36

786 10 0
                                    


الجــــزء الســــادس والثلاثــــون

،

لا أحَدَ قرأ قصائدي عنكِ
إلاّ وعرفَ مصادرَ لغتي
لا أحدَ سافر في كُتُبي
إلا وَصَل بالسلامة إلى مرفأ عينَيْكْ
لا أحَدَ أعطيتُهُ عُنْوانَ بيتي
إلا توجَّهَ صَوْبَ شفتيكْ
لا أحَدَ فتحَ جواريري
إلاّ ووجدكِ نائمةً هناكَ كفرَاشَهْ
ولا أحدَ نبشَ أوراقي
إلاَّ وعرفَ تاريخَ حياتِكْ


لـ نزار قباني


اوقف سيارته وسط باحة منزل جد ابناءه تحديداً امام الباب الداخلي الضخم للمنزل كان ينتظر ابنه زايد ليعطيه حقيبته التي نسيها في الصباح ..

وبينما هو ينتظر بضجر .. سمع هاتفه يرن ..
قطب حاجبيه بعد ان جهل هوية المتصل من الرقم الغريب الواضح على الشاشة ...
رفع هاتفه واجاب بهدوء: ألوو
..
:هيه نعم ختيه وياج احمد بن خويدم
..
تحولت نظرته للشر وهو يهتف بفظاظة: خير شو بغيتي ..!!!
..
ابتسم بازدراء شديد وقال: تبين ترمسينيه في سالفة ..!!!
ماعرفج انا عسب تستوي امبينا سوالف ..
..
استحالت نظرته للظلام هاتفاً بتحفز ملتهب: بلاها عوشة ..!!!!
..

لم تصله من المتصلة سوى كلمات معدودة كلمات كانت كفيلة بتأجج لهيب اسود في جوفه لهيب سيُحرق الأخضر واليابس حد الترمد السحيق ..

رفع عيناه المظلمتان المتفجرتان "بالشر" نحو ابنه الذي يمشي باتجاهه .. ولـ تلك التي تقف امام الباب منتظرةً عودته ..

ادرك ان لهيبه المستعر في بؤرة قلبه سببه هذا المنزل .....

هذا المنزل الذي انجب منه أحقر مخلوق على وجه الخليقة .....

ومن هذا المنزل سينتزع انتقامه الأسود ...... وحالاً ..!!!

فتح باب سيارته وخرج تاركاً شمس الصيف الحارقة تعكس اشعتها الساطعة على نظارته الشمسية ..

نظر بعينان غائمتان بـ الغضب الماردي الدفين الى ابنه زايد .. ثم هتف بغلظة هادئة احكم ما فيها من "لهيب" بعد ان اعطاه حقيبة ألعابه:
زايد ..
سوليه درب بسلم على يدك


رمقه زايد بدهشة مبتهجة ثم استدار وهو يهتف بصوت عالٍ: ان شااااااااء الله ..

كانت تشاهد من بعيد الأب وابنه يتحدثان ..

لولا خوفها الشديد على ابناء اختها وحرصها على اللحاق بهم اينما ذهبوا لما خرجت خلف زايد وسببت المزيد من العذاب لكرامتها برؤية من اهانها قبل ايام معدودة ..

لما اجبرت نفسها على عدم التقيؤ من فرط حقدها وهي تنظر لوجهه الوسيم وطلته الخاضعة للمهابة ..!!!

إلتمعت عيناها ببغض وهي تتذكر اهانته ..

هه .. ما فائدة الرجولة التي تمتلكها وانت بكل صفاقة تهين امرأة ..!!!!

اكرررهك ....

اكررررررررهك ......

: خالوووووه خالووووووه ..

زفرت زفرةً اخرجت ما فيها من غضب/استياء ثم تراجعت بجسدها وهي تفتح الباب كاملاً لـ زايد: عيونها انته ..

هتف زايد بوجهه المحتقن من اثر حرارة الجو وقال: خالوه دخلي داخل .. ابويه يبا يسلم على يديه ..

تغضنت جبهتها ورغبةً كبيرة تتملكها للخروج وطرد الرجل من المنزل بعد ان تلقنه درساً قاسياً بالاخلاق ..

هتفت بحدة وهي تستدير لتذهب الى المطبخ: انا بيلس في المطبخ .. يوم يروح ابوك خبرني ..

ذهب زايد واخبر جده ان اباه يرغب بإلقاء السلام عليه .. ثم بعدها خرج لوالده واشر بيده الصغيرة ان يدخل ..



كوّر بيده الرز حتى غدت كتلة صغيرة ثم دسها في فم الصغير .. كان الجميع يراقبه من غير ان يشعر ..

كان مأخوذاً بفكرة ان الجالس بقربه هو حفيده ..

حفيدٌ له يجري في عروقه دمه .. دم الحر .....

رغم غضبه من فعلة ابنه .. الا انه لا ينكر ابداً امتنانه أنه جلب له هذا الطفل الغالي ..

رفع عيناه بعفوية ثم سرعان ما ارتسم الذهول على ملامحه وهو يهتف بصوت حازم "مرتبك":
بلاكم جيه اطالعوووني ..!!!!

ابتسمت مهرة بحبور شجي لأباها الحنون وهو يطعم عبيد .. ثم قالت بمكر رقيق:
يا حيك يا عبيد .. عبيد العود روحه يلقمك ..

كوّر حمد بسرعة الرز بيده ثم دسه بفم اختها هاتفاً بتسلية: ها اندوج لقمناج انتي بعد .. حشى يابوكم حاسدين الفقير على موتة اليمعه ..

كادت مهرة ان تغص بلقمتها على قهقهات جميع من على المائدة .. ابتلعت الرز بصعوبة قبل ان تهتف بغيظ طفولي:
يالحماااااااار شو هالدفاشه هاااااااااي ... ومنو قالك حاااسده الولد ويه ويهك ..!!!

حمد بذات تسليته المحبوبة: ما يبالها ذكا طاعي ويهج وانتي ترمسين وبتعرفين هههههههههههههههههههههه

اشاحت بوجهها بشكل درامي ثم قالت وهي ترمق والدها بنصف عين: كلن يرى الناس بعين طبعه حبيبي ..
ومن شو بغار يعني .. اصلا محد يروم يشل باباتي عنيييييي ..

ضحك والدها وهو يطعم عبيد مرة اخرى ... ولم يعلق ..

شعرت مهرة بالغيظ لان والدها لم يساعدها في رفع شأن مكانتها لديه امام حمد الساخر .. صاحت بغيظها:
باباااااااا قووووول شي يااااااخي ..

جفل الجد ابا عبيد الذي كان يأكل بصمت .. ثم زمجر بغضب شديد: غربل الله بلييييييسج يالهرررررمة .. صميييتي اذنيييه ..

حارب أبا نهيان ضحكته هو يقول: ها شو فيج تباغمين انتي ..!!

زمت فمها بغنج غاضب ثم قالت: مابااااااا .. شحقه مخلي ولدك يتمصخر عليه ..!!

أبا نهيان وقد تحولت نبرته الهادئة لحزم مصطنع: حمد يوز عن مهاري ..

مهرة بـ قهر: باباااااااااااااا ..

رفع كلتا حاجباه واجاب بصوت عال مستنكر: هاااااااه .. ترى قلناله ايوز عنج ...

حمد: ههههههههههههههههههههههههههههههههههههه

ضربت الأرض بقدمها وهي تكاد تبكي: قوله ان محد يرووم يشلك عنيييييي ..

فتح ابا نهيان ثغره وقد استوعب اخيراً ما قالته: ايوووووا ...

استدار لإبنه وقال مكرراً حزمه المصطنع: حمدوووووه يوز عن مهااااااري .. محد اصلا يروم يشلني عنهااااااا

حمد: ههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه بحاول اصدقك ..

ادخلت بفمها قطعة دجاجة وهي تغمغم بتهكم حاد: ماعليه يا حمدوه بردها لك .. ماعليييييه ..

: السلام عليكم ..

رد الجميع سلام فلاح الذي دخل لتوه المنزل مزيحاً عن رأسه قبعته العسكرية قائلاً بارهاق: ميت يووووووع ..

تحركت والدته من مكانها على الارض لتعطي له المساحة الكافية ليجلس ثم قالت بحنان عبق:
علنيه افدااااااك يا ربيه .. ايلس ايلس مسوتلك بشاميل .. ادريبك تحبه ..

جلس فلاح بقربها وهي تضع بعض من أكلته المفضل على صحنه ...

تذكرت في هذه اللحظة ابنها البكر .. وشعرت بغصات الألم تجتاح مجرى تنفسها من جديد ..

آه ... تشعر ان الدنيا تضيق يوماً بعد يوم عليها والسبب زوجها الذي مازال لم يغفر لـ ابنه خطيئته ..!!

اخرجها من فكرها الحزين صوت ابنتها التي سألت بمكر: امايه متى بنظهر اليوم ..؟!

هتف حمد بعفوية: على وين ..؟!

اجابت والدته بهدوء: تبا تتشرى لبس حق حفلة حرمتك ..

رمش بعيناه بسرعة بشكل اثار ضحكة مهرة الماكرة والتي قالت محركةً عيناها بتلاعب شديد: بعده الريال هب مستوعب ان عنده حرمة هههههههههههههههههههههههه

تنحنح بخفة متجاهلاُ ما قالته اخته .. ثم سأل بخشونة ابطنها بمشاعر تنضح لهفة/توق:
متى الحفلة ..!!

ام نهيان: هالاسبوع .. الخميس ان شاء الله ..

ابتلع فلاح لقمته وهتف بمزاج امتزج بالغزل "النادر": شمعنه مهاري شيخة البنات مالها حفله هي بعد ..!!

رمت مهره ملعقتها فجأة وحركت يديها بطريقة مسرحية والقلوب تتطاير من عينيها الجميلتين:
ويعلنيه افدااااااا شيخ الرياييييييل فلاح بن عبييييييد ..


ضربت كتف حمد مضيفةً بتهكم مغتاظ: تعلم تعلم يالدفش ..

فلاح: ههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه

مهرة: سلمك الله يا الغالي انا مابااا .. ما فيه على العزايم والحفلات والخربطان .. وتعالي دوري فستان .. وسيري اشتري نعال .. وسيري حجزي اكل وقاعة وماعرف شووو .. لا لا ما فيه مووووول ..

رفع فلاح كلتا حاجبيه بتعجب وهتف: عجيييب .. اي بنية مكانج وناجحة ما بيكون ها ردهاااا

غمزت لشقيقها بشقاوة ثم قالت بغرور مصطنع: بنت عبيد مفندة عن باجي البنيات طوليه بعمرك ..
(مفندة = مميزة/ليس لها شبيه)

حمد: رووووووح يا مفند انته ..

رفع فلاح كفه هاتفاً ببسمة جانبية جذابة اورثها لتلك التي تحدثت بكل ثقة قبل ثواني: وانا اشهدددددد ..



فتحت باب المنزل وعيناها تقدحان غيظاً/كرهاً/ألماً ..

الذي فعله بها اليوم بطي كسر في وجدانها شيئاً لا ينجبر ..

شيئاً جعلها تتعرى ... جعلها تشعر وكأنها حيوان قذر مرمي في الشارع .....!!

اذاقها مرارةً متدفقة وكأنها لم تذق في حياتها الا طعم السكر ..

جعلها تشعر باليتم وكأنها لم تشعر به رغم وفاة والدها ..

جعلها تشعر لأول مرة انها .......... لا شيء .... لا شيء بمعناه الحقيقي ... والملموس .....!!

ولوهلة فقط ...... ووسط كرهها لـ بطي .... شعرت بالكره العنيف لذاتها .... لـ غبائها .....

لو انها لم تذهب ذلك اليوم لـ مسكن بطي ... وتطلب مفتاح شقته من الأمن ..... لما آلت الأمور في النهاية ضدها ...

لو انها حاربت رغبتها المجنونة في الدخول لـ شقته والولوج لحياته "رغماً عنه" بمعرفة كل تفاصيله الصغيرة والكبيرة .. رائحته الملتصقة في كل قطعة في المكان ..... وبصماته القابعة في كل ركن .. وحائط .... طاولة ...

لو انها حاربت رغبتها النرجسية المتعجرفة بالاحساس بنفسها "ما ان تكون واقفة في مملكته الخاصة" تكاد تصل لمبتغاها ... وتكون زوجته وحبيبته ...

تكون ذات قيمة وشأن ... وعلى يديه ....

لما حصل كل هذا .... ولما شعرت الآن ..... بأنها خسرت الكثير .... الكثير يالله .....

صرخت بحدة سببت بحدوث صدى في ارجاء المنزل كله ... وسرعان ما اقتربت منها والدتها وهي تسألها عن سبب غضبها بذعر ... الا ان الأخيرة صرخت بذات صوتها الحاد .... المقهور حد الوجع:
ما فييييييه شي .. ماااااااااااا فيه شي ....

ارتعدت اوصال والدتها لصراخ ابنتها العنيف الصادم .. وكررت تساؤلها وقلبها يرتجف خوفاً على ابنتها لا منها:
يـ يـ يا امايه شو فيييييييج ..!!! شو مستوي عليج بسم الله ..!!!!

رمقتها ابنتها بعيناها اللامعتان بالدموع المتجمدة .. ثم صرخت بهستيرية:
قلتلج ماااااااا فيه شيييي انتي ما تسمعييييييييين ..!!! ما تفهمييييييييين ...!!!!!!

نزعت عنها حجاب رأسها ورمته على الارض قبل ان تدخل الحمام وتغلق بابه بقوة خلفها ..

اخذت ترش الماء على وجهها المحتقن وصدرها يغلي بمشاعر لم تصدق بأنها ستتذوقها يوماً بهذه الوحشية ..!!!

كانت غاضبة .. غاضبة حتى شعرت للحظة ان دماغها سيتوقف عن العمل وتموت ..!!!

ظلت في الحمام فترة ليست بالقصيرة .. وعندما خرجت سمعت انين بكاء تنكسر له الأفئدة .....

علمت ان هذا بكاء والدتها ....

لا تعرف لمَ في هذه اللحظة شعرت بـ حديدة ساخنة توشك قلبها بلا رحمة .. شعرت في هذه اللحظة بأنها ضئيلة ..

ضئيلة العقل .. والقلب .. والروح ..

انها تافهة .. وتفاهتها من وضعتها في موقف خدش كرامتها/انوثتها/قلبها ..

اقتربت من والدتها هامسةً بأسف حقيقي: آسفة امايه مب قصدي والله ..

اعتصر قلبها عندما سمعت همس والدتها الباكي المتهدج بين دموعها المتساقطة:
انتو مب عياااااااليه .. لا والله مب عيااااااااااليه .. لا اشوف منكم نظرة سمحة ولا كلمة طيبة .. تعاملوني جني عدوتكم مب امكم اللي ربتكم وسهرت الليالي وتعبت عليكم ..
شو يااااااكم يا عيال حسن جلبتوووا ..!!! شو يااااااااااااكم ..!!!!

ودخلت في نوبة بكاء مرير تبكي كل من فقدتهم بآسى أفقر قلبها من كل احساس جميل ..

بكت زوجاً راحلاً .. وابناء لم يرحموها ولم يأنسوا وحدتها البغيضة بين أربع جدران ..!!

فلتت منها دمعة وقد هالها بحق منظر والدتها المنكسر وكلماتها التي تزري حالها وفقدها ..

اقتربت بتردد منها ووضعت يدها المرتجفة على ظهرها وهي تهمس بألم شابه ألم حروف امها:
أ أ أمايه .. اسفه .. خـ خلاص .. اوعدج ماعيدها ..
والله ماعيدها ..
آسفة ..

بات من يهواه من فرط الجوى خفق الاحشاء موهون القوىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن