18

30 4 0
                                    

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

كانت هذه أول الكلمات التي قطعت صمت المكان.
بعد أن توقف عويل ميكرفون المسجد الذي
صدمني بالخبر الكئيب، فهو لا يعني لى رزق جديد،
بل فخ أقود نفسي وربما جميع من بالقرية إليه.
استدرت لأواجهها وقلت،
- «لأين ذهبوا يا نوارة.. لأين ذهبوا؟».
نظرت نحوي بحيرة وقالت:
«لا أعرف.. ربما إلى البرزخ».
نظرت لها في غير فهم، فالبرزخ فكرة لا
أستسيغها، فعقلي لا يقتنع بوجود مكان تتجمع
فيه الأرواح بانتظار يوم الحساب، الأرواح تعود لملك
الأرواح، كما أن حمدان وهرته لا يشبهان الأرواح كما
أتخيلها.
لا توجد أرواح تلتهم كل هذه الكمية من الطعام
التي كان يلتهمها ذلك المجذوب وهرته في شوارع

وسوق القرية، كما لم أعرف آن البرزخ
الحيوانات أيضا.
قرأت نوارة ما يدور في عقلي ثم قالت؛
«لا ليس هذا البرزخ.. البرزخ الآخر مخيف، ومحرم
علي دخوله».
صدمتني إجابتها كالمعتاد؛ فسألتها في قلق،
«هل تقصدين أن هناك برزخ آخر يا نوارة.. وإن
كان هناك فلماذا يذهب إليه ذلك المجذوب وهرته،
ولا تستطيعين أنت الذهاب إليه، وما معنى أنه
محرم عليك؟».

ولا تستطيعين أنت الذهاب إليه، وما معنى أنه
محرم عليك؟».
شحب وجهها أكثر من شحوبه المعتاد وقالت،
منها
منها
لابد أن أنتزع
جعلني أقترب
- «إنه بقعة باردة».
قليلة الكلام هي نوارة،
المعلومات انتزاعا، وهذا
وأقول:
«وما هى البقعة الباردة يا نوارة؟».
صمتت قليلا، وكأنها لا ترغب في الخوض في هذا
النقاش وقالت:

«إنها تلك البقعة التي يخشاها كل العابرون
أمثالي».
نظرت لها في غير فهم وقلت:
- «هذه ليست إجابة يا نوارة، أريد أن أفهم أكثر
اعقلي يكاد يجن».
تنهدت نوارة في ضيق ثم قالت:
«إنها ثغرة.. ممر مخيف لا يعبره إلا أكثر أهل
الكون شرورا.. قريتكم تحولت إلى مهبط لكل
أنواع الشرور، بعد أن عبثت بالثغرة أيد جاهلة،
وعلى إثرها، ظهرت البقعة الباردة، وتحتاج فقط
لمحفز، كي يعبر منها شر رهيب.. إنها تطل
مباشرة على جحيم الممسوخين».
اللعنة يا نوارة، كل معلومة تضيفينها لي تزيد
حيرتي وجهلي، إن خوفك الشديد هذا يقتلني،
ولكنني يجب أن أعرف ما أواجه.
قرأت أفكاري وأكملت،

O ي: رج
أحد يستطيع أن يواجه هذا النوع من
يعني سوى نهاية هذا العالم الذي
« ولكن لا
الشر، إنك لا
تعرفه».

هل آكف عن التساؤل آم ماذا آفعل؟
إن كان كل ما مررت به من كوارث وأخطار فوق
طبيعية، لا تراه نوارة خطرا بجوار هذا الخطر القادم
من جحيم المممسوخين، الذي لا أدري من
مسخهم، ولأي سبب..
فأي هول آخر قادم، وما علاقته بأبو سالم؟!.
إجابتها غير المريحة تجتاح مسامعي:
كل شيء فى هذا الكون له علاقة ببعضه
البعض، هذه البقعة الباردة تجسدت فى عالمك.
وأبو سالم مفتاحها، فالخير العظيم أحيانا يكون
هو قربان الشر، طريق الجحيم مفروش دائما وأبدا
بالورود».
قلت بسرعة:
«أهذا يعني أن علي ألا أدفن أبو سالم، هل كلام
الدرويش حقيقي؟».
حدجتني بنظرة باردة وقالت:
- «بل عليك قتل الهرة.. إنها المفتاح».

الآن الآمور تتخذ منحنى جنوني بالفعل، نهاية
العالم يحذر منها درويش مجذوب، وإيقاف
أشراطها وعلامتها، يتم عن طريق قتل هرته
المخيفة، الأمور تظهر بسيطة، ولكنها معقدة

بشكل محير.
دوت الفكرة في عقلى فسألتها:
« وما هو جحيم الممسوخين هذا
هؤلاء الممسوخين؟».
أجابت في شرود،
«إنهم نوع من الشياطين.. التي لم ترض عن
هيئتها، فمسختها وبدلتها، بعلم قديم، اندثر مع
عبدة الأوثان الذين أوجدوه، في مجرة بعيدة»
أجبت في دهشة،
« وكيف وصلت شياطين عالمى إلى هذا المكان
البعيد»؟
نظرت نحوي بنظرة خائفة، فلم أضف كلمة لأحفزها
على الحديث، وأنا أنظر لملامحها التي بدأت تتشوه
بفعل بكتيريا النيزك، والتى ستحولها في وقت
قريب إلى مسخ حقيقي فقالت؛

«آنا لا أتحدث عن الشياطين التي تعرفها آنت.. إن
شياطين عالمك ودعاء، وشرهم محدود بالنسبة
للهول الذي أتحدث عنه.. لكل عالم شياطينه
الخاصة التي تعمل على إفساده على قاطنيه
طوال الوقت.
ولكن هذا العالم لا يحتوي إلا على الشياطين فقط
شر خالص مطلق، مخلوقات تمارس الشر للشر
وتعيش عليه وتتغذى به.. حتى أنهم صنعوا
جحيما خاصا بهم، يقومون بداخله بتعذيب
أعدائهم - والكون كله عدو لهم- أنت لم تعرف
شيء عن عالمي.. نصف كواكبه ومخلوقاته نزلاء
في هذا الجحيم ويبدو ...».
قالتها ثم توقفت فهززت رأسي أحثها على قص


بـاقي الهول فقالت:
«ويبدو أن وقت عالمكم قد حان».
معتقداتى الدينية تخالف كل ما تخبرني به نوارة،
نهاية العالم لن تكون بهذا الشكل، لن يكون
هناك جحيم إلا في العالم الآخر. لا عذاب قبل
الحساب، حتى عذاب القبر نفسه لا أؤمن به لنفس
السبب، لأن عدل الخالق العظيم لن يجعلك تتعذب
قبل أن تحاسب وتدرك لماذا تتعذب؟

ابتسمت نوارة.. وللمرة الأولى آكره ابتسامتها،
عندما قرأت كل هذه الأفكار وقالت،
مهما كان مقدار معرفتك عن الكون.. فلن
تعرف أبدا ما هو قادم.. وأي هول قد يسبق الموت
أو يليه.. الإنسان كائن التهمه الغرور، حتى الغيب
يريد أن يتدخل فيه.. ربما جحيم الممسوخين
تمهيد لجحيم أكبر».
كلماتها فلسفية عميقة بالفعل، ربما ما يحدث هو
جزء مما هو مقدر، وبدون شك فالبشر يستحقون
على فسادهم وشرهم أن يحشروا فيه بلا حساب.
ابتسامتها من جديد..
شيء ما بأعماقى مازال يراها حب حياتي، القلب
ينبض بمشاعر لا نهائية لها، هل لأن روحها تشبه
روح الطفلة، هل لأن عشقها وقربها مستحيلان،
هل شفقة عليها لأنها غريبة ووحيدة فى عالمنا.
ربما لكل هذه الأسباب..
وهنا دوى صوتها ليرج كياني:
«لم تتغير أبدا يا حبيبي.. كلما أصابك الخوف..
هربت منه إلى نوارتك.. أنت تحبني فقط لأنك

تحبني.. الحب لا يحتاج لاسباب.. لانه لو كان هناك
سبب لانتهى بزواله».
أبتسمت من أعماقي وكدت أنسى كل شيء عن
البقعة الباردة، التي تقود إلى جحيم الممسوخين
اللذين لا ينتمون لعالمنا، ثم قلت:
«نعم أحبك يا نوارة.. أحبك برغم كل ما بيننا من
حواجز وقيود.. أحبك بدون سبب ولكل سبب و..».
«أما زلت تتحدث إلى عفريتتك.. أقسم بالله أنك
ستجرس عائلتنا في يوم ما بسبب جنونك هذا،
وستوقف حال إخوتك البنات.. فلن يتزوج أحد
شقيقة مجنون يتحدث إلى الهواء «.
كان هذا صوت شقيقي عبد الهادي، الذي ولابد قد
أتى إلى المسجد لإعداد النعش وتطهيره، فنظرت
له مبتسما، وإن كان الضيق قد ظهر على وجه
نوارة؛ لأنه قطع وصلة الغزل المفاجئة هذه وقلت:
- «أنا لا أتحدث إلى أحد.. أنا فقط أدندن».
رمقني بنظرة ساخرة ثم قال:
- «دندن يا وحيد».

مازالت رؤيتي ليده الخشبية تثير في روحي الضيق
والألم والشفقة، إن أخي عبد الهادي وسيم، ويلفت
انتباه النساء في أي مكان يظهر فيه، فلماذا أبتلي
بتلك العاهة.
لاحظ شرودي فقال:
«لقد مات أبو سالم وعلينا دفنه».
أخرجتني كلماته هذه من دوامة أفكاري فقلت،
- «وها، علنا فعا هذا؟».


نظر نحوي بغير فهم ثم قال:
هل أصابك الخبال.. وماذا نفعل مع الموتى
سوى دفنهم؟».
الغباء واضح على وجهي، وأنا ملتزم الصمت، مما
جعله يستطرد:
«هل صرت هندوسيا، وترغب في حرق الجثمان؟».
دوت الفكرة في عقلي وقلت:
«ولما لا نحرق الجثمان بالفعل؟».

غضب رهيب على وجهه وقال:
- «رجل صالح مثله تتمنى حرقه.. أحرق الله أفكارك
هذه في نار جهنم».
نظرت له في تضرع وقلت:
- «لقد أخبرنى الدرويش ونوارة أن ...».
أشار لي في غضب مروع وقال:
«تحرك أمامى لنقوم بعملنا.. ولا تلفظ بكلمة عن
هذا الرجل الطيب، أو عن أي من مجاذيبك هؤلاء».
لا مفر إذن..
كل شيء يقودني نحو المصير المرعب.
ومع نهاية كلماته اخترقت نوارة حائط قريب،
واختفت وعلى وجهها أمارات ضيق شديد،
واعتصرت قبضة باردة قلبي، ونظرت نحو السماء
أنشد منها الكون..

سر الحانوتى لعمرو المنوفى(مكتمله)Where stories live. Discover now