الفصل السادس والأربعون (سراب)

367 17 6
                                    

استيقظ عمر من النوم على ألم حاد في ظهره بسبب نومه الغير مريح والإرهاق الذي نال منه في اليوم السابق فشتان بين سياراته الفارهة وما فيها من ميزات وبين ما اضطر لركوبه في الليلة السابقة وفكر بأنه لو كان الأمر بيده لكان اختصر هذا العذاب باستئجار طائرة خاصة ولكن ذلك القاضي لم يترك له مجالا للتفاهم وعند هذه الفكرة تذكر أمر تيم فنهض مفزوعا من مكانه وركض بتعثر إلى الغرفة المجاورة داعيا الله ألا يكون قد أصابه مكروه خلال نومه الطويل وشعر بالقليل من الراحة حين وجده نائما كما تركه فأزاح الكمادة عن جبينه وتفقد حرارته فوجدها غير مقلقة فتركه ثانية واتجه إلى المطبخ الذي يحتوي على ثلاجة صغيرة الحجم استخدمها في اليوم السابق لحفظ ما تم تزويدهم به من طعام وشعر بالراحة حين وجد أن زجاجات المياه أصبحت باردة فشرب من إحداها ثم حمل علبة الطعام واتجه بها إلى غرفة تيم فوجده مستيقظا فبادر بسؤاله : كيف تشعر
_ كمن دهسته شاحنة
_ على ذكر الشاحنة فصاحبها لا يملك أدنى درجات الذوق وشعرت لوهلة أنه على وشك رمينا على قارعة الطريق لمجرد أنني طلبت منه إيصالنا للمنزل
_ ليته فعل ذلك فأكثر ما تمنيته منذ صعودي إليها هو مغادرتها .
فأظهر عمر موافقته ثم تابع حديثه معه عن وضعهما الجديد حتى لاحظ تمكن التعب من تيم فأعطاه الدواء وقضى ما بقي من وقته بترتيب ثيابه وثياب تيم في الخزانة الخشبية الصغيرة متجاهلا أمر مسحها من الغبار وما إن انتهى حتى غلبه النوم غير مدرك بأن سهولة ما مر به في هذا اليوم لن تنطبق على ما يليه من أيام خاصة مع تعب تيم  وملازمته للسرير معظم الوقت ففي اليوم التالي اضطر للخروج من المنزل لشراء ما يحتاج فهذا المنزل  يفتقر لكل شيء تقريبا وقد اضطر للجلوس لأكثر من ساعة مع ورقة وقلم لكتابة قائمة المشتريات ناسيا طبيعة المكان الذي تم وضعهم فيه فوقف لبعض الوقت أمام الباب يتأمل الشارع الترابي وما يوجد على جانبيه من منازل طينية لا تختلف كثيرا عن منزله إلا من حيث الحجم وربما لون الأبواب ولم يطل تأمله حتى وصله صوت أحدهم مخاطبا له : هل أنت المعلم الجديد ؟
_ ففكر عمر قليلا بمقصد الرجل الذي يحدثه من نافذة المنزل المجاور لمنزله ثم رد : لقد وصلت البارحة
_ مرحبا بك ... هل تحتاج للمساعدة
_ سأكون ممتنا لك إن أرشدتني لمكان السوق
_ لا يوجد سوق هنا وإنما ساحة يجتمع فيها بعض الباعة
فشعر عمر بالإحباط ولكنه تحدث على مضد : خذني إليه على كل حال حتى أتعرف على المكان فخرج إليه الآخر خلال لحظات وقد سمعه ينادي بصوت عال قبل خروجه : سأخرج مع المعلم الجديد يا زينة فأغلقي الباب جيدا من الداخل
وحينها التفت للخلف إلى باب منزله وعاد أدراجه لأخذ المفتاح الضخم الخاص ببابهم الغريب  وانطلق مع جاره في هذه الرحلة الاستكشافية للمكان وشعر خلالها بأنه قادم من كوكب آخر أو أنه انتقل إلى بعد زمني مختلف ولكنه وبعد ساعات تعرف خلالها على المكان راق له أسلوب حياتهم البسيط وبساطتهم كأشخاص فكلما عرفه ذلك الجار على أحد يبدأ ذلك الشخص بعرض خدماته عليه ولم يضايقه شيء إلا الجو الحار والسير لفترة طويلة بيدين محملة بالأغراض دون وجود وسيلة مواصلات وحين وصل للمنزل أخيرا علم أن معاناته الحقيقية قد بدأت الآن فشراء الأغراض التي أعدها في القائمة شيء وطريقة استخدامها شيء مختلف تماما فاكتفى بوضع ما أحضره من طعام بالثلاجة وترك الباقي على الطاولة وهو يقول : سأسأل تيم عن الباقي حين يستيقظ
ولكن استيقاظ تيم لم يحل المشكلة بل أوقعه في مشكلة أكبر لتراجع حالته الصحية من جهة وعدم قدرته على طهو ما يناسبه من الطعام من جهة أخرى حتى أنه فشل بإعداد الطعام لنفسه فأصابته حالة من اليأس والوحدة التي انتهت ليلا بعراكه لأكثر من مرة مع تلك الأشباح التي تقض مضجع تيم وتحرمه الراحة من الألم وفي الصباح الباكر استيقظ على صوت الطرقات المتتالية  على باب المنزل وصوت جاره المنادي عليه وما إن فتح له الباب ألقى عليه تحية الصباح وتجاوزه للداخل حاملا بين يديه صينية مغطاة بقطعة قماش وتحدث : لقد أحضرت لك بعضا من الطعام لتأكله قبل ذهابك للمدرسة فأنت لم تشتر الخبز
_ فكرر خلفه :خبز ... ثم استدرك : لقد نسيت أمره تماما
_ ستعتاد خلال أيام وستغدو حياتك أكثر سهولة حين تطلب من تلاميذك إحضار ما يلزمك من السوق  ... ثم رفع الصينية وهو يسأل : أين أضعها
_ فتوقف عن التفكير بما قاله عن إرسال الأطفال لجلب حاجياته عوضا عن تدريسهم ونظر إلى ما يحمله للحظات ثم قال بيأس من نوع آخر : أتمنى أن يناسبه ... فقد احترت البارحة بما يجب علي إطعامه
فاسترعى كلامه انتباهه ولاحظ حينها وجود أحدهم على السرير بالغرفة المقابلة فقال :
ظننتك وحيدا 
_ لا أنا برفقة أخي ولكنه يمر بأزمة صحية صعبة فأظهر اهتمامه عند رؤية تيم وخرج من منزلهما قائلا: لدينا رجل في القبيلة قادر على شفاء كل الأمراض بإذن الله وستشكرني عندما يستعيد أخوك قوته
ومع خروجه شعر عمر بأنه في ورطة واقترب من تيم موقظا له فلاحظ تراجع حالته رغم حرصه على إعطائه الدواء ولكنه قال: لقد ذهب جارنا لإحضار دجال ما فماذا أفعل؟
_ فابتسم له تيم وقال بصوت ضعيف: دعه يجرب دجله علي فلا ضرر قد يصيبني أكثر مما أنا فيه.
_ هل هذا وقت مزاحك... ولف حول نفسه مما جعل تيم يرغب بالضحك لما يمر به عمر ولكنه أشفق عليه وقال: هؤلاء الأشخاص لديهم علمهم الخاص ... فهم يؤمنون بقدرة الطبيعة على الشفاء وينجحون بالعلاج لإيمانهم الشديد بذلك.
_ فقال عمر باستهجان: هل ستأخذ ما يعطيه لك ... ربما يتسمم جسدك فأنت ضعيف حاليا ولن تحتمل
فقاطعه تيم : دعنا نراه أولا
_ فعاد عمر للتحرك في الغرفة وانتبه للصينية الموضوعة على الطاولة فاقترب منها رافعا قطعة القماش عنها وقال: لقد أحضر طعاما غريب الشكل ... هل تظنه مناسبا 
_ فتأوه تيم مع ضحكته وقال: اكتب وصيتك قبل أن تأكل.
_ كف عن السخرية فأنا جائع ولم أذق في حياتي أسوأ من طعامي... واقترب من تيم قائلا: لا أعرف كيف تمكنت من تغيير طعم البيض المسلوق... أليس من المفترض أن يعلم الجميع طريقة إعداده
_ وتخاف التسمم من طعام الرجل بعد أن نجوت من طعامك
وكاد يرد عندما سمع صوت الرجل يدعو الآخر للدخول فعلق: يظن نفسه في منزله.
وخرج مستقبلا الاثنان وأصابت قلبه راحة مفاجئة ما إن رأى الرجل فقد كان نحيفا سمح الوجه وقد ظهر عليه التقدم بالعمر فسلم عليه وقال: مرحبا بكما بيننا... أتمنى أن ترتاحا بالإقامة في قبيلتنا
_ فرحب به عمر بلباقة جعلت جاره يقول مخاطبا الشيخ: يبدو معلما جيدا ليس كمن سبقه
_ دعني أرى المريض الآن ثم نقيم المعلم فيما بعد
فدعاهم عمر للدخول إلى غرفة تيم المسترخي في سريره واقترب منه الشيخ وجلس إلى جواره متأملا وجهه للحظات ثم قال: دعوني وحدي معه ...ووجه إصبعه إلى عمر قائلا: خذ جارك للخارج ودعني أفحص أخاك
_ ففهم عمر أن ذلك الشيخ أراد إخراج جارهم الذي قال ضاربا على صدره محسوبك جواد
_ فأومأ له عمر مرحبا وعرف عن نفسه (محمد) وأخي اسمه حسن ثم قاده للخارج تاركا الشيخ مع أخيه آملا أن يكون صاحب علم حقا
وفي الداخل تحدث الشيخ هل أنت مصاب
_ فأومأ تيم قائلا: أجل في معدتي
_ فتنهد الشيخ وقال: هل وراؤك ما يضر هؤلاء الناس البسطاء
_ إن لم يعلم من يريدونني بوجودي هنا فلا
_ فعاد الشيخ للقول: حدد لي وضعك بما يجعلني آمن لك
_ قضية ثأر نجوت منها بأعجوبة.
_ إن كان كذلك فأنت في حمايتنا
فابتسم له تيم وقال: هذا كرم منك
دعني أرى جرحك أولا ثم سيكون لنا حديث طويل بعد شفائك بإذن الله.
وخلال الأيام التالية بدأت تظهر على تيم علامات التحسن وأتى مفعول علاج الشيخ السحري فتحسنت شهيته وخاصة مع حرص سكان ذلك المكان على إظهار حسن جيرتهم بعد معرفتهم بمرضه عن طريق إحضار وجبات الطعام بشكل دوري
الأمر الذي أراح عمر وخفف ارتباكه وخاصة بعد اعتياده على الأشخاص المحيطين به  فبدأ بمزاولة عمله كمعلم في المدرسة والتي كانت عبارة عن غرفة واحدة تفتقد لأبسط مظاهر الحضارة وكان الوضع فيها  على عكس ما توقع تماما فقد كانت مجرد صف لمحو الأمية ضم فئات مختلفة من الأعمار وبدا أن الجميع قد أتى رغما عنه بضغط من شيخ القبيلة وأكثر ما أثار عجبه هو تلك الهدايا الغير معروفة السبب ومنذ اليوم الأول فعاد محملا بكل ما قد يخطر على بال من فاكهة وخضار وبعض الحلوى المنزلية الصنع وبعد  ساعتين وحسب امتلك باقة من الأزهار الجورية المختلفة الألوان وفي نهاية اليوم سار في الشارع المؤدي لمنزله محملا بغنيمته التي لم يحارب لنيلها فمن منحوها له امتلكوا ألف حجة وحجة لمغادرة المدرسة وأما عمن بقي فهن مجموعة من الفتيات المراهقات اللواتي وجدن في هذا المكان مهربا من أداء الواجبات المنزلية أو هكذا ظن ومع وصوله للمنزل وجد تيم جالسا على كرسي خشبي منخفض  أمام المنزل يلاعب أحد الأطفال الصغار الذي اعتاد على رؤيته لكثرة ما يرى والديه وعلم بأن أمه تقوم بتنظيف المنزل لهما كما فعلت خلال الفترة الماضية فجلس بجوار تيم قائلا: جواد رجل طيب وكذلك زوجته... لقد أتعبناهما معنا
فنظر تيم إلى ما يحمله من أغراض وقال : لم يكن عليك التسوق اليوم فالخير في المنزل كثير .
_ فحك رقبته بتوتر قبل أن يقول : لم أتسوق ... وهذه الاشياء أحضرها الطلاب كترحيب بي.
_ يبدو أنك نلت استحسانهم
_ لم أفعل ما قد يستحق فقد انصرفوا لأداء بعض الأعمال بعد أن قدموها لي ... وتابع بسخط :ولكنهم لم يعودوا .
_ ونعم التعليم ...
ثم أشار بيده إلى الأشياء وهو يقول : هذه رشوة .... فانهض ووزعها على الجيران الذين مدوا لنا يد العون في الفترة الماضية ولا تقبل بهذه الهدايا ...
ثم خفض صوته لأدنى مستوى وتابع : أيها المحامي الفذ .
_ فحمل عمر الأغراض وهو يقول : لقد شككت بالأمر ولكنني استبعدت الأمر فهم مجرد أطفال
ومشى لخطوتين ثم عاد ووضع الأزهار في حجر تيم وقال بتهديد : سأحتفظ بهذه.
_ بشرط أن تدفع ثمنها
فأومأ مع خروج زوجة جواد من المنزل قائلة: يمكنك العودة إلى سريرك يا حسن فقد بدلت لك الأغطية عسى أن يبتعد عنك المرض.
فشكرها تيم عائدا للمنزل وسمع حديثها مع عمر: يبدو أفضل اليوم أليس كذلك
_ الفضل يعود لاهتمامكم به ... وأتمنى أن نتمكن من رد معروفكم في يوم من الأيام
_ فابتعدت وهي تقول: نحن أهل فلا تفكر هكذا
فقدم لها ما يحمله من أغراض وهو يقول : خذي ما تحتاجينه منها ووزعي الباقي
ودخل إلى المنزل حيث وجد تيم واقفا أمام السرير ناظرا إلى الغطاء الذي بات ملونا لصنعه من قطع صغيرة من القماش الموصول يدويا ووقف عمر بجانبه متخصرا وقال: هل علي تفقد غرفتي
فهز تيم رأسه نافيا وقال: كانت ملك ستطير من السعادة لو رأت هذا اللحاف
وجلس على السرير وتابع: ليتني تمكنت من رؤيتها قبل أن أغادر
_ ليتني أفهم سر تعلقك بتلك الصغيرة
_ فأغمض تيم عيناه قائلا: إنها الشيء الوحيد الذي تمنيته لنفسي يوما
_ بدأت أؤمن بالأفكار الروحية بسببك وبسبب هذا المكان فلا شيء مما أمر به يتصف بالواقعية.
_ سعيد لمرورك بهذه التجربة فهي ستغير حياتك للأبد.

قلوب تعلمت منه الحب Donde viven las historias. Descúbrelo ahora