الفصل السابع والأربعون (مفتاح 🗝)

394 13 3
                                    

اتكأت ملك على كفي يدها مستندة على سرير والدها تتابع معه اللقاء مع صقر الذي قاد حركة إصلاحية واسعة بعد توليه منصبه وقد أثبت أحقيته لهذا المنصب خلال فترة وجيزة وكان هذا اللقاء مخصصا للإدلاء بالخطوات القادمة فلاقى خطابه خلال ساعات صدى كبيرا في وسائل الإعلام وفي بيوت العامة.
وما إن انتهى اللقاء المسجل حتى أطفأ وليد الجهاز وعاد لإغماض عينيه مرتخيا في سريره الذي لم يغادره إلا إلى كرسيه المتحرك فاقتربت منه ملك قائلة بقلق : هل أنت متعب ؟
_ لا ... ولكنني أحتاج لغفوة قصيرة أريح بها عيناي بعد كل تلك العمليات الحسابية التي أجريتها اليوم
_ أنت ترهق نفسك
_ لا تقلقي فوالدك يحتاج للقليل من الراحة فقط وستجدينه عاد لمناقرتك دون كلل .
_ فرسمت ابتسامة مجاملة على وجهها لمحاولته الفاشلة في طمأنتها ثم نهضت من جواره وهي تسأله :
ترغب بغطاء إضافي
ففتح عينيه متأملا صبيته الجميلة التي جمعت حنان العالم في قلبها ... ثم شدها من جديلتها الطويلة وقال: أنت الوحيدة التي تشعرين بالبرد في مثل هذا الوقت من العام
_ فرفعت كتفها وقالت: حتى تعرف كم أنا مميزة
_ لا أحتاج دليلا على ذلك
فقبلت خده وابتعدت عن سريره قائلة: سأكلم بطة وأرى إن كانت تستطيع الصعود إلينا كي ندرس معاً.
_ وحين كانت على وشك الخروج من الغرفة تحدث إليها : ضعي على قدمي حراماً خفيفاً وأغلقي الباب خلفك علي أتمكن من النوم.
ففعلت ما قال وخرجت إلى صالة الملحق الصغيرة وجلست على سريرها متصلة ببطة
طالبة منها الصعود ولم تمض دقائق حتى سمعت صوت نقراتها الخفيفة على باب الملحق وفعلت ذلك كعادتها بسبب حملها للحقيبة والصحون معاً فالتقطت منها الصحون بعد تبادل التحية وفكرت في نفسها : أن جدتها سعاد لا ترتاح حتى تطعمهما من كل ما يدخل بيتها فهي من اعتنت بها  وبوالدها منذ انتقلا لملحق البناية التي تقطنها في أوج حاجتهما وقد كانا مجرد رجل عاجز وطفلة بالكاد تجاوزت الثالثة عشر من عمرها وعلى الرغم من توليها  مسؤولية البيت بجدارة  إلا أنها لا زالت ترسل لها مما تطهوه يوميا مقدرة ضيق الحال الذي تمر به مع والدها ... وأجبرت ملك نفسها على الخروج من ذكرياتها عندما تحدثت بطة بصوت منخفض هل نام عمي؟
_ فأومأت ملك بينما تضع الصحون على طاولة المطبخ وعادت للصالة ساحبة لها من يدها وقالت: لقد كثر نومه بالفترة الأخيرة دون أن أعرف السبب في ذلك وهذا يشعرني بالقلق  ... ولذلك علي العمل بجد مع جدتي سعاد في هذه الفترة  كي أتمكن من إحضار الطبيب له ...ثم تابعت بحيرة :  فيبدو أن ما يأخذه من أدوية لا يفيده أبدا.
_ ربما انتهت صلاحيتها .
_ لا الأمر ليس كذلك ... فالطبيب في الجمعية أخبرني أنها أدوية بديلة عما يأخذه عادة ولكن يبدو أنها ليست بذات الجودة
_ ما رأيك لو تحضري له دواءه الأساسي من الصيدلية المجاورة لمدرستنا وبهذا تتمكنين من توفير أجرة الطبيب
فظهر التفكير على وجه ملك قبل أن تقول : أليس هذا خطيراً
_ جدتي تقول أن مالكها  أكثر براعة من الأطباء بالإضافة إلى أنه يعطيها دواءها بالدين .
_ سأستشير طبيب الجمعية أولاً.
_ كما تريدين
_ فبدأت ملك بلف جديلتها حول إصبعها حين تذكرت حديث صقر على التلفاز وقالت : هل تعلمين مكان إحدى تلك الجمعيات التي تساعد المرضى
_ لا ... ولكنها تبدو فكرة جيدة ليتك فكرت فيها قبلا
_ معك حق ... علي الوصول لواحدة منها
_ سأسأل جدتي فمعارفها كثر
_ بل سنفعل ذلك معا فقد وعدتها بمساعدتها بصناعة الحلوى الخاصة بحفل الخطوبة الذي سيقام بالغد
فشعرت بطة بالحماس وتحدثت بانفعال : بالتأكيد سنحصل على دعوة لحضور الحفل ... وتابعت بحالمية :  وسنستمتع بادعاء انتمائنا إلى عائلة ثرية
_ فظهرت على وجه ملك نظرة متقززة قبل أن توبخها : لا تتكلمي بصيغة التثنية فأنا لن أذهب
_ فهتفت باستنكار : لماذا ... وتابعت بإصرار : بل ستذهبين
_ لن أفعل فهذه الحفلات لا تعنيني بشيء
_ فتحدثت بطة باستعطاف : لن تسمح لي جدتي بالذهاب إن لم تكوني معي ... ثم حاولت إغراءها: ربما نجد في هذه الحفلة فتى أحلامنا
_ فضمت ملك المفتاح المعلق في عنقها قائلة في نفسها : أنا أنتظر عودته .
فتأملت بطة عيني ملك المغمضتين وتحدثت بعكس حماسها السابق : ألا زلت تحتفظين بذاك  المفتاح .
فأومأت لها بسعادة وقالت بصوت منخفض : لقد أحضرت له هدية
ولكنني لن أسمح لأحد برؤيتها حتى يراها هو
_ حمقاء .
_ فرفعت كتفيها وهي تؤكد ما قالته  بسعادة : أعلم .
وبعدها بساعتين جلست ملك أمام والدها الذي يتابع إحدى المباريات على التلفاز منشغلة عنه بتشكيل قطع الحلوى متبعة الطريقة التي علمتها لها سعاد وقد شردت بتذكر حديثهما معا أثناء تحضير العجينة عن إحدى الجمعيات التي كانت مسجلة فيها ذات يوم وعن صعوبة الحصول على ما كانت تحتاجه في وقته نظرا لكثرة المسجلين واتباعهم نظام الأولوية فدفعها ذلك لإلغاء اسمها بغية البحث عن واحدة أفضل وهذا ما لم يحصل للآن لانشغالها الدائم. فتنهدت بصوت وصل إلى والدها فالتفت إليها بطرف عينه ولم يعلق
وحين انتهت مباراته ألقى نظرة إلى ما أنجزته فوجد أنها لم تنته من نصف الكمية فأعادها للواقع بقوله : هل تحتاجين مساعدة ؟
فنفت برأسها سريعا وقالت:
لقد أوشكت على الانتهاء
_ تبدو الكمية مضاعفة هذه المرة
_ الطلبية كبيرة وجدتي سعاد طلبت مني مساعدتها 
_ فسألها بنبرة تحقيق : هكذا فقط
_ فصدر عنها صوت عبرت به عن تفكيرها ثم قالت : اعتبره مجرد  سر صغير
_ فضحك بخفوت ثم هز رأسه بموافقة وقال : بما أنه سرك فلن أتعب نفسي بالسهر معك.
_ كما تريد ولكن لا تتجاهل إيقاظي صباحا لأجل المدرسة بحجة سهري
_ فأومأ بابتسامة وقال : تصبحين على خير إذا
_ تصبح على خير
وتأملت ابتعاده بكرسيه المدولب حتى اختفى داخل غرفته ثم نظرت إلى ساعة يدها وأكدت لنفسها : سأذهب إليه بعد ربع ساعة لأرى إن كان يحتاج شيئا
وتابعت ما تفعله بعد ذلك وكما قال والدها فالكمية لم تكن مناسبة لوقت طالبة مدرسية فقد كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل حين وضعت الصينية الأخيرة بالفرن وجلست على الكرسي ضامة قدميها إلى جسدها وهي تتأمل الوهج الصادر عن الفرن فكاد يغلبها النعاس بسبب الدفء لولا سماعها لوقع الخطوات الخفيفة وصوت احتكاك مشاية والدها بأرضية الصالة خلفها فنظرت إليه وابتسمت حين لاحظت وقوفه بجانب سريرها ثم التفاته السريع إليها مظهرا تفاجؤه
_ فخففت عنه مشيرة للفرن : إنها الأخيرة
فجلس على حرف سريرها وفاجأها قوله الذي أثبت استماعه للحديث الذي دار بينها وبين بطة : هل تظنين أن تغيير الدواء سيشفيني يا ملك .... وأضاف بتأكيد : عليك القبول بالأمر الواقع فمرضي لا علاج له وسيزداد مع مرور الوقت فكفي عن تأمل حدوث ما لن يحدث فهو مستحيل
فلم تفارق عينيها التي ترقرق فيها الدمع باب الفرن ومنعت نفسها قسرا أن تخفض جفنيها ولو لرمشة خشية من نزول دموعها ولكنه لم يعطها المجال للتماسك حين تابع بترجي  : اسمحي لي قبل موتي أن أستمتع برؤيتك سعيدة كغيرك من الفتيات فتشتكين أمامي طوال الوقت من عدم وجود ما يناسبك  في خزانتك وتتشاجرين معي لأنني رفضت خروجك مساء مع إحدى صديقاتك وتمنيك لو أنني لست عاجزاً فآخذ لك حقك من ذلك الشاب الذي يضايقك على طريق المدرسة .
فلم تنظر إليه وبقيت على جلستها التي قطعها صوت جرس الفرن فأخرجت الصينية ووضعتها بجوار رفيقاتها ومسحت دموعها بكمي قميصها حين عاد للقول بصوت ملأه الأسى مشيرا إليها : عوضا عما تفعلينه .
فسارت إليه حتى وصلت أمامه وتحدثت بإصرار : لن أفعل كل ما قلته فلن أسمح لك بقتل أملي بشفائك وستبقى معي ولن تموت وأما عن باقي أحلامك فحين يعود (وتوقفت عن الكلام مانعة نفسها عن ذكر اسمه كما وعدته ذات يوم ) ثم تابعت : سيعوضني عن كل ما ذكرته فهو من سيشتري لي ما أشتهيه من الثياب وسيوصلني بنفسه إلى منزل صديقتي إن أردت الخروج مساء ويحطم عظام من يتجرأ على مضايقتي
_ فنفى برأسه بيأس وهو يقول : لا زلت تعيشين بدنيا الخيال يا ملك .
_ ربما ... ولكنني أسعى لتحقيق تلك الأحلام
ثم أشارت لما أعدته من حلوى وتابعت : فبواسطة ما سأحصل عليه من مال لقاء عملي هذا سأتمكن من أخذك إلى طبيب جيد وأحضر لك دواء فعالا وستتحسن صحتك وإن لم تشف تماما .
_ وهو ؟؟؟
_ فضمت المفتاح بكفها وقالت : سيعود
وحين رأت نظرته الغير مصدقة لاتساع خيالها تابعت : إن لم يعد لأجلي فسيفعل لأجل استعادة مفتاحه
_ فقال باستهجان : ألم تأخذي عبرة من كل ما مر به والدك يا ملك ...
وأشار لما حوله : أليس ركضي وراء المستحيل هو السبب الرئيسي لما نحن فيه
_ فجثت على ركبتيها أمامه وقالت :لا تلم نفسك فأنا راضية بكل هذا وجودك معي يكفيني
فابتسم لها بوهن وربت على شعرها لبضع مرات قبل أن يقول بتقزز قاصدا إخراجها من جو الكآبة الذي سببه كلامه : شعرك دبق ... اذهبي للاغتسال قبل أن تعشش فيه الحشرات
_ فضحكت من تغييره للموضوع  وهي تقول : يا إلهي أنت تستمتع بقلب دفة الحديث والتنمر على شعري.
فراقبها وهي تتجه إلى غرفته لإخراج ثيابها ثم انتقل للنظر إلى إنجازها البسيط ورائحته الشهية فمشى ببطء إلى الطاولة التي وضعت عليها ما صنعته قبل أن يقول بصوت عال : هل أستطيع تذوقها
_ فمرت من أمامه باستعجال قاصدة الحمام وهي تقول : كل ما يحلو لك فجدتي سعاد حسبت حسابنا بكمية إضافية
فتذوق قطعة منها ثم تلاها بأخرى وهو يحدث نفسه : ربما هي على حق فهذا ليس إنجازا بسيطا وحقه أن يوصف بالرائع ... والتفت عائدا إلى غرفته وهو يقول : أما عن ذلك السارق لعقلها فلا مانع لدي من عودته وأخذ مفتاحه .
وفي قصر صاحب المفتاح حيت الخادمة الشابة رب عملها وحملت عنه الحقيبة والملفات وتنحت للجانب منتظرة مروره فتركها خلفه وقطع البهو الذي كان  الانشغال واضحاً على كل من فيه وتمكن من هذا المكان من سماع صوت رئيسة الخدم الذي يصدح بعصبية متهمة الجميع بالتقصير فتابع أسد سيره ومر من جوارها أثناء صعوده الدرجات المؤدية لجناحه فحيته بتحية سريعة وعادت لأداء عملها فاستحسن انضباطها وهمس لنفسه : أحتاج لمثلها في الشركة الرئيسية  فكلما عدت من الميناء أجد الفوضى تعم المكان
فتابع صعود الدرجات بسرعة حتى وصل إلى مقصده ولكن ما إن خطا الخطوة الأولى داخل صالته حتى فوجئ بمن ترتمي بين ذراعيه وهي تقول : أشعر بالتوتر وعدم التصديق و .. .و
فأبعدها عن صدره وهو يقول بضحكة : وماذا ؟؟؟
_ وأنني غير مناسبة بالمرة
فنظر إلى يديها التي تشير بها إلى ثيابها مفسرة ما عنته بجملتها الأخيرة
فابتعد خطوتين ونظر إلى طقمها الأبيض ببنطاله العريض للحظات وقال : يناسبك
_ أليس رسميا بعض الشيء
_ ففكر قليلا بقصدها قبل أن يثير حنقها كالعادة بجملة خاطئة ثم قال بتساؤل : هل تريدين الظهور أمامه بمظهر أمومي؟!!
_ فظهر الارتباك على وجهها مؤكدة له صدق ظنه ومع هذا فقد أومأت وهي تقول : إنه مختلف عن باقي أولادنا وأظنه سيحب ذلك
_ فضمها إلى صدره وقال : أحب هذا الجانب من شخصيتك مع أنه نادر الظهور
_ فرفعت رأسها ناظرة إليه من موقعها وقالت برجاء : لا تفتعل مشكلة اليوم
_ فابتعد عنها  وأدار لها ظهره بينما يتكلم بحنق : هل كان عليك دعوته
_ فتخصرت ردا على حركته المستفزة وقالت اسمه بغيظ.
فاستجاب لندائها على مضد وعاد لمواجهتها ولكنه حين رأى وقفتها المتحفزة قال :  ماذا !!!!
وتابع باستهجان :  ألست من طلب عدم افتعالي لمشكلة ... ووجوده معي في ذات المكان يعني مشكلة
_ فتابعت جداله ولكن بطريقة الإقناع : الأصح  هو لماذا لا تستطيع الاعتراف بفضله على أولادنا... فانظر إلى المكان الذي أوصل إليه صقر وتذكر حمايته واهتمامه بتيم .
_ فرد بسخرية : فأدى اهتمامه الشديد به إلى عدم رؤيتنا له لمدة ست سنوات.
فأوقفته عن متابعة الكلام حين شكلت بأصابعها أمام وجهه الرقم خمسة ولفظت كلمة نصف بلسانها.
فتغير الموضوع وخفتت شرارات الضيق حين وصفت شعورها تجاه مدة غيابه بقولها  : يا إلهي
لقد مر وقت طويل حقاً ... ثم تابعت بشرود : كدت أنسى ملامحه لولا شبهه بصقر وتلك الصور التي يرسلها لك
_ فنظر إليها بتفكير حين أدرك قرب انكشاف ما يخبئه عنها وقرر إنهاء الموضوع بطريقة لا تزعجها فجلس على حافة سريرهما  وفتح هاتفه على تطبيق المحادثات ونظر إلى اسم أخيه للحظات ثم ناداها لتقترب منه وما إن وصلت إليه أجلسها على ركبته مفاجئاً لها ومنعها عن الحديث بقوله : لدي ما أخبرك به .
_ فنظرت إليه بقلق
_ لا داع لهذه النظرة فهو مجرد أمر تافه بالنسبة لي ولكنك ماهرة بتهويل القصص
_ فكشرت بوجهه قائلة بيقين: لا بد وأن خلف هذه المقدمة كارثة أسرية .
فضحك بينما يرفع الهاتف أمام وجهها فوجدته مفتوحًا على صفحة باسم المتبجح فعرفت صاحبها دون سؤال وألهت نفسها عن ذلك بمحاولة معرفة ما يريدها أن تراه فقد كانت الصفحة لا تحتوي سوى مجموعة من الصور فأخذته من يده وفتحتها وحين أدركت المعنى قالت : يا إلهي كلها لتيم ...  وصمتت عن المتابعة ونظرت إليه منتظرة ما سيقوله
_ فأومأ لها قائلاً : لقد كان من يرسل لنا هذه الصور كي يطمئننا عليه
_ ظننت
_ لا لم أكن لأخاطر به وأرسل أحداً خلفه .
_ فتنهدت بيأس حين أدركت المعنى قبل أن تقول : ألن ننتهي من هذه القصة .
_ فرد مباشرة وبتأكيد : لا .
_ فقامت وهي تقول : على الأقل لا تقلها بكل ذلك التأكيد .
وأنهت النقاش بدخولها إلى غرفة ثيابها وهي تقول لا تعليق حقاً لا تعليق .
وبدا له من صمتها أنها انشغلت بشيء ما وتأكد من ظنه حين سمعها تحدث نفسها : لا بد من وجود شيء مناسب في هذه الخزانة يجمع بين المظهرين ... بيضاء سوداء زرقاء لماذا كل هذا التكرار .....
فاتكأ على ظهره وهو يستمع إلى تذمرها شاعراً بأنه حي وعبر عما يشعر به بقوله : ليتك تقبلين المجيء معي إلى الميناء .
فنظرت إليه من شق الباب وسألت : لماذا أنتقل لهناك لأجل يومين في الأسبوع.
_ لم أقصد هذا وإنما تذهبين معي وتعودين معي .... فالبقاء دونك موحش .
ورداً على كلامه الذي كان بالنسبة لها بغاية الظرافة خرجت إليه من خزانتها بمظهر يشبه جملته الظريفة .
وحين لفظت اسمه منبهة له لوجودها استقام في جلسته وظهرت في عينيه لمحة من الإعجاب الواضح بما ترتديه ولكنه فاجأها بقوله : انتظري ... إياك والتحرك من مكانك
فظهرت الصدمة على وجهها واستمرت لما بعد تتمة جملته : هناك ما علي فعله أولاً
فسحب هاتفه من على الطاولة وفتحه على ذات التطبيق وذات الصفحة وكتب : لا زلت أكرهك.
وفي الجانب الآخر رن هاتف آدم بالنغمة المخصصة والتي أثار صوتها الغريب عجب من حوله فأسكت هاتفه واعتذر منهم لوجود مكالمة مهمة
_ القاضي على وشك الوصول
_ فأومأ لرضوان وهو يقول : لحظات وأعود
ووقف في الممر المقابل لقاعة حضور الجلسة وفتح الرسالة فلم يتفاجأ بل صدرت عنه قهقهة مسموعة لمزاج أخيه العكر والسبب
معروف وهو الاجتماع العائلي الذي تمت دعوته إليه من قبل أبيه رغماً عن أنف أخيه أو كما يسميه هو (طويل اللسان) .
فاتجه إلى خانة الكتابة وكتب : سأتصل بك بعد قليل فلا تتجاهل الاتصال واحرص على أن تكون سارا بجوارك.
وخرج من التطبيق حين أشار له رضوان من باب القاعة فتبعه حتى وصلا إلى مكانهما في اللحظة التي دخل فيها القاضي إلى القاعة من بابه المخصص فانتظر آدم حتى اتخذ الجميع أماكنهم وعم الهدوء المكان فألقى نظرة على أفراد فرقته
فوجد أنهم قد تناوبوا بالنظر إلى باب القاعة فلم يتمالك نفسه وحذا حذوهم حتى سمع قول القاضي الممازح لهم : لن يظهر ما لم يعلن حاجبي ذلك .
_ وضحك آدم من تعليق نجيب على الموقف : الشعور بأنني غبي أمر جديد علي
وشعر حينها  آدم بحماس غير اعتيادي لقرب لقائه بابني أخويه كما لو كانا ولديه ولكنه اضطر للخروج من التفكير بهما  لمتابعة مجريات الجلسة فركز بشكل خاص على القاضي وكل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال فهذا الرجل هو ذاته من سد عليه كافة الطرق التي قد تسمح له بالتواصل مع تيم أو عمر طوال الأعوام السابقة فكلما حاول الضغط عليه أو مساومته وجد له مئة حل وحل  ليبعده عن طريقهما حتى وصل إلى مرحلة يأس واقتناع بأنه لن يتمكن من تجاوزه فتوقف عن المحاولة مع نهاية العام الثاني لغيابهما وحينها فاجأه باستدعائه إلى مكتبه وهناك اقتصر اللقاء على تحية مختصرة وظرف صغير سلمه له وهو يقول : هذا أقصى ما يمكنك الوصول إليه عن طريقي.
فقلب الظرف بين يديه ملاحظا خلوه من الكتابة فنظر لمقابله وتساءل : ما معنى هذا.
_ سيصلك مني كل شهر مثل هذا  الظرف ولكنه لن يكون فارغاً كالآن .
وقبل أن يعلق على ما قال كان القاضي قد أخرج من درج مكتبه صورة ناوله إياها وهو يقول : كف عن محاولة الوصول إليهما عن طريقي أو بالطرق التي بدأت بالتفكير بها بعيدا عني.
فتأمل وجهي عمر و تيم في الصورة وابتسم حين استطاعت صورة بحجم كف يده من إراحته بعد كل ذلك القلق.
فأبدى موافقته ونهض من مقعده وهو يقول : لا أعدك بالاحتفاظ بها لنفسي.
وغادر ذلك المكتب بعد أن أومأ له الآخر .
وعاد للواقع مع قول رضوان تعليقا على إحدى الجمل التي وجهها القاضي لمحام الدفاع : لقد تم حسم المعركة .
فقال جمال بأمل : أرجو أن يجري استجواب تيم بذات السلاسة
فتدخل المحامي الذي تم توكيله لصالح تيم قاصفا أمله : شهادته قد تستمر لساعات فأنا وهو سنكون بمواجهة مع عشرات الأشخاص والمحامين.
فعلق جمال : كان عليك عدم القبول بهذا
ففتح المحامي كفيه بقلة حيلة قبل أن يجيب : هذا ما  قرره القاضي في آخر لحظة كما لو أنه يريد التأكد من عدم تعرض تيم للضغط من قبل أي واحد من المتهمين.
وبعد هذه الاستراحة البسيطة وعودة انعقاد الجلسة كان أول ما قيل هو ذكر أرقام مجموعة من القضايا التي سيتم البت النهائي بشأنها اليوم و على التوالي.
وتلى ذلك استدعاء باسم تيم كشاهد أساسي
فالتفت الجميع إلى الوراء مع فتح الحاجب لباب القاعة ودخول تيم من ذلك الباب بخطواته الواثقة فقطع الدرجات دون أن تفارق عينيه وجه القاضي الذي ظهرت ابتسامة خافتة على زاوية فمه فيبدو أنه قد تمكن من إزعاجه حقا بقراره الفجائي ومخالفته لكل اتفاقاته السابقة معه واضعا له بذلك تحت اختبار حقيقي للصبر والجلد.
وحين اتخذ مكانه نظر لمن يحتلون قفص المتهمين بإجمال ثم احتدت نظرته حين وقعت على من كان يدعو نفسه بالقائد وبات معروفا الآن باسم نزار فقابله الآخر بنظرة ظهر فيها شيء من الفخر والاهتمام
زادت من غيظه فالتفت إلى القاضي وقال دون سابق إنذار : هل تحاول اختبار صبري بمواجهة مسبب أسوأ كوابيسي.
_ أنت مجبر على الصبر فلا شيء بيدك لتفعله من موقعك هذا
_ ولكنك أكثر من يعلم بأنني أستطيع
_ فأشار القاضي لحرس القاعة وهو يقول بتأكيد : وظيفتهم منعك....
ولذلك سيكون خيارك الوحيد هو الصبر على رؤيتهم.
ثم التفت مع محدثه لمن في القفص حين قال : هل رؤيتك لوالدك مزعجة بهذا القدر .
فعاد تيم بنظره للقاضي ناويا الاعتراض فنفى برأسه مانعا له من المتابعة ونقل الموقف إلى وضع أكثر جدية حين نطق رقم القضية الأولى معلنا عن بدء المرافعة وهنا نهض المحامي الخاص بتيم واتخذ مكانه ملقياً التحية على تيم ومعرفا عن نفسه.
فعاد تيم للنظر باتجاه القاضي طالبا التفسير.
فقال : أنت لوحدك
فبحث تيم بعينيه بين الوجوه عن عمر وحين وقعت عيناه على ما أراد منه القاضي أن يراه شعر بأنه كان مصابا بالعمى خلال الدقائق الماضية  وأنه أبصر تواً
فهو بتلك النظرة لم ير عمر وحسب بل كل من يحيطون به وحين قابلوا تنقل نظره بينهم بابتسامة أو تلويحة بالكف أدرك بأن غضبه من رؤية أعدائه قد أعماه عن رؤية وجوه من اشتاق لرؤيتهم في كل لحظة من غيابه ... عمه آدم أصدقاؤه في الفرقة ... فألقى نظرة أخرى في المكان آملا بوجود الآخرين فلم يترك له القاضي المزيد من الوقت للتفكير وهو يقول : الآن يمكننا البدء.
وحيث من كان يبحث عنهم كان القلق قد استبد بسارا نتيجة لانقطاع الاتصال المفاجئ بعد دخول تيم للقاعة بقليل
وفشل كل محاولات أسد بمعاودة الاتصال وهو يعبر كل حين عن قلقه مما قد يصدر عن تيم نتيجة رؤيته لذلك المجرم وأحيانا أخرى يقول : هل هذا وقت مزاح آدم الثقيل.
وتوقف عما يفعل حين قالت : لم يكن عليهم جمع ابني مع ذلك المختل في مكان واحد
_ فأدرك أسد ما تخشاه وعبر عن ذلك بقوله : ربما أغلق آدم هاتفه كي يمنعه من الإضرار بنفسه
وتوقف كلاهما عن التفكير حين صدر صوت عن الهاتف بيد أسد فضغط على زر السماح مباشرة فظهر وجه تيم على الشاشة وهو يتحدث ولكن دون صوت وفي زاوية قريبة منه وقف عمر والمحامي الموكل من قبلهم لأجله فصدرت تنهيدة راحة عنهما والتي انتهت بضحكة حين تم سحب الهاتف من يد آدم وسمعوا صوت أحدهم يقول له : عذرا سيدي ولكن التصوير ممنوع.
وازدادت ضحكتهما ارتفاعا حين اعترض آدم قبل انغلاق المكالمة : هذه الأوامر لا تطبق علي.

قلوب تعلمت منه الحب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن