قد زارني حب (مكتملة)

By Sarah_M_29

495K 29.5K 12.1K

"كانت ترى هذا الحب الذي تكنه له كتلك التفاحة التي أخرجت آدم من الجنة.. خطيئة ولكن تستحق!" وكعبارتي المعتادة و... More

~ البداية ~
~ اختفاء ~
~ رامي ~
~ صدمة..~
~ حقيقة...~
~ كنت قد أحببته..~
~لقاء..~
~ ما خلف الكواليس..~
~ خيبة..~
~ لمسة حب..~
~ اسرار..~
~ أزمة حب ~
~ تناقضات عاشقين ~
~ آمال تلوح في الافق ~
~ غيرة..~
رجعتتتت
~ وما بين حب وحب ~
~ خيبة مشاعر ~
😑بارت بالطريق
~ شبه سعادة ~
فد سؤال
~ نصف حقيقة ~
~ نصف الحقيقة الاخر~
سعاد
~ أمّر الخسارتين ~
بارت بالطريق ي جدعان
~ الخاتمة ~

~ النهاية ~

19.7K 1.1K 451
By Sarah_M_29

لكل شيء في الحياة جانب اخر.. حتى سعادتنا التي توقعنا أنها مثالية نكتشف أنها ليست كذلك.. في مرحلة ما ستدرك أن كل شيء مجرد طبقة وهم مزيفة ستنقشع فجأة لتكشف لك الحياة وجهها الحقيقي.. ذلك الوجه البشع والمقيت المخبئ داخل لحظات فرح صغيرة تهيئك لبؤس عظيم.. في الحقيقة ليست الحياة من تكشف لك وجهها.. بل من يعيشها.. الحياة مجرد ستار لمسحر عظيم رفع أسداله متأخرا!

هذا ما اقتنعت به مرام مؤخراً بعد كل ما حصل.. حتى رامي لم يعد بالنسبة لها ذلك الامير المثالي.. ربما الفراق سيدفعنا لرؤية كل تلك الندوب التي تغافلنا عنها.. لم تعد تسامحه على اخطائه التي كانت تتغاضى عنها فيما مضى.. هل هو الفراق فقط؟ ام أن هناك مرحلة يصلها الانسان يدرك غباء حبه ؟
هنالك مرحلة نصلها بعد ألم عظيم تجعلنا ننسى كيف نغفر!
مرّت سنتين.. تغيرت فيها الكثير من الاشياء بعد رحيلها.. ربما تغيرت بداخلها شخصياً قبل أن تتغير بأوضاعها كثيراً.. لا يزالان زيد وعلاء احرار ولكن قيد المحاكمة وممنوعان من السفر لحين اكتمال التحقيق الذي أوقع الكثير من رؤوس الدولة المعروفة لذلك كان صعب على التحقيق أن يسير بسلاسة في دولة فاسدة ولكنه بالوقت ذاته لم يتعرقل كما يحصل بكل مرة

بالنسبة لها فلم تطأ قدمها دولتها بعد رحيلها عنها في تلك الليلة المشؤومة ولم يعرف أحد أخبارها ولا حتى رزان.. الوحيد الذي كان على اتصال معها هو أمجد والذي تتصل به بشكل منتظم كل ثلاثة أيام بوقت غير معلوم من هاتف عمومي ولم تمنحه رقمها الشخصي أو مكان أقامتها.. ليس لعدم ثقتها ولكنها تدرك أن أميرها مستميت للعثور عليها لا سيما بعد معرفته بكل شيء فعلته من أمجد..  تعجبت على نفسها كيف لقلبها أن يحمل كل هذا الحب ورغم هذا يقوى على الفراق؟

ربما لأن ألمها كان أكبر!

لذلك كانت ترفض منح أمجد أي شيء عن حياتها الشخصية كي لا تصل أخبارها له وكانت تكتفي باتصال سريع تسأل عن سير القضية أو تمنحه معلومات يحتاجها ولا تسأله عن أي أحد اخر أو تمنحه اخبارها..

لقد أنهت رامي من حياتها واكتشفت أنها لم تمت بعد ذلك.. مثلما اعتادت على حبه فهي قد اعتادت على ألم فراقه.. رفضت بعد رحيلها أن تعيش حب لا يبقى معها إلا حين تكون مثالية وبمجرد أن تنطفئ فأن يده ستكون أول يد تفلتها.. لم يفكر يوم بمسامحتها ولم يفعل ذلك إلا حين يراها ملاك نقي فقط.. احتاجت لحب يراها أسوأ ما تكون ورغم ذلك لن يتخلى عنها.. كلنا نحتاج هذا النوع من الحب.. ذلك الحب الذي لا نحتاج فيه مثاليين ليحبونا!

تعلمت أن تحب نفسها أولاً وأن تخصص كل وقتها لنفسها.. هذا الحب والاهتمام الذي منحته لنفسها بعد سنين طويلة جعلها تكون ناجحة وفخورة بكل شيء تفعله بطريقة لم تشعرها من قبل قط.. شعرت بالحرية.. باستقلاليتها.. ورغم ذلك بقيت تعيش الالم كل يوم والاشتياق بكل لحظة!
رغم ذلك لا تزال تراقب صفحته الشخصية في مواقع التواصل التي أعاد تفعيلها من أجلها لثقته بأن حبها الكبير سيدفعها دوماً لمراقبته.. كانت تدرك أنه فعل ذلك من أجلها.. أدركت ذلك بعد أن نشر في يومياته لأكثر من مرة كم يشتاق لشخص بعيد أو ينشر صورة للكتب التي أحضرها من أجلها حينما كانت تقيم عندهم ويكتب عبارة صغيرة تحتها.. "أفتقدكِ".. كان يدرك أنها ترى ذلك.. كان يدرك أنها تبتسم وينبض قلبها في كل مرة.. وكانت تدرك أنه يطلب الغفران منها.. ولكن ماذا لو اخبرته مثلاً أنها ليست مثالية.. هل سيستمر بافتقادها؟ أم سيتخلى عنها للمرة الثالثة ايضاً؟؟ هي ليست ساخطة عليه فكل ما فعله كان من حقه لو كان شخص عادي.. ولكنها ساخطة على حبه المهزوز.. ستغفر له كانسان ولكنها ستهجره كحب..
كان يجلس ذات مساء وحيداً في الشرفة يطالع اضواء الشارع البعيدة.. كل ليلة ذات السهرة المشبعة بالوحدة الخالية منها.. يتذكر كل تلك الليالي التي شاركته فيها الجلوس هنا.. يتذكر كل تلك تلميحات الحب السرية والغيرة المفرطة.. يتذكر كل ما كان بين يديه وضاع في طريق الانتقام والكره
اخترقه صوت أمه وهي تكسر عليه عزلته:

-شارد كالعادة؟

نظر نحوها متبسماً:

-هذا الشيء الوحيد الذي أجيده مؤخراً.. الشرود!

شاركته الجلوس وقالت بحسرة:

-والى متى؟

شاركها الحسرة ذاتها وهو يزفرها وكأنه يحاول التخلص من ثقلها فوق صدره:

-الى أبدية غير معروفة

-ألم تسمع أي شيء منها

-ولا حتى عنها.. أخبرها أمجد إني أريد التحدث اليها ولكنها رفضت بشكل قطعي ورفضت أن تناقشه بأي شيء خارج أطار القضية.. وأنا احترمت رغبتها ولم أصر على التواصل

وفجأة اخترقهم صوت رزان وهي تقول بتذمر طفولي:

-تقصد استسلمت كالعادة ايها الجبان وتخليت عنها للمرة الثالثة

التفت بفزع غير متوقعاً غير وجود أمه في الشقة فقالت ندى متبسمة:

-اوه نسيت أن أخبرك أن المجنونة هنا..

ثم نهضت قائلة:

-سأبدأ بتجهيز العشاء قبل أن تجوع أختك وكلانا يعلم ما سيحصل حينها من كوارث!

ضحك ولم يكمل ضحكته بعد حتى وجدها تقفز لقربه تجلس على الكرسي المجاور وقالت بذات ألحاحها المعتاد:

-كن رجلاً لمرة!

ضربها على رأسها وهو يقول:

-وماذا أنا يا حمقاء؟

-أقصد رجلاً في الحب.. ليس رجلاً في المواقف والشهامة والجنسية التي أشك بأمرها مزورة ذاتاً.. حارب من أجلها واكسر المستحيل لمرة!

-إذ كانت هي ترفض التواصل معي.. هل أجبرها؟

-أجل ستفعل!.. أجعلها تشعر أنك ستهزم الجميع لتحصل عليها حتى وأن عنى ذلك هزيمتها شخصياً.. أجبرها لتسامحك... دعها تشعر بحبك المكتوم.. ألم تفعل هي المثل معك؟ ألم تكسر كل قيود المستحيل وجعلتك تحبها رغماً عن أنفك؟

-لكل منا شخصيته يا رزان.. ربما يكون حبي أكبر من حبها وربما أغلي عليها أكثر مما تغلي علي.. ولكني أفشل بالتعبير عن هذا.. وحين أفشل لا يعني أبداً إني تخليت عنها

-ولكن هذا ما يبدو أخي. وهذا ما سيجعلك تخسرها..

فنظر لها وقال وهي تشعر بذلك القهر في نبرته:

-هذا لن يجعلني أخسرها يا رزان.. بل جعلني أخسرها حقاً.. جميعاً نعلم أن مرام لن تعود.. وأن عادت فلن تبقى بسبب قضية أمها.. لذلك دعينا كلانا نتخلى عن بعض كي لا نتعذب بحب لن يُكتب له الحياة.. حب مجبورين على إجهاضه

-فقط لو تتخلص من المرأة الحامل في عقلك بالله ستكسب مرام مجدداً..

وفجأة اخترقهم صوت فادي وهو يحمل طفلته سالي ذات السنة ويهزهزها بيده وهو يقول:

-من الحامل؟

نظر له رامي لوهلة ثم قال:

-فقط من باب الفضول.. أنا ورزان فقط في الشرفة.. من يا ترى من بيننا قد يكون حامل؟

-رزان؟

-لا بل أنا!

ثم نظر نحو اخته وقبل أن يتحدث رفعت يديها أمام صدرها وهي تقول:

-إياك أن تتذمر انت من ورطتني به!

رمى الطفلة في حجرها وهو يقول:

-خذي ابنتك قليلاً أنها لا تكف عن الهذيان.. لا أعلم من أين ورثت هذه الصفة!

فرد رامي مدعياً الاستغراب:

-سبحان الله رغم أن أبويها أهدئ الخلق!

فقال فادي بينما يحث رزان على النهوض:

- أذهبي لتساعدي أمكِ

نظرت له بتشكيك ثم قالت بينما تنهض راحلة:

- قل نريد أن نتكلم بمفردنا

- وأفوت عليكِ فرصة استنتاج شيء غامض كهذا عزيزتي!

نظرت له بطرف عينها تكتم ضحكتها وخرجت تاركة المجال لفادي لعله يصل مع كتلة الحزن هذه لحل يريح قلبه..
ما أن جلس فادي حتى بادر رامي بالكلام عن اشياء لا يفصحها إلا لفادي:

-أفتقدها بشدة!

زفر فادي بحسرة وقال:

- لم تتواصل معك ولا مرة؟

- أبداً.. وحتى الحساب الذي كنت أشك بأنه لها حُذف

- هذا يعني أنه بالفعل كان لها

- هذا ما يعزيني قليلاً في بعض الاحيان.. من أنها كانت تشاهد منشوراتي أولاً بأول وتكون أول المعلقين عنها وراسلتني اكثر من مرة..يعزيني من أنها لا تزال تهتم

- وهل تشك بحبها؟!

- لا.. ولكن الاهتمام يختلف.. كثيراً ما نحب اشخاصاً ونحبهم من بعيد دون أن نهتم بمعرفة أخبارهم حين نصل لمرحلة معينة من الاذى بسببهم..

ثم نفث أنفاس صدره بقوة وحسرة وهو يقول:

- أنا أراها في كل الوجوه يا فادي.. حتى صوتها أكاد أقسم إني أسمعه في أشد الاماكن هدوءاً..

زفر فادي بحيرة ثم قال:

- لو أنك فقط تتخلى عن كبريائك وتلازم أمجد في اليوم الذي تتصل به وتجبرها على التحدث إليك.. لا أظنها بهذا القدر من القسوة لتغلق الهاتف بعد سماع صوتك..

- أعلم أنها لن تفعل

- إذاً لِما لا تبادر؟

- لأنها رفضت التحدث إلي وسأحترم رغبتها

-يا رامي.. في كل مرة تقول لك امرأة تحبك أبتعد عني فهي رسالة صريحة منها بمعنى لا تفعل.. تمسك بي بقوة.. اجعلني أشعر أن رحيلي سيسلب منك شيء سيقتلك.. يكاد أن يكون حياة قربي.. في كل مرة تقول لك ابتعد فهي تتوسلك أن تقترب وتتمسك بها أكثر.. لعلها تريد منك أن تحارب ولو لمرة من أجلها..

- هي تعلم آني أحبها

- أجعلها تتيقن..

ربما كان رامي عقلاني بحبه أو ربما كان قادراً على كتمانه وتخصيص لحظات ضحك ومزاح في حياته.. وربما فعلت مرام الشيء ذاته وتخلصت من ذلك الشبح المقيت الذي تراه في مرآتها كل صباح ذو الهالات السوداء والبشرة الشاحبة.. لأول مرة شعرت انها تسير خطوة خارج الحب.. تتجاهله وكانه انسان مستفز لتستفزه أكثر لعله سيكون جيدا معها.. ربما في النهاية هي تعاملت مع الحب بشكل خاطئ.. فهو عدو ولا يجوز منح كل شيء لعدوك ثم تتذمر لهزيمتك..

كانت تجلس في ذات المساء في مقهى ذو نافذة زجاجية عريضة تطلع على شارع مزدحم بأناس مجهولة ذات لغات مختلفة لا يهتم أحدهم بما يفعله الاخر كما لم تفعل هي.. تحركت كرتا عينيها فوق سطور جين اوستن وهي لا تزال تقحم نفسها بعالم هذه الكاتبة وبهذه الرواية بالأخص وهي تغوص بعالم السيد دارسي والانسة اليزابيث.. كم كان يستفز مشاعرها مكابرة السيد دارسي وكم كان يثير رضى انوثتها كبرياء الانسة اليزابيث.. تمنت لو فعلت هي المثل.. لربما السيد دارسي الخاص بها هي كان سينتبه عمّا يفعله!

-مرام؟

رفعت عينيها قسراً عن أحداث أعادت قرأتها مائة مرة نحو صوت صديقتها سدين التي قالت غامزة:

-أنظري من أتى؟

حركت عينيها فقط دون تحريك رأسها نحو طاولات المقهى فلاحظت زميلهم في العمل معتز فتبسمت بتهكم وعادت لتقرأ بصمت فأكملت سدين:

-تعلمين أنه قادم من أجلك.. عرف من جمانة أننا نقصد هذا المقهى يومياً بعد العمل

أغلقت كتابها ووضعته جانباً لتبدأ ارتشاف عصير الرمان الذي لم تمسسه بعد وقال:

-إذاً..؟

-ماذا تعنين ب إذاً؟ تلميحاته واضحة أنه معجب بكٍ.. ذاتاً الكل يعلم أنه معجب بكٍ

-هذا من سوء حظه.. هو ينتظر مشاعر لن ينالها

فقالت الاخرى بنوع من السخط:

-وما الذي يمنعكٍ؟ رامي أكيد!

تبسمت بثقة وقالت:

-قد لا تصدقين ما أقوله.. ولكن لا دخل بمشاعري لرامي لرفضي الحب.. لو كان رامي الان جالس مكان معتز فلن تختلف رد فعلي بشيء.. لأكون منصفة ربما سأصاب بشيء من الصدمة والتفاجئ حول كيف وجدني

-لماذا إذاً؟

فقالت وهي ترمي حسرة متعبة بحروفها:

-لأني تعبت.. لم يعد في قلبي حب لأمنحه لأحد.. منحت حبي كله لأشخاص خاطئين يا سدين.. رامي أخذ مني عمر بأكمله مانحة أياه حب لم يكن يبادله لي وفي اللحظة التي فعل هي ذات اللحظة التي تخلى عني فقط لأني لم أعد مثالية بالنسبة له.. تعبت من فكرة أن امنح حب جديد ويتلهف قلبي من جديد وأُخذل من جديد.. لقد تخطيت رامي بصعوبة وبأيام لم يعرف ألمها سواي.. ذلك الألم لا أريد خوضه مجدداً لذلك تنازلت عن لهفة البداية لأحمي نفسي من خيبة النهاية.. كنت أظن إني لابد أن احتاج حب بحياتي.. لرجل يحبني ويمنحني السعادة.. ثم فكرت لاحقاً.. لٍما لا أمنح ذلك لنفسي؟ لٍما لا أكون كاملة لنفسي وليس لأرضي غيري؟.. هل تظنين إني سأحصل على هذا العدد من الترقيات بهذا الوقت القصير لو إني مرتبطة بأحد؟ بالطبع لا!.. لأني سأهمل عملي وسأنشغل فقط في محاولة أسعاده هو او البكاء عليه بسبب فراق أو مشكلة

ثم أردفت ونظرة برودة ترتسم فوق عينيها:

-طوال حياتي لم أفكر سوى برامي وكيف سأصل اليه؟ وهل سيحبني؟ هل سنرتبط؟ هل سيعود؟ هل سيتصل؟ متى ستصلني رسالة منه.. ولم اتفاجئ بيوم إلا والعمر قد فاتني دون أن أدرك متى حصل هذا.. وكيف هي أنا؟ ماذا فاتني عن نفسي؟ كيف انشغلت به للحد الذي نسيت من أكون وماذا أريد أن أحقق؟.. لذلك يا سدين لن أسمح لرجل آخر بأن يدمر آخر ما تبقى من مرام.. يكفي ما هدمه رجال عائلتي ويكفي ما أخذه  رامي من قلبي.. ليبقى ما تبقى لي.. لأمنحه لنفسي

فقالت الاخرى بتهكم بينما تحمل كوب قهوتها:

-لهذا السبب لا تزالين تراقبيه بالخفاء الى الان؟

-لا أنكر إني أحبه.. لكن الحب ليس كافياً لأتواصل معه وأشغل نفسي به

ثم نهضت مبتسمة وهي تقول:

-والان دعيني أذهب بدل أن تجعليني أحن لرامي أو أتورط بعلاقة مع معتز

فرفعت الاخرى كتفيها وهي تبتسم بمكر:

-كلانا نعرف أنكِ لن تتورطي بعلاقة مع معتز.. لا زلتِ وفية لرامي!

اكتفت مرام بادعاء الضحك توهم نفسها قبل سدين أن جملتها هذه مجرد نكتة تنفع للسخرية منها.. ولكن بداخلها كانت تعلم أنها تسخر من نفسها وتدرك وفائها لحبه وحده.. فبداخلها لا يزال الفراق يعظم حب رامي ويجعله يؤلم أكثر .. فالفراق ليس على مقاس قلبها المليء بالشوق

ما أن خرجت ولفحها هواء ابريل البارد نسبياً ليلاً حتى سمحت لدمعة وحيدة أن تهطل من مقلتها.. لِما لا يكون الفراق كافياً لننسى؟

تمشت على الرصيف الرخامي متجهة نحو بيتها وقد اخرجت هاتفها في هذه الاثناء لتقلب به وتدخل على حسابه الشخصي من حساب وهمي أنشأته البارحة بعد أن شك بكونها هي من الحساب القديم.. قلّبت في صور يومياته فوجدت صورة للقمر قد التقطها من شرفة منزله وأضاف لها اغنية
(Adele _Turning tables)
تبسمت وهي تكتب له رسالة:

-أعجبتني هذه الاغنية

حتى لو لم يعرفها أو لم يرد عليها.. كان يكفيها أن تشعر أنها تتحدث اليه.. ولكنه رد!

-تعجبنا الاغاني حين تلامس بداخلنا شيء

-أجل.. أحببت فيها مقطع

-أي مقطع..؟

- So I won’t let you close enough to hurt me

-"لن اجعلك تقترب كفاية لتؤذيني".. مرام؟!

وفي اللحظة التي كتب أسمها قامت بحذف الحساب فوراً.. كما كانت تفعل دائماً حين يعرفها.. وكلاهما يعرف أنها ستعود لمراقبته من صفحة اخرى

سارت في الشارع لتستمر في البكاء  وقد شعرت أن هذا الكون الواسع يخنقها.. كيف لخسارة شخص واحد أن تجعل العالم باهت بهذا الشكل ولا شيء يستحق أن تشرق الشمس من أجله بنظرنا من بعده؟.. يمكنها تعويضه بأي شيء.. فلماذا لا يتعوض؟.. لقد اذاها فلما لا تتمكن من نسيانه؟

عادت الى المنزل في ذلك اليوم بالوجه الذي اعتادته امها كل يوم.. عابس ولا تزال الدموع ندية عليه.. ألقت السلام بصوت بالكاد مسموع واتجهت نحو غرفتها ليصلها صوت امها من خلفها وهي تقول:

-ألن تتناولي العشاء.. لقد انتظرتك

فردت باختصار:

-لا.. شكراً لكِ

ودخلت الغرفة واغلقت الباب من بعدها فتبعتها امها على الفور وهي تفتح الباب وتقول باقتضاب وضجر:

-الى متى ستبقى أحاديثك مختصرة؟.. لقد مرّت سنتين.. الى متى سنبقى هكذا؟ على الاقل شاركيني طعام العشاء لمرة بما أن الغداء تتناوليه في العمل

-يكفي أن أتناول الفطور معكِ..

-مرام.. حبيبتي.. الى متى ستبقين منطوية على نفسكِ بهذا الشكل؟

فالتفت اليها مرام وبالكاد تكتم عصبيتها:

-أليس أفضل من أن اصرخ بوجهكِ أمي؟.. لِما لا تدعيني أكتم غيضي وغضبي مما فعلتموه بحياتي بدل أن أفرغها بأي شيء يقف بطريقي؟

ثم قالت ببكاء لم تدرك سببه ولكنها عرفت أن له صلة برامي بالتأكيد.. فكل شيء يتبعثر بداخلها باليوم الذي تتحدث به اليه ولا شيء يسيطر عليها سوى رغبتها في البكاء:

-أشعري بي لمرة.. لمرة أمي!

-لم أتعمد بيوم أذيتكِ..

-ولكنكِ فعلتِ.. أليس من حقي اتخاذ أي رد فعل؟!

تنهدت سعاد بتعب وخرجت بصمت مغلقة الباب خلفها بعصبية.. انه النقاش عديم الجدوى ذاته!
جلست مرام فوق سريرها تكمل بكائها وجزء منها نادم لأنها تحدثت لأمها بهذه الطريقة وجزء اخر يعلم أن نوبات الغضب هذه والبكاء سببها رامي لا غير!

وعلى ذكر رامي قامت بالنظر الى ساعتها باستعجال وقد تذكرت أن اليوم هو موعد اتصالها بأمجد وقد اغفلت ذلك نتيجة انشغالها بالتفكير برامي دون تذكر الاتصال من أي هاتف عمومي على طريقها.. كانت الساعة تشير الى التاسعة والنصف لذلك قامت بارتداء سترتها مرة اخرى باستعجال وخرجت من الشقة دون أن تكلف نفسها عناء اخبار امها بذلك وذاتاً قد اعتادت سعاد على ذلك..

سارت بضع مترات بعيداً عن شقتها حتى وصلت نحو هاتف عمومي فاتصلت برقم أمجد الذي تحفظه لكثرة تواصلها معه
رد عليها بعد الرنة الثانية وهو يقول:

-لقد تأخرت بالاتصال هذه المرة

-أعتذر لذلك.. كنت مشغولة بعض الشيء.. هل من شيء جديد؟

-بل اشياء.. لقد صدر أمر اعتقال بأخوتكِ وهم الان خلف القضبان وموعد جلسة محاكمتهم الاولى في الخامس والعشرين من هذا الشهر..

كانت جملة أمجد كافية لتزعزع لها ثباتها وتجعلها ترفع رأسها بفزع محدقة بلوحة مفاتيح الهاتف دون تركيز فعلي.. هل حقاً ما قاله أمجد؟ هل كابوسها الحي خلف القضبان بعد كل هذه السنين؟ هل يمكن لأشخاص بهذه القوة أن يتم احتجازهم فعلياً؟..

بلحظة واحدة مرّ شريط السنين المنصرمة أمامها.. من مقتل سامي الى يوم ضربهم لها وصراخها.. شعرت بكل كدمة بجسدها تعود لتؤلمها مرة اخرى وكأن ما حصل قد وقع قبل لحظات.. ومن دون إرادة منها لم تجد نفسها إلا وهي تهوى على ركبتيها داخل كابينة الهاتف مغلقة فمها بإحكام تمنع صوت بكائها العالي من جذب الانتباه اليها.. شعرت بصخرة سيزيف التي كانت تستقر على صدرها بدل ظهرها قد انزاحت واخيراً..

منحها أمجد بعض الوقت وقد أدرك تأثير هذا الخبر عليها ثم قال بعد ثلاث دقائق حين بدأت حدة بكائها تخف قليلاً:
-لا ألومكِ.. لقد عشتِ معهم أمرّ السنين
كفكفت دموعها وقالت بصوت لا يزل مخنوق بالعبرة:

-وماذا الان؟ هم لن يخرجوا من السجن بعد أليس كذلك؟

-ليس قبل عشرين سنة على الاقل بفضل الادلة والملفات التي زودتنا بها أمكِ بالاضافة الى كل ما جمعناه ضدهم خلال هذه السنتين حين كان التحقيق جارياً وكل شيء يخصهم في متناول أيدينا.. ولكن نحتاج حضوركِ من أجل الادلاء  بالشهادة.. فقضيتكِ معهم مطروحة من ضمن القضايا.. قضية خطفكِ وإجباركِ على المكوث في منزل رامي

فردت بتفاجئ:

-ماذا؟ لكنك تعلم إني لا استطيع الحضور لأن اول تهمة سيوجهها لي محاميهم هو مساعدتي لهروب أمي وتستري على مكانها وهذا كفيل بالقبض علي لحين اعترافي بمكانها..

-والحل؟

-لا أعلم علي التحدث مع محاميِّ.. ولكن عدم قدومي لن يكون سبب بالأفراج عنهم أليس كذلك؟

-بالطبع لا.. ولكنه سيصعب موقفهم أكثر وسيضيف لهم بضع سنين اخرى في السجن..

-لا أعلم.. لكن أمر قدومي صعب جداً..

-حسناً.. لقد اخبرتكِ بموعد المحاكمة.. أن استطعتِ القدوم فهذا أفضل وأن لم تتمكني فلا بأس..

-حسناً..

ثم ختمت المكالمة والارض لا تكاد تسعها من الفرحة.. شمت الهواء بنفس عميق جداً فور خروجها من الكابينة وقد شعرت لأول مرة منذ سنين أنه يدخل رئتيها فعلاً دون أن يتوقف في المنتصف ويعود أدراجه!
تود لو ترقص وتركض الان في وسط الشارع وتحضن كل من يقابلها.. تتمنى ان تشرق الشمس وتغرد العصافير طرباً وتعود طفلة لتقفز بالأرجاء.. تود أن تصرخ فرحاً لولا حيائها الذي يمنعها.. لقد تذوقت السعادة لأول مرة بعد فترة طويلة وعرفت كيف يكون طعمها فعلاً بعد سنين من الحرمان والوجع!

*****************************************

الخامس والعشرين من أبريل.. يوم مهم للكثيرين وأولهم رامي.. فبالنسبة له حتى وأن لم تكن قضية أبيه مطروحة لأنه لا يملك دليل عليها فقد كان يكفيه أن جرائم اخرى وادلة ضدهم ستأخذ له حقه..

كان يقف في ردهة المحكمة مع أمجد ينتظر بدأ الجلسة فقال بخيبة ظن اثناء ذلك قاصداً مرام:

-ألم تتصل بك بعدها؟

-لا.. اخر ما قالته أنها لن تتمكن من الحضور.. ولكن أتمنى أنها قد تجد طريقة لتفعل ذلك.. أعني أن ما فعلوه بها لن يحاكموا عليه من دون حضورها وشهادتها

اومئ برأسه موافقاً وقد اعتصرت روحه وليس قلبه فقط.. فالمحاكمة كانت اخر امل له برؤيتها مرة اخرى في هذه الحياة.. وهذا الامل قد تم اغتياله أيضاً..

وقف محبطاً يستمع من دون تركيز لحديث أمجد حول مجرى القضية وهو يومئ برأسه فقط مدعياً انتباهه لما يقول.. ولكن عبارة واحدة من أمجد كانت كدلو ماء بارد يسكب على رأسه في أشد ليالي الشتاء برودة.. "أتت"..

فقال بتشتت وصدمة:

-ماذا؟

كان يمكنه الالتفاف ليتأكد مما سمعه من أمجد وينظر الى حيث الموضع الذي يحدق به أمجد بابتسامة فرح.. كان يدرك أنها عند نهاية مد بصر أمجد.. ولكنه لم يتمكن من فعل ذلك!
خشي أن ينظر ويكون من سمعه خاطئ ولا يجدها هناك.. أراد البقاء لثواني دون الالتفات ليعيش سعادة وهمية خلال هذه اللحظات من انها اتت فعلاً دون أن ينظر فيتبدد سراب أمله المؤقت

أعاد أمجد جملته بتأكييد:

-مرام.. لقد اتت!

وهنا لم يعد مجال للشك.. التفت بلهفة ليقع بصره عليها.. أغمض عينيه للحظات وعاد ليفتحها.. انها هناك فعلاً .. هذا ليس وهم اخر من عقله كما المرات السابقة.. هذه حبيبة القلب فعلاً تسير باتجاههم بكل رصانة وهيبة بملابسها السوداء وتنورتها القصيرة مع الجوارب السوداء والحذاء ذو الكعب العالي.. هذه ليست مرام ذات النظرات الخائفة دائماً.. لقد ازدادت نظراتها حدة واكتست ببعض البرود بوجه خالي من الابتسامة .. هل زج أخويها بالسجن زودها بهذه الجرأة؟.. أم للسنتين وما مرت به دور فيما هي عليه الان؟.. أم بسببه هو بحد ذاته؟
طالعها بعيون مشرقة مليئة بالحب واللهفة.. لقد ازدادت جمالاً عمّا كانت عليه!

تبسم ابتسامة خفيفة دون وعيه وهو يفترسها بنظراته المليئة بالشوق.. اقتربت منهم ففاح عطرها الذي افتقده بشدة فاغمض عينيه واتسعت ابتسامته ليسحب نفساً عميقاً ويشبع صدره برائحته.. فتح عينيه ليلتهم ملامحها القريبة وهي تلقي التحية برصانة على أمجد وتسأله عن الحال دون الالتفاف لرامي.. أدرك أنها تتجنبه كي لا تفضح شوقها وارتباكها.. أدرك توترها من احمرار اصابعها البيضاء وهي تعصر بينهم حزام حقيبتها بقوة تحاول ادعاء التماسك.. فبادر هو بالقول:

-مرحباً مرام..

كانت نبرة مفرطة بالحنين والشوق تطلعت نحوه للحظات بعيون باردة ثم قالت بنبرة جامدة:

-اهلاً رامي.. كيف الحال؟

وبدل أن يرد على سؤالها بادرها هو بواحد:

-كيف حالكِ أنتِ؟

تبسمت بمجاملة وقالت:

-بعد القبض عليهم؟.. لابد أن أكون بخير!

بادلها ابتسامتها بواحدة أكثر حباً وقال:

-يا رب تدوم سعادتكِ..

اومأت ممتنة ونظرت نحو أمجد الذي قال:

-بخصوص أمر أمكِ.. كيف نصحكِ المحامي بتجنب هذا السؤال؟

-لم ينصحني بتجنبه في الحقيقة بل الاجابة عليه

-هل ستخبريهم بمكانها؟

-لا

-هل ستكذبين وأنتِ تحت القسم؟

-أيضاً لا

-إذاً..؟

تبسمت وقالت:

-لا يجب أن أخبرك بهذا سيد أمجد فأنت ستخضع للشهادة تحت القسم ايضاً ولا أريد المجازفة بأن يطرحوا عليك سؤالاً يخصها

اومئ بتفهم وهو يقول:

-أنتِ محقة!

نادى الشرطي الذي يقف عند باب قاعة المحكمة برقم القضية واسم المعنيين بها فتوجهوا نحو الدخول للقاعة.. جلس الثالثة بجانب بعضهم وأمجد يتوسطهم ثم بدأ دخول المحاكمين.. أولهم زيد وعلاء.. نظر كلاهما نحوها.. علاء بغيض وعتب وأما زيد فبكره وسخرية وكأنه يتوعدها.. جلسوا في أماكنهم فدخل القضاة ليقف الجميع احتراماً.. بدأ المحامين عملهم من الطرفين وبدأت الادلة تقدم مع وضد وينادى على الشهود الواحد تلو الاخر الى أن وصلوا للشاهد الاهم.. الاخت!

قامت وقد شعرت بقلبها يخفق بسرعة وسط حنجرتها وليس في صدرها ورفعت يدها بارتجاف للقسم بصوت بهزوز ثم احتلت  كرسي الشهادة فبدأ المدعي العام بسؤالها:

-انسة مرام.. هل تم وبتاريخ السادس عشر من ابريل قبل سنتين بالضبط من الان اختطافكِ وتعذيبكِ وتهديدكِ من زيد عادل سيف الدين وعلاء عادل سيف الدين أخوتكِ من أبيكِ للحصول على ادلة من منزل السيد رامي عصام؟

-نعم حصل

وهنا وقف محاميهم وهو يقول:

-اعتراض سيدي القاضي.. الشاهدة ركبت معهم بأرادتها وهذا لا يعتبر اختطاف

فردت مرام:

-لأنهم اخبروني أنهم يريدون التحدث معي حول منصبي بالشركة ركبت معهم

-دام انه بأرادتك فهذا يسقط عنهما تهمة الاختطاف

فرد المدعي العام بعصبية:

-لقد اعطوها مخدر واخذوها لمكان غير المتفق عليه.. هل يمكننا تعريف الاختطاف سيادة القاضي غير ذلك؟

فرد القاضي على محاميهم:

-اعتراضك مرفوض

عندها أكمل النائب العام اسئلته لمرام:

-هل تم ضربكِ حد الاغماء من كليهما أم من أحدهما؟

-من كلاهما سيدي

-وهل يمكنكِ أخبارنا لماذا لم تخبري السيد رامي بهذه القصة؟ وهل أخذتِ الادلة حقاً وقمتِ بتسليمها لأخوتكِ؟

-نعم فعلت بالاتفاق مع السيد أمجد من أجل ايقاعهما.. ولم أخبر رامي بذلك خشية من فشل العملية

-انتهت اسئلتي سيدي القاضي

حينها وقف محاميهم فوراً مبتدئاً باسئلته:

-انسة مرام.. هل لديكِ أي دليل يثبت أن زيد وعلاء هما من قاما بضربكِ؟.. أعني قد تكوني ركبتِ معهما.. وقد يكونا اختطفاكِ كما يقول سيادة المدعي.. ولكن ما الذي يثبت ضربهما لكِ؟ ربما أنتِ من فعلتِ ذلك بعد رحيلهما لتوقيعهما في مشكلة؟

-هل يكفيك مقطع فديو بالصوت والصورة حضرة المحامي؟

حينها نظر زيد وعلاء بتفاجئ لبعضهما ثم لمحاميهما الذي التفت اليهما مستغرباً لعدم معرفته بوجود دليل كهذا ثم التفت نحو مرام وقال متلكئاً:

-هل يمكنكِ الايضاح أكثر؟

أمالت جسدها قليلاً نحو حقيبتها التي تضعها عند قدميها واخرجت رقاقة الكترونية قدمتها للشرطي المسؤول وقالت:
-هذا تصوير لي بمكتبي يجمعني بزيد وعلاء فور عملي بالشركة بعد اختطافي اتناقش معهما حول ليلة اختطافي وضربي وسترى أن زيد يقول بتهديدي بالضرب مرة اخرى في الفديو

فقال المحامي فوراً معترضاً قبل أن يستلم الشرطي منها الرقاقة:

-سيادة القاضي.. تعلم أنه لا يؤخذ بأي فديو أو صوت كدليل ما لم يتم أصدار مذكرة تخويل تسمح باعتباره كدليل

فردت مرام ببرود:

-أعلم ذلك.. لقد حصلت على مذكرة من السيد امجد قبل أن أصور هذا الفديو لنعتبره دليل.. فكما تعلم من البداية كنا نخطط للإيقاع بهم.. بالإضافة أن الكاميرات المزروعة في مكتبي تعود للشرطة..

من الملامح المرسومة على وجه زيد أدركت مرام انه على وشك النهوض وقتلها أمام الجميع من دون تردد!

شغل الشرطي الفديو فظهرت مرام فيه مرام وأمامها زيد وعلاء ومن خلال استدراجها لهما بالحديث تحدثا عن تلك الليلة وكيف ضرباها وكيف مستعدين لضربها بطريقة أبشع ان خالفت اوامرهما أو خانتهما.. ما أن أغلق الفديو حتى قال المحامي فوراً:

-بما أنكِ تسعين للعدل بهذه الطريقة ألا تظنين انه من العدل انسة مرام وجود أمكِ في المحاكمة أيضاً؟

فردت ببرودها ذاته:

-أجل أظن ذلك

-إذاً لِما تتسترين عليها؟

ثم التفت نحو القاضي قائلاً:

-سيادة القاضي.. أن التستر على مجرم هارب يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون

فردت مرام:

-هذا في حال تستري عليها سيادة القاضي

حينها سألها القاضي:

-وأين هي المتهمة سعاد بسام؟ ولا تنسي أنكِ لا تزالين تحت القسم

-لا أعرف أين هي الان أو أين تسكن.. نحن نعيش متفرقين سيدي

فأكد المحامي على جوابها:

-أتعنين أنكما لم تهربا معاً؟

-بلا فعلنا ولكن بكل الحالات كنت سأهرب خوفاً من اخوتي وصادف وجود أمي معي ولكن نحن لا نعيش معاً لذلك لا اعتبر متسترة عليها

أدرك المحامي في لحظتها أن لا جدوى من كل هذه الاسئلة.. هذه المحاكمة قد تم التخطيط لها منذ سنتين مضت ومرام مستعدة لأي سؤال وأن زيد وعلاء هالكين لا محالة.. لذلك انسحب من النقاش دون اسئلة إضافية ومنحهم القاضي نصف ساعة للاستراحة..

خرجت فوجدت أمجد ورامي يقفان معاً وعلى وجهيهما ملامح السعادة والحماس فقال أمجد فور وصولها لهم:

-فكرة أمكِ عبقرية.. كيف فعلتها؟

بادلته ذات الابتسامة وقالت:

-لقد نصحني المحامي أن تغير أمي مكان أقامتها دون أن أعرف أين ستسكن لذلك حين أكون تحت القسم لن أكذب حين أقول إني لا اعرف مكان أمي.. فأنا حقاً لا اعرفه!

تبسم أمجد وهو يخرج هاتفه ويقول:

-خطوة ذكية حقاً من محاميكِ.. عن اذنكما علي الاهتمام ببعض الاشياء

ورحل مدعياً التحدث بالهاتف وكلاهما يدرك أنه يريد منحهما بعض المساحة الشخصية..
بالنسبة لها كان الامر مربكاً بقائها بمفردها معه بعد هذا الوقت كله.. أما بالنسبة له فكان الامر أشبه بالحصول على الجنة بعد حساب عسير!

حدق بملامحها لوهلة يحاول أشباع عينيه منها دون أن يتمكن من ذلك.. لطالما جذبته ملامحها الهادئة والحزينة.. لطالما أحب النظر داخل عينيها وشعوره بكل ذلك الحب الذي يكمن خلفهما.. ولكنها الان تتجنب حتى التقاء البصر.. حرمته حتى من هذا!

-ألم تسامحيني بعد؟

قالها بانكسار فنظرت له للحظة قبل أن تجيب:

-رامي عصام؟.. أجل سامحته وعذرته على كل شيء فعله لأنه كان من حقه ..

-وهل هناك رامي آخر عليكِ أن تسامحيه غير رامي عصام؟

فقالت بخيبة ظن:

-أجل .. رامي الذي أحببته.. الذي عشت معه طوال تلك الشهور وأطعته.. رامي هذا لم يحصل على غفراني بعد.. ولا أظنه سيحصل

-لماذا؟

-لأننا نعاقب على مقدار حبنا يا رامي.. كلما كبر حبنا كبر عقابنا

قال بندم فعلي:

-هل هناك طريقة لجعلكِ تسامحيني يا مرام؟.. أي طريقة!

-الخذلان شيء يصعب علاجه بسهولة.. لا سيما أن بدر من أشخاص لم نخذلهم ولا مرة

أخذ نفساً عميقاً وتلفت من جانبيه وكأنه يبحث عن الهواء ولا يجده.. هي الان أمامه ولكن لا يعلم كم سيحظى بوقت لتبقى أمامه دون أن تختفي من جديد وهذه المرة الى أبدية محتومة.. شعر بنفسه مكبلاً عاجزاً عن فعل أي شيء ليحافظ عليها وهذا بحد ذاته كان خانقاً..

التفت اليها وقال بنبرة متوسلة ومنفعلة:

-إذاً عودي.. على الاقل هنا يمكنني المحاولة الى أن تسامحيني

-تعلم أنه لا يمكنني ترك أمي

-دعيها تزوّر أوراقها وتعود.. تعلمين أن القوانين في دولتنا فاشلة ولن ينتبه أحد ذاتاً لعودتها

فالت بحسم:

-سأفعل ذلك أن كنت أريد العودة

-ماذا تعنين؟

-يعني أنني لا أريد العودة رامي!

-لِما لا؟

فقالت بانفعال:

-أعود وأترك كل شيء بنيته لنفسي خلال هذه السنتين ببساطة فقط لأن رامي قال "عودي"؟ هل تراني شيء بهذه السهولة متوقف على كلمة واحدة منك تصدر لينفذها؟

-ليس هكذا يا مرام.. ولكني أفتقدكِ.. أفتقدكِ بشدة

-وماذا إذاً؟.. لطالما افتقدتك ورغم هذا استطعت العيش ومواصلة حياتي طوال كل تلك السنين من دونك وكذلك انت الان يمكنك فعلها

نظر لها بعيون تائهة ثم قال:

-منذ متى بالضبط تخليتِ عن حبي وأصبحتِ باردة بهذا الشكل؟

قالت وقد لاحظ التماع عينيها وتعثر الصوت في حنجرتها:

-لم أفعل يا رامي.. وسأكذب أن قلت إني نسيتك.. لكني فقط تأقلمت مع غيابك.. أعتدت هذا الألم الذي يخلقه فراقك.. لا أريد بعد هذه المحاربة الطويلة والموجعة ضد نفسي لأعتاد هذا الألم أن أعود بعد كل ذلك للبداية وأمنحك فرصة اخرى ربما ستبذرها بكل قلب بارد كالمعتاد من أول موقف أكون فيه غير مثالية..

-لن أفعل صدقيني.. لقد تغيرت ..

تبسمت بتهكم ثم قالت:

-أتعلم إني كنت أعلم أن هذا سيحصل؟

ثم أكملت فوراً بعيون باردة وساخطة:

-من أنك ستبدأ بحبي في اللحظة التي سأتخلى فيها عنك.. في الواقع جميع الرجال هكذا.. دام أنك تملكني فلن تقدر قيمة حبي إلا بعد أن تفقده..

وقف في مكانه تطغى عليه النظرات الباهتة بينما يشاهدها ترحل من امامه بعيون دامعة أدرك أنها تهرب لتذرف ما بهما.. يود فقط لو يسحبها وسط هذه الحشود الغفيرة ويضمها بين ذراعيه بقوة ويشعر بنبضات قلبها القوية تقرع صدره الذي يعلو بالضجيج من نبضاته هو.. يتمنى لو يجثو على ركبتيه طالباً منها السماح لعلها ترأف بحاله وتبقى ولن ترحل مجدداً.. راقبها تبتعد وتبتعد لتختفي بين الحشود.. شعر بالهواء يضيق ولم يعد يسعفه للتنفس.. هل سيتركها ترحل  مجدداً ويحكم على نفسه بالتعاسة الابدية فقط لأنه أجبن من أن يحارب من أجلها؟

وفجأة وجد نفسه يسير اليها بسرعة ويمسكها من عضدها ويديرها نحوه لتلتفت اليه بفزع وتفاجئ فقال بإصرار وحسم وهو يطالع عينيها الجاحظة بعدم فهم بعينيه الواثقة مما يقول:

-سأمنحكِ الابدية لتفكري بمسامحتي.. وسأبقى طوال حياتي أنتظر عودتكِ.. لن أتخلى عنكِ هذه المرة.. أنتِ ستكونين لي.. ولي فقط!

السؤال الوحيد الذي بقي متشبثاً برأسها بقوة طوال ما تبقى من الجلسة.. هل هذا رامي حقاً؟ أيفعل كل هذا ليحافظ عليها فقط؟.. كانت مشتتة لدرجة حتى حين نطقوا الحكم بحق اخويها كانت ملامحها تبدو فارغة من أي تعبير وكأنها بعالم اخر بعيد عنهم..

حتى في لحظة رحيلها لم تلقي ولا حتى نظرة عابرة عليه.. في الوقت الذي ظن أنها لم تعد تطيق النظر اليه، هي كانت تخشى ان تلمح وجهه المليء بالحب فتتهدم كل أسوار عنادها وتترك كل شيء خلفها لتبقى معه .. خشيت أن يكون قرارها لحظة غلطة عاطفية وتندم عليه لاحقاً.. لذلك أرادات التفكير به ملياً قبل أن تجازف بخطوة كهذه ويخذلها من جديد..

*****************************************

كانت تلك أكثر الكلمات المجنونة التي سمعتها من رامي قبل أن يفترقا مجدداً قبل شهرين وتعود من حيث أتت.. هي جملة واحدة قالها ولكنها كانت كفيلة بزعزعة كل شيء ثابت بداخلها.. كلما أدّعت أنها اعتادت غيابه فجرت لها هذه الجملة براكين الشوق واللهفة اليه.. بعد كل هذه السنين من الحب هي أدركت انهما فاشلان بفراق بعضهما.. بعض الحب كاللعنة التي ستكون واقعة لا محالة وعليك الخضوع لها..

أما هو فكان يعيش على أمل تارة يبدو كالسراب الذي صنعه بنفسه وتارة اخرى يكون واقع يكاد أن يقع بعد لحظات..
ليالي كثيرة يصيبه الارق والقلق من أن مرام لن تعود أبداً وقد أسست حياتها بعيداً عنه وعن كل شيء يخصه..

وجزء اخر في قلبه يخبره أن الذي يحب من المستحيل أن يقوى على الفراق الابدي.. ومن المستحيل أن تقلع حب سبع سنوات من قلبها بهذه السهولة ولا بد أن تعود في يوم!

بدأ الصيف يزداد حرارة وبدأ اغسطس يفرض نفسه بقوة على الايام وكأنه يتفاخر كم ازداد حرارة عن السنة الماضية.. كان يكره الصيف بشدة ويفضل الشتاء على كل المواسم ولكنه مع الاسف مضطر أن يعيشه الى أن يحلّ أكتوبر بلياليه ذات النسمات الباردة..

طلب كوب اخر من عصير البرتقال الطبيعي والبارد وعاد ليغرق وسط ملفات العمل التي أصبح يفضل العمل عليها في المقهى الجديد الذي افتتحوه هذه السنة ذو الاجواء الهادئة التي تساعده على التركيز مع بعض العصائر المنعشة التي يعيد تجديدها كل نصف ساعة..
شعر بوقوف أحدهم على يمناه فظنه النادل أحضر له العصير فلم يرفع رأسه واستمر بالكتابة.. ولكنه فجأة توقف.. هذا العطر!

عندها رفع رأسه بدهشة وقلب مضطرب وعيون جاحظه وشفتان مفترقتان عن بعضهما لا يكاد ينطق حرف من أسمها حتى يبتلع بقية الحروف عاجزاً عن اكمالها!

تبسمت تلك ابتسامتها الخجولة التي لطالما أُغرم بها وجلست أمامه تحمل بيديها كوبين من القهوة وقالت بنبرتها المترفة تكاد الحروف أن تخدشها لرقتها:

-مرحباً..

فقال بتلكئ وابتسامته ترتسم شيئاً فشيئاً على وجهه:
-أنتِ..

ولم يستطع التكملة فقالت بينما تدفع كوب قهوته اليه:

-أعلم ان حرارة الجو تتطلب عصير.. ولكن لن يكون الامر رومانسي أن دعوتك لكوب عصير.. القهوة تمثل الرومانسية الكلاسيكية أكثر.. ألا تظن ذلك؟

وكذلك أخرسته صدمته بحضورها عن الرد بشيء فأكملت هي بينما تتورد وجنتيها:

-أنا مرام عادل بالمناسبة.. لاحظتك من آخر المقهى وقررت دعوتك لنحتسي كوب قهوة لعلك تكون لطيفاً وتخبرني بأسمك ثم بعدها نخوض حديث عابر يجعلنا نحب التواجد معاً فنتفق على موعد بيوم اخر لنلتقي به.. ومن يعلم؟ قد تقع في غرامي وتبقى معي لأكون فتاة المقهى الغريبة كلياً التي دعتك لكوب قهوة فامتلكت قلبك..

ثم قالت بينما الدموع تملأ عينا كلاهما:

-ألا يمكن لقصتنا أن تكون بهذه البساطة من دون ماضي موجع وفراق؟ ألا يمكنك أن تكون مجرد غريب جذب نظري في المقهى فقررت مشاركته كوب قهوة وبعض تفاصيل يومي قبل أن أقع بحبه؟ ألا يمكننا أن نكون أكثر الغرباء معرفة ببعضهم؟

ضحك من وسط دموعه وقال مجارياً اياها:

-أنا رامي عصام ايتها الغريبة كلياً عني.. ويسعدني حقاً أن من بين جميع من في المقهى قررتِ مشاركتي كوب قهوة

ثم مد يده وأمسك يدها وقال:

-هل يمكنني أن أقول أنا أحبكِ قبل أن يقولها أحد غيري ويخطفكِ مني؟

تبسمت بخجل وهي تحرك ابهامها برفق تتلمس كفه الدافئ الذي يعصر يدها بقوة وكأنه يخاف افلاتها فتضيع وقالت:

-هل يمكنك أن تقول "كيف حالكِ" في كل مرة أردت أن تقول "أحبكِ".. فكما تعلم لا نزال غرباء

-إذاً أنا "كيف حالكِ" جداً انسة مرام!!

-وأنا "كيف حالك" أكثر سيد رامي..

لن أقول هنا أن هذه هي النهاية.. بل كانت تلك بدايتهما في حياة لن تشمل " وعاشوا بسعادة الى الابد" بل حياة مليئة بالمشاكل كما هي مليئة بالحب.. ولكن الاهم من ذلك أنها حياة تحويهما معاً..

نهاية كل قصة هي بداية قصة جديدة يمكننا أن نتخيلها كيف ستكون ونعايش أحداثها بخيالنا الى ابديات غير معلومة.. يمكننا أن نعيش نهايات مماثلة كل يوم ثم تبدأ قصة جديدة في اليوم التالي تستحق أن نسرد احداثها..

سيبقون رامي ومرام ومشاكسات رزان وضحكات فادي وخجل أحمد شيء جميل في الذاكرة  قد ملئ بعض الفراغ في يومنا وترك لكل منا ذكرى جميلة وعشنا معهم كعائلة واقعية كما الحال في بقية قصصنا التي جمعتنا معاً وستجمعنا بكل تأكيد قصص اخرى..

أراكم في روايتي القادمة  "كلنا في الحب آثمون".

-النهاية-

تمت بحمد الله في:

يوم: الاثنين

بتاريخ: 2021/4/19

الساعة: 11:57 مساءاً

سارة ح.ش
العراق/ ميسان


Continue Reading

You'll Also Like

333K 28.6K 13
في عالمٍ يملأهُ الزيف غيمةً صحراويةً حُبلى تلدُ رويدًا رويدًا و على قلقٍ تحتَ قمرٍ دمويْ ، ذئبا بشريًا ضخم قيلَ أنهُ سَيُحيى ملعونًا يفترسُ كلُ منْ ح...
5.4M 158K 105
في قلب كلًا منا غرفه مغلقه نحاول عدم طرق بابها حتي لا نبكي ... نورهان العشري ✍️ في قبضة الأقدار ج١ بين غياهب الأقدار ج٢ أنشودة الأقدار ج٣
865K 87.2K 30
في وسط دهليز معتم يولد شخصًا قاتم قوي جبارً بارد يوجد بداخل قلبهُ شرارةًُ مُنيرة هل ستصبح الشرارة نارًا تحرق الجميع أم ستبرد وتنطفئ ماذا لو تلون الأ...
1.3M 22.9K 61
نتحدث هنا يا سادة عن ملحمة أمبراطورية المغازي تلك العائلة العريقة" الذي يدير اعمالها الحفيد الأكبر «جبران المغازي» المعروف بقساوة القلب وصلابة العقل...