الفصل مائة وثمانية

ابدأ من البداية
                                    

-عن إذنكم.

لم تنتظر كلمة وداعٍ منهما، التفتت سائرة بخطواتٍ بدت أقرب للركض، تاركة تلك المرة دموعها المكبوتة تتحرر من طرفيها، فغزت كامل وجهها؛ كأنما فقدت عزيزًا لتوها. تقطعت العضلة النابضة بين ضلوع "تميم" لرؤيتها ممزقة هكذا، استدار يسأل والده في عصبيةٍ ولوعة:

-إنت هاتسيبها تمشي يابا؟ عاجبك اللي قالته ده؟

قبض على ذراعه يستوقفه وهو يأمره:

-استنى يا "تميم".

رد بزفير محمومٍ من بين أسنانه:

-الكلب ابن الـ...، هو السبب.

بهدوء متعقل أخبره:

-اللي شافته مش قليل، هي مش واعية بتعمل إيه.

هتف في غيظٍ أشد:

-لو كنت سبتني عليه كنت سيحت دمه، كنت شفيت غليلها منه، على الأقل ماتبقاش كده.

هز "بدير" رأسه بإيماءات خفيفة متعاقبة، وقال:

-الأيام كفيلة تداويها.

دمدم بسخطٍ عكس عدم قناعته:

-ماظنش

صمت مرغمًا؛ لكنه لم يكن راضيًا عما يحدث، فقبلها كانت حياته روتينية، مجرد امتداد لفراغٍ استحوذ على قلبه خلال سنوات حبسه الطويلة، لم يتذوق طعم الحب حين نال حريته، ولم يعرف السكينة في أحضان زوجته، إلى أن ألقاها القدر في طريقه، لحظتها بدأت في وضع بصمتها المميزة على كل تفصيلة تخص أمره، ورويدًا رويدًا غدت بشخصها الفريد، وشجاعتها غير الاعتيادية هي كل ما يحتاج إليه لملء الفجوة المتسعة في حياته، لذا بدا الألم المختلط بالغضب ظاهرًا على وجهه وهو يراها تغادر بانكسارٍ، وإن كانت تدعي الجمود في وجودهما!

.................................................

أدت واجبها وما جاءت إليه بإتقانٍ لم تتوقعه، جرجرت "فيروزة" ساقيها مبتعدة عن المكان، تاركة خلفها أحلامها تنسل منها بإرادتها؛ لكن الألم لم يتركها، تغلل في أعماقها، حتى إحساسها بالقهر والخذلان استبد بها مجددًا، كما راحت ومضات عشوائية خاطفة مما عاشته سابقًا تسطع في عقلها لتضاعف من هذا الشعور القابض للروح. افتقرت تلك المرة للمقاومة، وتخلت عن شجاعتها لتصبح كغصنٍ كُسر فرعه، فعصفت به الرياح في كل اتجاهٍ تريد اقتلاعه. همست بصوتٍ يملأه الشجن:

-معدتش عندي حاجة أبكي عليها.

تأرجح تفكيرها وتخبطت في الصراعات التي أنهكت قواها، بدأت خطواتها في الثقل، جاهدت بأنفاسها التي تحولت للهاث لتحريك قدميها أكثر، والابتعاد عن البشر بأنماطهم؛ لكن على ما يبدو أبت الاستجابة لأمر عقلها، فكانتا كالجبال، بذلت جهدًا أكبر في إجبارهما على الحركة، واستمر التثاقل في الازدياد، تجمدت كلتاهما في مكانها، فلم تستطع الحفاظ على اتزانها، ومنع نفسها من الانكفاء على وجهها مع قوة حركتها الفجائية، لهذا طُرحت أرضًا، واصطدمت رأسها بحافة الرصيف الحجرية، لتفقد بعدها وعيها، ودموعها تسبقها في السقوط.

الطاووس الأبيض ©️ - الجزء الثالث - كامل ☑️حيث تعيش القصص. اكتشف الآن