_السادس عشر. (لا بأس...الآن.)

8 0 0
                                    

نظرت إلى عيونها ورأت نفسها هُناك ولا تعلم مِن أين لها أن تطمئن. حتى تشعر برغبة في أن تعانقها. لكنها اكتفت بالابتسام، وهي تداعب عيونها ثم فرت بدموعها بعيدًا نحو النافذة. وحين نظرت إلى زجاج لم تجد لها أي انعكاس ... فعلمت أنها لن ترَ دموعها.

  لوحت لها الطفلة الصغيرة مبتسمة ، فيما عيناه تلمعان كسماء مُرصعة بالنجوم أسفلها محيط أسود. رغم أن عيون كاثرين مُمتلئة بالدموع، ورؤيتها مشوشة إلّا أنها دهشت مِن عيون الفتاة، ثم تنفست بعمق لحظتها حينما حددت لونها أخيرًا؛ كانت تشعر بالحيرة تجاه هذه العيون، أو بمعنى أقرب إلى روحها، بكلّ مرة تراها. إنه لون البندق !  كان يخيل لها مرات أنها رمادية اللون وتارات أخرى تشعر أنها خضراء كالأشجار بأخر الصيف: الأخضر الباهت الذي يغلبه اللون الأصفر. 

  تنهدت النارية وألقت بعينيها إلى للأسفل ثم، وقبل أن تسأله عما يدور بعقله، نظرت إلى وجهه تتفحص ما تبُدي عيناه وما تظهره بشرته وما تقول شفتاه دون أن ينطق لسانه، بالنهاية لم تستطيع أن تقف على أرض ثابتة، كان وجهه بين كلّ شيء وعكسه، إنه ليس بالشيء الغريب عليه، هو يمتلك التضاد بكلّ شيء؛ كأن معنى الحياة يسكن به وبكلّ تصرفاته. قد  سكن الشحوب وجهه كما سكنته مشاعر قلق، خوف وحزن يعادلهم -جميعًا- علامات الشفقة وشيء آخر قد نبض له قلبها، شيء لم تسمح لنفسها بالاعتراف به خشيت أن تكون تتوهم. 

   غادرت وجهه ونظرت إلى السقف فيما أخذت نفسًا عميقًا فغادر هو شروده وضغط على يدها، فنزظرت له.
_«أكملي كاثرين ...»
عبثت بيدها وأخذت نفسًا جعل صدرها يمتلئ فانزلقت له الدموع.
_«كان ذلك بعد أن توفت بيوم واحد، حينها لم أكن أتكلم كنت أبكي مِن ألم قلبي ... هروب فقط هروب مِن الواقع ومِن شعور أشبه بالجوع والعطش، لكنه شعور لا يسكنه شيء ... أنت تعلم ماذا تفقد لكن لا تستطع له سبيلًا. (قضمت شفتيها التي بللتها الدموع د.) أنام بأمل .. أمل أن يكون ما حدث مجرد كابوس.»
سكتت للحظة وهي تنظر ليدها التي أصبح بها علامات أظافرها، فنظر معها وأبعد يدها عن الأخرى وأمسك الاثنين بين يديه.
_ «إن كنتِ لا تشعرين أنكِ بخير ... لتكملي لا بأس، يكفي ما تحدثنا به اليوم.»
هزت رأسها بالرفض، وضغطت على يده وبدأت مُجددًا كأنها لم تسمعه:
_«لم أدخل مشفى الأمراض العقلية بالبداية  .. لكن أولًا الأمراض العضوية؛ لأني كنت أتقيئ بلا سبب، وأنام بشكل مبالغ به .. نهيك عن أنه لم يكن هُناك ما بمعدتي حتى أُخرجه، فلم يكن ينزل الزاد بمعدتي. وحينما ذهبت للطبيب أعلن أني لدي مبادئ قرحة بالمعدة واضطرابات بها. ظّلت ثلاثة ليالي بحالة ركود في المشفى. (أمسكت رأسها فمسحت على جبهتها فيما تضغط على شفتيها التي تقضمها.) لم .. لم أكن أشعر بأي شيء لم أتكلم ولم أرغب بأن أرى أحدًا .. لم يكن سوى أنا وأنيسيّ فقط: ألم قلبي ومعدتي. ثم ظهرت الأعراض الأخرى لـ...»
سكتت، بينما تضغط على يده أكثر، وعلى شفتيها وهي تأن، لكنه لم يبدي أي تعبير للألم، فقط لمس خصلاتها المموجة وأومأ لها، فأكملت:
_« ...التي .. لا أذكر مِنها شيء .. كأني تغيبت عن العالم.»
أفرجت عن شفتيها ثم بلّتها كأنها تتأكد أنه يوجد بفمها ماء، وليس جفاف مثل طعم النحاس، الذي أكله الهواء حتى تحول إلى هشاشة، قد عهدته لشهور  فيما كان هو أكثر ما تتذكره أن جميع العقاقير والطعام وحتى الماء والبكاء بطعم النحاس. والشيء الثاني الذي لم تنسه هو جسد الفتاة الميتة التي كانت تسير بالغرفة ذهابًا وإيابًا، وتدور حولها بكلّ مكان.
_«لا أذكر شيء لكن كانت أمي تقول أنه لدي هذيان .. كنت أرى أشياء غير موجودة وأقول أشياء غير موجودة .. لكني بالفعل كنت أراها.»
ضغطت أكثر على يده دون أن تدرك ذلك، وبينما دموعها تهبط كالجمر تحرق وجنتها وتزيدها اشتعالًا واحمرارًا، وضعت يديها الأخرى أسفل أنفها ثم أعادت شعرها للخلف وأردفت:
_«ظللت طوال شهور الصيف ...  القليل من الطعام القليل من الحركة، اللا شيء مِن الكلام .. الكثير مِن .. كارولين ... أمي أبت أن أبقى بالمشفى، كانت هي ترغب أن تدير أمر رعايتي بالبيت .. علمت حينها أنها لم تكن ترغب في جعل أبي يأتي لرؤيتي هو وزوجته.»
هزت رأسها بالنفي، ثم أنزلت رأسها إلى الأسفل بين ساقيها؛ فعقلها كان كالبركان بداخل جمجمتها، ثم رفعت رأسها لتأخذ نَفَسًا عميقًا جهدت حتى تحصل عليه. أبعدت عينيها عن الفراغ الذي أمامها، ونظرت لعينيه لحظة طويلة قبل أن تترك يديه وتعطيه ظهرها، فتستلقي على الأريكة ووضعت رأسها على فخذه، ثم أمسكت يده ووضعتها على شعرها، بينما تمسك يده الأخرى. شعرت وهي تمسكها للحظة أنها رائعة لأنها كبيرة؛ لتحتوي الكثير مِن يديها الاثنين، ثم همست وهي تنظر له:
_«هل يمكن أن تداعب شعري ؟»
أومأ لها هامسًا:
_ «بالطبع..»
أغمضت عينيها لوهلة ثم همست:
_«كانت مارڤل تفعل ليّ هذا حتى أغفل حينما كنا أطفال ... لأشعر بالأمان.»
فتحت عينيها، وهي تداعب خواتمه، وخطوط يديه التي لم تكن مستقيمة؛ بل كانت متفرقة، أحدهم يصعد فوق الآخر وينحني للأمام مثل الهلال. كانت أصابعها الطويلة تسير مع كلّ خط على حدى، بينما بدأت تُكمل:
_ «كانت تتوعد ليّ بأنها ستأخذني معها، وتحاول قتلي .. كانت تمسك برقبتي وتجرحها بأظافرها الطويلة .. كارولين كانت دائمًا ما تهتم بمظهر أظافرها بشكل كبير منذ أن كنا أطفال .. لا عجب أنها كانت تجرحني بهم ... هذا ما كنت أراه، لكن أمي والطبيب قد أكدا أنها أظافري أنا، فكنت أستيقظ بعد تلك النوبة وأجد أظافري بها دماء بالفعل .. لكن كمريضة كنت أنكر أنها أنا، حتى إن كنت لا أتكلم حينها لكن عقلي كان يصرخ ليقنعني أنها كارولين، إن تلك الدماء دماء كارولين التي كانت تنزفها يوم الحادث .. وإن شممت تلك الدماء سأجدها مختلطة برائحتها .. رائحة التوت..»
نظرت له لتبحث عن السؤال الذي كانت إجابته على طرف لسانها، وبعد أن وضعت يده على قلبها الباكي، وهمست:
– «وكنت أجد الرائحة .. لكن كانت ثقيلة لدرجة أنها تخنقني .. كانت أحيانًا تملأ الغرفة وتجعلني استيقظ مِن أعماق النوم، ولم أستطع حتى التحدث عن الأمر .. حتى أصبحت لا أتحدث عن أي شيء  وحينما لم تُجدي العقاقير نفعًا، توقفت عن تناولها خلسًا، فبعد وقت لا بأس به عادت الحياة لطبيعتها مع أمي؛ عادت لعملها وأصدقائها .. لنفسها. وأصبحت وحدي، فمارڤل غادرت لتعيش في بيت أبي .. وسمعت أمي وهي تتحدث مع أحد مِن أصدقائها المقربين تقول أن مارڤل رفضت البقاء معي .. لأن نفسيتها أصبحت سيئة مِن الحادث وتتذكره كلما ... قد فهمت حينها أنها ترى أني السبب. (ارتفع صدرها ثم هبط.) علمت حينها أنها ترى مثلي .. أن سبب الحادث أنا. حينها فقدت الإحساس بالأيام، فهي مكررة على أي حال ... فقررت المغادرة إلى هُنا مع بداية أيلول.
حينها ... كان كلّ شيء انتهى؛ اختفت كارولين من الوجود، وبدأت أتحرك بشكل شبه طبيعي و أتحدث وألفظ الكلمات حينما عودت إلى هُنا كانت قد اختفت، بعد شهرين، من كلّ شيء عدا أحلامي، وبالطبع كنت أمام أمي بخير فلم أرغب أن أخبرها؛ حتى لا أخضع للعودة مرة أخرى.»
سكتت هينة.
_«تركتُ كلّ شيء خلفي وأتيت إلى هُنا، وكارولين .. لم تتركني في منامي؛ تنفرد بي بالليل حتى الفجر ... حتى اليوم. لم أكن أرى وجهها لأنه كان مشوهه والظلام يحيط بنا ...»
ساد السكون للحظات طويلة، ابتعدت عنه بسرعة، وضمت قدميها لنفسها مرة أخرى، وهي تتفحص وجهه المندهش من سرعتها وتحولها من الوهن للخفة بثانية، ثم همست بخوف:
_« والآن .. هذه حياتي .. هذه هي أنا ... هل ستظل هُنا الآن ؟»
عقد حاجبيه وقال بصوت خافت:
_ «السؤال ليس له علاقة بكل ما قصتيه عليّ ... وهل تغير شيء ؟»
هزت رأسها نافية، وهمست:
_«أنا كنت مريضة ... ربما أكون حتى الآن مريضة ... وسؤالك إجابته لديك وليست لدي...»
تنفس بعمق وطبق شفتيه وبللها ثم استأنف:
-«حسنًا .. إن كانت الإجابة لديّ، فسأقول لكِ أنه لم يتغير شيء وإن تغير سيكون تغير بشكل إيجابي ..»
عقدت حاجبيها مُستفهِمة، فأجاب:
_«بمعنى أني أشعر بجواركِ كما كنت تشعرني حينما كنت أعبث بشعركِ .. ولم أشعر بذلك بجوار أي شخص بحياتي قبلًا مثل ذلك الشعور ... أن أشعر بالأمان ؟ فقط حينما كنت طفل كنت أفعل لكن الآن .. أصبحت أنا مَن أخلق الأمان للجميع ولا أفعل مع نفسي كما لا أحد يفعل. لكنكِ فعلتي.»
هزت رأسها بالنفي ثم جلست على ركبتيها وقالت:
_«هل أنت سمعتني ؟ هل سمعت ما قلته لك ؟ أنا تسببت بموت أعز أصدقائي بسبب أنانيتي ! أين الأمان فيما قلت وما حكيت !»
تنهد وسأل:
_ «هل تريديني أن أذهب ؟»
أنحنى ظهرها بعدما كان مُنتصب ثم همست:
_ «أخشى أن أكون أنانية مرة أخرى .. وأخشى أن أصيبك بشيء .. و .. وأخشى أن تغادرني.»
وأعاد شعره إلى الخلف، ثم شبك يديه.
_«أنتِ لم تفعلي شيء كاثرين .. أقسم بنظري وبنظر أي شخص يفهم ما حدث حقًا .. أنتِ لم تفعلي شيء، ليس هُناك ما يجعلني أبتعد.»
كان صمتها مُمتلئ بالعطش للحديث الذي يقوله، فأمسك بيدها وأردف:
_«إنه  ليس بين يدي؛ قد انفجرت مشاعري وهرب قلبي مِن سجن صدري ... ألم أقل لكِ أنه ليس بإرادتنا !»
فتح يديها الباردة التي بيده و انحنى تجهها فيما داعبتها أنفاسه الدافئة فجعلت جسدها تسير به رجفة ألم سريعة، وقبلها ثم رفع رأسه وهمس:
_«لقد قفز هنا...»
تنفست بثقل وقد وهن جسدها، وهمست ودموعها قد بلّت رموشها:
_«حتى بعد ما قصصت .. حتى بعدما قلت ما قلته ؟ (أبعدت يديها مِن بين يده وتنفست بعمق ثم قضمت شفتيها واردفت بصوت هادئ.) للمرة الثانية أريدك أن تسمعني وتنظر ليّ بعقلك: أنا شخص مريض ! قد تسبب بموت أقرب أصدقاءه، ليس ليّ أمان .. شخص أناني ! »
أومأ هامسًا:
_ «وقد قلت لكِ أيضًا: ليس الأمر كذلك؛ أنتِ لم تتسببي بشيء هي كانت فاقدة للوعي، أنتِ فقط انسحبتِ مِن المكان الذي لا يشبهكِ؛ ليست أنانية بقدر ما هو حب .. ولم تكونِ تحبينها لَاما ذهبتِ إلى هُناك ! ولم يكن الوضع واضح بشكلّ كافي أمام عينيكِ وكنتِ صغيرة. كلّ تلك الأشياء يجب أن تضعيها بالحسبان.»
عقدت حاجبيها بحدة وقالت باستنكار:
_«لولا أني أتيت إلى ذلك المكان وهي أتت معي لاما كانت ماتت ... ! »
عقد حاجبه وقال:
_ «لقد كانت هُناك بالفعل كاثرين قد أكل السُكر عقلها.»
زمت شفتيها ونزلت دموعها كما وهن ظهرها أكثر فيما أعادت ظهرها إلى الخلف وضمت ساقيها إلى صدرها مرة أخرى، ثم قالت بصوت خافت:
_«لا أعلم، لم أعد أعلم شيء .. لولا ذهبت فقط .. لو لم أذهب .. أصبحت أواجه العالم بفردي الآن.»
تنهد ونظر إلى الأعلى فيما انزلقت دمعة مِن عينه، كان يحبسها طويلًا، ثم نظر لها يتفحص حالتها.
_«لستِ وحدك الآن ... أنا معكِ سأوجه العالم معكِ.»
أملت برأسها على ركبتيها فيما ظلت تحدق بوجهه.
_«سأسبب لك الأذى ... لن تتحمل بردي ولن تتحمل حرارتي؛ حياتي باردة وأنا احترق كل ليلة ..»
ابتسم ابتسامة مطبقة وقال:
_«لقد تعلقت بنعومة يديك ورائحتها ... ليس عالمكِ فقط .. إن تخليتُ عنكِ حين رأيت حقيقتكِ فأنا لا أستحق أن أحب أو أن يحبني أحد .. أنتِ لم تتخلِ عن صديقتكِ لأنك تُحبينها، حتى إن كانت لا تشبهكِ، وإن كنتِ تخليتي عنها حقًا تلك هي الأنانية، وأنا .. إن تخليت عنكِ الآن سأكون في قمة الأنانية.»
وضعت يديها على فمها للحظة تكتم شهقتها التي هربت مِنها، ثم مسحت دموعها بيديها، ونظرت له قبل أن يتحدث هو:
_«أنا ...أنا أحببتكِ وليس الأمر بيدي.»
ظلّت تحدق به للحظات قبل أن تقترب مِنه بحذر ثم جلست على ركبتيها وتشبك يدها بيده ... وهمست:
_«أنا أيضًا أحبك...» 

  الآن فقط .. علمت إلى مَن كانت تكتب الرسائل ... إلى كارولين. 

كلاسيكيات وردية Unde poveștirile trăiesc. Descoperă acum