-السابع. (لمسات فنية.)

11 1 0
                                    

•_«حتى الأن لا أعلم ما هو معنى ذلك الحُلم ولا أستطيع كبح شعوري أنه حقيقة وليس مجرد رؤية...
 
   قد أصبحنا الأن بالخريف بداية السنة الجديدة..تغير الكثير مِن الأشياء لكن ككل سنة بذلك التويقت، منذ عامين، أقرأ تلك الصفحة،  وأكتب عن شعوري ... عن ذلك اليوم
   غاب يوسف منذ فصل وغربت ليلى معه..عادت الحياة الدراسية والتفت الجميع لحياته وكنت وحيدة مع ڤينوس...»

   انتهت مِن الكتابة وابتعلت فُتاتات القهوة ثم أتت بالمعقلة البيضاء الزجاجية وأكلتها، وهي تُشاهد الشفق البارد وتمسع فيروز تغني: (يا أنا يا أنا.)
    لقد أستيقظت للتو...

كان يرتشف ببطء قهوته الفرنسية، قد أصبحت قهوة باردة حينما غفل عنها بينما يضع لمساته الأخيرة على لوحته الصغيرة؛ كان يودّ أن يُنهيها قبل أن تغرب بطلتها المُحببة عن عينيه الزرقاء، كما أن يده المسكينة كانت مُتعطشة لأن يبدأ بلوحة أخرى. تفحص اللوحة وشعر بالرضا عنها إلى حد جعله يفكر جديًا لأول مرة أن يُهديها لها. لوحة قد أخذت أسبوع لرسمها أخذت ست ساعات ونصف مِنه، إنها الأوقات التي قضتها أمامه في المكتبة هذا الأسبوع، دون أن ترفع نظرها عن الكتاب كأن الكلمات تبتلعها فتظل ساكنة كنموذج مخصص للرسم؛ المكان نفسه، الجلسة نفسها، وإن تغير الثوب لم يهمه؛ فعيناه لا تلتقط الثواب بل تركز عليها وحدها.
لقد رتب كلّ مواعيد المحاضرات المشتركة بينهما والمتخلفة حسب مواعيدها وخط سيرها بالجامعة، الذي قد حفظه منذ عامين؛ إنها تقضي مِن ساعة إلى اثنين بعد نهاية اليوم بمكتبة الجامعة الكبرى، كانت تلوذ مِن وحدتها لملئ فراغها، كما كلّ الذين يملؤون خواء عقولهم بعيدًا عن صخب العالم. وكان هو الوحيد الذي يستخدم المكتبة للرسم؛ فيملأ خواء قلبه بالتمعن بتفاصيلها الصغيرة مع كلّ حركة لها وكل تعبير يرتسم على وجهها مع كل سطر تقرأه، كان يود فقط لو يجعلها ترى الروايات التي تحكيها تفاصيلها في لوحاته عنها وحدها؛ قد سخّر يده لها وحدها، كأنما قد أهداه الله هذه الهبة حتى يُخلد حبه لها؛ لتكون موهبته، قلمه، ويده عِبادًا لها وحدها دون غيرها؛ فيده لم تكن ترقص فَرحًا إلّا عندما تلمس خطوط شعرها النارية أو جفنيها ورموشها تحمل دمعة هاربة على وشك السقوط مِن عينيها .. عيناها حيث تتلألأ الكلمات ...
 
  أفق من شروده حينما وجد أحدهم يجذب الكرسي الذي بجواره ويجلس، رفع نظره مِن لوحته وقلب الدفتر على وجهه ثم أغلقه، فيما داعب طرف أنفه بإصبعه، وقد تكلف الابتسامة وهمس:
_«مرحبًا انجيل.»
وضعت رأسها على يدها وهمست بابتسامة مرحة:
_«مرحبًا رون. هل القراءة تثير شغفكِ لتلك الدرجة ؟ أغلب وقتك تقضيه هُنا، حتى أني لا أفكر أين ذهبت أنا أعلم أنك هُنا. إذن … أين الكتاب الذي يجعلك تركض له بعد المحاضرة ؟»
اِنتصب ظهره، سرق نظرة على سبب وجوده في المكتبة، كاثرين ڤيكتور، وهز رأسه بالنفي فيما ما زال مُتكلفًا ابتسامته وقال همسًا:
_«لا … لا يوجد كتاب؛ أنا فقط كنتُ أتناول قهوتي، و .. (أشار على دفتره.) فهذا الهدوء لن أجده بالخارج، هُنا المكان يخلو مِن الضجيج.»
أومأت له ثم ابتسمت وهمست وهي تقترب مِنه:
_«حقًا لا أعلم كيف تُقنع أمينة المكتبة بأن تدخل بالقهوة إلى هُنا.»
أبعد نظره عن النارية التي كانت قد بدأت تجمع أشياءها للمغادرة، ثم نظر إلى دفتره وأعد نظره إلى الفتاة التي تجلس بجواره، وقال باضطراب:
_«ماذا .. ماذا كان السؤال ؟»
التفت بجلسته كاملة لها، فسقط دفتر اللوحات خاصته فانحنت انجيل، مع رون تجاه الأرض حتى تلتقط الدفتر وقد تبعثرت مِنه بعض الأوراق وكانت جميعها تحمل رسومات عدة مختلفة عن موضوع واحد .. فتاة واحدة، نفسها التي لمحتها منذ ثوانٍ تجلس على الطاولة على الجانب الآخر مِن المكتبة أمام رون تحديدًا، فيما رفعت جسدها لتنظر إلى الفتاة التي كانت ترتدي حقيبتها على كتفها ثم أخذت طريقها تجاه بوابة المكتبة.
ارتجفت انجيل للحظة قبل أن تضع الأوراق على الطاولة وتتكلف الابتسام لتعطيه الدفتر قائلة:
_«يديك رائع .. إنها فتاة جميلة ومحظوظة.»
أومأ لها بابتسامة مُطبقة، ثم أخذ الأوراق والأقلام وجمعهم في حقيبته ماركة "fjallraven kanken" الزرقاء وتمتم بشكر جاف سريع، فأجابت بإيماءة ثم ساد الصمت لحظة قبل أن تزيّف طاقتها مِن جديد، وتقول بهمسٍ مُتكلفة المرح:
_«إن صوفيا وتوم ينتظران بالخارج، وأيضًا ماكس سيأتي بأي لحظة.»
حمل حقيبته على أحد كتفيه وهمس قائلّا:
_«مع الأسف. (أمسك بكوب قهوته.) أنا أحتاج إلى العودة إلى المنزل سريعًا.»
نظرت إلى الأسفل وهي تزم شفتيها للأمام وتمتمت:
_«هذا مؤسف.»
ثم رفعت رأسها وقالت بسرعة وحماس:
_«هل يمكن أن تقلّني إلى المنزل معك ؟ فالسيارة معطلة اليوم، ولن يأتي السائق.»
رفع كتفيه و نصب يده إلى الأمام في حركة مِنه لأن يقول لها  أن تتقدم.
  سارت أمامه وعلى وجهها ابتسامة سعادة كبيرة، لحسن حظها أنها حدثت السائق حتى يعود للمنزل قبل أن تقابل رون، فعلى أي حال هي قد خططت لذلك منذ ليلة سابقة متوقعة مِنه أن يهرب مثلما يهرب كلّ مرة تقريبًا.
خرجت لتقابل أصدقائها ثم غمزت لصديقتها طويلة القامة وذات جسد مُكدس، شعرها بني اللون وبشرتها قمحية اللون، ولها رموش كثيفة وأعين بنية اللون فيما تمتلك شفاه مُمتلئة وأنف صغير سماوي.
علمت صوفي أن انجيل ستغادر معه، فبدلتها الابتسامة نصفها فيما كانت شفتيها مطبقة، فاختفت ابتسام انجيل تدريجيًا ونظرت للأسفل للحظة ثم ارتفعت بنظرها ببطء على صديقها توم، كان فتى ضخم البنية؛ طويلة القامة وعريض المَنكبين، ذو صدر صلب إلى جانب العضلات التي كانت قد زُرعت بأنحاء جسده، بينما كان بلا شعر، يرتدي فقط قبعة شتوية مِن الصوف سوداء فوق رأسه اللمع. وعكس شعره كان يمتلك رموش طويلة كثيفة تزين عينيه الزرقاء الواسعة، وله أنف مسطح وشفاه مُمتلئة دائمة الاحمرار. حينما وقعت عيناها على وجهه أدار عينيه بانزعاج ثم نظر إلى الأرض وتنهد، لكنه سرعان ما قد غير تعبيره للابتسامة وهو ينظر إلى وجهها حتى لا يثير حزنها أكثر، فضحكت له سريعًا وهمست له:
_ «أخرق !»
فوضع كفه خلف رأسها لتصطدم بصدره، فابتعدت عنه وهي تدفعه ثم وضعت يدها على جبهتها قائلة:
_«رأسي يا أبله !»
تأوهت فضحك كما فعلت صوفي، فيما نظرت إلى رونالدو الذي كانت عيناه تبحثان عن الفتاة ذات الشعر الأحمر، فأشاحت بنظرها عنه تجاه الأرض ثم نظرت إلى توم الذي بدأ يعبث بشعر انجيل الناعم ويجذبه على وجهها.
قد تكونت تلك المجموعة منذ سنوات، بالمدرسة الابتدائية حين تعرفت بالبداية كانا انجيل وتوم صديقان وجيران منذ الطفولة ولكنه كان يكبرها بعامين، ثم رسب مرة وأخرى حتى يكون معها كما رسب ماكس عامين أيضًا لاهتمامه بكل شيء إلا الدراسة، فيما هي قد تعرفت على صوفيا وفي اليوم الثاني لها في المدرسة أصبحت أفضل صديقة لها، كان توم ينتابه الغيرة مِنها بشدة. ثم انتقلت الغيرة إلى الفتى الذي كانت تراقبه: رونالد بترسون، منذ اليوم الأول الذي انتقل به إلى المدرسة في السنة الأولى في المرحلة الإعدادية، ثم اكتشفت أنه انتقل منذ مدة على بعد ثلاثة منازل مِن منزلها. منذ ذلك الحين ذهبت لتتعرف على الفتى الوحيد وتجعله ينضم إلى أصدقائها. ودون أن يتفوه أحد بالأمر، لكن الجميع يعلم أنه لا ينتمي لهم منذ أن انضم لمجموعتهم فيما كان هو يشعر بهذا الشعور، بأنه العضو المضاف لتلك المجموعة هو يشعر بذلك الحاجز بينه وبينهم منذ أول يوم وكان شعورًا متبادل ... الجميع يشعر بهذا الحاجز ويعترف به لنفسه، لكنه يُخفيه داخله بوجود انجيل. يُسايرون بعضهم البعض أو يسايرون الفتاة اللطيفة التي تربطهم ببعضهم البعض.
_«أين ماكس ؟»
قالتها انجيل لصوفي، التي قد شردت في العبث الذي يحدث بين انجيل وبين توم وغادرت مع عقلها في مكان آخر داخل تلك العلاقة بين الفتاة والفتى. أفاقت صوفي وقالت وقد ابتسمت باستسلام:
_«كعادته .. لديه عمل فجأة وبأخر لحظة، بعد أن يعدنا أنه سيأتي (تنهدت.) .. لقد تعودت على أي حال. هيا لنذهب لأني أريد أن أمر على جدتي .. هل ستأتين معي ؟»
هزت رأسها وقالت وهي تمسك بذراع رون:
_«سأغادر مع رون سيقلنّي بسيارته.»
ألقت صوفي نظرها على توم الذي أشاح بنظره بعيدًا ثم أومأت لها وقالت:
_ «حسنًا. هذا جيد…»

                              ***
دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فيما هي لم تستطع النوم وهي تغوص أكثر وأكثر في محيط الحكايات التي تحكيها دون وعي بشراسة، بشراهة مصاص الدماء متعطش لوجبته، كانت تكتب وهي مُتعطشة لسرد ما استلهمته مِن أحداث الأيام التي مرت، كأنها تركض خلف الكلمة حتى تلحق بها، وتأسرها في أوراقها.
نظرت إلى الرسالة بعد أن أنهتها، ثم سقطت مِنها نقطتان على الحبر فأذبت الكلمات نقطة عرق مِن يديها الرطبة والأخرى دمعة هاربة مِن أسر عينيها.
  تنفست بعمق لعلها تهدئ نبض قلبها، وقد كانت تشعر بأنه يتضخم في صدرها، تشعر بحريق به.
أعادت جسدها إلى الخلف على الكرسي ثم ضيقت عينيها لترى بوضوح، فعيناها كانت تؤلمانها، ببعض الأحيان، مِن الكتابة والقراءة. لكن الألم هذه الأيام كان أقوى حتى يصل بها للشعور بالصدراع لها. نظرت إلى فنجانين القهوة والشاي التي أمامها؛ لم تكن تقوى على عدهم لكنها خمنت أنه ربما أحد عشرة فنجان وكوب؛ فلا تنم قبل أن تكمل الرسالة. ابتسمت لنفسها وقالت لعقلها ممازحة أنها لم تكن تعلم أن لديها كلّ تلك الفنجانين والأكواب ؟ لكنها شعرت بالسعادة بوجودهم حتى لا تضطر أن تنشغل عن حديثها مع صديقتها كثيرًا بتنظيفهم فتهرب الكلمات مِنها.
كانت تأخذ أنفاسها ببطء، وهي تنظر حاولها بالمكان بأكمله؛ في مكتبة بيتها الضخمة وحيدة لا يؤنس وحدتها سوى مصباح نوره خافت مُسلط على أوراقها فقط، بينما ما حولها هو ظلام دامس.
أصبحت رؤيتها مُشوشها، فحاولت النهوض لدخول المرحاض حتى تغسل وجهها، لكنها لم تسير سوى خطوتين وسقطت على الأرض.
مع مرور الثواني كانت الرؤية تصبح مشوشة أكثر، و أنفاسها أصبحت أكثر ثقلًا، فأصبحت محاولات أن تلتقطها صعبة، كانت تشعر برأسها يزداد به الألم، وجسدها ترتخي أعضاءه أكثر. انزلقت مِن عينيها الدموع وبكت وهي تهمس بعدة كلمات ليس مِن ضمنها كلمة أمي ... وأكثر ما ذكر لسانها كان اسم مارڤل.
توقف لسانها عن طلب المساعدة، التي لن تأتي، حينما لمحت طيف أبيض يقف بزاوية الغرفة، صغير الحجم لكنه مُضِيء … لم ترى له ملامح. كان يبتسم حينما اقترب مِنها وانحنى لها ... أو انحنت ثم اقتربت الفتاة، الشبح، مِن وجهها، فشعرت بدفء يسير على وجنتها، زرع هذا الدفء بها رغبة في الابتسام ورغبة بالغة في البكاء فيما تسمع عقلها يتحدث:

_«لم أكن أتخيل أن الموت دافئ إلى هذا الحد .. أم أن حياتي كانت أبرد مِن الموت ... لأنها تخلو مِن .. ها...»
التقط سمعها هذا الصوت قبل أن تغفو ... ملاك الموت الصغيرة تقول:
-لن تكونِ وحيدة بعد الآن.

ابتسمت وقال عقلها:
_«إن صوت ملاك الموت جميل !»

كلاسيكيات وردية Where stories live. Discover now