الفصل الواحد و العشرون

11.6K 395 8
                                    

عذراً على التأخير، أيام عيد بقى و كل سنة و أنتوا طيبين 😀❤️❤️
أحم متنسوش الفوت و الكومنت 😅😅

🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸

تجمد مازن في وقفته غير مصدقاً لما سمعته أذناه ، ألم يرفضوا العريس منذ يومين ؟ ، إذاً ما هذا الذي يسمعه ؟ ، أم أن هناك أخر جاء لأخذ صغيرته منه ؟
تمعن في تسنيم بشرود .. ما الذي تملكه يجعل كل الرجال يتهافتون عليها و يطلبون قربها ؟
و ما الذي عليه فعله كي يبعدها عنهم و يحميها منهم ؟!
لم يكن هو وحده المصدوم بما فعله .. فتسنيم هي الأخرى كانت متجمدة في مكانها بعدم تصديق و عقلها يرفض ما سمعته ، و قلبها خائف من سعادة والدتها بهذا العريس .. و مرتعب ألا تستطيع رفضه !
كان مازن أول مَن أفاق من صدمته .. فصاح : " ماذا أمي ؟ ، ألم نرفضه من قبل ؟ "
لم تكن هالة منتبهة إلى انقلاب ملامحهم و عدم الرضى و .. الغضب الظاهران عليها بوضوح ..
لقد كانت سعادتها في هذه اللحظة لا تسع الدنيا بما تحويه .. فأخيراً سترى طفلتها عروساً .. أخيراً ستراها مرتدية الفستان الأبيض و عريسها يأخذها إلى بيته ليبدآ معاً حياة سعيدة ..
أغمضت عينيها و ذكرى أخرى تراودها .. أخرى كانت تتمنى لو أنها كانت مع تسنيم الآن .. لكن القدر كان له رأي أخر .. و آثر أن يأخذها منها .
" إنه عريس أخر بنيّ " .
كلمتها هذه أشعلت الخوف و الرفض داخل تسنيم ، فنظرت إلى والدتها بتصميم و هتفت بتوتر : " أنا لا أريده أمي " .
نظرت لها هالة بدهشة : " و هل تعرفينه كي ترفضيه ؟ "
هتفت تسنيم بتصميم لم يتزحزح : " لا .. و لكنني لا أريد الزواج الآن .. ما زال الوقت مبكراً على هذا " .
تنهد مازن في راحة و ود لو قبل تسنيم على ردها هذا ، إلا أنه تمالك نفسه حتى لا يثير استغرابها هي و والدته ، فهما لن تفهمان موقفه .. و كم هو خائف على صغيرته !
في حين أن هالة لم تيأس .. فمن وجهة نظرها .. جميع الفتيات يقولن هذا خوفاً من خوض تجربة جديدة عليهن ..
اقتربت من تسنيم مربتة على ظهرها بحنو قائلة : " أنتما لن تتزوجان في الغد لتخافي هكذا .. و بإمكاننا تحديد الموعد الذي يناسبكِ للزواج " .
قاطعتها تسنيم قائلة بعناد : " لا أريد" .
ليتبعها مازن قائلاً : " أمي .. أرجوكِ لا تضغطي عليها .. هذه حياتها و لا أحداً منا يحق له أن يتدخل في قراراتها " .
بدأ اليأس يتسرب إلى هالة و هي ترى رفض أبنتها القوي .. و الأسوأ مساندة شقيقها لقرارها !
نظرت إلى مازن بعتب قائلة : " هذا بدلاً من أن تساعدني لإقناعها " .
فغر مازن فاهه ليتحدث إلا أنها قاطعته عندما التفتت إلى تسنيم قائلة : " أنا لن أضغط عليكِ حبيبتي ، و لكن فلتسمعي مني و تجلسي معه قبل رفضه ، لربما أقنعكِ و وافقتي على الزواج منه " .
لتصدر بعدها تنهيدة معترضة و تقول : " مع أنني لا أجد داعي لكل هذا فسيف عريس لا يعوض " .
كادت تسنيم أن تعترض للمرة التي لا تعلمها .. إلا أنها سكنت فجأة و عيونها تنظر إلى والدتها بعدم تصديق .. و فمها شبه مفتوح .. بينما دقات قلبها تتسارع بسعادة !
بالتأكيد هي تتوهم .. يستحيل أن يكون ما سمعته صحيحاً ، إنه سيف أخر غير سيف حبيبها ، فإن كان حبيبها هو مَن تقدم لخطبتها لكان أخبرها بذلك قبلها ..
رمشت تسنيم بعيونها عدة مرات و بعدها تساءلت بهمس لا يكاد يُسمع : " سيف مَن أمي ؟ "
ردت هالة عليها بحماس متمنية من كل قلبها أن يكون سؤال أبنتها ما هو إلا بداية لموافقتها .. متغافلة عن ملامحها المصدومة : " سيف أبن خالتكِ " .
رددت تسنيم بذهول : " سيف " .
يا له من خبيث .. كيف لم يخبرها بهذا من قبل ؟ ، هل كان يريد أن يفاجئها ؟ ، حتى لو كان كذلك .. سوف تريه على عدم إخباره لها !
وعت من أفكارها على صوت والدتها و هي تقول : " ماذا قررتي حبيبتي ؟ "
ابتسمت تسنيم بهدوء : " امنحيني بعض الوقت لأفكر أمي " .
لتخرج بعدها تاركة وراءها قلب يرتجف من السعادة و أخر من الخوف !
**********
دلفت إلى غرفتها .. لتقفز بسرعة على سريرها و تلتقط هاتفها متصلة بحبيبها ، صاحت فور أن وصلها صوته :
" كيف لم تخبرني ؟ ، ماذا كنت تنتظر ؟ "
قهقه سيف بسعادة و تمدد على سريره ناظراً إلى سقف غرفته بعيون تلمع سعادة ، ثم قال :
" لقد حدث كل شئ بسرعة صدقيني .. إن كان لدي وقت لكنت أخبرتكِ بالتأكيد " .
تربعت تسنيم في جلستها بحماس و قالت : " قص لي ما حدث بالتفصيل .. هيا " .
أخذ سيف يخبرها ما حدث و كيف أن والدته كانت تشعر بحبهما لبعضهما .. و فاجئته عندما تحدثت مع والده و أخذت موافقته على زواجهما ، و أنهى حديثه بإخبار تسنيم عن رغبته في الإسراع في طلب يدها عندما فاتحته والدته بالموضوع ..
أراحت تسنيم جسدها على السرير .. و أغمضت عينيها براحة .. مع ابتسامة عاشقة ارتسمت على شفتيها .. و قالت :
" أ يعني هذا أنه لا لقاءات في الخفاء بعد الآن ؟
لا ارتباك عندما يصدح صوت هاتفي معلناً اتصالك ؟
لا قلق من النظر إليك في وجود أقاربنا خوفاً من أن يكتشفوا علاقتنا ؟ "
همس سيف بسعادة : " نعم حبيبتي .. سنعلن حبنا للعالم كله دون خوف " .
همست بعشق : " أحبك سيف " .
ليهمس بدوره : " و أنا أعشقكِ و لن يستطيع أحد تفرقتنا " .
**********
ابتسمت أسيل بسخرية و هي ترى هاتفها يضئ بأسم والدتها ..
هل للتو تذكرت أن لديها أبنة عليها أن تسأل عنها ؟
هل علمت ما حدث معها من الأساس ؟
و ماذا كانت ردة فعلها حينها ؟
و في غمرة أفكارها لم تنتبه أن هاتفها توقف عن الرنين و عاد ليصدح من جديد ، فتحت الخط بعد أن تنفست بقوة مهيئة نفسها إلى سماع الأسوأ !
" مرحباً أمي " .
وصلها صوت سوزان بنبرة حنونة من النادر أن تتحدث بها : " أسيل حبيبتي كيف حالكِ .. اشتقت لكِ كثيراً " .
و تابعت بعتاب برئ : " أ هكذا تسافرين دون أن تخبريني ؟ ، أ طاوعكِ قلبكِ ؟ ، إنكِ حتى لم تودعيني .. يا إلهي كم أنتِ قاسية " .
كانت أسيل لتتأثر بكلماتها تلك إن لم تكن قد كانت على وشك الإغتصاب ، إلا أن ما حدث معها .. و شرفها الذي كان على وشك الضياع .. جعلها تستمع إلى كلمات والدتها ببرود .. دون أي تأثر ..
انتظرت حتى انتهت والدتها من عتابها المصطنع لتقول : " ألم يخبركِ إدوارد بما فعله ؟ "
لم تتأثر سوزان بنبرة ابنتها الجامدة ، و ردت عليها بثبات متأصل في شخصيتها : " بلى أخبرني .. و أرى أن رد فعلكِ كان مبالغاً بعض الشئ " .
فغرت أسيل فاهها بذهول غير مصدقة لما تسمعه ، أ كان رد فعلها مبالغاً ؟
إذاً ما الذي كان عليها فعله ؟
تحتضن إدوارد مسلمة إياه جسدها بكل برود !
أغمضت عينيها بأسى .. لا تستبعد الآن أن والدتها موافقة على ما كاد أن يحدث معها ، أو أنها قد تكون شجعت إدوارد من الأساس لفعل هذا !
حركت رأسها باعتراض عنيف .. لا .. من المستحيل أن تكون والدتها فعلت هذا .. مستحيل أن تكون سلمتها لأبن زوجها بكل برود و لا مبالاة ..
شعور بالكره بدأ يتنامى في قلب أسيل تجاه والدتها و هي تفكر في هذا ، لتتساءل بنبرة ميتة .. و قلبها يرتجف خوفاً من إجابة قد تقضي على ذرة الحب الوحيدة التي تحملها لوالدتها :
" أ كنتِ تعلمين ؟ "
قشعريرة سرت في جسد سوزان و هي تستمع إلى نبرة أبنتها الغريبة .. و لأول مرة منذ سنوات تفقد ثباتها و يتسرب التوتر إليها .. لتبقى صامتة لا تجد رداً يريح قلب ابنتها ..
كررت أسيل كلمتها بخفوت .. و قد بدأت تتأكد أن لوالدتها يد فيما كاد أن يحدث معها : " أجيبيني أمي .. أ كنتِ تعلمين ؟ "
ابتعلت سوزان ريقها بتوتر و قالت : " عزيزتي تعلمين أن مثل هذه التصرفات في مجتمعنا " .
قاطعتها أسيل بحدة و قد بدأ صوتها يعلو : " كلمة واحدة أمي .. كنتِ تعلمين أم لا " .
همست بخفوت : " نعم " .
أغمضت أسيل عينيها و قد بدأت بعض القطرات تتسرب منها ، بقت لحظات صامتة و كأنها تستوعب معرفة والدتها لما كاد أن يحدث دون أن تمنعه ، ثم همست بجمود : " أعتبري أبنتكِ ماتت " .
لتغلق بعدها الخط دون انتظار ردها ، رفعت يديها لتمسح الدموع المتعلقة على وجنتيها .. ثم أخذت نفس عميق مخبرة نفسها :
" لا تحزني .. لا شئ يستحق الحزن .. لطالما فاجئتكِ بأفعالها .. و لم تعاملكِ كأبنتها .. من المفترض أن تكوني أعتدتي على هذه التصرفات منها " .
لتنهض بعدها بكل عزيمة مستعدة إلى أول يوم عمل لها ، مسيطرة على مشاعرها و مخرجة حديثها مع والدتها من رأسها .. مخبرة نفسها أنها لا تهتم !
**********
صاحت سوزان : " أسيل .. أسيل " .
و عندما لم تجد رداً .. نظرت إلى هاتفها باستغراب .. لتجد أن الخط قد أُغلِق !
ألقت بهاتفها بعصبية لا يصطدم بالجدار بقوة .. ثم التقطت سيجارة مشعلة إياها بأيد ترتجف من الغضب ..
دلف إدوار ليجدها على هذه الحالة ، فألقى بجسده على الأريكة بجانبها متسائلاً : " هاتفتيها ؟ "
أبعدت سوزان السيجارة عن شفتيها .. و هتفت من بين أسنانها : " الحمقاء .. الغبية .. لا تفهم شيئاً " .
ابتسم إدوارد ابتسامة جانبية و هتف : " ماذا قالت لكِ ؟ "
التفتت إليه سوزان بكامل جسدها و نظرت إليه قائلة : " تصور .. تخبرني أنها ماتت بالنسبة لي ، أي أنها لا تريدني في حياتها ثانية " .
ابتسامة إدوارد تحولت إلى ضحكة صغيرة .. ليهتف بعدها : " أستطيع تصور ذلك سوزي .. أو يمكنكِ القول أنني لا أستبعد أي فعل تقوم به ، لأنها ببساطة عربية .. و العرب دائماً ما يفاجئوكِ بأفعالهم " .
قاطعته سوزان بحدة : " بل هي أجنبية .. لقد وُلِدت و عاشت هنا .. كما أنها تحمل الجنسية البريطانية " .
هتف بسخرية : " إلا أن والدها عربي .. و لقد زرع فيها جميع قيمه و مبادئه .. الأمر الذي فشلتي أنتِ في فعله ، و صعّب عليّ مهمتي " .
" ماذا تقصد ؟ "
ربت على يدها قائلاً : " انسي الأمر الآن .. لننتظر يومين أخرين و من ثم نسافر إليها .. المواجهة ستكون أفضل من الحديث على الهاتف " .
ليتابع و هو ينظر إلى الفراغ بتصميم : " و اطمئني .. لن أرتاح إلا عندما تعود و تعيش معكِ كما تريدين ، فلقد أصبحت أسيل هدفي الخاص .. و أنا لا أفشل ! "
**********
خرج طارق من البيت لينتبه إلى أسيل واقفة على جانب الطريق .. عينيها مختفية خلف نظارتها السوداء الشمسية .. و جسدها يغطيه فستان طويل بألوان هادئة تناسب الصباح .. بينما شعرها معقود على هيئة ذيل الحصان ..
لاحظت أسيل خروجه من المنزل لتبدأ دقات قلبها تتسارع بسعادة لرؤيته ، فزمت شفتيها بقوة محاولة السيطرة على مشاعرها .. حامدة الله على ارتدائها النظارة كي تخفي لمعة عينيها ..
ما بها ؟
لِمَ متأثره برؤيته هكذا ؟
ألم تتخذ قرارها بنسيانه و المضي في حياتها ؟!
لِمَ إذاً لا تستطيع تهدأة نبضات قلبها المتسارعة .. و السيطرة على عينيها اللامعة ؟
أ تمكن منها طارق إلى هذه الدرجة ؟ إلى درجة ألا تستطع إخراجه من قلبها !
أم أن الموضوع يحتاج إلى بعض الوقت و بعدها ستنساه و كأنها لم تحبه يوماً ؟!
اقترب منها طارق ليقف بجانبها و يسألها : " لِمَ تقفين هكذا ؟ "
تأففت بانزعاج واضح و قالت : " لقد طليت سيارة أجرة لتقلني من ربع ساعة .. و لم تصل حتى الآن " .
نظر طارق إلى ساعته باستغراب .. و لم يستطع السيطرة على فضوله فسألها : " سيارة أجرة .. في هذا الوقت !..، إلى أين ستذهبين ؟ "
ردت ببساطة : " لدي مقابلة عمل " .
عقد حاجبيه باستفراب : " عمل !..، أين وجدتيه ؟ ، و لِمَ لم تخبريني بهذا ؟ "
ابتسمت أسيل بسخرية متذكرة جملته .. عندما قال بكل برود أنها ليست سوى مجرد أبنة عم يخاف على سمعتها .. و فقط !
فنزعت نظارتها ناظرة إليه بسخرية و قالت بتشفي : " عفواً .. و لكن .. لِمَ عليّ إخبارك ؟ ، بأي صلة ؟ "
رد طارق بنبرة لا تقبل المجادلة : " لأنني أبن عمكِ ، و لأسأل عن المكان الذي ستعملين فيه و اتأكد من أنكِ ستكونين آمنة هناك " .
رفعت أحد حاجبيها باعتراض : " و هل تراني طفلة لتفعل هذا ؟ ، أنا قادرة على حماية نفسي .. كما أنني واثقة من هذا المكان " .
هتف بتعنت : " حتى لو .. عليكِ إخباري " .
جزت أسيل على أسنانها بعصبية : " و مَن أنت لأخبرك ؟ ، أستيقظ لنفسك .. أنت لست سوى أبن عمي .. أخر ما بيننا هو كيف حالك .. بخير ، لا يحق لك غير ذلك " .
ارتسم الذهول على ملامح طارق ؛ أين الطفلة الخجولة الخائفة التي كانت تتشبث به قديماً ؟!
أين تلك الطفلة التي كانت لا تطمئن إلا عندما يكون بجانبها ؟!
أين تلك الطفلة التي كانت تندس في أحضانه طالبة منه ألا يبتعد عنها ؟!
مَن هذه التي تقف أمامه الآن و تمنعه بكل صفاقة التدخل في حياتها ؟!
تحدث باقتضاب : " لنذهب الآن كي لا تتأخرين " .
و تابع بسخرية : " و سنحدد موعداً قريباً لنجلس سوياً و نتفق على حدود علاقتنا " .
سارعت مقاطعة إياه : " لا تربطنا علاقة من الأساس " .
عقد حاجبيه بغضب بسبب جملتها الأخيرة .. لا يعلم لِمَ انتابه !
ثم هتف : " هيا الآن " .
تحرك متجهاً إلى حيث صفّ سيارته بالأمس ، ليتوقف في منتصف الطريق عندما لا يستمع إلى خطوات خلفه !
التفت إلى أسيل ليراها لا زالت في مكانها .. لم تتقدم خطوة واحدة ، فسألها بنفاذ صبر : " لِمَ تقفين مكانكِ ؟ "
أجابته ببراءة أطّلت من عينيها : " و إلى أين سأذهب ؟ "
أغمض عينيه و برائتها في هذه اللحظة تذكره بأسيل القديمة .. أسيل الطفلة التي افتقدها ، ليفتح عينيه و قد ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه .. و هتف : " سأقلكِ إلى عملكِ .. هيا " .
هزت رأسها برفض : " لتذهب أنت .. أنا سأنتظر سيارة الأجرة " .
اعترض بتصميم : " بل سأقلكِ أنا ، و لن أقبل بغير هذا " .
هتفت بتصميم هي الأخرى : " لا داعي لذلك .. يمكنك الذهاب إلى عملك كي لا تتأخر .. لا تشغل بالك بي " .
تأفف بنفاذ صبر : " أسيل هيا .. لا تثيري غضبي أكثر من ذلك " .
حينها وصلت سيارة الأجرة التي كانت أسيل قد طلبتها من قبل ، فابتسمت قائلة : " لا داعي .. لقد وصلت السيارة .. أراك لاحقاً " .
و تحركت لتصعد إلى السيارة ببرود .. غير مبالية بردة فعله ..
زفر طارق أنفاسه بغضب .. و في لحظة كان قد قطع المسافة بينهما ، ليضع يده على باب السيارة مانعاً أسيل من فتحه .. و يهمس بالقرب من أذنها .. مشدداً على حروفه :
" لن تركبين سيارة أجرة طالما سيارتي موجودة .. لن تركبين مع سائق غريب لا نعرفه طالما بإمكاني أن أقلكِ " .
لم تنصت أسيل لأي من كلماته .. حيث كانت متأثرة باقترابه الشديد منه .. تشعر بالتوتر و السعادة في آن واحد .. تتمنى أن يطول قربه و لا يبتعد عنها ..
يا لها من حمقاء !
ها هي تنسى كل وعودها و قرارتها بنسيانه .. مؤمنة بأن قلبها لا يستطيع العيش بدونه .. و قد أعلنت استسلامها على نسيانه من أول جولة .. و أول أقتراب له منها !
تركها طارق .. ليميل فينظر إلى السائق من خلال شباك السيارة قائلاً : " نعتذر .. و لكنني سأقلها .. يمكنك الرحيل " .
قاطعته أسيل بغضب : " سأذهب معه " .
ليصيح بحدة أرعبتها : " اصمتِ " .
ابتلعت ريقها بخوف .. و صمتت مجبرة ، بينما نظر السائق إليهما باستفراب .. و قد بدأ الشك يراوده ، فوجه حديثه إلى أسيل قائلاً : " هل هناك مشكلة سيدتي ؟ ، هل تعرفين هذا السيد ؟ "
ضيقت أسيل عينيها و بداخلها رغبة قوية بأن تنكر معرفتها بطارق و تتركه للسائق لترى ماذا سيفعل به .. ربما كانت تريد بهذا أن تنتقم منه على كل مرة تفوه فيها بأنها ليست سوى أبنة عمه و جرح قلبها العاشق ، إلا أن نفس القلب العاشق لم يقوى على أذية حبيبه ، فهمست :
" نعم .. أعرفه .. أعتذر لك " .
ابتسم لها السائق بسماحة : " لا مشكلة سيدتي .. وداعاً " .
ليتحرك بسيارته تاركاً طارق و أسيل خلفه ..
سار طارق نحو سيارته و تبعته أسيل بحنق و هي تطرق الأرض بقدميها بعصبية .. و فمها مزموم بضيق ..
صعدا إلى السيارة .. ليشرع طارق في القيادة .. و أسيل بجانبه تطلق ألحاناً من التأففات ..
هتف بسخرية و هو يقود بيد واحدة .. بينما الأخرى مرتكزة على شباك السيارة : " ممتع هذا اللحن " .
هتفت بنبرة لا تقل سخرية عن خاصته : " حقاً ؟ ، إذاً ذكرني أن أسجله لك .. لتستمع إليه كلما شعرت بالملل " .
التفت إليها للحظة .. ثم عاد لينظر إلى الطريق أمامه .. و قال : " أنتِ تمزحين ؟ "
تمسكت بذيل حصان شعرها .. و هتفت بتسلية : " و أنت ماذا تفعل ؟ "
تنهد طارق بقوة و قد سئم من هذه المحادثة .. فأسيل تتعامل معه باستفزاز .. و برود منذ أن وقف بجانبها .. أو بالأصح منذ أن عادت من بريطانيا .. و هو لم يعتاد منها على ذلك !
" أخبريني الآن .. أين يقع هذا الشئ الذي ستعملين فيه ؟ ، أريد أن أوصلكِ سريعاً .. فلقد تأخرت على عملي " .
استندت أسيل على شباك السيارة .. و كفها يستقر على وجنتها .. و قالت ببرود : " لا تنسى أنك من عرضت عليّ لتقلني .. بل جعلت سائق الأجرة يغادر .. مع أنني لم يكن لدي أي مشكلة في الذهاب معه ، فلا تتذمر و كأنك مجبور على إيصالي " .
ضرب طارق المقود بنفاذ صبر .. و قد بدأ يغضب من طريقتها في الحديث معه : " أعطيني العنوان يا أسيل دون أن تتفوهي بكلمة أخرى ، فعلى ما يبدو أنكِ تفسرين كلماتي كما تريدين كي تفتعلي مشكلة بيننا " .
رفعت أحد حاجبيها باعتراض على حديثه و قالت : " عفواً .. و لِمَ سأرغب في افتعال مشكلة بيننا ؟ ، و ما الذي سأستفيده من ذلك ؟ ، ثم أنك مَن لا تنتبه جيداً لكلماتك و " .
قاطعها بغضب : " أعطيني العنوان " .
أملته العنوان ببرود .. ليصمتا بعدها ، طارق بحيرة من معاملة أسيل الغريبة له ..
و أسيل بحزن .. فمهما كان .. هي لم تكن تتوقع أبداً أن تتعامل مع طارق بهذه الطريقة .. طارق حبيبها .. الوحيد الذي ينبض له قلبها ، أصبحت مضطرة أن تتعامل معه باستفزاز و برود كي لا يلاحظ حبها له .. و تأمل أن تكون نجحت في هذا !
نظرت إليه بينما هو يقود السيارة .. مركزاً على الطريق و كأنها لا تجلس بجانبه ، و مع ذلك ملامحه متجهمة .. يبدو عليها الإنزعاج ، و بالتأكيد هذا بسبب طريقة حديثها معه ..
تمعنت في مظهره بعيون عاشقة .. شعره الذي استطال ليصل إلى أخر عنقه .. و ذقنها النامية زادت من حدة ملامحه .. و بدلته السوداء الرسمية ، مظهره يشير إلى رجل بائس .. حزين .. يحمل هموم الدنيا فوق أكتافه .. و لا يجد السبيل إلى السعادة ، و لو لم تكن رأت بعينيها رد فعله عندما علم بزواج نشوى .. لكانت أقسمت أن فراقها هو ما جعل حاله يصل إلى هذه الدرجة !
و في غمرة أفكارها و شرودها به لم تنتبه أنهما وصلا إلى مقر عملها الجديد ، إلا حينما قال : " لقد وصلنا " .
قالها و هو ينظر إلى الطريق أمامه و كأنه ما زال يقود السيارة ، و لو كان التفت لها و هي في غمرة أفكارها .. لكان لاحظ العشق المتفجر في عينيها بكل تأكيد ..
تنهدت أسيل .. و همست بخفوت : " إلى اللقاء " .
فتحت الباب كي تترجل ، إلا أنه استوقفها قائلاً : " متى ستعودين ؟ "
ردت عليه بهدوء .. تستخدمه لأول مرة منذ أن تقابلا : " لم أعلم بعد " .
هتف بأمر .. متمنياً بداخله ألا تعترض على ما يريده : " اتصلي بي عندما تنتهين كي آتي و آخذكِ " .
أومأت بالموافقة ثم ترجلت من السيارة تاركة إياه في حالة من الإستغراب الشديد بسبب تحولها المفاجئ إلى حالة من الهدوء الغريب !
**********
خرجت نشوى من الغرفة .. لتجد وحيد و معه أطفاله يحتلون المطبخ .. و يبدو على وحيد الإنشغال .. بينما تيم و لمار ينظران إليه بترقب ممزوج بالحماس ..
اقتربت منه و هي تتأفف بضيق .. متذكرة كيف أن وحيد تجاهل رغبتها و لم يعيد أولاده إلى والديه ، بل أنه تغاضى عن الموضوع و كأنها لم تتحدث معه في هذا !
لا تنكر أن بعضاً من الراحة تسرب إليها بتجاهله الموضوع ، فهي قد كانت خائفة .. بل تكاد تموت رعباً و هي تفكر في رد فعله اتجاه رغبتها ، فملامحه وقتها لم تكن تنذر بالخير ، و إن كان الطلاق هو ما كان سيفعله لم تكن تأبه بذلك ، و لكنها تظن أن الطلاق أبعد ما من الممكن أن يفكر فيه وحيد .. و أن ردة فعله وقتها كانت ستفاجئها .. كما تفاجئها جميع ردود أفعاله !
وصلت إليهم ليرفع وحيد نظراته إليها ثم يعيدها إلى ما يفعله و هو يقول : " صباح الخير " .
" صباح النور " .
قفزت لمار من مقعدها لتتعلق بساق نشوى صائحة : " صباح الخير أمي " .
تأففت نشوى بانزعاج و أبعدتها عن ساقها هاتفة باقتضاب : " صباح الخير " .
هتفت لمار بطفولة : " لقد كنت سأوقظكِ لكن أبي لم يوافق " .
هتفت نشوى بنبرة منزعجة : " جيد أنكِ أنصتي إليه " .
عادت لمار لتجلس على مقعدها مستشعرة عدم رغبة والدتها في الحديث معها ، بينما عقد وحيد حاجبيه بعدم رضى على تعامل نشوى مع طفلته ، و قد قرر أن يحاسبها على هذا لاحقاً !
في حين مال تيم على شقيقته هامساً جانب أذنها بشماتة : " أخبرتكِ ألا تتحدثين معها ، و لكنكِ لم تستمعي لي " .
نظرت نشوى إلى وحيد و كأنها لم تفعل شيئاً .. و تساءلت و هي تشير إلى قالب الكعك بالبرتقال المستقر على الطاولة : " مَن أين لك به ؟ "
رد عليها وحيد باقتضاب : " لقد صنعته من أجل الأولاد .. فهما معتادين على تناوله في الإفطار مع اللبن " .
ابتلعت ريقها بجوع و همست : " يبدو أنه لذيذ " .
لم يستطع وحيد تمالك ابتسامته ، فزوجته كانت تبدو كالطفلة و هي تنظر إلى قالب الكعك و كأنها تود التهامه ، فقطع قطعة كبيرة و وضعها لها في أحد الصحون و هو يقول : " تذوقيه و بعدها أخبريني برأيكِ " .
ألتقطت نشوى الصحن بسعادة كالأطفال .. فما لا يعلمه وحيد .. أن هذا الكعك هو المفضل عندها ، جلست و شرعت في تذوقه .. لتجد الصحن يُسحب من أمامها بقوة ..
رفعت نظرها بغضب .. لتجد أن الصحن مستقر أمام تيم .. بينما الصغير ينظر إليها بتحدي ..
" أعطني صحني " .
ابتسم الصغير باستفزاز و هو يقول : " لا " .
نظر إليه وحيد باستفراب و هتف : " تيم .. أعد لها الصحن و أنا سأحضر لك أخر " .
حرك تيم رأسه بعناد : " لا .. أريد هذا الصحن " .
صاحت نشوى بغضب : " لِمَ ؟ ، هل ترى به جائزة ؟ "
صاح تيم بطفولة : " لا دخل لكِ .. أنا أريد هذا الصحن .. ثم إنه صحني .. في مطبخ بيتي ، كما أن الكعكة والدي هو مَن صنعها " .
و أردف باستفزاز : " اذهبي إلى بيتكِ .. و اجعلي والدكِ يصنع لكِ واحدة .. ضعيها في صحنكِ " .
صمتت نشوى بدهشة من حديثه و لم تعرف كيف ترد عليه : " هل .. هل ؟ "
لم يستطع وحيد تمالك نفسه فصدحت ضحكاته في المطبخ .. رافقتها ضحكات الصغيرة لمار ..
التفتت إليه نشوى بغضب و هتفت : " على ماذا تضحك ؟ ، هذا بدلاً من أن تعاقبه على حديثه معي ! "
أنتهى وحيد من ضحكاته .. لينظر إلى تيم قائلاً بحزم : " تيم .. أعد الصحن إلى خالتك " .
صاحت لمار باستغراب منتقلة إلى موضوع أخر : " لِمَ لا يناديها أمي .. أبي ؟ "
صاح تيم بغضب : " لأنها ليست أمي .. و لن تكون " .
فتصيح نشوى باستفزاز : " و كأنني أريد أن أكون والدتك أيها الصغير " .
صاح وحيد بحدة جعلتهما يصمتان : " كفى " .
لينظر إلى تيم و يقول : " ادعها كما تشاء ، لكن أعد لها الصحن الآن " .
كتف تيم ذراعيه باعتراض ، ليسحب وحيد الصحن من أمامه معيداً إياه إلى نشوى .. مما جعلها تبتسم بانتصار ، في حين عبس تيم بملامحه بضيق ..
وضع وحيد صحناً أخر أمام تيم .. عندما صدح صوت هاتفه في الأرجاء .. فالتقطه و خرج من المطبخ .. غير مدركاً لما من الممكن أن يحدث و هو ليس موجوداً !
سكبت نشوى لنفسها كوباً من العصير لتتناوله من الكعكة ، و أخذت تأكلها مصدرة أصوات متلذذة تستفز بها تيم ..
" همم .. لذيذة " .
نظر لها تيم بنصف عين قائلاً : " أشك أنكِ قادرة على صنع مثلها " .
هتفت ماطة حروف جملتها باستفزاز : " لا دخل لك " .
بدأ تيم يتناول صحنه بهدوء حزين .. متذكراً والدته عندما كانت تصنع له هذا الكعك .. و تطعمه بيديها و هي تبثه حنانها ، ليترك الصحن و قد بدأت الدموع تلمع في مقلتيه مهددة ببكائه ..
دلف وحيد إلى المطبخ ليجد نشوى و لمار تأكلان باستمتاع ، بينما تيم ينظر إلى صحنه بشرود ..
اقترب و جلس بجانبه يسأله : " لِمَ لا تأكل حبيبي ؟ "
فجأة .. و في لحظة .. كان تيم مستقراً في حضن والده .. وجهه مدفون في صدر والده .. و جسده يرتجف بقوة معلناً بكاءه ..
تفاجأ وحيد من فعلته .. و بردة فعل تلقائية أحاطه بيديه ، هاتفاً بصدمة : " ماذا حدث ؟ "
و لم يكن وحيد وحده مَن تفاجأ ببكاء تيم .. فنشوى أيضاً انصدمت من بكاءه ، لدرجة جعلتها تترك الكعك و تنظر إليه بذهول ..
فليس هذا الطفل الذي كان يتطاول عليها بوقاحة منذ قليل !
حاول وحيد إبعاد تيم عن حضنه ليعلم ما به ، إلا أن الأخير تمسك به باعتراض ، مما جعل وحيد يقول بخوف :
" هل أزعجك أحدهم حبيبي ؟ "
لم يكن الأمر يحتاج إلى كثير من الذكاء لتعلم نشوى أنه يشير إليها بسؤاله هذا ..
و بالفعل كان وحيد يقصدها .. فهو حتى الآن لم ينسى رغبتها في إبعاد أطفاله عن البيت .. مع أنه منذ أن تقدم لخطبتها أوضح لها و لعائلتها أنه يريد التزوج من أجل أولاده ، كما أنه لم ينسى معاملتها الجافة إلى لمار منذ قليل ، و أقسم أنها لو كانت هي السبب في بكاء طفله .. سيكون له معها تصرف حازم !
أبعد وحيد رأس طفله بقوة و هتف بحزم : " أخبرني .. ما الذي يجعلك تبكي هكذا ؟ "
التقط الصغير أنفاسه بقوة و رد على والده بحزن : " لقد أشتقت إلى أمي " .
تنهد وحيد بحزن .. ليعيد الصغير إلى أحضانه هامساً بخفوت : " لا بأس حبيبي .. لا تنسى أنها بالجنة " .
و على الرغم من أن نشوى تكره الأطفال .. و أنها لا تحبذ وجود تيم و لمار معها في نفس المنزل ، إلا أنها تأثرت بنبرة الصغير و بكاءه ، فمهما كان اليتم صعب .. و هي - مَن نشأت مدللة في أحضان والديها - و حتى بعد ما فعلوه معها و إجبارها على الزواج من وحيد ، إلا أنها لا تعتقد أنها تستطيع أن تحيا يوماً من دونهما ..
فما بالكم بهذين الطفلين الذان فقدا والدتهما في هذا العمر !
تجلى التأثر على ملامحها .. خاصة حينما تركت لمار الطعام و بدأت في البكاء هي الأخرى ..
و بعفوية اقتربت منها .. ضامة إياه إلى صدرها بحنو غريب عليها و همست : " لا تبكي حبيبتي " .
لتبعد وجه الصغيرة عنها و تبدأ في إزالة الدموع من على وجنتيها .. و تابعت : " ألا تعلمين أن والدتكِ تراكِ الآن ؟ ، و بالتأكيد تشعر بالحزن و هي تراكِ تبكين " .
نظرت لمار إلى نشوى بعدم تصديق و قالت ببراءة : " حقاً ؟ ، أ يعني أن أمي غاضبة مني الآن ؟ "
أكدت نشوى : " نعم " .
نقلت لمار نظراتها إلى والدها و كأنها تنتظر تأييده هو أيضاً على حديث نشوى " .
في حين ابتعد تيم عن أحضان والده و نظر له منتظراً ما سيقوله ، فعلى الرغم من كرهه لنشوى ، إلا أنه تأثر بحديثها .. فهو لا يريد أبداً أن يُحزن والدته ..
نظر وحيد إلى نشوى بذهول ؛ يا لها من إمرأة متناقضة !
أ ليست هي مَن تعاملت مع طفلته بجفاء منذ دقائق و أحزنتها ؟
كيف لها أن تهدهدها الآن بهذا الحنان الجارف .. و كأنها حقاً ترغب في رسم البسمة على شفتيها ؟!
هل نشوى تحمل بقلبها الكثير من الحنان إلا أنها لا تعلم كيف تظهره ؟
أم أن كل تصرفاتها و أفعالها لهدف ؟!
ما يراه أمامه .. و من قضاء يومين كاملين مع نشوى .. يستطيع أن يجزم أنها تدللت كثيراً في صغرها .. و هذا أثر سلبياً على شخصيتها ، إلا أن هذا لا يمنع أنها طيبة .. حنونة ، تحتاج إلى شخص يفهمها جيداً .. يتعامل معها بطريقة صارمة ، لكنها ممتزجة بحنو .. فيستطيع تعديل شخصيتها !
نقل نظراته إلى أطفاله .. و الذي نساهم في غمرة تحليله لشخصية نشوى و تصرفاتها .. فرآهما ينظران إليه بفضول منتظرين تأكيده لحديث نشوى ، فابتسم لهما بحنو و قال :
" نعم .. صحيح .. أنتما ببكائكما تحزنان والدتكما " .
شرعا تيم و لمار في إزالة دموعهما ببراءة ، لتزداد ابتسامة وحيد الحنونة و إن كان يتخللها بعض الإمتنان إلى نشوى ، فهي صاحبة الفضل في تهدأة أطفاله ، ثم قال :
" هيا .. اذهبا و بدلا ملابسكما حتى تذهبا إلى المدرسة " .
ركض تيم و لمار منفذين حديث والدهما ، في حين نهض وحيد من على مقعده و سار باتجاه نشوى ليميل مقبلاً جبينها .. قبلة طويلة .. ممتنة ، جعلت نبضات قلبها تضطرب ، ثم همس مقابل جبينها :
" شكراً لكِ " .
توترت نشوى من تصرفه و .. جملته ، نظرت له نظرة سريعة قبل أن تبعد عينيها عنه .. ناظرة إلى صحن الكعك أمامها .. و همست : " لا شئ يستحق الشكر " .
ابتسم لها وحيد برقة و قال : " بلى ، مافعلتيه مع الأطفال الآن يستحق ، أنا محظوظ لأنني تزوجتك " .
أطرقت نشوى وجهها بخجل و لم ترد عليه ، ليبتسم و يطبع قبلة أخرى على جبينها .. ثم يغادر المطبخ متجهاً إلى أولاده .
عقدت نشوى حاجبيها بضيق من نفسها حالما خرج .. و وضعت كفيها على وجنتيها بعدم تصديق ، ما بها ؟
ما الذي حدث معها ؟ ، ما الذي جعلها تخجل منه ؟
لِمَ لم توضح له أن ما فعلته مجرد شفقة .. و لا يعني أبداً موافقتها على مكوث الأطفال معها ؟
كيف حركة بسيطة منه أخجلتها و لم تجعلها تقوى على الرد عليه ؟
يا إلهي .. ما الذي حدث لها ؟!
أخذت تأكل الكعكة بعنف و كأنها تنتقم منها على خجلها أمامه ، و لسانها يردد :
" تباً لك يا وحيد .. تباً .. تباً " .
**********
التقطت هبه هاتفها لتتصل بإسلام للمرة التي لا تستطيع إحصاءها ، فمنذ أن أستمع إلى حديث مشيرة .. و خرج دون أن يوجه لها حرف ، لم يعود حتى الآن .. و لم يرد على أي من أتصالاتها ، لا تعلم إلى أين ذهب .. و لا إن كان بخير أم لا ..
أنزلق الهاتف من يديها بيأس عندما لم يصلها رد منه ، و تابعت عيونها ذرف المزيد من الدموع .. ناهرة نفسها على تصرفاتها الحمقاء و التي أدت بها إلى هذا ..
لِمَ لم تقف أمام مشيرة بثقة و حزم مدافعة عنه و مؤكدة ثقتها به ؟
كيف لها أن تشك به و هو مَن ضحى كثيراً من أجلها .. منذ بداية زواجهما ؟
ماذا كان سيحدث إن كانت صارحته بما يعتمل بصدرها ؟
أسئلة كثيرة تراودها .. تؤنب نفسها على عدم طرحها قبل أن تتصرف بهذه الحماقة ، فها هي حماقتها ستجعلها تخسر حبيبها ..
خرجت لارا من الغرفة لتجد والدتها على نفس حالها .. جالسة على نفس المقعد الذي ارتمت عليه عندما خرج والدها غاضباً ، و عيونها قد أحمرت من كثرة البكاء ..
سارت لتجلس بجانبها .. فنظرت لها هبه قائلة بضعف : " ألم يرد عليكِ أنتِ أيضاً يا لارا ؟ "
حاولت لارا بث الأمل داخل قلب والدتها ، مع أنها قد بدأت تتوتر من غضب والدها .. و الذي لأول مرة يتجاهل والدتها بهذه الطريقة
: " لربما لم يسمع الهاتف يا أمي " .
نفت هبه بوهن : " بلى يسمعه .. و لكنه لا يريد الرد ، لم أعهده قاسي هكذا ، حتى أنه يبخل في طمأنتنا عليه " .
سألتها لارا بلطف : " هل أصعد إلى عمي و أجعله يتصل به ؟ ، فلربما أجاب عليه " .
هزت هبه رأسها باعتراض : " لا .. لا ، لا أريد أن يعلم عمكِ بأي شئ ، فلننتظر فبالتأكيد سيعود قريباً " .
رفعت لارا أكتافها باستسلام : " كما تشائين " .
عم الصمت بعدها المكان مما جعل لارا تشعر بالملل ، فقررت أن تنهض و تنتظر والدها في الشرفة ..
وقفت لبعض الوقت و هي تراقب حركة الناس و السيارات ، ثم صاحت :
" أمي لقد وصل أبي " .
ركضت هبه إلى الشرفة لتجد إسلام يدلف إلى البناية ، فيدق قلبها بعنف و توتر ..
ما الذي عليها فعله الآن ؟
هل تتعامل معه بطبيعية و كأنه لم يحدث شئ ؟
أم تكذب حديث مشيرة و تخيره أنها ما فعلت ذلك إلا لتعكر صفو حياتهما ؟
أم .. تصارحه بكل شئ .. و تنتظر حكمه بعدها ؟
خرجت من الشرفة و هي تفكر بشرود .. بينما لارا تفكر فيما سيحدث الآن بين والديها ..
التفتت هبه إلى أبنتها باستغراب عندما لاحظت الوقت الكثير الذي استغرقه إسلام في الصعود إلى الشقة و قالت : " لِمَ لم يصل والدكِ حتى الآن " .
رفعت لارا أكتافها بعدم معرفة و اتجهت إلى باب الشقة ففتحته ، لتخرج و تنظر إلى الأدوار السفلى من البناية فلا ترى والدها ..
عادت إلى والدتها لتقول : " ليس موجوداً ، لربما صعد إلى عمي .. سأصعد لأراه " .
ثم خرجت من الشقة مرة أخرى قبل أن تسمع رد والدتها .
**********
قبل خمس ساعات
خرج إسلام من الشقة و هو لا يرى أمامه من الغضب ، و لو كان بقى في الشقة لدقيقة أخرى لكان فعل ما من الممكن أن يندم عليه لاحقاً !
جال الشوارع بغير هدى و عينيه لا ترى أمامه سوى مشهد مشيرة و هي تقف مع زوجته مشجعة إياها على ما تفعله معه ..
كم شعر بالخيبة وقتها .. لم يتوقع من قبل أن زوجته .. حبيبته .. والدة بناته .. من قضى عمره معها .. حبها من كل قلبه .. و حارب من أجل الزواج منها ، تشك فيه هكذا .. تراقبه .. تحرجه أمام زملاءه من أجل تفاهات لا صحة لها ..
كيف لها أن تسلم أذنها لمشيرة بهذه السهولة و هي تعلم ما تضنه لها الأخيرة من كره و حقد ؟!
هل زوجته بهذه السذاجة ؟ ، أم أنها كانت تنتظر من يشعل شكها به ؟ ، و أن مشيرة لم تكن سوى مجرد أداة حركت هبه ؟
و في غمرة أفكاره .. عبر الطريق غير منتبهاٌ إلى السيارة المتحركة بسرعة مهولة ، لينتفض فزعاً على صوت أبواقها .. و صوت الناس من حوله يصبحون عليه بالتنحي جانباً ..
تجمد إسلام في مكانه و قدمه غير قادرة على التحرك خطوة واحدة ، ليغمض عينيه مرحباٌ باصطدام السيارة به !
ضغط السائق على مكابح السيارة بقوة ، و لكنها لم تكن كافية لمنع اصطدامها بإسلام ..
ارتطم إسلام بالأرضية الصلبة ، و مع ذلك لم يصيبه مكروه .. فالصدمة .. و لحسن حظه .. لم تكن بالقوة الكافية لأذيته ..
ترجل السائق من السيارة و ركض إلى إسلام ليجلس بجانبه و يقول :
" هل أنت بخير يا سيد ؟ "
ملس إسلام على قدمه شاعراً ببعض الألم فيها ، إلا أنه قال :
" نعم بخير .. لا تقلق " .
أعتذر صاحب السيارة مع أنه لم يكن مخطئاً ، فإسلام هو من عبر الطريق بشرود ..
" أعتذر سيدي لم أستطع السيطرة على السيارة ، إذا تريد .. يمكنني أن أقلك للمشفى " .
ضحكة صغيرة صدرت عن إسلام ليزيل توتر الرجل ، فهو المخطأ و عليه الإعتذار ، لذا قال بمرح :
" يا رجل .. إن كنت لم تسيطر عليها لكنت الآن في طريقي إلى المشفى ! "
ليربت على كتفه و يقول بسماحة : " لا عليك أنا بخير .. و أعتذر فأنا مَن عبرت الطريق دون انتباه " .
ليحاول النهوض بعدها .. فيغمض عينيه بألم فور أن أرتكز على قدمه ، ليساعده الرجل و هو يقول :
" هل أقلك إلى المشفى ؟ "
حرك إسلام قدمه ببطء و همس : " لا داعي .. إنها إصابة بسيطة " .
فقال صاحب السيارة بحزم : " إذاً سأقلك إلى البيت " .
اعترض إسلام بشدة .. إلا أن الرجل لم يستمع إليه .. و أصر على أن يقله .. فاستسلم إسلام مرغماً ..
صعد إسلام إلى السيارة ، ليعطيه الرجل هاتفه و هو يقول : " لقد وقع منك " .
شكره إسلام بلطف ، لينظر إلى الهاتف فيرى أن زوجته هي مَن تتصل به ، فترك هاتفه بلا مبالاة .. فهو لم يهدأ بعد ليتحدث معها ..
أراح رأسه على ظهر المقعد .. و أخذ يفكر فيما عليه فعله معها ..
فمن قبل أخفت عنه هبه علاجها .. و فاجئته بحملها ، و اكتفى هو بعقاب صغير لها .. لأنها حامل أولاً .. و لأنه كان يعتقد أن تجربتها السابقة أثرت عليها و جعلتها تخشى من الفشل مرة أخرى ..
إلا أن هذه المرة الأمر مختلف .. فلقد قضت معه هبه سنوات يُفترض أن تكون عرفته فيها جيداً .. كما يُفترض أن تكون واثقة فيه ، و لكن ما فعلته أثبت له العكس ، فزوجته لم تثق به يوماً .. و يخشى أنها لم تحبه كما يحبها ، و أنها رأت فيه فقط الرجل الشهم الذي قبل بالتضحية من أجلها .. و هذا ولّد فيها شعوراً بالإعجاب لا أكثر !
تنهد بتعب مقرراً أنه هذه المرة لن يصمت .. فعليه أن يقف لهبه وقفة حازمة .. فما فعلته و شكها به .. ليس هيناً عليه ..
نظر له الرجل بتوتر عندما وصلته تنهيدته و هتف : " هل تؤلمك قدمك ؟ "
التفت له إسلام مبتسماً : " لا سيدي أنا بخير " .
ليشير بعدها إلى إحدى البنايات و هو يقول : " توقف هنا من فضلك .. فأنا أقطن بهذه البناية " .
صفّ الرجل السيارة على جانب الطريق و ترجل منها ليساعد إسلام ، فدعاه الأخير قائلاً : " تفضل معي " .
ابتسم له بامتنان و قال : " شكراً لك .. و أرجو أن تكون بخير .. و تسامحني " .
ليبتسم إسلام بدوره و يقول : " لقد أخبرتك أنني المخطأ و أنني من عليّ الإعتذار ، و شكراً لك على مساعدتك " .
غادر الرجل ، ليدلف إسلام إلى البناية .. و يصعد الدرجات ببطئ ، وصل إلى شقته - هو و هبه - إلا أنه تابع الصعود حتى وصل إلى شقة شقيقه ، فأخر ما سيفعله اليوم هو الإختلاط بهبه !
**********
تنهد علاء و قال : " هذا ما حدث " .
ارتسم الذهول على ملامح أمير و هتف بعدم تصديق : " غير معقول .. أنت و لارا ! "
حرك علاء رأسه بأسى و قال : " هذا ما قالته لي بكل جدية ، و كأنني حقاً على علاقة مع أبنة شقيقي " .
هتف أمير بجدية : " أعذرني علاء .. و لكن لو كنت لاحظت أنك معجب بأبنة شقيقك بنسبة واحد بالمائة .. لكنت قطعت صداقتنا في الحال " .
صاح علاء باستنكار : " و هل تراني حقير لدرجة أن أنظر إلى أبنة شقيقي ؟ "
ابتسم أمير و قال : " معرفتي بك لسنوات هي التي تجعلني أصدق أنك من المستحيل أن تفعل هذا " .
و أردف بفضول : " و متى تنوي مسامحة ليندا على حديثها ذاك ؟ "
هتف علاء بصراحة : " في الحقيقة أود ألا أسامحها من الأساس .. و أن تصبح علاقتنا رسمية في العمل و فقط ، فهي تتمادى كثيراً في تصرفاتها فتسئ لسمعتها " .
تفاجأ علاء بضحكة أمير القوية .. ليسأله باستغراب : " ما بك ؟ "
التقط أمير أنفاسه ليقول بمشاكسة : " و هل تعتقد أن ليندا ستسمح لك بالإبتعاد عنها و أن تظلا أصدقاء في العمل و فقط ؟ "
هتف علاء بجدية : " أعلم أنها لن تتركني في حالي ، إلا أنني سأبتعد عنها قدر ما أستطيع " .
قاطعه أمير بتساؤل : " ألا تعتقد أن قرارك في الإبتعاد تأخر كثيراً ؟ "
و أردف دون أن يسمح له بالرد : " أسمع علاء ؛ أنا أتذكر أول مرة رأينا بها ليندا سوياً .. و مقدار السخرية التي سخرناها من هيئتها و جرئتها ، و أقدر أنك شعرت بالمسئولية اتجاهها عندما علمت بقصتها و قررت الوقوف بجانبها ، إلا أنك منذ البداية لم تضع حدود لعلاقتكما .. و قبلت تماديها في العلاقة بخنوع ، من الممكن أن يكون هذا سذاجة منك و عدم خبرة في مثل هذه العلاقات .. او هناك سبب أخر .. لا أعلم ، إلا أنني أرى أنك من أخطأت عندما لم توضح لها طبيعة علاقتكما من البداية " .
قاطعه علاء بتبرير : " بلى .. لقد أوضحت لها أكثر من مرة أننا مجرد أصدقاء " .
ليهتف أمير بجدية : " ماذا فعلت وقتها ؟ ، أخبرتها أنكما مجرد أصدقاء و صمتت !..، كان يجب أن يكون هناك تصرف أكثر حزماً من جهتك .. أن تقطع علاقتكما .. تحرجها .. تفعل أي شئ يثبت لها أنك لا تفكر فيها ، لكن صمتك جعلها تتمادى في تصرفاتها و تعتقد أنها قادرة على إيقاعك في حبها " .
صمت علاء غير قادراً على الرد على صديقه ، فهو محق في كل حرف تفوه به ، لقد سمح هو لها بالتمادي معه بصمته و استسلامه لتصرفاتها ، إلا أنه لم يفعل ذلك إلا من خوفه عليها .. فلقد كان يخشى من موقفها إن أتخذ معها رد فعل عنيف ، و حينها كان من الممكن أن تضر بنفسها !
و لكن كفى .. فصمته هذا لن يفيده .. عليه مواجهة ليندا بحقيقة مشاعره ، و أن يتفق معها على أن تكون علاقتهما صداقة خالصة دون أن تكون هناك مشاعر أخرى .. إذا رغبت في ذلك ، أما إذا ستظل تتمادي في تصرفاتها معه .. فمن الأفضل أن يذهب كلاً منهما إلى طريقه !
لم يكن موقف علاء الحازم اتجاه ليندا بسبب حديث صديقه الآن .. أو بسبب تصرفها معه من قبل ، كان هناك سبب بعيد كل البعد .. سبب لا يخطر في بال أحد ، و هو أن علاء معجب بصديقته الدكتورة زينة ، هو مجرد إعجاب حتى الآن ، و لكنه فكر فيما لو تحولت هذه المشاعر في يوم إلى حب و توجت بالزواج .. فبالتأكيد حينها لن توافق زينة على علاقته مع ليندا ..
ليعود و يفكر في شئ أخر ؛ ماذا إن تزوجت ليندا لأي سبب .. ماذا سيكون رد فعل زوجها على علاقتهما ؟ ، و كيف ستسيطر هي على مشاعرها نحوه حينها ؟
لذا الحل الأنسب هو أن يبتعد عنها من الآن .. و أن تكون علاقتهما في مجال العمل !
دفع أمير علاء بقوة .. لينظر له الأخير بغضب و يصيح : " ماذا ؟ "
هتف أمير بسخرية : " أعتقد أن عليك الكشف على أذنك ، أ لا تسمع رنين جرس الباب ؟ "
انتبه علاء لينهض و يفتح الباب ، فتتوسع عيونه بدهشة عندما يرى شقيقه أمامه .. سرواله ملطخ بالأتربة .. و يبدو عليه التعب ..
ساعده على الدخول و هو يقول : " ماذا حدث معك ؟ "
جلس إسلام ليتنهد براحة و يقول : " حادث سيارة بسيط " .
صاح علاء بخوف : " ماذا .. حادث ؟ ، و لِمَ لم تذهب إلى المشفى ؟ ، و بما تشعر ؟ "
طمأنه إسلام : " أهدأ .. أنا بخير .. ألم بسيط في ساقي و سيزول " .
تفحص علاء ساقه بدقة و هو يقول : " و لِمَ لم تذهب إلى المشفى ؟ ، ماذا إن كان هناك كسر ؟ "
تنهد إسلام و قال : " لا يوجد كسر اطمئن و اجلس " .
لينتبه إلى وجود أمير فيبتسم له و يقول : " كيف حالك يا أمير ؟ "
ابتسم أمير بدوره و حياه بهدوء : " بخير .. كيف حالك أنت سيد إسلام ؟ ، حمداً لله على سلامتك " .
ثم نظر إلى علاء و تابع : " سأغادر .. أراك غداً " .
فتح أمير الباب ليفاجأ بلارا واقفة أمامه و من الواضح أنها كانت على وشك طرق الباب ، ارتكزت نظراته على شعرها لا إرادياً ليراه كما المرة السابقة .. مبعثر بعشوائية و يغطي معظم وجهها .. فترتسم ابتسامة متسلية على شفتيه و هو يتذكر تلقيبه لها بكومة الشعر ..
تأففت لارا عندما رأته أمامها .. فهي حتى الآن تتذكر المرة الوحيدة التي رأته فيها و كيف أهانها وقتها عندما دعاها بكومة الشعر و القزمة ، إلا أنه فاجئها حينما قال مبتسماً :
" مرحباً آنسة لارا " .
فغرت لارا شفتيها بدهشة ، هل هذا الفظ يستطيع التحدث بلطف ؟!..، لقد أعتقدت أنه لا يعرف سوى السخرية من الآخرين !
و مع ذلك ردت عليه باقتضاب .. فهي لم تسامحه بعد : " أهلاً .. هل يمكنني أن أدلف ؟ "
أبتعد أمير عن الباب بحرج عند رؤيته لطريقتها في الحديث معه ، فتنحى فاسحاً لها الطريق لتدخل ، ثم خرج مغلقاً الباب خلفه ..
نظرت لارا في أثره بلا مبالاة ، ثم خطت للداخل .. لتقترب من والدها و تجلس بجانبه قائلة بتأنيب :
" لقد أقلقتنا عليك أبي " .
ابنسم إسلام بسخرية متألمة : " قلقتِ و ليس قلقنا ، فأظن أن قلق والدتكِ نابع من خوفها من أن أكون قضيت هذه الساعات مع إمرأة أخرى و ليس خوفاً عليّ " .
همست لارا : " لا تقل هذا يا أبي .. أنت لم ترى حالتها منذ أن خرجت .. إنها لم تتوقف دقيقة عن البكاء " .
هتف إسلام بنفس النبرة : " إنها تبكي خوفاً لأنني قد كشفتها " .
اعترضت لارا : " يا أبي " .
أشار لها إسلام بحزم : " لا تتدخلي في هذا يا لارا ، هذه مشكلة بيننا و نحن سنحلها " .
كان علاء يراقب حديثهما بعدم فهم ، ليتساءل قائلاً : " ماذا حدث ؟ ، أ هناك مشكلة بينك و بين هبه ؟ "
هتف إسلام : " مشكلة بسيطة و سنحلها قريباً إن شاء الله " .
صاح علاء باندفاع : " و هل هذه المشكلة هي التي جعلتك لا تنتبه إلى السيارة فتصدمك ؟ "
شهقت لارا واضعة يدها على فمها بخوف .. ثم همست : " يا إلهي حادث ، هل أنت بخير أبي ؟ "
نظر لها إسلام بحنو و قال : " نعم حبيبتي أنا بخير لا تخافي " .
و تابع : " اذهبي لتنامي هيا .. لا تنسى أن لديكِ جامعة غداً " .
سألته بارتياب : " و أنت ؟ "
هتف بضيق : " أنا سأقضي الليلة هنا " .
" و لكن " .
قاطعها بإصرار : " لا يوجد لكن .. هيا اذهبي " .
غادرت لارا باستسلام ، و أخذت تفكر كيف ستخبر والدتها عما حدث لوالدها .. بدءً من الحادث .. و انتهاءً برغبته في قضاء ليلته في شقة عمه " .
تنهدت هامسة : " الستر يا الله .. أتمنى أن تمر هذه المشكلة على خير " .
**********
أغلق سيف الباب خلفه مبتسماً بخبث ، فنهرته تسنيم بتوتر : " لِمَ أغلقت الباب ؟ "
غمز لها سيف بوقاحة : " كي نأخذ راحتنا في الحديث " .
سألته باسنغراب : " كيف ؟ ، من الأساس هذا الحديث لا داعي له .. فأنت لن تقنعني بالزواج لأنني مقتنعة من الأساس ، و هذه الجلسة لأنني رفضت الزواج قبل أن أعلم أنك العريس " .
هتف سيف بنبرة لعوبة : " و مَن قال أننا سنتحدث في هذا ؟ ، أنا سأستغل هذه الجلسة كي أخبركِ كم أحبكِ " .
توردت وجنتي تسنيم بخجل ، إلا أن ملامحها تحولت إلى التوتر عندما اقتحم مازن الغرفة بقوة صائحاً :
" لِمَ أغلقت الباب ؟ "
التفت إليه سيف متأففاً بضجر و يقول : " و كيف تدلف أنت بهذه الطريقة ؟ "
" أنا أدلف بالطريقة التي أريدها " .
و تابع مشيراً بإصبعه بتحذير : " إياك و إغلاق الباب ، و إلا سترى مني ما لن يعجبك " .
تأفف سيف بقوة و قال : " حسناً .. هل يمكنك الخروج حتى أستطيع إقناعها على الموافقة على الزواج مني ؟ "
اتجه مازن إلى خارج الغرفة ، إلا أنه قبل أن يخرج التفت إلى تسنيم ناظراً إليها بتوسل ألا توافق عليه !
جلس سيف على المقعد بقوة و هو يهمس من بين أسنانه : " كم أكره هذا الشخص " .
زمت تسنيم شفتيها بضيق ، فهي لا تريد أن تكون هناك كراهية بين شقيقها و حبيبها .. فيكفي أنها صمتت على كراهيتهما لبعضهما لسنوات ، إلا أنها فضلت الحديث في هذا لاحقاً ..
نظر سيف إلى تسنيم ليقول بغضب : " هذا الغبي ؛ أضاع عليّ فرصة لم أحصل عليها كثيراً من قبل " .
ابتسمت تسنيم بمرح لتهدئه : " إلا أنك ستحصل عليها كثيراً مستقبلاً " .
تنهد سيف بقوة .. و أخذ يلامس خصلات شعر حبيبته برقة و هو يقول : " و أخيراً ستكونين ملكي .. زوجتي .. لا يستطيع أحد إبعادك عني " .
ابتسمت له بعشق و قالت : " أنا التي لن أسمح لأحد بأن يبعدني عنك من الأساس ، لقد قضيت عمري أحلم باليوم الذي ستصبح فيه ملكي " .
و هكذا قضيا سيف و تسنيم جلستهما في تبادل العشق ، بينما عائلتهما تظن أن سيف يجاهد لإقناعها بالزواج منه !
خرجا من الغرفة بعد مدة كافية ليجدا أن والديّ سيف و والديها ينظرون إليهما بترقب ..
بينما سيف يهز قدمه بتوتر و نظراته توحي بخوف لم يفهمه أحد !
أطرقت تسنيم رأسها بخجل .. و همست بصوت لا يكاد يُسمع :
" أنا موافقة على الزواج من سيف".

لست أبي (كاملة)Where stories live. Discover now