الفصل التاسع والعشرون (بداية جديدة)

342 17 2
                                    

( لم يعد الظلام داكنا كما كان ولم أعد أشعر بالوحشة فها هي ظلال الجدران تظهر من حولي فتؤنسني في وحدتي حتى أنني بت أشعر بوجود تيار دافئ يتسلل إلى عظامي المتخشبة فيمنحها الحياة وفي لحظة ما تخيلت سماع بعض الأصوات ولكنها اختفت بعد لحظات وكم تملكني اليأس لعجزي عن الصراخ حينها كما لو كنت مكمما بشيء ما فهل ما شعرت به كان حقيقيا أم أنه عقلي الباطن بدأ يهيئ لي أمورا غير حقيقية...ولكن لحظة ها قد عادت الأصوات وتبدو لي أكثر قربا هذه المرة فهل ما أسمعه صوت غناء ولكن لماذا لست قادرا على فهم ما يقال ولكن الصوت يبعث الدفء في النفس فمن هو صاحبه ولماذا لا زلت غير قادر على مناداته ربما لو مددت إحدى يدي سأتمكن من لمسه فالصوت قريب ...قريب جدا حتى أنني أكاد أسمع صوت تحرك خطوات صاحب الصوت الرتيبة على الأرضية من حولي سأحاول التركيز علني أتمكن من تحديد مكانه ولمسه وسيساعدني الظلام على التركيز  يال سعادتي إنه حقا قريب وإن تمكنت من تحريك يدي اليمنى سألمسه ولكنه فجأة عاد للابتعاد ولا زالت خطواته تأخذ نسقا معينا .. أجل إنه يرقص حقا هو يرقص ببطء وها قد توقف عن الغناء وليتني أتمكن من مناداته ليتابع فصوته دافئ ولكن لا جدوى فأنا ما زلت أشعر بشيء يكمم فمي وأعضائي لا تستجيب لي فكيف أتواصل معه ولكن انتظر لماذا تبتعد أرجوك لا تتركني لوحدي ...عد .)

_ صغيرتي الجميلة يا حلواي الملونة ألم تعتادي على المنزل بعد
زادت من شدة ضمها لعنقه وغمرت رأسها فيه أكثر معترضة على محاولته لإبعادها عنه.
_ هل يؤلمها شيء ... إنها الليلة الثالثة على التوالي التي تبكي فيها وهي نائمة
_ لا أعرف ما علي فعله لتنسى رحلتنا عبر الحدود فيبدو أنها خافت من الظلام الذي كان يحيط بنا
_ هاتها لأعيدها إلى غرفتنا فيبدو أنها عادت للنوم
_ لا اذهبي أنت وحاولي أخذ قسط من الراحة فغدا موعد اختبارك.
فأومأت تيه موافقة وعادت أدراجها إلى غرفتها التي تتشاركها مع ملك التي لم تجعلهم يحظون بليلة هانئة منذ وصولهم وها هي تعود للبكاء بهذا الشكل حتى يحملها تيم وابتسمت عندما استرجعت لحظات غنائه للصغيرة بصوت هادئ ومراقصته لها بينما تغمر الصغيرة نفسها في حضنه كما لو أنها تختبىء فيه وعندها سمعت صوته وقد عاد لمحادثتها: ما رأيك أن ننام في الصالة وهكذا أبقى قريبا منك.
_ فابتعدت عنه قليلا ونظرت إلى وجهه قائلة:ولن تبتعد
_ لن أفعل فقط اجلسي على هذا الكرسي ريثما أحضر لك غطاءك
_ بل سأذهب معك
_ أمري لله تفضلي وسيري أمامي
_ فأمسكت كفه وسارت ملتصقة به وسمعها تقول: هكذا تحملني أسرع إن هاجمني وحش.
_ فحاول التخفيف عنها : نحن في المنزل فمن أين ستأتي الوحوش ...انظري حولك لقد تركنا المكان منارا لأجلك.
فغيرت الموضوع وتكلمت مقتربة من سرير صقر: هل سيبقى نائما في غرفتك طوال الوقت
وأضافت معترضة : متى يحين دوري ...بسببه سأنام على الأرضية في الصالة.
_ مكانك في غرفتك مع تيه وليس هنا يا طماعة ... ألا يكفيه ما به حتى تريدي أخذ المكان الذي ينام فيه
_ اقتربت من سرير صقر متحدثة: إنه مستيقظ
ويدعي النوم أمامنا فقط انظر
_ وضع تيم الغطاء من يده واقترب منهما ليرى ما سبب قولها لذلك وكانت المفاجأة عندما شاهد ما تشير إليه بيدها وهو أصابعه التي باتت منقبضة فجلس إلى جواره وتحدث: لقد تحركت أي بات استيقاظك قريبا
وأمسك يده بين يديه وفركها بلطف حتى عادت للاسترخاء ثم رتب الغطاء عليه وقال: سننام هنا فربما يستيقظ ولا أريده أن يجد نفسه وحيدا
_ فركضت ملك إلى سريره وقالت: موافقة فهنا أفضل من الصالة
_ فوقف متخصرا وقال متهكما: هل ستحتلين سريري الآن... اذهبي ونامي على الأريكة فهي تتسع لك أيتها القصيرة
_ فبدا الإنزعاج على وجهها وغادرت السرير متذمرة وجلست على الأريكة متكتفة
_ أحسنت فتاة مطيعة... والآن حاولي أن تنامي
فغدا لديك اختبار
_ لن أنجح... المنهاج صعب
_ يا لك من كسولة متذمرة لو كنت تدرسين بقدر ثرثرتك لأصبحت من المتفوقين
_ أنت من لا تكف عن التذمر فما الفرق بين أن أكون الأولى أو الأخيرة في الصف
_ أنت كارثة متحركة على قدمين
فمطت شفتيها دلالة على عدم إعجابها بما يقول وأنهت الحوار بتمني ليلة سعيدة له وغمرت نفسها تحت الغطاء عائدة للنوم
جلس قليلا على الكرسي القريب منها حتى شعر باسترخائها ثم استلقى على سريره ناظرا إلى السقف وتنهد متأملا أن تسير أمور عمله في الغد على ما يرام فقد كثرت مسؤولياته وإن لم ينجح بإيجاد عمل آخر فلن يتمكن من تلبية حاجات المنزل فلا يريد البقاء معتمدا على الآخرين ...وأغمض عينيه داعيا تيسير أموره وراح في نوم عميق
_ أما مرافقهما الثالث فكانت المرة الأولى التي يشعر بها بيده التي أمسكها أحد ما منذ قليل وقد كان كلامه هذه المرة مفهوما خلال نقاشه مع الثرثارة الصغيرة وتمنى لو أنه حاول التكلم معهما وربما حينها سيزيل هذا الشخص الأشياء التي تقيده ولكنه انشغل بتلك العاطفة التي سيطرت عليه بينما يفرك له ذلك الشخص يده حتى زال ألمها وعاد إليه شعور الاسترخاء وذهب عنه توتره غارقا في دنيا الأحلام.
أما تيم فقد سيطرت الكوابيس التي تعبر عن قلقه طوال فترة نومه حتى استيقظ مع الفجر شاعرا بالضيق فخرج من المنزل قاصدا الجامع القريب وجلس هناك حتى عادت السكينة إليه فعاد أدراجه وأيقظ الفتاتين لقرب وصول الدكتور عبد الهادي حيث سيراجع لهما بعض المعلومات المهمة في امتحان اليوم وكم يشعر بالامتنان لهذا الرجل فقد سهل له الكثير من الأمور التي تخص الفتاتين فهو السبب في حصولهما على فرصة متابعة العام بشرط أن تتجاوزا امتحان اليوم وهو قلق فقط على ملك فتيه أثبتت من قبل جدارتها وسرعتها في التأقلم أما المشاكسة الصغيرة فآه منها فهي توتره وبالكاد تتجاوب مع عبد الهادي الذي ركز عليها طوال الأيام الفائتة عسى أن تفلح ولكنها لا تهتم وهذا ما يراه الآن وهي تتدلل رافضة مغادرة الأريكة فوصل به الأمر لرمي الغطاء من فوقها فتذمرت من البرودة ولكنها وقفت وغادرت الغرفة راكضة عندما رأته يهددها بكأس من الماء وسمع ضحكة تيه وشماتتها بها وتهديد الصغيرة لها إن لم تتوقف عن السخرية
فغادر الغرفة لدى سماعه صوت جرس الباب وكان ضيفه المتوقع فسلمه الأمانة وخرج إلى عمله في مستودع لمواد البناء حيث قبل فيه مباشرة نظرا لقوته البدنية وها هو يومه الثاني سيبدأ ولن يعود للمنزل حتى المساء كما حصل البارحة وما إن دخل حتى التقى بزكريا الذي سيكون رفيقه بالعمل وقد أوصى بهما الحاج محمود لمعرفته بصاحب المكان أما طه فقد تمهل باختيار ما سيعمل وتقدم لعدة أعمال وقد ساعده في ذلك امتلاكه لشهادة تربية موسيقية تؤهله للعمل في عدة أماكن وتمنى تيم خلال تفكيره به لو أعطيت له الفرصة لمتابعة دراسته كما وعده جده ولكنه سيسعى لذلك حتى ولو تسبب ذلك بزيادة الأعباء الملقاة على كاهله.
وعند الفتاتين قضى عبد الهادي حوالي الساعتين بمساعدتهما ثم أخذهما إلى مركز الإمتحان لإجراء الاختبار لهما وقد تمكنت تيه كالعادة في لفت الأنظار إليها بسبب تفوقها وذكائها بينما تمكنت ملك من تجاوز الاختبار ويكاد يقسم بأنها حصلت على النجاح لأسباب أخرى غير الإجابات الصحيحة فقد كان يسمع ضحكات اللجنة بين فينة وأخرى ودعا أن يلهم تيم الصبر على هذه الفتاة فهي طفلة كارهة للدراسة بكل أشكالها وتعيش في عالم خيالي يثير جنونه ولكنه لن ييأس منها وسيستمر بالمحاولة حتى يجد طريقة لإثارة اهتمامها وهنا ظهرت من خلف الباب ورفعت يديها بعلامة النصر ما إن رأته وفاجأته عندما قالت: لم أنجح لإرضائك بل حتى لا يغضب مني تيم فأنت مدرس فاشل وسأخبره بذلك حتى يقوم بتغييرك
_ فحملها من تحت ذراعيها وجعلها على سوية وجهه وقال: إن لم تتراجعي عن كلامك سأقص لك لسانك وشعرك الذي تفخرين به
وضحك ملء فمه عندما حمت فمها بيد وضمت جديلتها باليد الأخرى فأعادها للأرض وأمسك يدها مطمئنا لها وأخبرها بأنه سيعيدهما للمنزل حتى تبقيا بقرب صقر كي يتمكن طه من المغادرة لمتابعة شؤونه فلم تتركه حتى أدخلها إلى مطعم للوجبات السريعة واشترى لها وجبة حيث أنها استمرت بالتذمر من سوء الطعام بالمنزل فتيه و تيم فاشلان بالطبخ بحسب قولها وإن كان كلامها صحيحا فهم حقا يعانون من سوء الحظ لاجتماعهم معا.
وانشغلت بعد ذلك بتناول الطعام عن الحديث ودخل بحوار قصير مع تيه عن خياراتها وطموحها وقد نال حديثها لفت انتباهه وتوقع لها مستقبلا باهرا في أي مجال تكون فيه وما إن أوصلهما للمنزل الذي استأجره لهم قبل وصولهم حتى غادر طه المكان مستعجلا وبقيت تيه وملك لوحدهما مثل اليوم السابق ولكن دون دروس مكثفة فانشغلت تيه بترتيب المنزل وتفاجأت من عدم تذمر ملك بل على العكس فقد أظهرت براعة في ترتيب الأشياء وأدركت تيه أن الصغيرة تمتلك حسا فنيا سيفتح لها الكثير من المجالات وقررت إخبار تيم والدكتور عبد الهادي بذلك ليتوقفا عن القلق بشأنها...وعندما انفصلتا واتجهت كل واحدة منهما لترتيب غرفة من غرف النوم حتى صرخت ملك باسم تيه بعلو صوتها قائلة: تيه تعالي بسرعة
فالتقت بها عند باب الغرفة واتجهت إلى سرير صقر حيث تشير ملك وابتسمت عندما رأته وقد فتح عينيه و كان الاحمرار يطغى على بياضهما بسبب الإرهاق وازدادت بسمتها عندما قال بصوت خافت لوجود جهاز التنفس على فمه: ماذا تكونين ...
وشعرت بالصدمة عندما ارتفعت يده لامسة خدها وعاد لإنزالها بإنهاك...ثم عاد لإغماض عينيه ثانية كما لو أنه لم يصح.
ونظرت إلى ملك التي تحدثت: إنها زرقاء ... عيناه زرقاوان سيكون تيم سعيدا عندما يعلم ذلك فلن يخطئ بينهما أحد.
فضربتها تيه على رأسها وقالت: ألا تملين من قول الجمل الغبية ... تيم يعلم ذلك
_ لماذا لم يخبرني
_ علينا إخباره حتى يحضر الطبيب
_ أنا سأتصل أريد إخباره بأنني تجاوزت الامتحان وأنني من رأيته أولا عندما استيقظ
_ فانخفضت تيه إلى مستواها قليلا وقالت: لا أصدق بأنك تغارين لهذه الدرجة ... تعالي إلى الصالة ونكلمه من هاتف المنزل
_ لماذا أخذ هواتفنا ... كنت أريد التكلم مع أبي وخالتي وبطة
_ فسحبتها من يدها وقالت: عندما يعود اسأليه
بعد بضع دقائق تمكنت تيه من التواصل معه وما إن رد حتى بدأت ملك بإخباره بكل ما حدث منذ أن تركهما وشعرت بالسعادة عندما أخذ يهلل لها فرحا بنجاحها... وانتابت تيه نوبة من الضحك لتفاعل الملونة معه بوقوفها على الأريكة والقفز مهللة مثله وانتهزت تيه الفرصة وأخذت الهاتف قائلة: حان دوري ... وتكلمت مباشرة عن فتح صقر لعينيه وتحريكه ليده
فطلب منها البقاء معه في الغرفة حتى يأتي طه وهو سيتصرف لأنه لا يستطيع مغادرة العمل الآن ولكنه لن يتأخر
انتقلت مع ملك إلى غرفة تيم وجلستا على الأريكة أمام صقر وشغلت تيه ملك بالرسم بينما تابعت هي حياكة الوشاح الذي لم تنهه في منزل رؤية وتذكرت خالتها مفيدة التي علمتها الحياكة على الرغم من مرضها فهي لا زالت إلى الآن تتقنها حيث تساعدها دلال عند الحاجة وشعرت بالحنين إليهما والندم على تعنتها عندما خرجت من منزلها دون الاكتراث بتوسلاتها وتمنت لو أنها تستطيع الاتصال بها والاعتذار
وانقطع حبل أفكارها عندما سمعت صوت الجرس فتبعت ملك التي انطلقت كالسهم لتفتح الباب وهي تقول: لقد جاء تيم ولم تستمع لتيه التي حذرتها من فتح الباب دون السؤال وحمدت الله أن من بالباب لم يكن سوى طه الذي دخل سائلا إن حدث جديد وعندما علم بعودة صقر إلى غيبوبته خرج وعاد بعد بعض الوقت مع الطبيب المسؤول عن حالة صقر والذي بقي معه لفترة طويلة هذه المرة ولم يغادر حتى وصل تيم فانضم الأخير إليهم في الغرفة وبدأ بعدها الطبيب بفصل الأجهزة عن جسد صقر واحدا تلو الآخر وفي النهاية أزال عن فمه جهاز التنفس وانتظر ليرى النتيجة وإن كان سيتمكن من التنفس لوحده
وخلالها بقي تيم واقفا فوق رأسه وقد بدا عليه التوتر وما هي إلا لحظات حتى رأى انتظام تنفسه حتى أنه سمع تنهيدة بسيطة منه فاقترب منه وقبل جبينه كما كانت تفعل والدته وقال: كم كانت ستفرح لاستيقاظك... فأهلا بك بيننا.
وابتعد عنه ووقف أمام النافذة مخفيا تأثره بسبب ابتعاده عن أسرته التي لم يكد يجدها وشعر بالأسى تجاه ما يشعرون به حيال ما فعله بهم وتمنى لو يصلون إلى حقيقة ما حصل وحينها ربما يسامحونه على هروبه بأخيه وعندما تمالك نفسه عاد للجلوس بجانب صقر مراقبا ما يفعله الطبيب في محاولته لإيقاظه
ولم يمض وقت طويل حتى بدأت تثمر محاولاته أخيرا والتقت نظرتهما فشرد تيم في عينيه الزرقاء وعادت إليه لمحة من الماضي تحمل ذات النظرة المتعبة ولكن لطفل فابتسم له وقال: هل عرفتني؟
_ بقيت نظرات صقر معلقة به لبعض الوقت ثم قال ببطء : تيم
وعاد للسكوت وبقيت عيناه مفتوحتان للحظات ثم أغمضهما ثانية.
وانتقل انتباه تيم إلى الطبيب الذي تحدث: سأنقله إلى المشفى وأقوم بفحصه هناك لأتاكد من سلامة أعضائه الحيوية
_ ألن تلفت الأنظار بذلك
_ لن أسجل دخوله على مسؤوليتي وسأعيده بذات اليوم
_ إنها مخاطرة ... وبعد أن قال ذلك اقترح: ألا يمكن إجراء التحاليل هنا فهو قد خضع للكثير من الفحوصات هناك
_ أقدر وضعكم ولكن صحته لها الأولوية الآن.
_ سأرافقك إذا لأكون موجودا إن حدث طارئ
_ الأفضل ألا تفعل ثم ألا تثق بي
_ تعلم أنني أفعل ولكن حياته في خطر وأخشى أن يصلوا إليه .
_ فصمت الطبيب قليلا وقد أثر به كلام تيم ثم قال: سنراقب حالته اليوم فإن ظهر عليه ما يستوجب نقله فلن أخاطر به.
_ إن شاء الله لن يحتاج
وقضى تيم تلك الليلة ساهرا بجانب صقر الذي استيقظ عدة مرات في تلك الليلة وكان يكتفي في كل مرة بالنظر إلى وجه تيم دون كلام .

قلوب تعلمت منه الحب Nơi câu chuyện tồn tại. Hãy khám phá bây giờ