الفصل الثامن عشر

11.1K 418 18
                                    

متنسوش الفوت و الكومنت 😅😅

خرجت من القاعة و هي تبكي بقوة و بين كل شهقة و أخرى تقسم أنها لم تغش .. و أنه حاول أن يغش منها و لكنها لم تستجيب له ..
أحضرت لها لمياء زجاجة ماء لتشرب ، بينما مروة تضمها إليها و تقول :
" أهدأي حبيبتي " .
صاحت لارا غير عابئة بنظرات الطلاب المحيطين بها : " كيف أهدأ و أنا معرضة لحمل المادة بسبب شئ لم أفعله ؟ "
ملست لمياء على ذراعها بحنو : " لا تقلقي سنذهب للدكتور و نتحدث معه " .
قاطعتها بيأس : " حتى لو فعلنا .. لا أعتقد أنه سيتراجع عن قراره " .
كان يراقبها من بعيد و على شفتيه ابتسامة خبيثة .. و حينما وجد أن الوقت مناسباً للإقتراب و تنفيذ خطته .. سار اتجاهها بكسل و ابتسامته تزداد خبثاً و توعداً ..
وقف أمامها ليرسم الأسى .. و الأسف على ملامحه ببراعة و يقول : " لقد رأيت ما حدث لكِ ، لا أعلم أي الكلمات ستكون مناسبة لمواساتكِ " .
هتفت لمياء بعدائية : " هي ليست بحاجة إلى مواساتك من الأساس ، و يفضّل أن تبتعد عن هنا ، فنحن غير متفرغين لك " .
تجاهلها خالد و كأنها لم تتحدث ، لتتركز عيونه على لارا و قد تحولت نظراته إلى الحنو : " إلا أنني لن أواسيكِ بل سأخرجكِ من هذه المشكلة " .
لفت انتباه لارا بكلماته .. فتطلعت إليه بعدم تصديق .. و دمعة عالقة على رموشها ، لتقول بشك : " كيف ؟ "
ابتسم خالد ابتسامة جانبية و قال : " أنا رأيت ما حدث و أستطيع أن أشهد أنكِ لم تفعلي شيئاً ، كما أن مَن حاول الغش منكِ صديقي .. أستطيع السيطرة عليه و أجعله يعترف بالحقيقة " .
ابتسامة صغيرة ارتسمت على فم لارا .. و دموعها أصبحت فرحة .. آملة : " لن أنسى خدمتك هذه " .
ابتسم لها ابتسامة بريئة في ظاهرها .. ماكرة في نواياها : " ليس بيننا خدمات لارا .. فنحن أصدقاء " .
**********
تطلعت تسنيم إلى ساعتها بقلق ، ليقول سيف مطمئناً : " يكفي حبيبتي أخبرتكِ أنه لن يرانا " .
هتفت تسنيم بحدة غير مقصودة : " إن غادرت الآن لن يراك ، أما بعنادك هذا فمن المحتمل أن نراه فوق رؤوسنا في أي ثانية " .
و على الرغم من حدتها إلا أنه لم يغضب منها ، بل على العكس تفهّم خوفها و قلقها .. فإن رآهما مازن سوياً لن يمررها على خير ..
" لا تقلقي .. سأغادر قبل أن يأتي " .
أصفر وجهها فجأة و هتفت برعب : " سيف .. ماذا إن رآنا أحد و أخبره ؟ "
التقط كفها ليملس عليه بحنان و قال بثقة ليطمئنها : " و مَن هذا الذي سيهتم لجلوسنا .. لكل منا مشاغله و مشاكله التي لن تجعله يهتم إلا بنفسه " .
و أردف بمرح : " و الآن ابتسمي .. فلا أريد أن ينتهي لقاءنا بخوفكِ يكفي أنه بدأ بمشكلة " .
ابتسمت ابتسامة صغيرة .. متوترة .. جعلته يشفق عليها ، فقال برفق : " سأذهب أنا الآن ، و طمئنيني عليكِ مساءً " .
اتسعت ابتسامتها و كأنها اطمئنت أخيراً : " حسناً حبيبي .. انتبه إلى نفسك " .
غادر سيف لتبقى تسنيم لحالها تفكر فيما تفعله .. على الرغم من حبها لسيف بل عشقها له إلا أنها تكره علاقتهما السرية .. تكره أنها مضطرة أن تهرب من شقيقها لترى حبيبها .. أن تتوتر عند رؤية سيف في وجود عائلتهما ، و مع ذلك لا تستطيع لومه .. فهو لا يمكنه الذهاب إلى والديه و إخبارهما أنه يريد الزواج و هو ما زال طالباً ..
وقف مازن خلفها عاقداً حاجبيه باستغراب سائلاً بتعجب " تومي " .
انتفضت على صوته لتنظر له و حدقتيها تتحركان بخوف من أن يكون رأى سيف معها ..
" مازن .. متى أتيت ؟ "
كتف مازن ذراعيه و هو يقول : " منذ قليل ، ماذا تفعلين أنتِ هنا ؟ "
نظرة سريعة إلى ساعتها جعلتها تدرك أن سيف غادر منذ ربع ساعة ، و لكن أنهماكها في أفكارها لم يجعلها تدرك ذلك ، فأطلقت تنهيدة ارتياح و قالت ببساطة :
" أنتظرك " .
انقلبت ملامح مازن إلى الغضب و هتف بحدة : " أ ليس لديكِ محاضرة الآن ؟ "
توترت تسنيم و هي تتذكر أمر محاضرتها .. و التي فضّلت الجلوس مع سيف على حضورها ، ثواني استغرقتها في التفكير حتى تجد كذبة مناسبة .. مقنعة .. لا تجعله يشك في شئ ..
رفعت يدها واضعة إياها على رأسها مصطنعة التعب و قالت : " لقد شعرت ببعض الإرهاق ففضّلت أن أخرج و أنتظرك " .
ظهر الخوف على ملامحه بمجرد أن نطقت كلماتها و اقترب منها محيطاً وجهها بكفيه سائلاً إياها بذعر :
" بم تشعرين حبيبتي ؟ "
ابتسمت لتطمئنه : " إرهاق بسيط .. إن غفيت سأرتاح " .
التقط كفها و أمسكه برفق و سار معها و هو يقول : " دقائق و نصل إلى المنزل و ترتاحين " .
لتهمس : " يا ليت " .
و بداخلها تحمد الله أن كل شئ مر بخير ..
**********
بعد المغرب .. في مكتب طه بالمنزل
جلس مازن أمام طه و ملامحه تشي بسعادته مما جعل طه يظن أنه سيتفوه بما يريحه ، إلا أن مازن فاجئه حينما قال :
" لا يصلح لتسنيم " .
عقد طه حاجبيه باعتراض و قال : " كيف ؟ "
رفع مازن اكتافه بلا مبالاة : " كما سمعت أبي " .
أسند طه مرفقيه على مكتبه و سأله بسخرية : " و ما الذي جعلك تأخذ هذا القرار الخطير سيد مازن ؟ "
تغاضى مازن عن سخرية والده .. فسعادته بفشل هذا الزواج لا تضاهي بثمن !
" أخلاقه ليست جيدة أبي .. على علاقات " .
قاطعه طه بحدة : " ليس معنى أنني وكلتك موضوع السؤال عن العريس أن تختلق الأكاذيب لإفساد هذا الزواج .. فقط لأنك غير موافق عليه " .
اكتسى البرود ملامح مازن و هتف بصراحة : " لا أحتاج للكذب أبي ، فإن كنت وجدته مناسباً لها كنت أبرحته ضرباً حتى يندم على اللحظة التي فكر فيها بها و يقسم على ألا يقترب منها " .
تفاجأ طه من كلماته فهتف ببلاهة غير مستوعباً لمدى جدية حديث أبنه : " ماذا ؟ "
ليبتسم مازن باستهزاء و يقول : " انا حقاً كنت سأفعل هذا أبي " .
ليساله طه بتعجب : " لماذا ؟ "
ليرد هامساً بشرود : " لأنني لا أستطيع تخيل تسنيم بعيدة عنا .. في منزل لحالها .. و مع رجل غريب لا نعرفه .. الله وحده يعلم ما من الممكن أن يفعله بها " .
هتف طه من بين أسنانه : " و ماذا سيفعل بها بحق الله .. ستكون زوجته " .
هتف مازن بحدة : " حتى لو .. أنا لا أطمئن عليها إلا و هي معي .. بجانبي " .
و تابع بجدية : " لا داعي للحديث الآن .. فالعريس غير مناسباً لها ، و إن كنت لا تصدقني يمكنك السؤال عنه " .
لينهض بعدها و هو يقول : " إن كنت لا تريد مني شيئاً أخر سأذهب أنا " .
أشار له طه بالذهاب و هو يتنهد مفكراً في حديث ابنه و كلماته ، ليهمس بشرود :
" كلماتك تخيفني مازن ، و أخشى أن يأتي اليوم الذي أُجبر فيه على الإستعانة بمَن يساعدك ، و حينها لا أعلم كيف ستكون ردة فعلك ؟! "
خرج مازن ليرى والدته جالسة على مقعدها المفضل و الذي يطل على حديقة منزلهم الصغيرة ، و بيدها كتاب تقرأ فيه بتركيز ..
انتبهت هالة لوجوده لتسأله بلهفة : " إلى ماذا توصّلت ؟ "
زم شفتيه بضيق ؛ غريب .. لِمَ الكل متحمس لهذا العريس عداه ؟
إلا أنه لم يصّرح بسؤاله ، بل ابتسم ابتسامة صغيرة .. سعيدة و قال :
" لا يناسبها أمي " .
عقدت هالة حاجبيها بضيق ، فهي كأي أم تريد أن تفرح بطفلتها و تراها عروساً .. مرتدية فستانها الأبيض ..
" ما العيب فيه ؟ "
أجابها مازن ببرود : " لتسألي أبي عن هذا ، فكما شعرت هو لم يصدقني و سيسأل هو عنه ، لذا .. عندما يتأكد من معلوماتي بإمكانه إخباركِ " .
**********
استيقظت تسنيم من نومها .. لتطمطع بكسل ، فهي على الرغم من كذبها على مازن إلا أنه كان هناك شئ من الصحة .. و هو انها تريد النوم ..
قفزت من على سريرها عندما تذكرت العريس الذي تقدم لها و عدم إخبار والديها لها بالأمر .. لتبدأ بالتفكير في طريقة مقنعة لرفضه .. و لكنها و للأسف لم تتوصل إلى شئ ..
زفرت أنفاسها بغضب و نهضت لتغادر غرفتها متجهه إلى والديها ، أثناء هبوطها سمعت صوت مازن و هو يخبر والدتهما برفضهما للعريس بعذر أنه غير مناسب لها ، فكادت ان تقفز على الدرج من السعادة .. و أسرعت عائدة إلى غرفتها لتخبر حبيبها بما آل إليه الأمر ..
التقطت هاتفها و اتصلت به لتقول بسعادة فور ما سمعت صوته : " لقد رفضوا العريس " .
وصلها صوته المتفاجئ : " كيف ؟ "
هتفت تسنيم بسرعة بسبب سعادتها : " لقد سمعت مازن و هو يتحدث مع أمي و يخبرها انه لا يصلح لي " .
لتقفز بعدها على السرير كالاطفال و هو يقول : " أ تصدق سيف ؟ ، لقد حُل الأمر دون ان نتدخل " .
تمتم بفرح : " رائع " .
لكن .. سرعان ما عاد القلق ليسيطر على نبرته و هو يقول : " و لكن ماذا إن تقدم لكِ غيره ؟ "
عبست تسنيم بملامحها من تشاءم حبيبها و قالت : " سنفكر وقتها في حل " .
استشعر سيف ضيقها من حديثه فهتف مغيراً الموضوع : " إذاً كيف سنحتفل ؟ "
طرقات على باب غرفتها قاطعت حديثهما لتتوتر تسنيم و تهمس إلى سيف بسرعة : " سأغلق الآن ، لقد أتى أحد إلى غرفتي " .
رد سيف بسرعة قبل أن تغلق الخط : " حسناً حبيبتي .. أراكِ غداً .. سأشتاق إليكِ " .
أغلقت تسنيم الخط بخوف و هي تسمع صوت مازن : " تسنيم ألا زلتِ نائمة ؟ "
تحركت تسنيم و فتحت الباب و ابتسامة مرتعشة مرتسمة على شفتيها :
" لا مستيقظة ، و لكنني كنت أتحدث مع صديقتي " .
أمرها مازن بحزم : " حسناً تحركي امامي لتأكلي ، ثم تبدأي دراسة بعدها " .
طعام .. لا تعلم لِمَ عندما اتى بسيرة الطعام اشتهت المعكرونة التي يصنعها ، فهي لم تأكلها منذ أسبوع تقريباً ..
لذا رسمت على ملامحها بالبراءة و همست بدلال : " مازن .. أريد أن آكل معكرونة " .
تحدث غافلاً عن مقصدها : " يوجد الكثير منها لا تقلقي " .
أمسكت بيده قائلة بنفس الدلال : " لا أنا أريد معكرونة من صنع يدك " .
رفع أحد حاجبيه بتعجب : " الآن ؟ "
لتقفز قفزات صغيرة .. راجية : " نعم مازن أرجوك " .
كيف سيرفض طلباً لها و هو الذي يستيقظ بعد منتصف الليل خصيصاً كي يفعل لها ما تريد ؟!
" حسناً صغيرتي ، لتذاكري قليلاً ريثما أصنعها لكِ " .
ركضت أمامه بمرح و هي تقول : " لا ، سأجلس معك و أراك و أنت تصنعها كما في كل مرة " .
ابتسم مازن باستسلام .. لا يستطيع رفض ما تريده .. ليتجه معها إلى المطبخ " .
**********
كانت عيناها العاشقة تلتهمه بينما هو يقود السيارة بهدوء كعادته ، تتمعن في كل شبر في وجهه .. شعره المتطاير بفعل الهواء يغطي جبهته .. عينيه السوداء تنظر إلى الطريق بتركيز .. و ذقنه المشذبة و التي تزيده رجولة و وسامة .. قبضت على كفها بقوة كي لا تتهور و تلمسها .. و حينها لا تعلم ماذا ستكون عاقبة فعلتها ؟!
أمالت رأسها إلى الجهة اليمنى مفكرة ، أ يعقل خلال كل هذه السنوات لم تتحرك مشاعره اتجاهها ؟
كيف له ألا ينظر لها إلا سوى صديقة خلال كل تلك الفترة التي عرفا فيها بعضهما ؟!
ماذا إذاً عن الحب من النظرة الأولى الذي تسمع عنه دائماً ؟
أين هو عنهما ؟
هي التي تكاد تتم عشر سنوات منذ معرفتها بعلاء ؟
ما السر وراء عدم حبه لها ؟
أ يعقل أن يكون في حياته فتاة أخرى ؟
نفت هذه الفكرة بسرعة .. فهي تقضي مع علاء معظم اليوم .. و إن كان يحب فتاة أخرى كانت ستلاحظ هذا .. او على الأقل ستراها معه ..
لتتخترق لارا عقلها بالقوة فتلمع عيونها برفض ..
من المستحيل أن يكون علاء على علاقة بلارا !
اعتدلت في جلستها .. و نظراتها تحولت إلى أخرى قوية .. حادة ..
بدأت في البحث بسرعة عن طريقة تكتشف بها مشاعره ، و بالفعل وجدتها !
" أ تعرف الدكتور قاسم .. دكتور العظام ؟ "
انتبه علاء إلى حديثها بعد صمت دام طويلاً .. منذ أن خرجا من المشفى تقريباً ، كان واعياً خلاله إلى تحديقها به .. و لكنه تجاهل الأمر بإرادته ..
استغرب من سؤالها و مع ذلك أجابها : " بالتأكيد " .
لتهتف بمرح : " و هل تعلم أنه يبحث عن عروس له .. جميلة و .. صغيرة السن ؟ "
رفع علاء أحد حاجبيه باستغراب : " لا .. لا أعلم " .
و أردف بتساؤل : " ثم ما دخلنا نحن بهذا ؟ "
لتبتسم برقة و عيونها تترصد ردة فعله : " كنت أفكر أن لارا مناسبة له " .
ضغط على مكابح السيارة بقوة أفزعتها و صاح : " كيف ؟ "
تعالى صوتها بذهول : " علاء .. ماذا تفعل ؟ ، و كيف تقف في منتصف الطريق بهذه الطريقة ؟ "
انتبه علاء على موقع وقوفه و أصوات أبواق السيارات و السائقين المتذمرة ، فتحرك بالسيارة مرة أخرى و هو يقول بهدوء جاهد للحصول عليه : " لقد صُدمت من حديثكِ " .
ارتفع حاجبيها بتساؤل : " أ تعارض زواجها ؟ "
هتف بجدية : " لا يحق لي المعارضة من الأساس فوالدها هو المسئول الأول و الأخير عنها و هو مَن له الحق في تزويجها الآن أم الإنتظار حتى تُنهي دراستها ، هذا بجانب قرارها و رغبتها بالطبع " .
لتسأله محاصرة إياه : " إذاً ما سبب صدمتك ؟ "
رد ببساطة : " من الممكن أن تقولي بأنني فوجئت لأنكِ أنتِ تحديداً ترشحين لارا لعريس " .
رفعت حاجبيها بعدم فهم ، ليردف موضحاً : " انا أرى تعاملكِ معها و علاقتكِ بها ، لذا لم أتخيل أنكِ ستقدمين على هذا في يوم " .
ظهر الإعتراض على وجهها و قالت بحزم : " انا لا أكره لارا .. و أتمنى لها كل خير " .
و أردفت بسرعة قبل أن يرد عليها .. فهي قد رأت أن الموضوع يأخذ مجرى أخر غير الذي تريده ..
" ما رأيك أنت ؟ "
رد بهدوء : " فيم ؟ "
تنفست بقوة محاولة التحكم بأعصابها حتى لا تتهور و تنطق ما من الممكن أن تندم عليه ..
" في موضوع الدكتور قاسم " .
صمت للحظات ليقول بعدها : " إن كان الأمر بيدي فلن أوافق " .
سألته بحذر : " لِمَ ؟ "
" لأنني أرى أنه من الأفضل أن تركز لارا على دراستها في هذه المرحلة و عندما تتخرج نفكر في هذا " .
رفعت حاجبيها بشك : " هذا فقط ؟ "
هتف علاء بعدم فهم : " لا أفهم ، ما قصدكِ بهذا فقط ؟ "
" منذ متى و نحن أصدقاء علاء ؟ "
ابتسم بمرح : " صراحة .. لقد توقفت عن حساب سنوات صداقتنا منذ زمن " .
تجاهلت ليندا حديثه و قالت : " منذ عشر سنوات تقريباً .. و أعتقد أنها فترة كافية جداً لتشاركني أسرارك .. كما أنا أشاركك كل أسراري " .
التفت لها للحظة .. ينظر لها بغموض : " أسراري ؟ "
ابتسمت نصف ابتسامة و سألته بحرج : " نعم أم لا تراني مؤهلة لحفظ أسرارك ؟ "
التوى فمه بابتسامة غريبة و قال : " و ما السر الذي تودين معرفته ؟ "
ابتلعت ريقها بتوتر قبل أن تقول : " مَن تملك قلبك ؟ "
قهقه بقوة مما جعلها تنظر له بذهول .. مستعجبة من ضحكه ، دقائق مرت حتى استطاع السيطرة على ضحكاته ، تنفس بقوة و قال :
" تتحدثين و كأن هناك فتاة فعلاً " .
كان قد وصل إلى منزلها فصفّ سيارته على جانب الطريق منتظراً ترجلها ، إلا أنها لم تترجّل بل التفتت بجسدها اتجاهه و قالت :
" أ تريد أن تقنعني أنك حتى الآن لم تعجب بفتاة قط ؟ "
رفع أكتافه بأسف : " هذه الحقيقة " .
تعلقت نظراتهما لبعض الوقت .. نظراته غريبة .. غامضة .. لا تستطيع تفسيرها ، أما نظراتها فكان يملأها الشك .. الحذر .. و .. الخوف !
حاولت إخفاء مشاعرها و التحدث بهدوء حتى تعرف ما تريد ..
" حتى لارا " .
عقد حاجبيه بعدم فهم و قال : " لارا .. ما بها ؟ "
تنهدت بقوة ثم قالت : " أ لا تحبها ؟ "
استغرق لحظات كي يستوعب ما تقوله ، لتنقلب بعدها ملامحه إلى الغضب .. غضب شديد من أفكارها الغريبة .. الغير مقبولة !
فكيف له أن يكن مشاعر خاصة اتجاه ابنة شقيقه ؟!
كيف لها أن تظن به مثل هذا الظن ؟
تحولت عينيه إلى اللون الأحمر الدال على انفعاله .. و قبض على يده بقوة حتى لا يصفعها .. صفعة تجعلها تفكر ألف مرة قبل أن تتفوه بمثل هذا الحديث ..
رفع إصبعه السبابة أمامها بتحذير و هتف بنبرة توضح مدى غضبه : " إياكِ ثم إياكِ أن تتفوهي بهذا أمام أحد أو تلمحي له حتى ، فهمتِ ؟ ، و الآن ترجلي " .
تعجبت ليندا من رد فعله المتناقض من وجهة نظرها ، فغضبه ينم عن رفضه لما تقول بل اشمئزازه منه !
أما حديثه و كلماته .. تدل على شخص عاشق حد النخاع و لكنه خائف من أن يُكشف عشقه ؛ هذا ما اعتقدته هي !
و لم يراود ذهنها أن تحذيره لها ليس إلا لحماية لارا ، فإن علم أحد بما تفوهت به ستكون سيرة الصغيرة على كل لسان ، و هذا سيضر بسمعتها .. قبل سمعته .. و هو كعمها لن يقبل بهذا خاصة و ما تقوله ليندا لا يمت للواقع بصلة .. فهو لا يعتبر لارا إلا أبنة شقيقه .. صديقته الصغيرة التي ملئت حياتهم بهجة منذ أن دلفتها ، و لا يحمل لها أي مشاعر خاصة !
هتفت ليندا بإصرار : " ليس قبل أن تخبرني " .
صاح فيها بغضب : " أخبركِ ماذا يا غبية ؟ "
تغاضت عن سبه لها .. فهناك الأهم من وجهة نظرها ، فقالت : " أ تحب لارا ؟ "
شد شعره بعدم تصديق من غباءها : " ليندا .. ترجلي قبل أن أرتكب فيكِ جريمة " .
لم تلتفت إلى تهديده .. بل أقسمت أنها لن تترجل إلا عندما تعلم حقيقة مشاعره ..
" تحبها أم لا " .
ضرب المقود بقوة منفثاً عن غضبه : " أحب مَن يا غبية .. ابنة شقيقي ؟ ، هل تعقلين ما تقولينه ؟ "
هتفت بتهور : " ليست أبنة شقيقك ، لقد كفلها إسلام من الدار " .
أمسكها من ذراعها و ضغط عليه بقوة و هو يقول مشدداً على حروفه : " بل أبنة شقيقي .. لارا أبنة شقيقي .. لا أحد يستطيع قول غير هذا ، و مَن سيعاملها على أنها يتيمة لا أهل لها .. أو ينظر لها نظرة دونية .. سوف يواجهني أنا و والدها .. عمها و والدها ! "
حسناً الآن و بعد كل ما قاله .. محى كل شك بداخلها اتجاه مشاعره تجاه ابنة شقيقه و جعلها تشعر بالراحة ..
ابتسمت بحزن مصطنع و قالت بدلال : " سأذهب أنا .. و لكن لا تنسى أن بيننا حساب عسير ، فلقد دعيتني بالغبية مرتين " .
و ترجلت بعدها تاركة إياه ينظر لها بذهول .. و غضب لم يختفي بعد .. و يظن أن غضبه من حديثها سيظل يلازمه لفترة طويلة !
أما عنها فدخلت إلى منزلها و على شفتيها ابتسامة سعيدة و كأنها ربحت جائزة كبرى ، و بالنسبة إليها هو كذلك .. فعلاء بالنسبة لها جائزة تطمح بالفوز بها !
تعلم أنه غضب من حديثها .. و لكنها لا تبالي .. فالمهم أنها تأكدت من ان قلبه خالي .. لا يسكنه أحد ..و لن يسكنه غيرها !..، أما عن غضبه منها .. فهي كفيلة لمصالحته .. و ستستمتع بها أيضاً ..
" أرجو من الله أن ترتسم هذه الإبتسامة دائماً على شفتيكِ " .
عبست بملامحها و هي تستمع إلى صوت زوجة والدها ، فالتفتت لها و قد زالت الإبتسامة من على شفتيها ..
" ماذا تريدين ؟ "
ابتسمت لها مريم بصدق : " و هل دعوتي يجب ان تكون مرتبطة بشئ أريده ؟ "
كتفت ليندا ذراعيها و تحفز جسدها بعدائية واضحة : " هذا ما أنتظر معرفته ، و إلا لِمَ سيادتكِ ستدعين لي ؟ "
لترفع أحد حاجبيها و تقول : " إلا لو كانت دعوتكِ سخرية مني " .
لم تتأثر مريم بنبرتها و لا بحديثها ، بل على العكس ابتسمت لها بحنان أمومي و قالت : " حقيقة لا أعلم لِمَ دعيت لكِ ، كل ما أعرفه أنني عندما رأيت ابتسامتكِ تمنيت ان تظل دائماً على شفتيكِ و ألا يحرمكِ الله منها " .
لِمَ نبرتها غريبة هكذا ؟ ، غريبة بالحنان الذي يشع منها .. و الصدق الذي يميزها ..
لا ليست نبرتها فقط الغريبة ، بل هذه المرأة بأكملها !
فأول ما يمكنك توقعه عندما تقع عينيك عليها أنها في أوائل الأربعينات ، و هذا بحد ذاته غريباً .. فوالدها أعتاد على الزواج من فتيات في العشرينات .. أي في مثل عمرها أو أقل !
و مع ذلك عمرها لا يخفي جمالها .. سواء بشرتها الخمرية المحتوية على بعض التجاعيد و التي تضيف إلى ملامحها حنان من نوع أخر .. و ابتسامتها الصادقة المرتسمة دائماً على شفتيها و التي تجعلك تشعر بالراحة رغماً عنك .. و عيونها التي تفيض حنان و حب ، ربما بساطة ملامحها و شفافيتها هي ما جذبت والدها إلى هذه المرأة !
و لكن الغريب أن زواج والدها من مريم يكاد يمر عليه ثلاثة أشهر و لم يطلقها بعد ، هو الذي كان يمل من الفتاة منذ أول شهر زواج .. فيرمي عليها يمين الطلاق متفضلاً عليها ببعض المال !
و مع ذلك تجاهلت ليندا كل مشاعرها و تساؤلاتها اتجاه مريم و قالت بسخرية :
" و من المفترض أن أصدقكِ ؟ "
و تابعت دون أن تعطي لمريم فرصة للدفاع عن نفسها : " اسمعيني و افهميني جيداً .. أنتِ لن تظلي في هذا المنزل لكثير من الوقت ، شهر أو شهرين بالكثير و سيكون مصيركِ كاللاتي تزوجهن أبي من قبلكِ ، فلا تحاولين تمثيل دور المرأة الحنونة لأن هذا لن يدع أبي يغير من عادته " .
هتفت مريم بهدوء : " أنا لا أقصد " .
لنقاطعها ليندا بحدة : " لا أريد معرفة مقصدكِ ، يكفي أنكِ عكرتِ مزاجي بعد أن كنت سعيدة " .
و تحركت بعدها إلى غرفتها مبتسمة بسخرية ، فزوجة والدها الحمقاء تعتقد أنها إن تقربت منها سوف تنال رضا والدها ، و لا تعلم أنها لا شئ بحياة والدها من الأساس !
**********
بعد مرور أسبوع
انتهت ياسمين من حزم أغراضها القليلة .. البسيطة .. لتطلع إلى الغرفة التي ضمتها خلال سنوات عمرها الثماني عشر بوداع ، فبهذه الغرفة قضت أسعد لحظات حياتها .. و بهذا الدار قضت أتعس لحظات حياتها ، و يا له من تناقض !
إلا أنه تناقض مقبول ؛ حيث أن لحظاتها السعيدة تتمثل في تلك التي قضتها من صديقاتها ، أما غير ذلك فلا يمت للسعادة بصلة ..
صديقاتها و بالتحديد تسنيم و لارا ، تُرى هل ستجمعهما الحياة مرة أخرى ، أم أن القدر سيستمر على التفرقة بينهما ؟
اقتحمت مشرفة الدار الغرفة و قالت باشمئزاز و هي تفرقع العلكة التي بفمها بوقاحة : " ألا زلتِ هنا يا فتاة ؟ " .
لتقترب منها و تدفعها إلى خارج الغرفة بقسوة : " هيا غادري ، الفال للبقية و نتخلص منكن " .
سارت ياسمين بضعف غير قادرة على الرد عليها كعادتها ، إلا أنها كانت سعيدة لأنها و أخيراً ستتخلص من هذه الإهانات ..
و قبل مغادرتها مرت على مكتب المديرة لتعطيها الأخيرة مبلغ قليل من المال كما جرى مع ريناد ..
خرجت ياسمين من دار الأيتام وحيدة لأول مرة ، فأغمضت عينيها بتلقائية عندما أزعجتها أشعة الشمس الحارقة ..
جالت بنظراتها المكان لتقع على شجرة متوسطة الحجم و لكنها كافية لمنحها الظل التي تنشده حتى تأتي ريناد لها كما وعدتها الأخيرة ..
وقفت تحت الشجرة و نظراتها تتمعن في كل ما تقع عليه بانبهار و كأنها تراه لأول مرة !
بقت على هذا لأكثر من ساعة و ريناد لم تأتي بعد !..، فجلست بتعب بعد أن شعرت أن قدميها غير قادرة على حملها .. و أسندت رأسها على جذع الشجرة منتظرة صديقتها بصبر و كلها أمل ألا تخلف بوعدها ..
و لكن الإنتظار لم يأتي بنتيجة إيجابية ، فساعة أخرى مرت و هي لازالت وحيدة في مكانها ، لتتيقن حينها أن ريناد تخلت عنها كما تخلا عنها صديقتيها من قبل .. و لا مفر من مواجهة العالم لحالها ..
و بخوف نهضت من مكانها و بدأت رحلتها في عالم لا تعرف عنه إلا القليل ..
جالت ياسمين الشوارع بغير هدى .. تتنقل من شارع إلى أخر .. تتطلع إلى المحلات التي تحتلهم .. و تشاهد مختلف الناس بمظهرهم و تعبيراتهم ، حتى أخذتها قدميها إلى حي هادئ بقصور راقية توضح مدى غنى أصحابها ..
استمرت في السير و هي تنظر إلى كل قصر و أخر بانبهار متخيلة نفسها تعيش في أحدهم ، إلا أنها كانت تعلم أن هذا أشبه بالحلم المستحيل ..
و أثناء شرودها بجمال القصور التي تراها اصطدمت بإمرأة في أواخر الثلاثينات ، فابتعدت عنها بخجل و همست : " أعتذر سيدتي لم أنتبه لكِ " .
نظرت المرأة إلى ياسمين بتركيز محاولة اكتشاف سبب وجودها في هذه المنطقة الراقية ، فمظهر ياسمين البسيط و ملابسها القديمة الباهتة اللون كانت تشير بوضوح إلى مستواها المادي المتدني .. كما أن المرأة على علم بكل الخدم الذين يعملون في القصور هنا و هي متأكدة أن ياسمين ليست منهم ..
" مَن أنتِ ؟ "
ردت ياسمين بحماقة : " أنا ياسمين " .
لوت المرأة شفتيها بعدم رضى و سألت : " و ماذا تفعلين هنا يا ياسمين ؟ "
زاغت عيني ياسمين بضياع و قالت أول ما خطر على بالها : " أبحث عن عمل " .
تفحصتها المرأة هذه المرة بدقة ، و هتفت فور أن أنهت فحصها و هي تشير إلى أحد القصور القريبة منهما : " أ ترين هذا القصر ؟ ، إنهم يريدون خادمة .. اذهبي و جربي حظكِ " .
شكرتها ياسمين بخفوت و سارت من أمامها متحركة إلى القصر التي دلتها إليه ..
وقفت ياسمين أمامه تتأمله بإعجاب واضح غير مصدقة أنها ستعمل في هذا المكان و أن أمنيتها لدخول واحد من هذه القصور التي تحيط بها ستتحقق حقاً !
على الرغم من أن العمل كان أخر ما في بالها و أنها كانت تسير بلا هدف .. مفكرة في خيانة ريناد لها و تخليها عنها ، إلا أنها عندما اصطدمت بالمرأة و سألتها عما تفعله في هذه المنطقة .. لم تجد إلا عذر البحث عن عمل .. و حقيقة لم تتوقع أن تجد واحداً بهذه السهولة و السرعة ، و كأن الدنيا تفتح أبوابها لها بترحيب ..
اقترب أحد الحراس الضخام من البوابة و هو ينظر إلى مظهر ياسمين باشمئزاز و سألها من خلف الباب الحديدي : " ماذا تريدين ؟ "
عبثت ياسمين بيدها بتوتر و ردت بصوت ضعيف : " جئت من أجل أن أعمل هنا " .
" أي مكتب أرسلكِ ؟ "
عقدت ياسمين حاجبيها بعدم فهم : " مكتب ماذا ؟ ، أنا لا أفهم " .
" مكتب التخديم " .
تحدثت ياسمين ببلاهة : " تخديم " .
قاطع حوارهما صوت أبواق سيارات عالية .. فأسرع الحارس لفتح البوابة و إبعاد ياسمين عن الطريق ، دلف إلى البوابة ثلاث سيارات .. اثنين منهما كانا مليئين برجال ذو أجساد ضخمة .. يرتدون البدل السوداء الرسمية .. كانوا يماثلون الحارس الذي يقف أمامها في الجسد الضخم .. و الملامح الحادة التي لا تعرف الرحمة ..
و السيارة الثالثة و التي كانت في منتصف السيارتين الأخرتين كان بها رجل في أوائل الثلاثينات .. صاحب هذا القصر ..
توقفت السيارة الخاصة بصاحب القصر و فُتِح شباك المقعد الخلفي ، ليقول فريد بتساؤل :
" مَن هذه الفتاة ؟ "
تحدث الحارس باحترام : " لقد جاءت من أجل العمل سيدي " .
همهم فريد ب " حسناً " قبل أن يغلق شباك سيارته و يتحرك به السائق نحو الداخل ..
بينما عاد الحارس إلى ياسمين و تابع استجوابها : " لم تخبريني .. أنتِ تابعة لأي مكتب ؟ "
هتفت ياسمين بتوتر : " لا أفهمك " .
هتف الحارس بنفاذ صبر : " كيف أتيتِ إلى هنا يا فتاة ؟ "
قالت ياسمين ببراءة : " لقد اصطدمت بإمرأة و أعلمتها ببحثي عن عمل فدلتني إلى هذا القصر " .
تنهد الحارس براحة و قال : " انتظريني هنا " .
بداخل القصر .. في المطبخ
كانت ميرفت - رئيسة الخدم في القصر - تتحدث على الهاتف باعتراض : " كيف ليست تابعة لمكتب خاص ؟ ، هل سنقبل أي واحدة تأتي طالبة العمل ؟ " .
و تابعت بحزم : " أطردها في الحال " .
جاءها صوت قوي من خلفها يقول بنبرة لا تقبل النقاش : " ميرفت .. الفتاة التي بالخارج اقبليها بالعمل .. و لتبدأ اليوم " .
قال كلماته بأمر و تحرك خارجاً من المطبخ ..
نظرت ميرفت في أثره .. فاغرة فاهها بذهول ، أ هذا السيد فريد الذي كان هنا ؟
منذ متى و هو يأتي إلى المطبخ ؟
بل و يتدخل فيما يعملون هنا !
أ ليس قبول الفتيات للعمل و طردهم منه أمر راجع لها ؟!
و هو و زوجته لا يتدخلا فيه أبداً ، إذاً ماذا حدث كي يأمرها بقبول فتاة هذه الفتاة ؟!
و على الرغم من تساؤلاتها و استغرابها مما حدث إلا أنها بالتأكيد لن تعترض على قرار أصدره سيدها ، فهاتفت الحارس حسن و أخبرته بفتور :
" أدخِل الفتاة " .
دلفت ياسمين إلى القصر تطلع إلى ما حولها بانبهار و فاهها فاغر بذهول .. لا تصدق ما تراه عينيها ، أ حقاً هي ستعمل هنا و تتجول في هذا المكان كما يحلو لها ؟!
استقبلتها إحدى الخادمات و قالت بلطف : " اتبعيني " .
سارت ياسمين وراءها و مازالت تتفحص ما حولها بانبهار .. حتى وصلت إلى المطبخ .. لتتوسع عيونها بعدم تصديق .. تقسم أنه أكبر و أفخم من الدار الذي قضت فيه حياتها !
بمنتصف المطبخ كان هناك طاولة متوسطة الحجم عليها مختلف أنواع الخضراوات التي من الواضح أنهن يعدوها للغذاء ، و على مقعد تابع لها تجلس سيدة في منتصف الأربعينات .. شعرها أسود فاحم تتخلله بعض الخصلات البيضاء .. و ملامحها يتضح منها الحزم و الجدية ، سألتها ميرفت بنفور :
" ما اسمكِ ؟
ردت ياسمين بخفوت : " ياسمين " .
" و أنا ميرفت رئيسة الخدم .. و مَن ستتلقين منها الأوامر " .
و أردفت بجدية : " حسناً ياسمين فلتباشري العمل ، سيكون عليكِ تنظيف الطابق العلوي يومياً و مساعدتنا في المطبخ " .
و تابعت موضحة لها قوانين المنزل : " ستقيمين هنا و عطلتكِ ستكون يوم الجمعة من كل أسبوع ، أنتِ هنا تعملين لدى السيد فريد و زوجته السيدة رانيا ، أهم شئ في عملنا هو احترام المكان الذي تعملين فيه و عدم الحديث عن أصحابه أو إفشاء أسرارهم تفهمينني بالتأكيد " .
كانت ملامح ياسمين تنم عن عدم تصديقها لما يحدث ، فلم تكن تتوقع أبداً أنها ستُقبل بهذه السهولة ..
" نعم سيدتي " .
قالت ميرفت بحزم : " اذهبي لترتدي ملابس العمل ، و لتأتي لنبدأ " .
**********
التقط فريد هاتفه ليحادث زوجته .. مرة .. اثنين .. ثلاث مرات .. و لم يجد منها رداً مما جعله يزفر بحنق ..
خرج من غرفته و أمر أول خادمة قابلته و هو يسير : " أحضري لي فنجان قهوة " .
ليتوقف فجأة و يقول : " أجعلي الخادمة الجديدة تجلبه لي " .
ردت الخادمة بطاعة : " حسناً سيدي " .
أكمل فريد سيره ، فأسرعت الخادمة إلى المطبخ و قالت لاهثة : " السيد فريد يريد قهوة " .
تحركت واحدة لتعده بسرعة ، و عندما أنهت تحضيره أسرعت لأخذه إليه ، فأوقفتها صديقتها قائلة :
" اجعلي الخادمة الجديدة تأخذه " .
نظرت إليها ميرفت بحدة : " ماذا قولتي ؟ " .
ابتلعت الخادمة ريقها بتوتر : " إنها أوامر السيد فريد " .
ارتسمت الدهشة على ملامح ميرفت و نظرت إلى ياسمين قائلة بامتعاض : " خذيه " .
ألتقطت ياسمين الفنجان و سارت متجهه إلى سيدها ..
وصلت إلى حيث يجلس و انحنت قليلاً لتضع فنجان القهوة على الطاولة الزجاجية التي تحتل مساحة لا بأس بها أمام مقعده ، مما أتاح لفريد الفرصة لتأمل مفاتنها ..
استقامت سائلة إياه بهدوء ظاهري : " هل تريد شيئاً أخر سيدي ؟ "
استمر فريد في التحديق في جسدها بجرأة مما جعلها تتوتر في وقفتها ، ليقول بعدها :
" أين كنتِ تعملين من قبل ؟ "
أجابته بحرج : " لم أكن أعمل .. في الحقيقة .. لقد خرجت اليوم من دار الأيتام " .
التوت شفتيه بابتسامة صغيرة و قال : " حسناً .. اذهبي و تابعي عملكِ " .
و تابع تفحصها و هي تسير عائدة إلى المطبخ مفكراً في أنها فتاة يتيمة .. وحيدة .. لا سند لها و .. جميلة ، و هذا ما يبحث عنه دائماً !
**********
قبل ساعات
نظرت ريناد إلى الساعة لتجد أن موعد خروج ياسمين من الدار قد اقترب ، فذهبت إلى رشدي و قالت : " سأذهب الآن " .
هتف رشدي بحزم : " خذي هذا الطلب أولاً إلى الطاولة رقم خمسة و بعدها اذهبي " .
و تابع بتحذير : " ساعتين فقط و تعودين لا تتأخري " .
ابتسمت له ريناد بامتنان : " حسناً سيدي " .
أخذت ريناد الطلب الخاص بالطاولة خمسة و اتجهت إليها ، انحنت لتضع الطعام عليها .. غافلة عن نظرات القابع أمامها متأملاً إياها بإعجاب ..
ثم هتفت برسمية : " هل تأمر بشئ أخر سيدي ؟ "
ابتسم الرجل بإعجاب واضح و هتف بوقاحة : " نعم يا جميلة .. أريدكِ أنتِ ، و سأدفع لكِ ما تريدين " .
انتفض جسد ريناد بعنف مدركة لما يقصده ، و صاحت بحدة غير مبالية للمحيطين بها : " يا حقير .. كيف واتتك الجرأة لتقول لي هذا ؟ "
ارتبك الرجل من النظرات التي وجهّت إليه ، فصاح بتوتر كي يبرأ نفسه : " ماذا ؟ ، يا إلهي أنا لا أصدق أن مطعم محترم مثل هذا يوظف من هم مثلكِ " .
اقترب منهما حينها شاب في منتصف العشرينات .. ذات شعر بني داكن .. و جسد رياضي .. و عيون عسلية تنظر إلى ريناد بحدة .. و غضب ..
" ما الذي يحدث هنا ؟ " ، قالها بشار حالما وصل إليهما
سارع الرجل بالرد : " لقد حاولت هذه الفتاة سرقتي .. و عندما كشفتها صاحت كما ترى " .
تورد وجه ريناد بغضب : " يا حقير .. و تكذب أيضاً " .
صاح بشار بحدة : " اخرسي ، و لتحترمي نفسكِ عندما تتحدثين معه " .
التفتت إليه ريناد و دموعها تلمع في عينيها من الظلم الذي تتعرض له و مع ذلك لم تسمح لها بالهبوط ..
" و ما دخلك أنت ؟ ، عد لما كنت تفعله و لا تتدخل فيما لا يعنيك " .
انضم رشدي إليهم و قد ارتسم الذهول على ملامحه من طريقة حديث ريناد الفظة مع بشار ..
" ريناد ، إنه السيد " .
قاطعه بشار بأمر خافت و قد لاحظ همهمات الزبائن التي بدأت تتعالى : " اهتم أنت بالزبائن سيد رشدي " .
لينظر إلى ريناد و يقول بغضب : " و أنتِ أمامي إلى المكتب لأرى ماذا سأفعل معكِ " .
ليلتفت أخيراً إلى الرجل المتسبب فيما حدث و يقول باعتذار : " أعتذر سيدي عما حدث .. أعدك أنني لن أتهاون معها " .
ابتسم الرجل براحة و هتف : " لا مشكلة سيد بشار .. و لكن أرجو أن تتعامل معها بحزم من أجل سمعة مطاعمكم " .
ليقول بشار بجدية : " بالتأكيد سيدي " .
ليلتفت إلى ريناد و يقول : " هيا .. أمامي " .
سارت ريناد أمامه بخطوات مرتجفة داعية الله ألا يكون ما في بالها صحيحاً ، فمن المستحيل أن يكون هذا الشاب صغير العمر هو صاحب المطعم ، يا إلهي ستكون كارثة إن كان ما تفكر فيه صحيح ، ليس لأنها ترى نفسها مخطئة فيما فعلته مع الرجل .. على العكس .. هي على استعداد الآن للعودة و فضحه ، و لكن ما تؤنب نفسها عليه هو أنها تحدثت مع بشار بطريقة فظة ..
جلس بشار على مقعد مكتبه و هتف بحدة : " أريد تفسيراً للمهزلة التي حدثت بالخارج " .
صاحت تسنيم بدفاع : " أقسم أنه يكذب أنا لم أفعل له شيئاً بل هو مَن .. مَن " .
صمتت بعدها بتردد ، ليقول بشار بفضول : " لِمَ صمتي ؟ ، تابعي " .
توردت وجنتيها بخجل و همست : " لقد أخبرني أنه يريدني " .
أحمر وجه بشار من الغضب و هتف بحدة : " أنتِ لا تكذبين ، لأنني سأواجهكِ به .. و إن ثبت لي كذبكِ سيكون عقابكِ عسير " .
كتفت يدها قائلة بثقة : " أنا لا أكذب سيدي " .
نهض بشار قائلاً : " لا تتحركين من هنا حتى أعود " .
ليخرج بعدها من الغرفة .. و من حسن حظه رأى الرجل الذي افتعل المشكلة فسار باتجاهه و سحب مقعداً ليجلس عليه ، ثم قال بهدوء مراقباً ملامحه بدقة :
" لقد أخبرتني النادلة بشئ أخر غير الذي قصصته سيادتك " .
ابتلع الرجل ريقه بتوتر و صاح بغضب : " و هل ستصدق نادلة و تكذبني أنا " .
و تابع بسخرية كاذبة : " و ماذا أدعت عليّ ؟ "
هتف بشار بحذر : " أنك تريدها " .
توترت ملامح الرجل للحظة كانت كافية لتأكد بشار من حديث ريناد ، فمال باتجاهه و همس بحدة : " أنا لا أسمح لأي شخص مما كان أن يهين العاملين عندي لذا من الأفضل لك أن تغادر الآن و لا أراك هنا ثانية " .
ابتلع الرجل ريقه بخوف و غادر سريعاً دون أن ينطق بكلمة ..
عاد بشار إلى ريناد و هتف بجدية : " اذهبي و تابعي عملكِ " .
خرجت ريناد من الغرفة و نظرت إلى الساعة لتشهق بقوة و هي ترى أنها قد تأخرت على ياسمين ..
أسرعت إلى رشدي قائلة : " سيد رشدي أنا سأذهب الآن " .
هتف رشدي بجدية : " حسناً و لكن لا تتأخري " .
ركضت خارجة من المطعم لتستقل أول حافلة .. متجهه إلى الدار ..
بعد عناء الإزدحام و طول الطريق بالإضافة إلى تأخيرها في المطعم .. وصلت ريناد بعد موعد خروج ياسمين بما يقارب الثلاث ساعات ..
و مع ذلك لم تفقد الأمل .. فدلفت إلى داخل الدار لتسأل عنها لعلها لازالت موجودة ..
سألت إحدى المشرفات بلهفة : " هل ياسمين ما زالت هنا ؟ "
هتفت المشرفة بغضب : " أنتِ ما الذي جاء بكِ إلى هنا ؟ ، ألم نتخلص منكِ و نرتاح ؟ "
قاطعتها ريناد بضجر : " هل ياسمين هنا أم غادرت ؟ "
دفعتها المرأة بقسوة : " غادرت بلا رجعة ، و لا أريد أن أراكِ هنا مرة أخرى " .
خرجت ريناد من الدار بأسى ، فها هي قد خسرت أخر صديقاتها .. الإنسانة الوحيدة المتبقية لها ، بدأت في البكاء بخوف متسائلة :
" أين أنتِ يا ياسمين ؟ ، أين ذهبتي يا صديقتي .. و ماذا تفعلين الآن ؟ "
**********
" تفضلي يا عروس " ، قالها وحيد بعد أن فتح باب شقته و التي ستشاركه فيها نشوى من اليوم .
دلفت نشوى بحنق .. ملامحها توضح مدى كرهها لما يحدث ..
فقبل أسبوع .. عندما علمت بعودة أسيل إلى البلاد مرة أخرى .. جن جنونها و كادت أن تتهور و تذهب إلى طارق لتعيده إليها لولا والدها الذي منعها بالقوة ، و لم يكتفي بذلك .. بل استغل رغبة وحيد في إسراع الزواج و اتفق معه على أن يكون بعد أسبوع .. كي يكبح من جنون أبنته .. و يرزقها الحياة التي تستحقها .. فهو كأب يشعر أن سعادة أبنته ستكون مع وحيد و أطفاله ، لذا لم يتردد و لم يلتفت إلى أعتراضات أبنته و رفضها ، بل أخبرها بحزم أنها إن لم تتزوج من وحيد سيغضب عليها للأبد !
مما جعلها توافق مجبرة .. فوالديها بالنسبة إليها حياتها ..
نظرت إلى أثاث الشقة الجديد و الذي تم اختياره في فترة وجيزة على ذوقها ، لتبتسم بسخرية .. فعلى الأقل فعلت شئ بكامل إرادتها في هذا الزواج ..
اقترب منها وحيد بهدوء وضمها من الخلف هامساً : " مبارك يا عروس " .
ابتعدت عنه بقوة صائحة بتحذير : " أبعد يدك عني .. لا تفكر أنني سأسمح لك بلمسي .. تحلم بهذا " .

لست أبي (كاملة)Where stories live. Discover now