-14-

4.4K 143 69
                                    

هدوء تام.. لا شيء سوى صوت ارتطام الأمواج العالية بتلك الصخور البحرية وبعض السفن..
نسيم البحر القارص يلفح وجهي بقوة، أخذت شالي الصوفي وقمت بلفه حول عنقي لاغطي فمي محاولة تدفئة نفسي..
استدرت لأرى ما إن عادت آيار فلمحتها من بعيد تسير على طول ذلك الطريق حاملة كيس صغير في يدها وكأسين نسكافيه، بينما كانت تلك الرياح تتلاعب بخصلات شعرها الأمامية..

اقتربت مني ومدت لي بكأس النسكافيه والكيس ثم جلست بجانبي..
- شو هاد ؟.. سألتها..

- جبتلك مكسرات.. قالت ونظرت لي بابتسامة ثم أضافت.. - بعرف أنك بتحبيا..

قهقهت ضاحكة ثم اجبتها.. - يعني لسا ما نسيتي !..

- أكيد.. أجابت وهي ترتشف من كأسها، في حين عدت أنا اشرد في تفاصيل وجهها من جديد..

لطالما كانت آيار عائلتي وعالمي المصغر، فبعد أن توفي والداي وكفلني عمي كانت هي الأم والأب والصديقة.. دائما ما كانت تنتبه لي ولكل ما يخص حياتي..
كانت ملاذي الوحيد في هاته الحياة.. ومنقدي من خراب كاد يجعل مني في ثوان محدودة جثة اشلاءها متفحمة..
ولسوء حظها أصيبت هي في عينها بسبب معدن ملتهب وقع عليها فأفقدها بصرها..
شعور الذنب الذي اجتاحني أنذاك أسوء ما قد يشعر به المرء في حياته، جعلني كل يوم أنام ودموعي معلقة على وجنتاي، وأسوء ما في الأمر أن العملية التي كانت بحاجة إليها غير متواجدة في غزة وتكلفتها جد غالية، وفي ضل تلك الأوضاع المزرية التي عاشتها عائلتي بعدما دمر بيتنا كان من المستحيل أن تقوم بها..

بقيت آيار على ذلك الحال لمدة أربعة سنوات، فاقدة نظرها في عينها اليسرى ولا تستطيع الرؤية سوى بعينها اليمنى..
لكن رغم ذلك بقيت صامتة ومتحملة تلك المعاناة وتلك الآلام التي كانت تعذبها كل يوم طيلة تلك السنوات، تحاول التظاهر أمامي بأن كل شيء على مايرام وأنها بخير حتى لا تشعرني بالذنب، لكنني كنت أعلم كل ما يدور بداخلها.. كانت جروحها تؤلمني أنا قبل أن تؤلمها هي، وبالتحديد هنا.. في الجانب الأيسر من صدري !..

• خانيونس - غزة / ٢٠١٨..
أصبح ذلك الحادث كابوسا بالنسبة لي.. كل ليلة تتكرر نفس المشاهد داخل دماغي، صوت انفجار، نيران، شهادة، صراخ، بكاء، صورتها وهي واقعة على الأرض ودمائها قد سقت ما ابتغت من ذلك التراب الأسمر !..
أنهض بفزع من السرير وأنا أصرخ بأعلى أصواتي وأمسح على وجهي بخوف، قد تجمدت الدماء بداخل أطرافي لأبدأ بالارتعاش والتعرق !..

شعرت بها تحاوطني بذراعها لتحتضنني وتقبل جبيني.. مسحت بكفها على رأسي بحب وراحت تقرأ بعض المعوذات والآيات القرآنية ليدب الآمان مجددا في قلبي..
احتضنتها بشدة وتشبثت بكلتا يداي فيها لتحاوطني وتمسح على ضهري قائلة.. - أنا هان معك رغد.. ما تخافي..

اعتدت منذ أن أتيت إلى هذا البيت على أن أنام معها في نفس الغرفة، لذا فبعد أن كانت تمقث مشاركة أشياءها الخاصة مع أحد أصبحت مجبرة على أن تشاركني كل شيء !.. وهاقد مرت عشرة سنوات ولا نزال على نفس الحال..
سابقا.. عندما كنا نعيش في دير البلح، كانت لكل واحدة مننا سريرها الخاص على جانب ما من الغرفة، لكن بعد أن انتقلنا إلى خانيونس أصبح لدينا سرير واحد واسع، تتسألون لما ؟..

سجن في الهواء الطلقWhere stories live. Discover now