_الحادي عشر. (لغات الحب الخاصة.)

27 1 0
                                    

•_«كانت بيننا لغة خاصة لغة الألم، كنا نعلم عنوانين الجروح التي تنزف داخلنا. أليس هذا حبًا ؟»
تنهدت ببطء، ثم أخذت أنفاسها بعمق وهي تحاول أن تزيل مِن عقلها فكرة أنه قد قرأ شيئًا يفصح بكلمة عن مشاعرها حقًا، هي لا تعرف حتى أي صفحة كانت مفتوحة، فنظرت تجاه المخرج وهي تفكر بأن تذهب إلى المكتبة فترى ماذا يمكن أن يكون قرأ، لكنها تخلت عن الفكرة لوقت مؤقت حتى لا تفقد السيطرة على توترها فتشي أفعال بكلّ شيء أكثر مِن الكلمات. ومحتمل أنه أيضًا لم يقرأ شيء يعترف له اعترفًا صريحًا بمشاعرها الغير مرتبة.
تنفست مرة أخرى وهي تهمس لنفسها بأنه لم يحدث شيء، بينما همست روحها فتذكرها باللحظة التي سبقت خروجه. قد كان قريبًا قريبًا جدًا لدرجة جرحت حياءها. لكن بالوقت آنه قد تملّك منها شعورها للحظة، واحدة فقط لا غيرها كانت كلحظة مرور الشهاب في مكان مظلم، شعور يمكن في رغبة شديدة الوضوح أنها لا تريد مِن الوقت أن يتحرك ولا مِن هذه اللحظة أن تنتهِ؛ بل كانت تبغي لو أنها لحظة سرمدية. لكنها فقط لحظات انتهى بسرعة قاسية نفس السرعة التي اندفعت هي بعيدًا عنه.

قد غادر هو إلى الشرفة بيده الفناجين، بعد أن بعث لها بابتسامة صغيرة وحاولت هي محاولة، فاشلة، أن تردها. للحظة تذكرت أنه لم يكن هُناك ذكر بذلك القرب قبلًا، فقط والدها ... لم يكن سواه.
مسحت وجهها الرطب بأحد المناديل الورقية، ثم أخذت نفسًا أعمق أخير مِن فمها تضبط به حركة أنفاسها المضطربة كموج البئر، فتخرج لتواجهه بهدوء بقدر المستطاع.
خرجت خلفه بخطوات بطيئة وألقت نظرة خاطفها على وجهها بالمرآة وكما توقعت كانت الحُمرة تكسوه كأشعة الشمس بالغروب. بللت شفتيها و تجاهلت جسدها الدافئ، تجاهلت وجهها وتجاهلت أنفاسها المضطربة في محاولة -تميل أكثر نحو الفشل- أن تكون طبيعية.

وجدته قد أخذ مقعده نفسه الذي سلف بالشرفة، يكتف ذراعيه إلى صدره، وعيناه مثبتة على ظهر الكنيسة وعلى سورها العظيم، تبدو رغم البعد شاهقة، فيخيل للمرء أنها تحمي سر عظيم.
وقد سرح الغريب في ما هية هذا السر، دون النظر إن كان له وجود خارج خياله أم لا.

التفت لها حينما جلست أمامه وابتسم وهو يقول كم أحب هذه القهوة، ثم أخذها ورشف منها القليل، بينما ارتعش جانب شفتيه قليلًا، وأنزل رأسه وهو يتنهد ثم التفت وأعاد نظره إلى ظهر الكنسية ولمح أجراسها التي ترن دون أن يرى من يفعلها، فتخيل أنها تتحرك وترن بفعل ملاك حارس.
هل يمكن أن يكون هذا سرها العظيم ؟
إذن ما سر كاثرين ؟

شعرت بأن السكون الذي يتوسط جلستهما لم يكن سوى غلاف لتوتر، بينما كانت تجد نفسها في موقف غريب، فلا تجد سببًا لصمته ولا تشعر أنها تملكت زمام المبادرة.
قد رأت في عينيه المعلقتين بعيدًا عنها أنه هُناك ما يدور بخاطره كما رأت الحيرة تسكن بين قسمات وجهه؛ حيث حاجباه المعقودان، عقدة بسيطة لكنها ظاهرة، وشفتاه المطبقتان، كما ظهرت على ابهامه الذي بدأ يدور حول حفة الفنجان، بينما يمسكه بيده الأثنين، فيما يحتسيها بتمهل ويتذوق كل رشفة كأنها أول رشفة. كانت تريد أن تسأله عما ويدور في خاطره، لكنها فضلت أن تعطيه مساحته وألا تزعجه، لربما هو لا يثق بها ليطلعها على ما بداخل عقله، حتى تلك اللحظة، فوجدت لروحها في ثنايا الصمت ملجأ حتى تعطي لنفسها فرصة أن تعمل القهوة مفعولها وتزيل أي رواسب لا تريدها، توتر كانت أو خوف، وتعطي بدلًا مِنها السكينة.
بعد بضع دقائق قد أنهى بهم القهوة وكتف ذراعيه، ولم يختفي الصمت لدقيقة أخرى أو اثنين كانت قد مرت بهم الثواني ببطء، بادر مُتحدثًا وسط شروده:
_«لا تفرقين شيئًا عنها ...»
ابتلعت كاثرين قهوتها وسألت عن مَن يتحدث فأومأ بذقنه تجاه المبنى السحري.
_«الكنيسة .. كلاكما يفتح أبوابه لكنه يُخفي شيء ما بالداخل. كلاكما متناقضان بطريقة مُشتِتة.»
ضحكت فنظر لها وابتسم نصف ابتسامة خجولة لكنه حاول الثبات على جدية حديثه.
_«ماذا ؟ على ماذا الضحك ؟»
مسحت عينها وهي تهز رأسها قائلة أنه لا يوجد شيء، ثم مدت جذعها تجاه الطاولة وهي تضع يديها التي تحتضن الفنجان فوقها سائلة:
_«كيف هذا إذن اشرح أكثر ؟»
ورفع كتفيه وأبان ما في نفسه:
_«كلاكما ليس واضح بالقدر الذي يُظهره ... فعلى الجانب الآخر كلاكما يُخفي شيء ما .. أو يحمي شيء ما؛ سر .. نقطة ضعف .. حكاية، أو ... أحد ما.»
رمشت كاثرين وأبتلعت ريقها ثم تفوهت كاثرين بدون تريث:
_«ربما جميعهم (ثم تراجعت في مقعدها وانكمشت داخل نفسها بتوتر وهي تمسك بذراعه اليسرى.) ... هذا بالنسبة للكنيسة أما أنا ... (رفعت كتفيها بابتسامة مطبقة.) أنا لم أُسأل عن شيء حتى أخفيه ... ولم يكن لدي ما أخفيه بالأصل. (نظرت للأسفل وتنهدت.) بالحقيقة أنا لا أرى أني شخص يثير الاهتمام .. شخصية مملة ربما أو ليس ربما ... أنا لدي يقين بهذا، ولأكون مُنصفة مع نفسي، فالشيء الوحيد الذي أثيره ربما الشـ... (ابتعلت الكلمة التي كانت تريد الاعتراف بها.) قليل مِن الفضول.»
لم يتكلم بل تنفس بعمق ومد حجذعه فيما داعب اصبعه حفة فنجانه.
_«أنا لا أعتقد ذلك ... لم أعتقد أنكِ شخصية مملة ... نعم قد أثارتي فضولي لكن أنا قد عرفتكِ إلى حد ما ولم أغادر مثلًا ...»
طبقت شفتيها وهزت رأسها بالنفي ثم أوضحت:
_«نعم، نحن نعرف بعضنا البعض ... أنت تعرف أني كاثرين وأنا أعرف أنك مايكل .. نحن نعرف ما نحن .. نعرف العالم مِن حولنا، لكننا لم نعرف عوالم بعض؛ نحن يكمن أن نتحدث عن الجميع وعن الأشياء لكن لا نتحدث عن بعضنا .. هل تعتقد أننا نعرف بعضنا فعلّا ؟»
ضحك وفك عقدة يديه ثم كح ثم داعب أهدابه باصبعه وأعترف:
_«معكِ حق ..»
ابتسمت ابتسامة مطبقة بينما هو رفع حاجبيه وهو يؤمي:
_«حسنًا إذن ... يجب أن أسأل وأنتِ لن تخفي شيء ؟»
لعقت بواقي القهوة التي على شفتيها بلسانها وهي تؤممي له، فتنفس ونزلت جفونه للأسفل قليلًا ووضع ذراعيه على ذراعي المقعد فيما عيناه تصوب النظر تجاه الفنجان على الطاولة يختار عن ماذا يسأل، عن مَن تخفي أم عن ما كتبت ؟
ثم رفع عينيه لها وسألها سؤال في المنتصف:
_« كاثرين، هل أحببتِ أحدهم قبلًا ؟...أو تحبين أحدًا الآن ؟»
توقف البن يحلقها للحظة قبل أن تحاول بأقصى جهد لها أن لا تُظهر شعورها بالتوتر و الاختناق الذي لازمها قبل أن تجيب، وهي تدعو بداخلها ألّا يكون بالفعل قد قرأ ما كتبته، بينما تسمع عقلها المتوتر والثرثار يصيح. ثم هدأت نفسها أنه حتى إن أجابت بالنفي فهي صادقة فهي لم تتيقن أنها تحبه بعد.
ابتعلت البن الذي بحلقها أخيرًا وسعلت ثم أخذت نفسًا عميقًا وقالت:
_« لا، لا .. لا أحب .. أحب أحدًا.»
لم تكن تلك النبرة التي كانت تنتظر من نفسها أن تسمعها فخرجت نبرتها ضعيفة تفضح ما بداخلها مِن خوف وريبة. لا تعي السبب الأقوى بين جميع ما في عقلها مِن أسباب والذي جعلها تنزلق في حفرة الهلع: هل هي تشعر بخوف أن يكون قد بدا له شيء مِنها، حتى إن لم يقرأ كلماتها؟ أو أن تشعر برفضه لها ؟ أو السبب الأهم هو أن تواجه نفسها بأنها قد تعلقت مِن رقبتها بخيوط حريرية حادة ؟
أومأ وكرر سؤاله الآخر:
_«وماذا عن قبلًا ؟»
هزت رأسها بالنفي، وحاولت أن تُجيب إجابة تخفي بها ما تشعر به وبالوقت ذاته تكون إجابة عن ما تفكر به بعقلها:
_«الحُب .. والتعلق بالأشخاص هو كالعناكب وفريستها حتى إن كان الشخص جيد .. بالنهاية سيفترسك الحُب ويأخذك كواجبة بعد أن يغريك بدفء خيوطه الناعمة.»
عقد حاجبه ضاحكًا متفاجئًا.
_«لم أراه هكذا قد .. ولم أعتقد أبدًا أن تكون نظرتكِ له قاسية لتلك الدرجة.»
تنفست الصعداء داخلها حينما سمعت ضحكته بينما أنزلت رأسها للأسفل وأصابعها تداعب بعضها بعضًا وقالت:
_«لا أعلم لكن تلك هي نظرتي له ... ربما لأني ... أعني لا أعلم لكن المعتقدات هي أشياء مبنية على تجارب.»
أومأ، ثم وضع أصابعه على فمه وسألها بابتسامة:
_«تجاربكِ قاسية إذن، لكن أنتِ قلتِ-»
قاطعته باندفع:
-«الحب بشكل عام وليس مقتصر على نوع واحد مِن العلاقات.»
_« حسنًا فهمت. هل يعني هذا أنك لن تغيري نظرتكِ البتة ؟ ستغلقين على قلبكِ، الذي يضخ مشاعر الباب ؟»
رفعت كتفيها بابتسامة متألمة و أمسكت رسخها، وأردفت:
_«أعتقد ذلك ... أحميه ربما»
ابتسم ووضع ذراعيه على الطاولة، واتقرب لها وهو يتحدث بصوت هادئ بينما يرسم باصبعه دوائر خافية على الطاولة:
_«أعتقد .. (رفع نظره لها.) أعتقد .. إنه لو أوصدتي عليه الباب سيظل يضخ مشاعر حتى ينفجر سجن صدركِ ويهرب إلى يدي شخص ما دون حتى أن تدركي ذلك ... ولن تستطيعي السيطرة حينها؛ لأنكِ حينها -ببساطة- ستغرقين داخل نشوة المشاعر، كالغرق ببحيرة مِن أرقى أنواع الخمور ... أو مِن القهوة، لأنكِ تعشقينها، وحينها -أيضًا- عقلكِ لن يستجيب لكِ.»
اتسعت حدقتي عينيها، وشعرت للحظة بأن قلبها قد توقف عن عمله للحظات ليصفق له على خُطبته في حقه، بينما كان يرقص على نغمات صوته العميقة وكأنه ألحان لناي يعزفه ملاك.
شعرت برغبتها القوية في البوح بأنه مُحق، لكنها أشاحت بنظرها بعيدًا؛ قد شعرت بالخجل يعتريها وبأن معدتها باتت دافئة، فضحك بخفوت لشعوره بأنه انتصر عليها فوضع رأسه على كف وباشر بمراقبة تفاصيلها.
بينما هي ما زالت عاقلة بنبرة صوته التي نطق بها الكلمات؛ قد كانت ناعمة وعميقة بعمق بلاد العجائب، كأنها لم تأتي مِن حنجرته بل قلبه هو الذي تحدث.
ثم ... للحظة تخيلته يقرأ لها روايتها المُفضلة قبل النوم، كيف سيكون حُلمها بعد تلك الجلسة، هتف عقلها بحماس:
_«سنرى الفردوس بالطبع !»

كلاسيكيات وردية On viuen les histories. Descobreix ara