الفصل السادس (الحاجة مفيدة )

401 16 1
                                    

توقفت السيارة أمام منزل متوسط الحجم مؤلف من طابقين مكسي باللون الاخضر وقد خالف في لونه باقي ألوان المنازل في الحي
ففسر ذلك جمال بقوله :على الرغم من إصابة خالتي بالعمى منذ أن كانت شابة إلا أنها أصرت
على هذا اللون ...أخبرتني أنها لا زالت تذكره
وتشعر به خاصة في فصل الربيع ...لذلك لا
تعجبا من كلامها فمن يسمعها يظنها قادرة
على الرؤية لقوة بصيرتها وأنهى حديثه بكلمة
تفضلا ...ستكون سعيدة بلقائكم .
_هل أخبرتها عني ...ماذا قالت؟
كانت هذه جملة تيه التي لفظتها بحماسة جلبت
الابتسامة إلى وجه كل منهما فهذا يعني تقبلها
للوضع الجديد .
_ أنت فتاة مرنة يسعدني انضمامك للعائلة.
_ من يوجد معها في المنزل
_ فقط الخادمة ...فخالتي لم تتزوج بسبب ظرفها الصحي وقد وضعنا لها هذه الخادمة
حتى تبقى على راحتها ونتناوب على زيارتها
أنا وباقي أفراد العائلة.
_هل لديك أخوة؟
_ لا أنا وحيد والدي .
_ هل تسكنون في مكان قريب؟
_ كان ذلك منذ زمن بعيد إنهما متوفيان الآن
أنا أعيش حاليا في شقة وسط المدينة ...
ربما أدعوكما لزيارتي يوما .
_ يال الكرم ...تقول ربما وتريد منا تلبية الدعوة.
كانت تلك جملة صقر التي قالها وهو خارج من
السيارة وأكمل هيا دعونا نتعرف على الحاجة
وتقدم أمامهما قاطعا الدرجات العشر بثلاث
قفزات وبدأ بالنقر على الباب عدة نقرات متتالية بمفتاحه وانتظر معهما أمام الباب
بعد لحظات سمعا صوت من الداخل يطلب
التمهل من الطارق وهنا تقدم جمال مخاطبا
خالته :هذا أنا جمال يا خالتي ...لا تتعبي نفسك
سأفتح الباب بمفتاحي
سمعوا ترحيبها به من خلف الباب ودعوتها له
بالدخول ورافق ذلك تحدثها عن كون الخادمة
غير موجودة في البيت
عند رؤيتهم لها كانت الصدمة واضحة على
وجه كل من صقر وتيه فالحاجة مفيدة لم تكن
سوى امرأة بالكاد تجاوزت الأربعين من عمرها
بعيون رمادية واسعة وشعر غجري طويل يكاد
يصل إلى أسفل وركيها مزين بعدة ورود من الياسمين الذي عبق المنزل برائحته دلالة على
وجود النبتة في مكان قريب.
_ قاطعت تيه عبارات الترحيب قائلة إنها جميلة ...تشبه الجنيات في قصص الأطفال
_ ووافقها صقر بقوله :أين الحاجة يا رجل
ضحك الجميع على تعليق صقر واقتربوا جميعا
من مكان وقوف الحاجة !!!
_ هل هما الضيفان؟
_ أجل يا خالتي صقر وتيه...حدثتك عنهما .
_ اقتربت مفيدة خطوة واحدة رافقتها بها
يد جمال وقالت :أهلا بكما ...تسعدني إقامة
تيه لدي ...مع أني عاتبة عليك لزواجك منها
دون موافقة عائلتك...كان بإمكانك وضعها
هنا دون أن تغضبهم...ومع الوقت يوافقون
فالأهل لا تهمهم إلا سعادة أبنائهم.
_ تيه لديها ظروف خاصة جعلتني أسرع
بإجراءات الزواج ...أردت فقط أن أكون سندا
لها حتى ولو رفضها الآخرون.
_ من سيرفضها!!
_ عائلتها.
_ وهل يلفظ العاقل قطعة منه .
_لست عالما بنفوس الناس ...وأشكرك مقدما
على استضافتها.
_ سيكون بيتا لها إن شاء الله ...وأرحب بك
متى أتيت لرؤيتها ..أخبرني جمال عن عملك
في مدينة أخرى.
توجه بنظره إلى جمال وأشار إلى رقبته مهددا
وعندها قال جمال :يعمل صقر مهندسا في
شركة للبترول لذلك لا يستطيع أخذها معه
فأغلب وقته يكون على ظهر سفينة وسط البحر.
_ أعانك الله ...عمل صعب ...لا تقلق عليها
فهي أمانة لدي حتى تحل مشاكلك.
_ هذا لطف منك ...كيف تحبين أن أناديكي
_ سأكون خالتك منذ اليوم ...لذلك ناداني مثله
(الحاجة مفيدة) .
_ظهر الاستغراب على وجه الضيفين والتفتا
إلى جمال الذي وضح :كانت جدتي تعيش في
هذا المنزل وقد حملت نفس الاسم ..وللتوضيح
جدتي لم تكن والدتها وإنما زوجة أبيها وهي
من ربتها بعد طلاق والدتها وزواجها من آخر
ولشدة تعلقها بجدتي خلال حياتها أصبحنا
نناديها كما كنا ننادي جدتي رحمها الله.
_كررا بعده الترحم واستمر الحديث بينهم عن
ذكريات كثيرة سردتها مفيدة عن العائلة
وعند عودة الخادمة من السوق دلت تيه على
غرفتها وساعدتها بوضع أغراضها في الخزانة
وتركتها تتأمل محتويات الغرفة
سرير مزدوج وخزانة ضخمة تمازجت ألوانهما
بين الأبيض والأخضر مع مكتب جميل احتل
المساحة المجاورة للنافذة ومكتبة صغيرة
احتوت على بعض الكتب وأغلبها كان فارغا
أما النافذة فقد كانت مطلة على شرفة جميلة
كانت مصدرا لرائحة الياسمين المنتشرة في
المنزل وقد كانت الشرفة مشتركة لغرفتين
وقد توقعت تيه أن تكون للخالة مفيدة كما قررت أن تناديها.
وبعدها عادت للانضمام للمجموعة في الصالة
وقد طغى جو من الألفة بين الجميع .
شعر صقر بصواب قراره بعد تلك الجلسة وتأمل
أن يمضي كل شئ على خير.
بعد أقل من ساعة طلب صقر من مرافقة الخالة
تعريف تيه على الحي وشراء ما ينقصها من أجل المدرسة وغادر مع جمال المكان بعدما زود
تيه بما قد تحتاجه من مال .
اكتفت تيه في مساء ذلك اليوم بكوب من الحليب كعشاء لها..فوجبة الغداء كانت كثيرة
الدسم ...وماذا تتوقع من دبين أن يتناولا الخضار مثلا ...لقد صرفا طاقتهما كاملة على
الشجار في ذلك البناء ...وقالت في نفسها
متهكمة وكذلك تنفيذ العقاب الذي من يراه
يشعر بأن صقر هو من يقوم بعقاب الجميع
وبسملت عليه من عينها ...جبار هذا الرجل
لقد أسقطهم واحدا تلو الآخر في باحة التدريب
فقد انتهت معركته مع رضوان بأمر من رئيس
المكان ...والذي قابلته بعد خمسة دقائق من بدء المعركة وقد تجمع عدد لا بأس به من المتفرجين أمام الباب الذين تلقوا توبيخا من
رئيسهم الأنيق لعدم تدخلهم وفض الشجار
أما الآن فهي تظن بأن ذلك الرجل أراد معاقبة
الجميع وامتصاص طاقة صقر حتى يتمكن
من الحديث معه دون إثارة مشاكل ...وقد
لاحظت اليوم كم هو شخص قادر على استفزاز
الآخرين
استلقت على سريرها وأخذت تفكر بهذا اليوم
الطويل الذي مرت به ...بكل أحداثه ففي اليوم
السابق كانت يائسة وحيدة وقلقة أما اليوم
ومنذ الصباح بدأت تشعر بتسرب أشعة من الدفء إلى قلبها بدأت بصقر وانتهت بالخالة مفيدة العاشقة للياسمين ...تذكرها بجدتها بطريقة ما إنهما دافئتان كالحلم وغاصت في
عالم من الأحلام البعيدة عن الكوابيس القلقة
التي عانت منها طوال الأشهر الماضية
وكان ذلك ما حدث مع صقر أيضا...الذي رافق
جمال إلى شقته وسط المدينة والموجودة ضمن برج سكني راقي ...كانت شقة منظمة
كصاحبها ....يستطيع وصف الأثاث بالمريح والعملي ...تناسب رجلا أعزب
شربا قهوتهما في الشرفة المرتفعة والتي أعطت
لساكن الشقة الخصوصية اللازمة لطريقة
حياته واكتفى هو بالجلوس واضعا قدميه على حافة الشرفة بجلسة مسترخية شاردا بالبعيد
مع سيجارته و فنجان القهوة ولم يعط اهتماما لمغادرة جمال المكان الذي عاد بعد فترة ليست
بالقليلة وأخبره أن غرفته جاهزة للنوم وأشار للنافذة المجاورة للشرفة ..ولكنه لم ينهض
وعوضا عن ذلك قال كما لو أنه يحدث نفسه:في يوم من الأيام وأراه بعيدا ستكون لي
أسرة صغيرة وبيت دافئ ...أعود لهما في نهاية
كل يوم طويل ...وسأعدهم في كل يوم أنني لن أتخلى عنهم مهما كانت ظروفي ...ويشعرون
معي بالأمان الذي لم أحظ به يوما.
_ ربت جمال على كتفه وخفف عنه بتمني لأن يتحقق حلمه وهو على يقين بأن تحقيق هذا
الحلم هو ضرب من المستحيل بسبب وجودهم
في حياة هذا الرجل وما يخططون له .
ومع نهوض صقر ...فاجأه جمال بسؤاله:ماذا
بشأن تيه ...هل لديك نية الالتزام معها أم
ستتركها بعد أن تجد عائلتها .
رتب صقر خصلات شعره البني بأصابعه ونظر
في عيني جمال مباشرة ثم أجاب: سأتركها إن
كانت عائلتها تستحقها...فأنا لا أناسبها ...إنها
تحتاج لرجل تحيا معه بروحها المجنونة دون
أن يطفئها يعينها على تحقيق أحلامها وليس
الصبر على حياة غير مستقرة.
_ وماذا عن الحب ...ألا تملك عاطفة تجاهها
فما رأيته خلال اليومين الفائتين يدل على وجود مشاعر خاصة بينكما.
_ عندما ساعدتها كنت أساعد نفسي ...أما عن
العاطفة فهي أبوية بحتة ...والتي بصفتها سأكسر رأس أخيها إن فكر يوما بإيذائها
وأنهى جملته بدفع قبضته إلى كتف جمال الذي
تحرك خطوة واحدة باتجاه سور الشرفة ونظر
للأسفل وتكلم مستهجنا: ماذا لو وقعت يا أحمق.
_ كنت سأمسكك طبعا ...هل تظنني قاتلا؟!!!
_ بل أظنك مجنون لا يؤمن الوقوف إلى جانبه .
وغادر الشرفة وقد ظهر الانزعاج على وجهه
ولحقته جملة صقر المتهكمة:هل ستغضب كفتاة الآن..وعاد للجلوس عندما لم يلق ردا
_ وقف جمال في غرفته يتأمل غرفته دون أن يرى ما فيها حقا وتذكر الحديث الذي دار بينه
وبين رئيسه في المقر فبعد تركه لصقر وتيه
توجه إلى مكتبه وتوقع توبيخا شديد اللهجة
ولكنه تفاجأ بنهوضه من خلف مكتبه مرحبا
وأغرقه بالثناء على تمكنه من اكتساب ثقة
وحشه الحبيب كما يسميه ...وطلب منه الاستمرار بما يفعله واكتشف بأنهم لم يغيبوا لحظة واحدة عن أنظارهم...وعندما تطرق إلى
موضوع تيه لم يبد اعتراض قولي على زواجه
منها واكتفى بالقول أن لهذا الموضوع ظروف
خاصة سينتهي بانتهائها وعجب من نظرته حينها ...ووضح بأنه سيتكفل بموضوع إعادتها
للدراسة فهو يراها مناضلة تستحق الفرصة
ويرى بأنها ستثبت أحقيتها في الفرصة
الموهوبة من قبلهم جميعا ..وقد شعر حينها بأن
تلك الفتاة محظوظة بوجود من يدعمها
وقرر ألا يسأل عنها أكثر فقد زال كل قلقه
منها بسبب كلام رئيسه...وتبقى مشكلته
الحقيقية في تهذيب قوة هذا الكائن الموجود
في الخارج وهذا ما أكده عليه رئيسه في جلستهما القصيرة ...فطبعه الخشن لا يتناسب
مع شخصية الآخر المتسمة بالبرود وهذا معاكس تماما لشخصية صقر المتهورة
والعنيدة ...لا يظنه قادرا على توجيهه.

قلوب تعلمت منه الحب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن