يرتديها حول عنقه.

ناهيكم عن تلك السبحة العملاقة، التى لا يتوقف
دورانها حول أنامله وهو يردد بلا آنقطاع:
بنفس الطريقة
ياودووووود...يا
ودود..
المممطوطة التي تميز المجاذيب.
كما أنه يصطحب معه هرة سوداء ضخمة مثله،
منفوشة الفراء متحفزة بشكل دائم ومقلق، تتبعه
لا أعرف لماذ كنت أربط بين الدراويش والمتصوفين
والجنون»
شيء غامض بهم يخبرني إما أنهم يعيشون في
عالم من الهلاوس، أو أنهم يرون أشياء لا نراها.
والتى أصابت عقولهم بهذه الخفة.

«اهربوا.. اهربوا.. الموت والخراب .. البوابة
مفتوحة على مصراعيها ولن يغلقها إلا الدم «؟
كانت هذه هى الكلمات الأولى التي أسمعها من
الدرويش منذ زمن، فلم يصدف أن تقابلنا منذ عدة
أسابيع.
كلمات تدل على أن توقعاتي كلها سليمة للأسف..
هناك شيء ملعون يدور في القرية، وكما يقول
المثل الشعبي خذوا الحكمة من أفواه المجانين.

وأضيف آنا أنه لا دخان بلا نار.
وأنا قد احترقت كثيرا لأدرك أن تحت الرماد نار
عظيمة، تنتظر فقط الوقت المناسب لتحرق الأخضر
واليابس.
رآني الدرويش فحدق في وجهي بذهول، وكأنه يرى
نذير الموت والخراب، ثم تحفزت هرته ووقفت فى
تلك المسافة الفاصلة بيننا، وكأنها تذود عن
سيدها.
لم تكن هذه الملعونة تحمل وجه هرة غاضبة بل
وجه شيطان رجيم، وهذا جعلني أتلفت حولي بحثا
عن سلاح من أى نوع أذود به عن نفسي. وبالطبع
لم أجد إلا نصف قالب من القرميد فتسلحت به.
لو عبر أحدهم ورأى مقدار خوفي من الدرويش
وهرته اللعينة، لصرت فكاهة القرية لزمن طويل،
ولكنني لن أجازف.
بادلت الدرويش نظرات متحدية، فزاغت نظراته،
ونظر للسماء كانما يتلقى وحيا من نوع ما، قبل أن
يشير لنصف قالب القرميد الذي أقبض عليه بيدي
في وضع غير مريح، ليستحيل إلى كومة من التراب
المتناثر لوثت ملابسي، وجعلتني أسعل مرتين.
وأنا أشيح بيدي لأبعد ذراته المتناثرة عن عيني.



أما ما أصابني بالجنون حقا، فتلك الكلمات التي
قذفها في وجهي عندما تلاقت أعينينا مرة أخرى:
- «عليك أن تصدق حدسك يا ابن أبو هاني.. البوابة
مفتوحة.. والموت آت، لا تدفن أبا سالم.. لا تعجل
بالخراب».
صدمتني كلماته بشدة، وأنا أتأمل هرته التى كانت
تنظر نحوى في كراهية، وتقترب مني ببطء مهدد.
إنني أكره القطط بشكل عام..
والآن صرت أكرهها أكثر..
تراجعت للخلف وعيناي على الهرة الخبيثة، وكلمات
الدرويش تدوي في أذنى. فالأمر الآن له شقان!!
الأول إما أن حديثه هذا مجرد تخاريف شخص
مخبول، وعلي فقط أن أتجاهله، وهو ما لا يرتاح له
والشق الثاني أنه يتحدث عن علم نجهله نحن
العقلاء البسطاء، وكلا الأمرين يضعانى في مأزق
فلن أستطع بأي حال من الأحوال أن أتجاهل
شديد،
نداء الواجب، خاصة وأن أبا سالم من خيرة أهالى
القرية، فهو محفظ للقرآن، ومؤذن المسجد.

والمشرف على الجمعية الشرعية، وله سمعته التي
وهنا توقفت عن التفكير للحظة، وصورة أبي سالم
بوجهه البشوش، وملامحه الصافية المليئة بالإيمان
تسطع في عقلي، وتحتل كامل تفكيري، فأبو
سالم حي برزق ..
هو من صلى بنا الفجر..
وبالتأكيد هو من سيصلي بنا الظهر.


إن هذا الدرويش يخرف.. وعقلي المرهق هو الذي
يعبث بى ..
ولا أعرف لماذا رفعت عيني نحو مئذنة المسجد
القريب؛ كأنني أنشد منها عونا أو إجابة
ثم جاءت الإجابة أسرع مما أتوقع أو أحتمل من
الميكرفون المعدني الضخم الذي يعلوها..
لم يكن هذا وقت الأذان ..
لم يكن موعد تواشيح أو درس ديني أو عقد قران.
وجاء صوت متحشرج باكي ليصدمني، وينعي إلى
القرية، وفاة أبيه..

كان الصوت الباكي صوت سالم آبو راية ..
لقد مات بالفعل أبو سالم..
مات إمام القرية ..
مات الشخص الوحيد الذى حذرني الدرويش من
دفنه..
وعندما التفت بأعين جاحظة ممتلئة خوفا ودهشة
إلى حيث كان يقف الدرويش بهيئته الضخمة..
لم أجده..
ولم أجد هرته الخبيثة..
وكأنما تبخرا من المكان.
بينما ظهرت نوارة في المكان، وهي ترمق مكان
اختفائهما بدهشة عظيمة.

سر الحانوتى لعمرو المنوفى(مكتمله)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن