بدأ الأمر بأُغنية

1K 180 27
                                    

يقال أن في حالِ اقترابكَ من لحظة فقدك لكلّ ما أفنيتَ قلبك في التمسك به- فستصبح على أتم الاستعداد لافناءِ عقلك إن لزم الأمرُ لتستعيده.

هكذا رأت آنثيا الحقائق حين تعلّق الأمر بهيڤ، وهكذا رأتُه دومًا. لم تكترِث لكم بدَت حمقاء باتّباع قلبها، أو حين تجاهلت أوامر عقلها من الخضوع له. وفي ثوانٍ وجدت نفسها تأخُذ آخُذ خطواتها للداخل، مقتحمةً منزل أحد أصدقائها القدامى.

سقطت حدقتاها بعدم تصديق على من كان جالسًا على أريكة، يبحلِق في التلفاز المعروضِ على شاشته الطلساء رسوم متحركة. وحالما رآها تدلف، اتخذ وضعيةً دفاعية بأن نهض عن مكانه وأخذ بِضع خطواتٍ بغيّة الابتعاد، لكنها أفصحت بتحدّ "أرجو أنكَ تستوعبُ الآن كونكَ لن تتخلص مني بسهولة".

رمقته، ليقابلها كمن يتساءل عمّا ستفعله إن حاول. وفي ثوانٍ كانت تريه ذلك بأن قبضت على معصمه، واجترّته خلفها ليخرُجا امام أنظار الآخرَيْن اللذان التزما صمتًا محفوفًا بصدمة.

لم يبدُ أن هناك أي تفسير سيشفي رؤيتهما لصاحِبة طفولتهما وهي تتمسَك بالهواء بعزمٍ كهذا، ولم تملك هي وقتًا للتفسير، بينما واصلت قطع طريقها مع من حاول إيقافها بشتى الطرق، حتى كانت تسحبُه من قدميهِ حين يضطرها الأمر!

في النهاية كانا قد ابتعدا لحيث وجدَت حديقةً خاليةً بالحيّ، وسارَت به حتى جلست على الأرجوحة. لم تهتم بكون ما تفعلهُ غريبًا؛ فقد حدَثت أشياء أغربُ بما فيه الكفاية منذ البارحة.

أشارت له على المقعد الخالي بجوارها، ليهمهم ويهز رأسه رفضًا "أنا لست بالمزاج لـ—"

"لا يهمني مزاجكَ، اجلس" قطب حاجبيه لنبرتها الآمرة، والتي التمَست فظاظة استخدامها لها معه، بيد أنه من بدأ كل هذا بمنزل أوليفر. فامتثل لها في نهاية الأمر وجلس على المقعد الآخر، لتُحيطهما ريحٌ باردة، استذكرَت الفتاة معها كلّ الأيام التي تخيّلت دفئه فيها.

بعد لحظة صمتٍ لم يبترها سوى صوت احتكاك الجنازير التي تعلق الأرجوحة بها، أنبرَ هيڤ "يجب علينا انهاءُ ما يحدُث هنا".

فقطبت حاجبيها ناظرةً نحوه لتحثّه على توضيح مقصده.

"ألا ترين؟ كلانا نعلم أنني مجرد طيفِ لن يبقى للأبد. لذا لا يهم إن علمتِ أو لم تعلمي سبب سأمي من الحياة" ردّ مقتبسًا من حديثها، وعيناه موجهتان للحشائش أسفل قدميه. وراقبته مطوّلًا حتى فهمت أنه جادٌ في حديثه.

هل اختار الظهور أمامها، وفعل كل ما فعلُه، ليأتي الآن ويخبرها ببساطة أن تدع الأمر جانبًا، وأنه لا يهم؟

"أكُل ذلك لأنكَ لا تريد جرّ أحد -وكما أقتبس أيضًا- في 'مشاكلك اللعينة'؟" سألت بذات نبرتهِ بعد أن منحها منظورًا لجانب وجهه، وقد عاد يتأمّل المكان حولهما وكأن فيه ما يثير الاهتمامِ أكثر ممن كادت أن تستعِر جواره.

"إن كنتَ تعني بأن أذهب وأواصل حياتي هو أن أعودَ وأتصرف وكأنّ ما حدث البارحة هو حدَثٌ يذكر، فأنت مخطئ. لقد فات الأوان على ذلك، وأعلمُ أنه حالما يعطيكَ أيّ منا ظهره فسترحل مرة أُخرى دون أن تمنحنا أسبابًا. إنني لست بصدد مساعدتك كي لا تسأم من الحياة التي جعلني رحيلكَ أمقتها، كل ما أريده منك هو تعيدني لوعيي، وتفسّر شيئًا على الأقل. أيّ شيء!"

تابعها وانتفضَ لوهلة، ثم تفرّق جفناه مظهرًا شرود داكِنتيْه. زفر وقبض على جانبي أرجوحته محركًا قدميْه ليصنع آثار دوائر بباطن حذائِه.

حتى نطقَ وكأنهُ مخزونٌ من أعماقه "هل يكون الأمرُ هكذا دائمًا؟ معقدٌ بسبب شخص لم يملك ما يتمسّكُ به"

"لن تعلم من يهمهُ أمرك ممن لا يفعل، لذا لا تطلق أحكامًا كهذه. أعلمُ أنك كنت مشوشًا ومُثقلًا، وربما رغبت في ابعاد عبءٍ عن كاهلك. لا أعلم ما حدث لك بالصباح لتقرر أن تتصرفَ وكأن شيئًا لم يحدث، لكنني لن أبرح مكاني هذا قبل أن تتحدثَ، وأقسم أنني سأصغي لكل كلمة. أنت لم تنتظر كل هذا الوقت لتترقّب فرصةً أخرى تذهبُ للاشيء، أتفعلُ؟"

فرصة..

أدارت جذعها نحوه، مترقبةً ملامحه التي لانت حين واجهها، وتجمّعت دموعها بمواصلة حديثها "لا تتركني بذاتِ الطريقة هيڤ. أخبرني بما أخفيته عنّي، بما لو كنتُ قد علمته حينها لوجدتكَ حيًا اليوم أمامي. حتى وإن كنتَ لا تعرِف اليوم، ستجد حلًا في الغد، أليس هذا ما اعتدت قوله لي؟"

لوهلة، بدت تلوح لها مرارة الرفض. ظنتهُ سيقول لا، ويتلاشى. وأبت دموعها إلّا أن تسقي خديها دون توقّف.

لكنها رأته يميل بعنقه، ناظِرًا لها بلامعتيه اللتان بدتا وكأنهما تتذكران مشهدًا ما، ثم افترّت شفتاهُ عن سؤالٍ واحد

"أيمكنني اخباركِ عن أحد أسبابِ رغبتي في الحياة بدلًا عن ذلك؟".

بدهشة، كادت أن تدير ما وصل له النقاشُ بعدم تصديق؛ فإن كان هذا السبب مهمًا لوجدته على قيد الحياة بشكلٍ فِعليّ. لكنها أومأت على كل حال، إن كان ذلك أفضل من العدمِ في نهاية المطاف.

ارتفع صرير الأرجوحة حين تحرّك بجذعه ليواجهها، جاعلًا خفقة تفترّ منها أسفل كينونتِها. وبدأ بالحديث بشبه ابتسامةٍ مختبئة

"لنقل أنني تأخرتُ في اكتشاف هذا السبب.. وبفضله كنّا لنصبح كما تمنّينا اليوم"


"لقد بدأ الأمرُ بأغنية"

رأيتُ هيڤنWhere stories live. Discover now