الفصل الرابع عشر

9.9K 396 22
                                    


بعد مرور ثماني سنوات
أغلقت حاسوبها المحمول بعد أن شاهدت ست حلقات من الدراما الجديدة التي تتابعها ، ملست على بطنها و هي تشعر بالجوع لتنهض بدون تفكير و تتجه إليه ..
دلقت إلى غرفته بهدوء و اقتربت منه حتى أصبحت فوق رأسه ،  لتبقى لحظات تتأمله أثناء نومه ..
شعره الأسود مبعثر بعشوائية و بضع خصلات تستقر على جبينه .. جفونه تخفي ورائها عيون سوداء لامعة دائماً ما تنظر لها بحنان .. ملامح وجهه الرجولية الحادة .. جسده المتناسق نتيجة حرصه على ممارسة الرياضة و التي يشركها فيها معه رغماً عنها !
مالت إليه و همست بخفوت :
" مازن .. مازن استيقظ " .
تململ في نومه و انقلب إلى الجانب الأخر ، مما جعلها تلمس ذراعه و تبدأ في تحريكه بخفة ..
" مازن استيقظ ارجوك " .
فتح عين واحدة ليراها تقف أمامه مرتدية إحدى بجاماتها الطفولية  المكونة من سروال قصير يصل إلى أسفل ركبتيها بقليل و بلوزة بنصف أكمام بصورة ميكي ماوس .. شعرها البني منساب حتى منتصف ظهرها ، ليستنتج من هيئتها المرتبة أنها لم تغفى بعد فنظر إلى ساعته باستغراب ليجدها الثالثة بعد منتصف الليل ، ليرفع أحد حاجبيه و يسألها :
" تومي ، لِمَ أنتِ مستيقظة حتى الآن ؟ "
( تومي ) هذا اللقب الذي أصبح يدعوها به منذ فترة طويلة .. بالتحديد منذ تلك الليلة التي تشاجر فيها مع أبن خالته سيف و دفعها هي من على سريره ..
هتفت ببراءة دائماً ما تستخدمها معه : " أنا جائعة " .
ابتسم بحنو و زهو .. لقد كان على يقين أنها ستقول هذا منذ أن أيقظته .. فهي لا تأتي إلى غرفته في هذا الوقت إلا ليعد لها الطعام ، على الرغم من بلوغها الثمانية عشر عام منذ بضعة أشهر إلا أنها لازالت تطلب منه أن يطهو لها !..، و كم يسعد هو بهذا ..
و من دون أي علامات للضيق أو الغضب نهض من على سريره ، ليلتقط يدها الصغيرة بين خاصته الكبيرة و يسيرا إلى المطبخ ..
حملها من خصرها ليُجلسها على السطح الرخامي ، و من دون أن يسألها أخرج المعكرونة و بدأ في صنع الإسباغيتي .. فهذا ما هما معتادين عليه !
أرجحت ساقيها و هي تتأمل حركاته الرشيقة ليصنع لها ما تريد دون تذمر فابتسمت بحب ، على الرغم من حدته معها و غضبه منها عندما تخالف أحد أوامره إلا أنها تعشقه .. تعشق اهتمامه بها و حرصه عليها .. حتى لو كان هذا الحرص مبالغ به .. إلا أنها لا تنزعج منه ، فهي دائماً ما كانت تحلم بوجود شقيق لها تشعر أنه سندها و حاميها .. و تحمد الله لأنه رزقها به ..
اقتحمت رائحة لذيذة أنفها لتبتلع ريقها بجوع و هي تجده يقترب منها حاملاً صحن من الإسباغيتي اللذيذة لها ..
فتحت فمها بسعادة ليبتسم لها و هو يطعمها بيده ، ثم سألها :
" لِمَ لم تنامي حتى الآن ؟ "
هتفت بحماس غافلة عن تعليماته الصارمة : " كنت أتابع دراما تركية ، يا إلهي مازن لو ترى البطل كم هو و سيم و حنون و كيف يتعامل مع البطلة " .
انقلبت ملامحه و هو يستمع إليها و هتف من بين أسنانه : " لن تتابعي هذا المسلسل ثانية " .
عقدت حاجبيها بضيق : " لماذا ؟ "
فرد ببرود : " لأنني أريد هذا " .
" و لكن مازن " .
هتف بحدة على الرغم من خفوت نبرته : " لا نقاش تومي .. لن تشاهديه مرة أخرى " .
تأففت بنزق و قفزت من على السطح الرخامي و اتجهت إلى الغرفة دون أن تتحدث معه ..
فهي و إن كانت غاضبة بسبب تحكمه ، إلا أنها ستنفذ أمره !
**********
صباحاً
بدأ يبعد خصلات شعرها عن وجهها و هو يهمس :
" هيا تومي ، ستتأخرين على الجامعة " .
تقلبت بكسل و هي تهمهم : " لا أريد أن أذهب " .
هتف بحدة زائفة يدرك خوفها منها : " هذا بسبب سهركِ على جهاز الحاسب ، لذا سأسحبه منكِ حتى تنتهي السنة الدراسية " .
قفزت من على السرير حالما سمعت كلماته و هي تقول باندفاع : " لا داعي لهذا .. لقد استيقظت .. دقائق و سأكون جاهزة " .
ابتسم و هو يخرج من الغرفة : " لا تتأخري " .
تأففت بحنق و هي تبدأ في الإستعداد ليومها و بداخلها أمنية أن تعود إلى النوم مرة أخرى ..
صدح صوت هاتفها المحمول معلناً عن وصول رسالة جديدة ، فالتقطته لتجدها من صديقتها يمنى تخبرها فيها عن حفلتها التي ستقيمها اليوم و تؤكد عليها الحضور ..
ابتسمت بحماس فهي كانت بحاجة إلى مثل هذه الحفلة للتمتع و إزاحة الملل ..
هبطت الدرجات بسرعة و دلفت إلى حجرة الطعام ، قبلت والدتها و ذهبت لتقبل والدها ثم احتضنته قائلة :
" صباح الخير حبيبي " .
أبعدها عنه بمشاكسة و هو يقول : " ماذا تريدين يا صغيرة ؟ "
جلست بجانبه و هي تشير بإصبعيها السبابة و الإبهام و ابتسمت بحماس : " أريد شئ صغير و لن يكلفك الكثير " .
رفع حاجبيه بتساؤل : " و ما هو ؟ "
أمالت برأسها قليلاً و قالت ببراءة : " حفل ميلاد صديقتي اليوم و أريد أن أذهب .. و بالتأكيد بعض النقود لأشتري لها هدية " .
نظر لها مازن باستغراب .. فهي لم تخبره بأمر هذه الحفلة من قبل .. و شعر بالغضب من ذلك ، و مع ذلك انتظر بصبر طامعاً أن يرفض والده و لا يضطره لأن يعلن رفضه ..
تظاهر طه بالتفكير لبضع ثواني جعلت الترقب يحتل ملامحها ثم هتف : " موافق " .
صفقت بجذل و احتضنته بقوة : " أحبك أبي " .
تحدث مازن محاولاً أن تكون نبرته هادئة و لا تُظهر مدى غضبه : " أنا لست متفرغاً لآخذكِ تومي " .
تبدلت ملامحها في لحظة من السعادة إلى الحزن .. فهذه الجملة كافية لإعلان عدم ذهابها إلى الحفل ، فهتفت بحذر متمنية أن يقتنع بحديثها :
" ليصلني السائق ، أو من الممكن أن أطلب من أحد أصدقائي أن يمر و يأخذني " .
و منذ متى و هو يسمح لها بأن تذهب مع أصدقائها ، ثم أتقصد بالأصدقاء شباب أم فتيات ؟!
هتف بحزم منهياً النقاش : " لا .. لن تذهبي " .
نظر له طه بغضب ، فأبنه يكاد يخنق الفتاة من تدخلاته في حياتها و حرمانها من أبسط حقوقها
" و مَن أنت لترفض ذهابها ؟! "
ثم نقل نظراته لصغيرته : " اذهبي و استمتعي حبيبتي " .
توسعت عيونه بعدم تصديق ، لم يتخيل أبداً أن والده سيعارض قراره ، ثم كيف له أن يوافق ؟!
أ نسى أن الحفلة سيكون بها العديد من الشباب ؟
و ما أدراهم هم عما ممكن أن يحدث لها ؟
لم يتمالك غضبه فألقى بالملعقة التي يمسكها بعشوائية لترتطم بالسطح الخشبي محدثة صوت قوي ، تبعها صوت تحريك المقعد معلناً عن مغادرته ..
أغمض طه عينيه بخوف داعياً الله أن يكون ما يفكر فيه غير صحيح ، مع أن أفعال أبنه تنفي هذا و تؤكد أن ما يشعر به صحيح مائة بالمائة ، و مع ذلك ردد بداخله :
" هذه أوهام فقط ، كل شئ طبيعي و أبني بخير " .
أسرعت تسنيم وراءه بعد توديع والديها لتهتف بأنفاس لاهثة : " مازن .. مازن انتظرني " .
تجاهلها و صعد إلى سيارته ثم أغلق الأبواب كي لا تتمكن من الصعود ..
طرقت تسنيم الشباك عدة مرات حتى فتح لها لتقول باستغراب : " افتح الباب " .
هتف ببرود : " لِمَ ؟ "
قالت بنفس نبرتها : " كي تقلني للجامعة " .
ابتسم باستهزاء : " ليقلكِ السائق ، أو هاتفي أحد أصدقائكِ ليمر و يأخذكِ " .
ليقود بعدها السيارة غير مبالياً باعتراضاتها ..
زفرت أنفاسها بضيق و عادت إلى الداخل مرة أخرى و هي تطرق الأرض بعنف ..
نظر لها والديها باستغراب لتبادر هالة : " ماذا حدث ؟ "
ردت بغضب طفولي : " لقد ذهب و رفض أن يقلني إلى الجامعة " .
نهض طه و هو يلتقط مفاتيح سيارته : " لا مشكلة ، سأقلكِ أنا " .
ابتسمت بسعادة و كأنها لم تكن غاضبة منذ لحظات ، فهذه أول مرة يقلها والدها إلى جامعتها ، فمازن لم يكن يتركها تذهب مع أحد غيره ، و ساعده في هذا وجودهما معاً في نفس الجامعة ، حيث أن مازن معيد في جامعتها .. بل كليتها !
صفّ سيارته على جانب الطريق ، لقد تظاهر أمامها بالمغادرة ، و لكنه بالتأكيد لن يذهب و يتركها دون أن يطمئن عليها ..
دقائق مرت ليجد سيارة والده تخرج من المنزل ، تنهد و هو يقوم بتشغيل السيارة و يتبعهما من بعيد ..
صفّ سيارته مرة أخرى و لكن هذه المرة بسرعة ليلحق بصغيرته ، سار ورائها على بعد خطوات صغيرة منها حتى اطمئن على دخولها إلى المدرج دون أن يتعرض لها أحد ، ليستدير هو و يذهب إلى مكتبه و يبدأ في مباشرة عمله .
**********
طرقت الخادمة باب الغرفة بهدوء و هتفت بنبرة عملية معتادة : "  سيدة أسيل .. إنه موعد الإفطار .. الجميع ينتظركِ بالأسفل " .
دقائق مرت دون أي رد منها أو حتى إصدار صوت يدل على إستيقاظها ، فكررت الخادمة ما فعلته مرة أخرى دون كلل ، و لكن هذه المرة كانت الطرقات أشد قوة لعلها تصل إلى أحلام سيدتها و تنتزعها منها ..
" سيدتي .. هلا استيقظتِ رجاءً " .
تنهدت بقوة و يبدو أن صبرها على وشك النفاذ ، و هذا ظهر بوضوح في نبرتها التي تعالت قليلاً مُظهرة ضجرها ..
" سيدة أسيل .. إنها التاسعة " .
و تابعت بداخلها بحنق : " لو كانت تسمح لي بدخول غرفتها لمّا كنت سأستغرق كل هذا الوقت لإيقاظها " .
داخل الغرفة
تأففت من صوت خادمتها و الذي أفسد عليها نومها ، فتحت عيونها بكسل لتصطدم بالظلام الدامس من حولها ..
تمطت بجسدها ثم نهضت و أبعدت الستائر لينتشر الضوء في غرفتها ..
وصلها صوت الخادمة لتتذكر أنها لم ترد عليها بعد فصاحت : " لقد استيقظت ، يمكنكِ المغادرة " .
أغمضت الخادمة عينيها براحة و هتفت قبل أن ترحل : " لا تتأخري سيدتي فالجميع في انتظاركِ " .
ابتسمت بسخرية ؛ و كأنها تهتم لهم !..، فلينتظروها لسنة قادمة حتى .. فهي لم تطلب منهم هذا ..
التقطت هاتفها و فتحت الموسيقى و بدأت بممارسة بعض الرياضة الخفيفة تنشيطاً لجسدها ، ثم دلفت إلى الحمام لتخرج بعد فترة و المياه تقطر من شعرها ..
بدأت في تجفيفه لترتدي بعدها ملابس شتوسة ثقيلة نظراً لبرودة الجو ..
نظرت لنفسها في المرآة .. بشرتها البيضاء .. و وجنتيها المتوردة بحمرة طبيعية .. شعرها الأشقر الذي يغطي نصف ظهرها .. و عيونها الخضراء بلمعة حزن توضح ما يسكن قلبها .. ابتسمت بحزن ثم التقطت هاتفها مرة أخرى .. و هذه المرة كي تتصل بعمها كعادتها كل صباح !
و بعد ثواني وصلها صوته و هو يقول : " السلام عليكم صغيرتي الغائبة ، لو تعلمين مقدار شوقي إليكِ " .
ابتسمت و هي تردد معه هذه الجملة ، فهذه أولى الكلمات التي تخرج من شفتيه عندما تحدثه ، و على عكس المرات السابقة التي كانت تبث فيها اشتياقها له و لزوجته و انتظار اللحظة التي ستعود فيها إلى وطنها .. هتفت بمشاكسة :
" يسعدني أن أبلغك أنك ستشبع شوقك قريباً .. بل قريباً جداً ، فبعد شهر سأعود إلى حضنك الذي افتقده " .
تأوه بشوق و قال : " شوقي الشديد لرؤيتكِ يجعلني أشعر أنني سأموت قبل أن أضمكِ إلى أحضاني " .
قاطعته بحدة : " لا تقل هذا يا عمي ، أطال الله لنا بعمرك " .
وصلها صوته الضعيف : " الصحة لم تعد مثلما كانت يا أبنتي ، و لن أحيا أكثر من عمري " .
سقطت دموعها من دون شعور و هي تستمع إلى كلماته ، بالفعل الصحة لم تعد مثلما كانت .. ففي الفترة الأخيرة خاصة تدهورت صحة عمها بشدة ، و هذا السبب الرئيسي الذي سيجعلها تعود إلى مصر مرة أخرى بعد فراق ست سنوات ..
" بل ستحيا و ستسعد بوجود أحفادك حولك ، إن كنت غالية عليك و لي مكان في قلبك لا تقل هذا الكلام مرة أخرى " .
أحفاده .. يا لها من أمنية يتمنى أن تتحقق ، و لكن أمنيته تبدو مستحيلة ..  فهو يريد أن تكون هي والدة أحفاده !
ألم نقل أن أمنيته مستحيلة ؟!
فمما لا يقبل الشك أن أسيل نست طارق و كأنه لم يكن زوجها في يوم ، و التفتت إلى حياتها و مستقبلها ..
كما أن ولده الأحمق لن يقبل بدخول أسيل إلى حياته مرة أخرى ،
بل لن يقبل بدخول أي إمرأة إلى حياته مرة أخرى !
قال بأسى : " تعلمين أنكِ غالية و أبنة غالي " .
هتفت بمرح محاولة إبعاد الحزن الذي سيطر على محادثتهم : " ها قد اعترفت بنفسك يا أبا طارق .. فلو لم أكن أبنة عبد الله لم تكن لتحبني ، لقد حطمت قلبي الصغير بحق " .
قهقه بخفة و هتف بدون تفكير غافلاً عن تأثير كلماته عليها : " بل كنت سأحبكِ ، ألستِ زوجة أبني ؟ "
تجمدت و احتل البرود ملامحها .. و خنجر قاسي يُغرز في قلبها و هو يصيح بألم : " لا .. لست زوجته ، أنا طليقته " .
و بالفعل تفوهت بهذه الكلمات ، إلا أنها قالتها بنبرة خاوية باردة .. لا توضح ألم قلبها ، بل توحي لمستمعها بعدم تأثرها بالأمر :
" تقصد طليقته يا عمي " .
حينها انتبه محمد لما تفوه به ليشعر بالندم يتآكله على تسرعه و حماقته : " أعتذر صغيرتي " .
سرعان ما تمالكت نفسها و عادت إلى مرحها هاتفة : " أخبر خالتي أنني أشتقت كثيراً للطعام المصري .. خاصة الطعام الذي تطهوه بيدها " .
غمرته الراحة عندما تغافلت عن حديثه فهتف مجارياً إياها في مرحها : " ستطهو لكِ كل ما تحبيه " .
ابتسمت و كادت أن ترد عليه ، إلا أنها سمعت صوت خطوات تقترب من غرفتها ، فهتفت منهية المكالمة : " أرسل إليها تحياتي ، و سأراكم قريباً بمشيئة الله " .
فودعها قائلاً : " انتبهي إلى نفسكِ صغيرتي " .
" دعواتك عمي " .
قالتها و أغلقت الخط .. لتزفر أنفاسها بضيق مدركة لما سيحدث الآن ..
و بالفعل حدث ما كانت تخشاه ، فخلال لحظات اقتحم شاب غرفتها .. شاب طويل القامة ذو أعين خضراء و شعر أشقر داكن و جسد رياضي ، اقتحم غرفتها بوقاحة دون أن تسمح له !
وقف أمامها و ابتسامة خبيثة تعتلي شفتيه و عيونه تتفحص جسدها بجرأة ..
اقترب منها ببطء زرع الخوف في قلبها حتى أصبح لا يفصل بينهما سوى أنشات صغيرة و همس :
" لقد بعثتني سوزي لأحضركِ ، فلقد تأخرتي كثيراً " .
ابتلعت ريقها بقوة و هتفت بتلعثم : " إذاً هيا حتى لا نتأخر عليهما " .
حاولت التحرك إلا أنه دفعها بقوة فارتطم ظهرها بالجدار و تأوهت بألم ..
وقف أمامها و همس بجانب أذنها : " بإمكاننا أن نتأخر قليلاً أسولتي و لا أعتقد أن أحد سيمانع " .
ثم هبط ليقبل وجنتها .. قبلة طويلة .. راغبة !
أغمضت عينيها بتقزز و على الرغم من ارتعابها إلا أنها هتفت بقوة ظاهرية و يدبها تحاول دفعه بعيداً عنها : " إدوارد .. ابتعد عني " .
همس بافتنان و كأنه لم يسمعها : " أنتِ جميلة أسيل .. جميلة جداً ، و كم أتوق لأحصل على هذا الجمال " .
ثم حرك يديه ليتلمس جسدها بجرأة .
اشمئزاز .. تقزز .. خوف
هذا ما كانت تشعر به في هذه اللحظة ، و إن كانا الإشمئزاز و التقزز ظاهرين على ملامحها بوضوح ، فإن الخوف لم تكن لتسمح له بالظهور حتى لا يستغلها الماثل أمامها ..
و عندما شعرت بيديه تقترب من جسدها انتفضت بعنف و استدعت كل قوتها لتدفعه بقوة ثم ركضت بعيداً عنه .. هرباً منه ..
هرباً من إدوارد تشارلي !
إدوارد تشارلي .. ولد زوج أمها تشارلي .. و السبب الثاني لرحيلها من هنا ، فهو لا يترك فرصة إلا و تعدّى عليها راغباً في أن يحصل على جسدها ، و كأن جسدها ملكاً له و لأمثاله ! هبطت الدرجات و اتجهت لتجلس مع والدتها و زوجها على المائدة ..
" تأخرتي نصف ساعة عن موعد الوجبة " .
يا إلهي كم تكره هذه المواعيد .. فللطعام موعد محدد .. و للنوم موعد محدد .. و للخروج موعد محدد .. لا ينقصها سوى أن يحددوا موعداً للتنفس !
انضم إدوارد إليهم و أتخذ المقعد المقابل لمقعد أسيل ، ألقى إليها نظرة متوعدة و كأنه يقول : " سأظل ورائكِ حتى أحصل عليكِ و لن  تهربي مني " .
بينما أبتسمت أسيل باستهزاء و ألقت عليه نظرة قوية لا مبالية مع أنها بداخلها ترتجف ذعراً ..
تابعت سوزان غير عابئة بنظراتهما إلى بعضهما : " لِمَ تأخرتي ؟ "
" كنت أتحدث مع عمي " .
جزت على أسنانها بغضب .. لقد حذرت ابنتها الحمقاء أكثر من مرة بعدم التحدث مع أي أحد من عائلة والدها ، و لكنها تصر على التواصل معهم .. بل أنها قررت العودة إليهم بعذر أن عمها مريض !..، و لكنها لن تسمح بهذا و لن تعيدها إلى هناك ، فهي لن تلقي بأبنتها في هذا المجتمع المتخلف ، فقط على إدوارد الإسراع بخطتهما !
" إذاً المرة القادمة .. عندما تتحدثين معه .. انتبهي للوقت " .
لم ترد عليها و شرعت في طعامها بهدوء و تفكيرها منصب على عمها و صحته ، لو كان بيدها لكانت أسرعت إليه فور أن طلب رؤيتها و لكن والدتها مَن منعتها بعذر أنها استلمت مشروع في شركتها و عليها تنفيذه قبل رحيلها ، و لم تكن تعلم أن هذا المشروع ليس سوى عذر تبقيها به معها حتى تجد طريقة تمنعها بها من العودة إلى وطن والدها ..
**********
تنهد بشوق بعدما أغلقت الخط .. كم أشتاق لها و لوجودها .. و كم هو نادم على عدم إعادتها إلى عصمة طارق ، على الأقل كانت ستكون الآن معه و مطمئن عليها ، زفر أنفاسه بضيق و هو يتذكر تلك اللحظة عندما أخبرته أسيل بطلاقها ..

لست أبي (كاملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن