(البداية ... حيث النهاية.)

216 7 0
                                    

الأمل أكبر من العالم ... سنظل نحيا ما دام نخبئ بداخل قلوبنا أمل لا تسرقه مِنا الحياة الدنيا.

لم يكن للضوء وجود في هذه الغرفة الضخمة، قد كان الظلام بها كبطن حوتٍ عجوز.
رائحة أوراق الشجر الصفراء تسللت مِن الفتحات الصغيرة التي بخبايا الأبواب والنوافذ، رائحة أيلول تحمل في جعبتها الكثير مِن الذكريات التي تصيب القلب بالحسرة على ما فات مِن ذكرى لن يكن لها ظل في ما يأتي وسيأتي ... إنها ليست حسرة مؤقتة، بل رهبة رائحة الخريف هي المؤقتة حتى يعتاد عليها الأنف، لكن هل هُناك مؤقت دائم كدوام الخريف في كلّ عام مِن أعوام الحياة ؟ فكلّ مؤقت وله نهاية إنما الخريف ... لا يأتي عام على السماء و الأرض بلا خريف.
_«آخرج الآن ؟»
همسة قد خرجت مِن داخل الكومة السوداء المكورة بالزاوية، وقد تماهت في السواد الشاسع.
تنهد مِن جوفه، الذي كان كالثقب الأسود، وأخرجها مِن أسفل ذراعه، حيث كانت تختبئ داخل عبائته؛ ظهر شعرها المُجعد أولًا ثم أخرجت وجهها وصدرها يعلو ويهبط تحاول أن تعيد إلى صدرها مذاق للهواء النقي، فيما تُبعد خصلات شعرها وقد التصق بوجهها الرطب ثم مسحت وجهها بيدها، وبأصابعها الطويلة جمّعت شعرها إلى الخلف. ثم مسحت أنفها بأناملها لكن رائحته، وقد كانت أقرب لرائحة الغبار، جعلتها ترغب بالسعال فسارعت بوضع يدها على فمها حتى لا يسمعها أحد، فحتى التنفس بداخل هذا الهدوء المرعب لن تستطيع الجدران أن تُخفيه. مسحت أنفها بطرف قميصها الذي لا يظهر له في الظلام لون، ودون سابق إنذار اندفع الهواء خارج فمها وعطست فوضعت يدها على فمها -مرة أخرى- بسرعة، فقال أحد الجدران:
_«أليسي أخفضي صوتكِ ! لن نستطع أن نكبحه أكثر !»
فرفعت يدها وهمست معتذرة. نظرت حولها فلم ترى شيء، ثم تحركت لتجلس أمامه وتحسست حيث يجلس فلمست عباءته الساخنة، ثم دارت عيناها على الجداران حولها، أو كانت هذا ما تريده، لكنها لم تستطع رؤية شيء بالغرفة الضخمة غير الضوء الخافت الذي ينبعث مِن أسفل البابين الكبيرين المُغلقين.
نهضت مِن جلستها لتبحث عن الشامعة التي انزلقت مِن جيبها حينما دخلت في عبائته لكنها لم تكن لتجدها، فجلست في مكانها مرة أخرى، فيما هي لم تكن تحركت ولو خطوة واحدة.
_«أنا لا أرى شيء. (نظرت حيث يدها على عبائته.) هل يمكن أن تنير المكان ؟»
أصدر صوتًا عاليًا أكثر اعتراضًا على ما قالته، فوضعت يدها على شعره الأشعث الغزير وهمست:
_«أنا بخير .. هيا افعل.»
شعرت بعيونه على وجهها، فابتسمت لأنها متأكدة أنه سيرى الرضا ينبعث مِن هذه الابتسامة على وجهها خلال الظلام، وتزينت بنظرة الاطمئنان لتربت على نفسه حتى إن كانت لا تراه.
تنهيداته خرجت خشنة مِن أعماقه كالشخير، فيما أمسك ذراعها النحيف بأظافره الطويلة الخشنة، كانت خشنة مثل الخشب الذي أحرقته الشمس بعدما حممته الأمطار، ثم نظر لها فتنفستْ بعمق وأخرجت ما حبست بداخلها مِن هواء الخريف.
فتمنى لو كان يتنفس بحق لكان تنفس فأنفاسها الدافئة التي لها رائحة البرتقال، بل القشرة التي تغلفها تلك الرائحة اللاذعة الحارقة فتداعب الأنف.
_«هيا ...»
تفوهت بكلمتها أظافره جلدها الذي ارتفعت حرارته، ثم رآها تؤمي له، أشاح بعينيه عنها، حينما أغمضت عينيها وقضمت شفتيها لتكتم صوتها. قد غرز أظافره بجلدها ببطء؛ شعر بكلّ شيء تلمسه أظافره طبقة الجلد الرقيقة التي خرقها، الدماء التي سبحت بها أظافره، اللحم الذي احتوى أظافره، حتى لمس العظام، ثم أخرج أظافره بسرعة وأبعدها عن ذراعها وأبعد جسده بالكامل عنها، فجلس بجوار الجدار، وكأنه يستنجد به ليُخفيه داخله. إنه شعر بذاته وهي تركع أسفل عرش دونيته وهي تشير لذاته، التي ليس له عليها سلطان، بأصابعها وتلعب بها كلعب الطفل العدواني.
شعرت أليس بمذاق الدماء بفمها، لكنها لم تشعر بشفتيها الممزقة تؤلمها، فذراعها يحظى بكامل الشعور الآن.
سكن النور المكان بأكمله خلال لحظة مرت لم تشعر بها أليس، فكان عقلها يحاول أن يجمع شجاعتها المبعثرة حتى يسمح لها بالنظر إلى كلّ ما خلّفته اللحظات القليلة التي مرت في جوف الظلام.
وسط أنفاسها العالية التي تحاول أن تلتقطها، صراخها مِن الألم الذي تحول إلى دماء شفتيها، دموعها قد غطت وجنتيها فاختلطت مع الدماء التي تنثرت على وجهها حينما أبعد أظافره بسرعة عنها، جسدها الذي يرتجف وألم ذراعها الذي جعل جسدها بالكامل يصرخ به كلّ عضو بطريقته، نظرت إلى دمائها التي تسيل مِن ذراعها كأنها تنسكب مِن فوهات أربع زجاجات، وتابعت النظر إلى أن وصلت إلى بشرة ساقيها الطويلتين وقد كانت بيضاء قبل أن تلطخها الدماء، والأرض الرخامية التي أصبحت مُنقطة بالأحمر.
روحها تذكرها بما بداخل قلبها مِن شغف به، فلعلها تتناسى الألم الذي يعتري جسدها مِنه لتبتسم إليه.
أخيرًا وصلت لمرادها، فعلت ابتسامة مرتجفة وجهها الشاحبة، وارتفعت وجنتاها الحمراء دون هدى؛ بل كانت ترتجف دون توقف، فيما لم يكن مرأى لاحظيها واضحًا، وكأن عينيها تخبرها عما أمامها فقط فلا تجعلها تراه، فأخبرتها عن أنه قد قلت غزارة الشعر مِن جسده، قلت رائحة الغبار، اختفت أظافره الطويلة، و تراقصت الشموع بعيونه ... حدقتاه، ما زالت سوداء بالكامل، فيما لا زال وجهه شاحبًا وشفتاه ظلّت بيضاء.
أخفى جسده أكثر داخل العباءة وأدخل شعره الطويل بأكمله معه، فيما حاول مرة أخرى أن يُخبئ نفسه داخل الحائط، فقال الجدار:
_«قولي شيئًا يا أليسيا. لا تبقي هكذا فيأكله الندم.»
مسحت وجهها بطرف نظيف مِن تنورتها، التي تحولت إلى الأحمر وقد كانت بيضاء هي الأخرى، ثم نظرت إلى عينيه وهمست:
_«بخير ... أنا بخير.»
خرج صوته خشنًا مكتومًا كأنه يحرك حديدة أكلها الصدى:
_«أسف ... أسف ... أسف.»
هزت رأسها بالنفي هامسةً بـ: لا بأس ..
ربط جرحها بقطعة قماش مِن تنورتها قد مزقها، فربتت على يده التي قلت خشونتها، وجلست لتستند بجسدها على الحائط بجواره، وسألت:
_«إذن ؟ ماذا حدث حتى تأتي إلى هُنا ؟ لقد أنهيت مهمتك أنت ويحيى مع ترنيم وباتت بخير. ما المشكلة الآن ؟»
نظر إلى الأعلى وقال:
_«إنها كاثرين. إن لديها نفس تكرهها وإن تظاهرت بالعكس، فتسعى نفسها إلى أخذها نحو الحفة لتلقي بها هُناك ... في داخل الهاوية لتتخلص مِنها.
تصيح بداخلها كلّ يوم أنها باتت لا تتحملها فتحاول أن تتخلص مِن هذا المعاناة بأن تغادر حياتها هذه...»
فُتحت إحدى النوافذ فدخلت بضع الأوراق الصفراء إلى الغرفة، وسقطت ورقة داخل كف يده فتكسرت بمجرد أن لمسته، فعلى صدره الفارغ، بينما لا زال يحدق في الورقة التي تطايرت مِن بين يده أشلاءًا وتابتعها عيناه السوداء وهي تفر مِن كفه، فيما قال همسًا:
_« يجب أن نبدأ الآن.»

كلاسيكيات وردية Where stories live. Discover now