اللائي قيّدهنّ اثْم الفضول

3.3K 349 62
                                    

« لقد احترفتُ التسلل من الأماكن والجُموع دون أن أترك خلفي أثرًا يُذكر. ولن تجدني أأسى بعد الآن إن لم يلحَظني أحدٌ؛ فقد أيقنت أنني من بدأ بخياطة ذاتي على هذا الرداءِ منذ اليوم الأوّل.»





وقفَت تنظُر لشقيقتها التي أطبَقت ببكائها أرجاء الغرفة. كانت تضمّ وسادتها وتتنهد كلما شعرت أنّ شهقاتها 'مبالغٌ فيها'، ثم تعود لدفنِ وجهها محاولةً كتم صوتها.

طرقَت لسانها بتململ؛ فها هي تقف لما يُناهِز الساعة، مكتفيةً بالمراقبة بانتظارِ ما سيحل تاليًا، بينما تفكر بكم مرة عليها صفع رأسها بالجدار لتهرب من الموقف. فكالعادة ليس بيدها شيء لفعله سوى ترقُّب لحظة هدوء الأُخرى، ثم احتضانها حتى تغفو..

"الحب سيء يا آنثيا، لا تصدقي القصص والروايات أبدًا. إنه أسوأ ما قد يحدث لأي شخص مغفلٍ لا يزال يؤمن بوجود أرض الجنيّات"

سمِعتها المدعوّة، وهي تقول بصوت متهدج وتمحو أشفار دامِعتيْها بملاءة الفراش، وكادت أن تستوقف تشبيهها لكونها بالفعل على استعداد بالتصديق بوجودِ الأخيرة على أن تفعَل الأولى، لكنها فقط أومأت بتأكيد.

" لقد هجرني! بحق السماء !" صاحت مجددًا، وكأنه ليس ثاني انفصالٍ تمر به في شهر واحد على التوالي من ذاتِ الفتى.

وبالطبع أومأت آنثيا وزمّت شفتيها، تتأكد من احاطة منكبي الناحِبة وجعلتها تسند رأسها على كتفها، مرددةً بما حفِظته من درامات التلفاز "أعلم ذلك إيڤا، لا بأسَ عليكِ، ستجدين شخصًا أفضل منه فهو لم يستحقك على كل حال".

ما فتئت المعنيّة عندها أن تبتعد عنها فوْرًا لترمقها باستنكار، قبل أن تبدأ بفرك جفنيها المحمِرين وهي تعود لترتدي ملامحًا صلبة، عاقدةً قبضتيها بعزم "سيعود لي نادمًا. سأجعله يعلم ما تخلّى عنه".

"مهلًا، أتنوين العودة له مجددًا بعد كل هذا؟" سألتها آنثيا باستهجانٍ. فهزّت إيڤ رأسها أن لا، رغم أنها قد بدت واثقة وقد التصق شبح ابتسامة غائرة محياها. مما جعل الصغرى تتأكد أن شقيقتها تعاني من فِصام ما.

ولما استشعرت شزرها، أدارت رأسها وتحدّثت سريعًا بما أخفَته منذ بداية مشهدها "عزيزتي؛ ايجادُ خليلٍ أمر في غاية الصعوبة، لذا ستعودين لأحبائكِ القدامى، وعدا عن ذلك ستموتين وحيدة بعد أن تهرمي، وحيدةً جدًا، مِثلي"

غير أن آنثيا لم تجد في حديثها الذي أملَت التوكيد على كلماتها أدني شعورٍ بالفظاعة. لم يعنِ لها سوى صوابِ توقّعاتها؛ فشقيقتها الكبرى لا تنفَك عن التراجُع عن كلّ قرارَاتها فور أن يطرُق باب منزلهم ذات الوغد الذي كسرَه بالفِعل حاملًا بتلاتِ زهور يدّعي أنها مسامير ستُصلِحه !

فتململت وأعقفت حاجبيها، ثم عادت تسأل واضعةً نفسها بموقِف أي فتاة أخرى؛ رغبةً في عدم تذكر ما جاهدت كثيرًا للتخلّي عنه بأقاصي ذاكِرتها

"وماذا وإن لم يكن لديكِ حبيبٌ سابِق من الأصل؟"

"تعاملي مع الوُحشَة" ردت ببساطة. ليزدادَ تجعد ملامحها ونطقَت بازدراءٍ جليّ "لهِيَ لطريقة سيئة للتفكير بأهدافك في الحياة؛ إما الحصول على رجل أو الموت بائسة؟، هذه حماقة".

لم تجبها إيڤا، واكتفت بقهقهة علمت الثانية منها أنها تؤمن بما قالته، لكنها تحاول فرك الأكاذيب على غِطائها كما يفعلن جميعهن.

تلك التي تُرِكت على طاولة الغداء وحيدة. التي ترجلت عن السيارة متوارية خلف دموعها في نهاية كل ليلة. التي ترى محال الزهور وتعلم ألّن تلتفِت لها بتلةٌ يومًا، والتي تضطر لشغل الجانب الآخر من فِراشها بوسادة. الحب كفخٍ أسقط أيلًا اثمهُ الوحيد هو الفضول.

ربما لم تجد أحدًا يدرك مدى تصديقها لهذه العبارة أكثر من أي شيء آخر؛ لأنهم لا يعلمون من الأصلِ أنها قد أحبت بالفعل شخصًا لتعطي نفسها حقًّا للتحدث عن الأمر.

لطالما رآها الجميع وعائلتها كمن لا تعرِف ما هي الحياة بعد.. تفاجئها الأيام، وتجد أُعجوبة في كلّ ما تراه ولا تفقه ما هو حتى يُخبروها. لكنها لم تكن كذلك أبدًا؛ لقد فقدت جميع احتمالات أية دهشة قادمة تجاه ما تراه منذ وقتٍ طويل، ولم يعُد هنالك ما تنتظِره بعد الآن.

"إذًا، ماذا ستفعلين اليوم؟" أُخرِجت من أفكارها بسؤالٍ منفرِد، وقد لانت ملامح إيڤا معهُ، مما جعلها تتحاشى النظر وتستجيب بكلمتين فقط "لا شيءَ. المعتادُ".
رغم أن تلك الهوّة لم تكن لتصبح معتادةً لها أبدًا.

"المعتاد؟ تعنينَ أنكِ ستغلقين على نفسك الغرفة حتى الصباحِ كما فعلتِ البارِحة؟". كانت نظرات شقيقتها قلقة بشكل مبالغ فيه، ونبرتُها تحمِل توقّع اجابة مخزّنة، مما جعل آنثيا تقشعر لجديّتها في الحديث الذي كانت بصدد تجنُّبه طوال الوقت.

لكن هذا قد أصبح بمثابة عُرف سنوي، لم ولن تتخلص منه، حتى لو كذبَت بكاملها وهي تكرر "هذا العام مختلِف.. أريدُ البدء من جديد".

فترى عندها ابتسامةً تتسع بالتدريج للمرة الأولى قبل أن تحتضنها، بينما لم يبقَ سوى المزيد من الكلمات بجوفها حين حفّ أكذوبتها الصمت.

هي لا تعلم ما كانت تدفعُ نفسها عن فعلِه كل عام وتفشل فيه بسبب خوفها.

لكن، لمَ لم تعد تشعُر بشيء البتة هذه المرّة؟

وكأنها بالفعل، ستستطيعُ انهاء الأمر أخيرًا.

رأيتُ هيڤنWhere stories live. Discover now