هل سنستيقظ يومًا؟

2.6K 208 22
                                    

"ما الّذي يُقلِقك؟"
سألَته، كما بقيت تفعل منذ أوّل مرة إلتقته فيه.

لم تكُن فتاة كثيرة الأسئلةِ، لكنه كان من الأشخاص الذين قد يدفعوك لتفعل كلّ شيء فقط لتعلم ما يجول بأذهانهم.

كان يشدّها الفضول دومًا حول ما يفكّر فيه، حين تراه غارقًا في تحريك القشّة داخل كوبه الذي لم يتبقَّ فيه سوى كرات الثلج، ثم تسمعُ صليل اصطدامها بجدرانه الزجاجية، فتراه يحدّق في ذات الأشياء التي تحدِّق فيها، ثم ينظر لها ويبتسم.

"هل سمعتِ عن أثر اللون الأزرق في السماء؟" سألها، وهما لا يزالان جالسين إزاء بعضهما على طاولة المطعم الصغير المُعتاد لوجبات غدائهما.

"أتعني انعكاس الضوء وتلك الأشياء؟" استفسرَت بهدوء.

"كلا" اكتفى بالهمس، ثم أراح يده على خدّه وأمال رأسه قليلًا. فحاكت خصلاته حركته، وحطّت على أشفار عينه اليمنى. فجال نظرها لحدقته التي طغى عليها اللون بنيّ، وسمعتهُ يهمهم شيئًا قبل أن يقول "هل تعلمين أنّ انقراض الإنسان لن يؤثّر في حياة الكائنات الأخرى؟ ستستمرّ الحياة كما هي دوننا، دون أيّ خراب أو مشاكل".

لم تستوعِب بعد انتقاله من موضوع لآخر، بيد أنها اعتادت ذلك منه، فهمهمَت وهي تهزّ رأسها كاشارة ليُتابع حديثه.

"لكن العكس لن يحدُث لنا؛ فإن قررت الطبيعة توديع فصيلة واحدة، فسينهار جزء من هذا الصرح البشريّ" أردف.

"هل تعني أننا نعيش ونقتات على كلّ شيء حولنا، للحدّ الذي سنتأثّر فيه بانقراض شيء واحد؟" سألت بحذرٍ.

"الكثير قد سبَق بالفعل" قال، وكأنه يجيب على سؤال آخر.
ثم أزاح وجهه نحو النافذة عندما سقطت أشعّة الغروب الدافئة متسللة للمكان، فرأَت عيناه تغوصان بمحجريهما وكأنه يرغب في انتزاع جميع المناظر التي يراها، وأن يجلسَ مكانه دون الشعور بدوران الأرض.

ساد بعدها صمت لم يتخلله سوى رنين جرس الباب العلوِي كلما رحل شخصٌ، فالتفَتت صوب الضوء الخافَت المتسلل حين غمر ضوء الغروب محيطهما.

"هلّا أنهيتَ طبقك على الأقل؟" طلبَت منه وهي تتهيأ لحملِ حقيبتها من الأرض، وأشارت للنادلة التي كانت بانتظارهما بما أنهما قد كانا آخر الزبائن المتبقيين.

فاستهجن بالسؤال وهو يتبعها "لقد شبعتُ. كما أنّ هذا سخيف؛ إنه مطعم بيتزا ليعمل في الساعات المتأخّرة، من سيأتي في وقتٍ أبكر مثلًا!" وقبل أن ينتظر اجابتها، وجدها تمنحه نظرة ساخرة مشيرةً لكليهما، مما جعله يغمغم بشيء وهو يدسّ كفيّه بجيوبه.

ضحكت وأسندت يدها على كتفه وهما يأخُذان خطاهما عبر الطريق، ثم علّقت وهي تتفحّصه، تدرُسه بشكل جعله يشيح بنظراته عنها حين طالت اللحظة "لا شيء في وجهكَ هذا اليوم، عدا عن القلق المعتاد".

حطّت أقدامهما على الرصيف، وتوقّفا حين هاجمهما نسيم بارد خلافًا عن الشفق الدافئ، فأغمضَت جفنيها لتعتاد عليه، وانحنَت لعقد أربِطة حذائها مستطردةً "ولكن ما الذي يشغل تفكيركَ طوال الوقت؟".

حبست أنفساها أثناء ذاك الانتظار الطويل، ورأت كيف غار بؤبؤيه وهو يحدّق أمامه بجمود، قبل أن يهمس وكأنه يُناجي نفسه

"عمّا كان ليحدث لو وجدنا أنفسنا في وقت أبكَر، أو كنّا نملك أيامًا أطول، فرصًا أكثر، بدايات بلا نهاية.. عن مِثل هذا التناقض في الكون، فكرة الانتهاء، الرحيل، المجهول.

هل سنستيقظ يومًا بعد كل هذا، ونجد أنّ الغد لا يزال بانتظارنا يا آنثيا؟".

رأيتُ هيڤنWhere stories live. Discover now