الرثاء في الشعر العربي

ابدأ من البداية
                                    

2 - التأبين
تأبين: اسم، مصدر أبَّنَ، خطبة، أو شعر، أو مقال، أو حديث يمتدح شخصا ميتًا، وتعداد خصاله بما كان يتصف به من صفات كالكرم، والشجاعة، والعفة، والعدل.

ولا ريب هو ليس ببكاء ولا نشيج، وإنما تعدد المناقب، ويجزل الثناء على روح الفقيد في ذكراه. إليكم هذه الأبيات لأبي الأسود الدؤلي في حق الإمام علي:

«قَتَلْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايا * * * وأَكْرَمَهُمْ ومَنْ رَكِبَ السَّفِينا
ومَنْ لَبِسَ النِّعال ومَنْ حَذَاها * * * ومَنْ قَرَأَ المَثانِيَ والمِـئِينـا
إذا اسْتَقْبَلْتَ وَجْه أَبِي حُسَيْنٍ * * * رَأيْتَ البَدْرَ رَاقَ النَّاظِرِينـا
وقد عَلِمَتْ قريشٌ حيثُ كانَتْ * * * بأَنَّك خَيْرُهُمْ حَسَبْـا ودِينَـا»

3 - العزاء: يذكر ابن منظور في «لسانه» العزاء هو: الصبر عن كل ما فقدت، وقيل: حسنه عزي يعزى عزاء - ممدود - فهو عز، ويقال: إنه لعزي صبور إذا كان حسن العزاء على المصائب، وعزاه تعزية - على الحذف والعوض - فتعزى قال سيبويه: لا يجوز غير ذلك.

قال أبو زيد: الإتمام أكثر في لسان العرب، يعني التفعيل من هذا النحو، وإنما ذكرت هذا ليعلم طريق القياس فيه، وقيل: عزيته من باب تظنيت، وقد ذكر تعليله في موضعه، وتقول: عزيت فلانًا أعزيه تعزية، أي أسيته وضربت له الأسى، وأمرته بالعزاء فتعزى تعزيًا، أي تصبر تصبرًا.

وتعازى القوم: عزى بعضهم بعضًا -. والعزاء والعزوة: اسم لدعوى المستغيث، وهو أن يقول: يا لفلان، أو يا للأنصار، أو يا للمهاجرين، قال الراعي:
«فلما التقت فرساننا ورجالهم *** دعوا يا لكعب واعتزينا لعامر»

وقول بشر بن أبي خازم:
«نعلو القوانس بالسيوف ونعتزي ***والخيل مشعرة النحور من الدم»

العزاء: هو في مرتبة عقلية فوق مرتبة التأبين. إِذ هو نفاذ إِلى ما وراء ظاهرة الموت وانتقال الراحل، وتأمل فكري في حقيقة الحياة والموت. تأمل ينطلق إِلى آفاق فلسفية عميقة في معاني الوجود والعدم والخلود، وإليك من قصيدة رثاء لكاتب هذه السطور وتأمل أيها القارئ الكريم:
«أرى الحياة َ كسرٍّ، لطفُ بارئها
أعيى العقولَ، بما تحويه ينكتمُ

إنّ التـــــوازن َ- جلّ اللهُ مقدرة -
من الخليـة ِ حتى الكون منتظـــمُ

سبحان منْ أبدع التكوينَ في نسق ٍ
لاينبغي أنْ تحيدَ الشمــــسُ والنجمُ

وتارة ً قــــد نرى في طيشها عجباً
لا العـــــــدلُ بين ثناياها ولا القيــمُ

تــــــأتي المنية ُللصبيان ِتغصبهمْ
روحَ الحياة ِ, ويُعفى العاجزُ الهرِمُ

أنّى ذهبـــــــتَ لتسعى في مناكبها
هـــــــــــي المظالم ُ مَلهومٌ ومُلتهِمُ

فالضرغمُ السبعُ عدّ الأرض ساحتهُ
والكلبُ مــــا نالّ من عظم ٍ وينهزمُ»

أبو فراس الحمداني يندب نفسه:
• هو أبو فراس وهذه كنيته، الحارث بن سعيد بن حمدان الحمداني التغلبي الوائلي، «320 - 357 هـ/ 932 - 968 م»، نشأ وترعرع في كنف ابن عمه سيف الدولة في حلب، بعد موت والده باكرًا، فشب فارسًا شاعرًا، وراح يدافع عن إمارة ابن عمه ضد هجمات الروم ويحارب الدمستق قائدهم، وكانت المواجهات والحروب كثيرة بينهما في أيام أبي فراس، وفي إحدى المعارك خانه الحظ يومًا فوقع أسيرًا سنة «347 هـ 959م» في مكانٍ يُعرف باسم «مغارة الكحل». فحمله الروم إلى منطقة تسمى خَرْشَنة على الفرات، والأرجح أنه أمضى في الأسر ثلاث سنوات. ففي سنة «962م» تم تحريره. وفي سجنه نظم الروميات، وهي من أروع الشعر الإنساني وأصدقه.

وكان في أوقات السلم يشارك في مجالس الأدب فيذاكر الشعراء وينافسهم، وحدثت بينه وبين المتنبي مشادات كلامية كثيرة، قال الصاحب بن عباد: بُدئ الشعر بملك، وخُتم بملك، ويعني امرأ القيس وأبا فراس.

وولّى سيف الدولة شاعرنا مقاطعة منبج فأحسن حكمها والذود عنها، وقال ابن خالويه: لما مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلب على حمص، فاتصل خبره بأبي المعالي بن سيف الدولة وغلام أبيه قرغويه، فأنفذ إليه من قاتله، فأخذ وقد ضرب ضربات في الطريق.

ويقول ابن خلكان في «وفياته»: «وقتل في واقعة جرت بينه وبين موالي أسرته في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، ورأيت في ديوانه أنه لما حضرته الوفاة كان ينشد مخاطبًا ابنته:
«أبنيتي لا تجزعي ***كــــل الأنام إلى ذهابِ
نوحي علي بحسرة *** من خلف سترك والحجاب
قولي إذا كلمتـــني *** فعييت عـــن ردّ الجواب
زين الشباب أبو فرا *** س لم يمتع بالشباب»

وهذا يدل على أنه لم يقتل، أو يكون قد جرح وتأخر هوته، ثم مات من الجراحة.
وقيل إن هذا الشعر قاله وهو أسير في أيدي الروم، وكان قد جرح ثم أسر ثم خلص من الأسر، فداه سيف الدولة مع من فودي من أسرى المسلمين»

_____

الفصل من كتابة «حُلم» ❤

تمرّد مقالاتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن