الفصل الأول

37.6K 631 22
                                    

الفصل الأول
وقف مع والده فى المطار، ينتظر وصول عمه بعد غربة دامت حوالي عشرين عاماً..
أشار له والده باتجاه أحد الأشخاص، وهو يقول بلهفة:
"انظر طارق، إنه أخي، أخي عبد الله".
هرول إلى أخيه، يحتضنه باشتياق، ودموعه تسيل رغماً عنه.
"عبد الله، اشتقت إليك يا أخي، وأخيراً عدت".
ابتعد عنه قليلاً يُمسك بوجهه، يتنهد بقوة.
"آه إلهي، لا أصدق أنك هنا، وأني أراك ثانية".
انحنى عبد الله، يُقبل يد شقيقه، وهو يقول بندم:
"سامحني أخي، صدقني أنا نادم على كل لحظة قضيتها بعيداً عنكم".
أبعد شقيقه يده، يسحبه مرة أخرى إلى أحضانه.
حينها اقترب طارق منهما، وهتف:
"حمد لله على سلامتك عمي".
ابتعد محمد عن عبد الله، لينظر الأخير للشاب الماثل أمامه بتركيز.
"طارق؟"
احتضنه بشوق، وهو يقول: "يا إلهى لقد مرت فترة طويلة، اذكر آخر مرة رأيتك فيها، كنت في المرحلة الإعدادية".
يقول محمد بفخر: "هذا كان في الماضي، إنه الآن الدكتور طارق".
ابتسم له عبد الله، في نفس اللحظة التي وصلهم صوت طفولي متذمر.
"أبي أنا متعبة، ألن نذهب من هنا؟"
يقول عبد الله بتأنيب: "حيِّى عمك وابن عمك أولاً يا أسيل".
تأففت بملل وهي تقترب من عمها، تمد له اطراف أصابعها، تهتف بنبرة باردة:
"أهلاً عمي".
ثم فعلت المثل مع طارق، لتعود وتحمل حقيبتها الصغيرة، تقول:
"هل يمكن أن نغادر الآن".
ثم تبعت قولها بالسير أمامهم.
يتنحنح عبد الله بحرج، يقول: "اعذراها، إنها فقط مرهقة، الرحلة كانت طويلة".
"لا مشكلة يا أخي".
قالها محمد بتسامح.
ثم نقل نظراته بين أسيل الواقفة على بُعد خطوات منهم؛ تنظر إليهم بضجر، وشقيقه الماثل أمامه، ليسأل:
"أين زوجتك؟
ألم تأتي معك؟"
يرد عليه شقيقه بغموض: "لا، ستأتى الأسبوع القادم إن شاء الله".
"هيا إذاً، لنذهب إلى البيت، أم طارق منذ الصباح وهي واقفة في المطبخ من أجلكما".
ابتسم له عبد الله، وقال بشوق: "هيا، أنا مُشتاق كثيراً للأكلات المصرية".
**********
سار فى الحديقة، وهو يأكل إحدى الشطائر التي اشتراها من مطعم للوجبات السريعة..
تطّلع حوله لترتسم الابتسامة على شفتيه؛ وهو يرى الأطفال تلعب وتضحك بسعادة..
يتذكر طفولته، وكم كان والده رحمة الله عليه قوياً وحازماً فى معاملته، ولكنه ايضاً كان حنوناً، حاول أن يُعوّضه عن غياب والدته التى تُوفيّت وهو في العاشرة من عمره.
استيقظ من ذكرياته على أصوات بكاء عالية، تطّلع حوله ليجد طفلة تبلغ حوالى التاسعة من العمر، لا يظهر منها سوى كفيها الصغيرين الممسكين بشعر طفلة أخرى- فى نفس العمر تقريياً - وتشده بقوة، وهى تصيح بكلمات غير مفهومة، بينما تبعثرت خصلات شعرها الكيرلى لتلتصق على وجهها.
ومن حولهما الأطفال تبكي، بينما تدّخلت إحداهن محاولة الإبعاد بينهما دون جدوى.
اقترب منهما، ليلتقط يد الطفلة، ويُبعدها عن شعر الطفلة الأخرى، وهو يصيح بغضب:
"ما الذي تفعلينه يا فتاة؟
ستُقطّعين شعرها".
رفعت الطفلة عينيها العسلية الواسعة، والتى قد تحوّلت إلى اللون البنى من غضبها، تنظر إلى الرجل الماثل أمامها بحدة، سُرعان ما تحولت إلى سعادة ولين!
تخلصّت من خصلات شعر صديقتها الملتصقة بيديها، ثم رفعتهما لُتبعد شعرها عن وجهها وعينيها، تنفست بعمق، ثم همست بنبرة طفولية، تحمل الكثير من البراءة، وعيناها تحدقان في الشطيرة الذى يحملها بجوع:
"أنا جائعة، أعطنى هذه الشطيرة، أرجوك".
رفع الرجل أحد حاجبيه، يرمقها بدهشة من تحوُلها المفاجئ، لكن نظراتها إليه جعلته يُشفق عليها، ليعطيها لها، وهو يقول بحنو:
"هل تريدين أن آتي لكِ بواحدة أخرى؟"
أخذتها منه بسعادة، وقالت: "لا شكراً، هذه تكفينى".
تقضم منها قطعة كبيرة، وتردف بتلذذ:
"إنها لذيذة جداً".
ابتسم لها، ثم نظر للطفلة الأخرى، والتى كانت تمسح على شعرها بألم، ودموعها تسيل على وجنتيها..
اقترب منها، ملّس على شعرها، وهو يبتسم لها بحنو، وقال:
"لا تبكي صغيرتي".
ثم أردف وهو يشير إلى أحد الباعة الذى يحمل حقائب بلاستيكية متعددة الألوان، تحتوى على حلوى غزل البنات:
"هل تريدين أن اشترى لكِ؟"
مسحت دموعها بكفيها الصغيرين، ابتسمت بسعادة وهى تومئ إيجاباً.
تتسع ابتسامته، يهتف بداخله بتعجب:
"كم هو سهل رسم السعادة على وجوه الأطفال!"
"وأنا، وأنا أريد".
صدح صوت لارا عالياً..
التفت إليها، ليجد شفتيها ملطخة بالطعام، بينما تمسك الشطيرة بقوة، وكأنها كنزها الثمين!
"وسأشتري لكِ أنتِ أيضاً، ولكن عِدوني اولاً ألا تتشاجرا ثانية".
تصيح عندها تسنيم بغضب: "هي المخطئة، وأيضاً ضربتني بقوة".
ترد عليها لارا بغضب مماثل: "تستحقين هذا".
لتُبادر تسنيم هذه المرة، وتقترب منها بغضب، ترفع يدها استعداداً لضربها، ليقف إسلام بينهما، يقول بصرامة:
"كُفا عن ذلك، وإلا لن أشترى لكما الحلوى".
حينها اقتربت منهم امرأة تبدو في منتصف العقد الخامس من عمرها، ممتلئة القوام، يبدو على ملامحها القوة والحزم؛ بصحبة إحدى الأطفال، والتي على ما يبدو كانت قد ذهبت إليها وأخبرتها عن أمر المشاجرة.
"ما الذي يحدث هنا؟"
ثم نظرت إلى لارا وهي عاقدة حاجبيها بغضب، تسحبها من ذراعها، وهي تصيح:
"كان يجب أن أعلم أنكِ السبب، أتمنى أن أرى مرة مشكلة ولا تكونين طرفاً فيها".
صاحت لارا مبررة: "هي المُخطئة".
وهتفت تسنيم مُستعطفة: "انظري ماذا فعلت بي خالتي".
مررت المرأة نظراتها على تسنيم بتفحص، لتجد شعرها مبعثر بعشوائية، وجهها أحمر يظهر عليه بعض الخدوش، ملابسها غير مهندمة..
تلتفت إلى لارا وتضربها على كتفها بعنف.
"حتى لو هي المُخطئة، لا يجب أن تضربي أختكِ هكذا، انظري كيف أصبح شكلها، والجروح التي تملأ وجهها، هل يُعجبكِ هذا؟"
عقد الرجل حاجبيه باستغراب، فكيف تنادى تسنيم المرأة بخالتي، بينما هي الآن تقول لـ لارا أختها؟!
وما حكاية كل هؤلاء الأطفال؟
"اعتذر سيدتي ، لكن ماذا تقربين لهن؟"
انتبهت المرأة أخيراً إليه، سألته بضيق: "ومَن تكون أنت؟"
رد عليها بسخرية: "أنا مَن تدخلت لفضّ الشجار عندما كنتِ أنتِ تلهين لا أعرف أين وتاركة هؤلاء الأطفال لحالهن!"
ثم أشار إلى لارا التي ما زالت مُمسكة بالشطيرة، وأردف: "ومَن تبرع لطفلة منهن بشطيرته المُفضّلة".
انتبهت السيدة للشطيرة التي تحملها لارا..
قبضت الأخيرة عليها بقبضتيها الصغيرتين بخوف.
مدّت السيدة يدها لتسحبها بعنف وسط اعتراضات الطفلة، وقالت:
"خذ هذه شطيرتك؛ أما بالنسبة لسؤالك".
تابعت وهي تشير للأطفال اللاتي تنظرن إليهما بفضول: "أنا مشرفة بدار الأيتام الذي يضم كل هؤلاء".
ثم عادت بنظراتها إلى لارا، وقالت بغضب: "وأنتِ حتى نعود للدار ونعاقبكِ كما تستحقين، لن تُكملي الرحلة معنا".
هتف إسلام سريعاً مُحاولاً تهدأتها: "لا داعي لهذا سيدتي، إنه شجار عادي بين اطفال".
هتفت المشرفة بفظاظة: "وما دخلك أنت؟"
لتقوم بعدها بدفع لارا باتجاه إحدى الأشجار الكبيرة.
أجلستها تحتها، وهتفت بنبرة صارمة:
"لا تتحركي من هنا حتى ننتهي ونعود إلى الدار، فهمتِ؟"
هزت لارا رأسها عدة مرات، ترمش بعينيها بسرعة كعادتها عندما تخاف.
تقول السيدة بنفس النبرة التي لا ترحم: "لا اسمعكِ".
همست لارا بصوت منخفض، يكاد لا يُسمع: "فهمت".
عادت المشرفة إلى الأطفال، لتقول بصوت قوي:
"هيا عُدن للعب، لم يعُد لدينا الكثير من الوقت للعودة".
تنهد إسلام بحزن، وكاد أن يغادر، لولا صوت تسنيم الذي أوقفه..
تُشير إلى البائع، وهي تقول:
"سيدي، ألن تشترى لنا؟"
نظر باتجاه ما تشير إليه ليتذكر البائع، ثم عاد بنظراته إليها، ليجدها تنظر إليه برجاء، فابتسم لها، واتجه إليه ليشترى منه الحلوى.
تبعه جميع الأطفال بسعادة!
نظر إليهن باستنكار، فهو قد وعد اثنتين منهن فقط!
ولكنه لم يُرِد أن يزِل البسمة من على وجوههن، فاشترى جميع ما يحمله البائع من حقائب بلاستيكية، وأعطاها لهن، ليقفزن بسعادة ويعودن ليتابعن لعبهن.
أما هو، فحمل اثنتين، وسار باتجاه لارا ليعطيهما لها.
لكن المشرفة قطعت عليه الطريق، هاتفة بحنق:
"إلى أين ستأخذهما؟"
عبس بشدة من أسلوبها الفظ، يهتف باقتضاب: "سأعطيهما إلى لارا".
زفرت السيدة أنفاسها بضيق، وبخته: "ألا تفهم يا سيد؟
إنها معاقبة".
"وما دخل العقاب بالحلوى؟"
سألها بدهشة.
لكنها لم تستمع إليه، سحبت الحقائب من يده، وعادت إلى الأطفال.
استوقفها إسلام:
"عفواً سيدتي، ما اسم الدار التابعين لها؟
أفكر في التبرع لكم".
ويا للعجب!
حينما سمعت السيدة حديثه، ارتسمت على ملامحها ابتسامة سعيدة واسعة، وكأنها ليست مَن كانت توبخه منذ ثواني!
هتفت بنبرة تملأها السعادة:
"طبعاً وسأعطيك العنوان أيضاً، سجل معي".
**********
نظرت لارا إلى أخواتها، تراهن تلعبن سوياً بمرح، وبعدها أخذن يأكلن الحلوى بسعادة، تتلذذن بطعمها الشهىّ.
عضت على شفتيها بقوة تمنع دموعها من الهبوط، حركت وجهها لتتطاير خصلات شعرها الكيرلى بفعل الهواء، ثم بدأت باللعب بأرضية الحديقة، مظهرة اهتمامها بما تفعله، رسمت على وجهها ابتسامة كاذبة، كانت كافية لتوصّل لهن أنها غير عابئة بهذا العقاب!
**********
دخلوا البيت، تقترب منهم سعاد، قائلة بفرحة: "حمد لله على سلامتك يا عبد الله، اشتقنا إليك".
يرد عبد الله بفرحة مماثلة: "سلّمِك الله يا أم طارق..
كيف حالِك؟"
"أصبحت بخير عندما رأيتك من جديد".
قالتها بحب أخوى، ثم اقتربت من أسيل وقبّلتها بسعادة.
"هذه ابنتك، ما شاء الله، حفظها الله لك وأراك إياها عروساً".
هتف بأمل: "أمين".
تطلعت حولها بدهشة، ملاحظة عدم وجود زوجته، سألته بفضول: "أين زوجتك؟"
يرد عليها باقتضاب: "لم تأتي".
"لِمَ؟
لقد كنا متشوقين لرؤيتها والتعرّف عليها، يكفى أننا لم نراها من قبل إلا بالصور".
تنهد عبد الله بضيق، لقد فهم كلمات زوجة شقيقه الخفيّة، تأنيبها له على عدم زيارتهم خلال السنوات الماضية التى قضاها بغربته، حتى أنهم لم يروا زوجته ولا ابنته من قبل إلا من خلال بعض الصور التى كان يرسلها إليهم.
لاحظ محمد ضيق شقيقه من تغيّر ملامحه..
يعتب عليه بالطبع، فمنذ أن سافر للدراسة فى بريطانيا قبل
عشرين عاماً، وبعدها زواجه من إمرأة بريطانية، لم يعد للوطن ولو لمرة واحدة، حتى لو زيارة سريعة؛ أغرته الحياة هناك، ليكتفي بالاتصال بهم والاطمئنان عليهم!
لكن لا مجال للعتاب الآن، المهم أن عبد الله عاد، حتى لو بنية زيارة قصيرة لا تتعدّى بضعة أسابيع!
"زوجته ستأتي الأسبوع القادم يا أم طارق، والآن اتركيهم ليرتاحا، وحضّرى لنا الطعام".
تهتف سعاد بتأنيب لنفسها: "نعم بالطبع، بالتأكيد أنتما مُتعبان من الرحلة، اذهبا لترتاحا حتى أعدّ الطعام".
**********
أدخلتها زوجة عمها إلى غرفة صغيرة لترتاح فيها.
نظرت إلى الغرفة بتقييم، والتي يغلب عليها اللون الوردي، كانت الجدران مطلية باللون الابيض، ويتوسط الغرفة سرير وردي، ودولاب من نفس اللون بأحد الاركان، ومكتب صغير بمقعده أيضاً من اللون الوردي احتلوا المكان المجاور للسرير، وباب جانبى خمّنت أنه يؤدي إلى الحمام، بينما افترشت الأرضية بسجاد من اللون الوردي والأبيض، وامتلئت الجدران أعلى السرير بصور متعددة لعمها وزوجته وابنه وفتاة غريبة لم تراها بعد، ولكنها علمت أنها ابنة عمها من حديث زوجة عمها.
"إنها غرفة ابنتي، هى من عشاق اللون الوردي، لذا ستجدينه محتل الغرفة".
لمع التساؤل في حدقتي أسيل.
"أين هي؟"
ردت عليها سعاد: "إنها متزوجة، ستأتي لزيارتكما اليوم إن شاء الله، وستتعرفي عليها".
ثم أردفت وهي تغادر الغرفة: "سأترككِ لترتاحي".
فتحت أسيل حقيبتها، تلتقط ملابسها و تدلف إلى الحمام.
خرجت بعد فترة، ترتمي على السرير وهي تتأفف بملل!
لم تحب هذا المكان، وكم هي غاضبة من والدها لإصراره على أن تأتي معه ولا تمكث مع والدتها.
هى تعرف والدها جيداً، وتعلم أنه يُخطط لشيء، وإلا ما السر وراء إصراره على زيارة الوطن فى هذه الفترة تحديداً وعدم انتظار والدتها حتى تنهى أعمالها وتأتى معهما؟
أمسكت بهاتفها، لتقوم بالاتصال بوالدتها عن طريق أحد برامج التواصل الإجتماعى.
هتفت عندما جاءها صوتها:
"مرحباً أمي".
صمتت تستمع لحديث والدتها ثم قالت: "نعم لقد وصلنا، نحن الآن في بيت عمي".
انتظرت قليلاً لتهتف: "عادى، لم يحدث شيء مهم، لقد رحبوا بنا، وبعدها أخذونا إلى الغرف لكى نرتاح".
ترد على سؤالها: "لا، أبي في الغرفة الأخرى".
تبتسم بعدها و تقول: "حسناً، سأحدّثِك ليلاً وأبلغكِ بما سيحدث".
تغلق الخط بعد هذه الجملة، مقررة أخذ غفوة حتى ينادوها للطعام.
**********
على  الجانب الأخر
كان والدها يرتِّب أفكاره بشأن ما سيفعله، كيف سيقنع أخيه وابنه بما يريد!
منذ أن اكتشف مرضه وهو لا يفكر سوى في ابنته ومصيرها من بعده!
لذا خطط جيداً لتأمين مستقبلها والاطمئنان عليها بعد وفاته! وسيفعل المستحيل حتى لا تعيش ابنته مع والدتها مستقبلاً!
لا ينكر أنه كان يحب زوجته سوزان كثيراً، لكنه أيضاً لا ينكر أنه خُدِع فيها!
لقد سحرته منذ أول مرة رآها فيها فى جامعته، بدأ بعدها تتبُّعها والتقصى عن أخبارها، غير مهتم بديانتها المختلفة عن ديانته!
حتى واتته الجرأة ذات يوم؛ ذهب وأخبرها عن إعجابه بها..
لكنه لم يكن يعلم أنها كانت تحرّكه كما تشاء، تظهر أمامه فجأة وتختفي فجأة حتى تجعله يجن بها، لكى تستطيع السيطرة عليه وعلى تفكيره!
للأسف كل هذا لم يكتشفه إلا بعد زواجهما، بدء من تعنّت زوجته على أصدقائه العرب واحتقارها لهم، عدم موافقتها على العودة معه إلى وطنه بعد أن أنهى دراسته مخبرة إياه أنها لن تقبل العيش في مجتمع متخلف مثل مجتمعه، وتترك التقدم والرقىّ الذى يملأ مجتمعها!
يذكر حينها أنه سألها:
"وإن كنتِ ترين أنني من مجتمع متخلف كما تقولين..
لِمَ وافقتِ على الزواج بي؟"
أخبرته وقتها بكل البرود الذى تحمله بدمائها: "لأنك أعجبتني، أردتك أن تكون لى، كما أنني كنت ومازلت واثقة أنك لن تتركني لتعود إلى وطنك".
تتابعت وقتها مشاعره بين الكره، الغضب، الاحتقار، لكنه لم يُرِد أن يدخل معها في جدال عقيم، عن إنجازات العرب وتقدمهم الذى يفوق تقدم مجتمعها الذى تفخر به، فهو متأكد أن أمثالها لا يعرفوا عن العرب سوى عبارات فارغة حفظوها وهم صِغَار، وعندما كبروا بدأوا بترديد هذه العبارات إرضاءً لغرورهم.
وقتها كل ما استطاع قوله هو:
"سننفصل، أنا لا استطيع إكمال حياتي مع زوجة تحتقرني أنا ووطني".
تبتسم هى بسخرية، تخبره بلؤم: "وستتخلى عن صغيرك حبيبى، أنا حامل".
تقترب منه، تضع يديها على صدره تحركها بإغواء، تقترب بوجهها حتى لامست شفتيها أذنه، همست بفحيح:
"انسى وطنك حبيبي، لنعش هنا سوياً، أنا وأنت وطفلنا القادم؛ في بلد يُقدِّر العباقرة والموهوبين، صدقنى ستستفيد كثيراً هنا، ستجد مَن يدعّمك ويقف بجانبك، يوفر لك كل ما تحتاجه، ستستطيع تحقيق ذاتك وطموحاتك»
يستسلم لها من أجل طفله القادم، وبعدها يعشق الحياة هناك وينجرف فيها، ينسى وطناً وُلِد وتربّى فيه!
ليأتي مرضه يذكّره بما نساه- وطنه وعائلته - يقرر العودة له بعد غياب دام لأكثر من عشرين عاماً، مع القسم بأنه لن يجعل ما حدث له أن يحدث مع ابنته، أنها ستتابع حياتها بوطنها ووطن والدها رغماً عن أنف زوجته!
**********
ستون.. سبعون.. ثمانون.. تسعون.. مائة
يصدح صوت طفولي عالياً: "سأفتح عيناي".
يتحرك من مكانه، يبدأ فى البحث عن أصدقائه.
لمح ابن خالته من بعيد، هرع إليه، يقوم بإمساكه، وهو يهتف بسعادة:
"أمسكت بك".
يكرر بعدها هذه العملية عدة مرات، حتى أمسك جميع الأطفال الذين يلعبون معه، إلا واحدة!
قام بالبحث عنها، وهو يصيح:
"رنيم، أين أنتِ؟
سأمسِك بكِ أينما كنتِ".
يركض، يجول بنظراته بتركيز بحثاً عنها، حتى رآها أخيراً، هرع إليها وهو يصيح بسعادة.
تعالت ضحكاتها عندما رأته، تركض بعيداً عنه؛ حتى أنها لم تنتبه إلى بوابة المنزل المفتوحة ووجود عمال غرباء ينقلون بعض الأغراض، تخطتها هرباً من القادم خلفها!
**********
توسعت عيناه بفزع عندما رأى الجسد المتحرك أمامه، ضغط على مكابح سيارته بسرعة محاولاً إيقافها، لكن
فات الأوان، طار جسد صغير فى الهواء، ليصطدم بعدها بالأرضية الصلبة بقوة، تحيط به الدماء بغزارة.
**********
حضّر له بعض الطعام الخفيف، فهو لا يحب أن يأكل كثيراً ليلاً، بدأ فى الأكل، ليتذكر الطفلة التى رآها فى الصباح..
تساءل كيف تشعر الآن؟
ماذا فعلوا بها؟
هل عاقبوها حقاً؟
تنهد بقوة وهو يتمنى فقط أن تكون بخير.
"لارا".
**********
أدخلتها المشرفة إلى غرفة صغيرة مظلمة، هتفت:
"ستبقي هنا حتى الغد دون طعام او ماء، كى تستمعي إلى الأوامر ولا تخالفيها مرة أخرى".
أحكمت إغلاق الباب عليها، لتمنع عنها الضوء الوحيد الذي كان يأتي إليها من الخارج.
جالت بنظراتها المكان، تحاول أن تبحث عن نقطة ضوء..
تسقط دموعها دون سابق إنذار، ترتجف بخوف..
هي تخاف من الظلام، بل ترتعب منه، هتفت مترجية وسط شهقاتها:
"أرجوكن افتحن لي، أعدكن سوف استمع لحديثكن، لن أخالف أى أمر لكن، لن أفتعل المشاكل مرة أخرى، لكن لا تتركونى هنا، أرجوكن أنا أخاف كثيراً".
انتظرت لتحن عليها إحداهن وتفتح لها الباب، ولكن كان نتيجة رجائها الصمت!
استلقت على الارضية الباردة، تضم جسدها متخذة وضعية الجنين، أغمضت عينيها بقوة، تهمس لنفسها:
"لا تخافي لارا، سوف تنامين، وعندما تستيقظين سيكون الضوء انتشر في المكان وستخرجي من هنا، فقط نامى لتنتهي هذه الليلة".
أجبرت نفسها على النوم والخوف يسكن ملامحها والدموع تجد طريقها على وجنتيها.
**********
هتف عبد الله بصدمة وهو يرى الطعام المرصوص أمامه على المائدة:
"ما هذا؟
مَن سيأكل كل هذا؟"
ترد علبه سعاد، بينما تضع أمامه المزيد من الصحون الممتلئة بأشهى المأكولات:
"لك بالطبع، بالتأكيد اشتقت لطعامنا".
ثم أردفت وهى تنظر اتجاه أسيل: "وأنتِ حبيبتى، ماذا تريدين أن أضع لكِ؟"
ترد عليها الطفلة بسخرية: "وكأنني أعرف أى نوع!"
تقول سعاد: "انظري هذه تُدعى الملوخية، وهذا طاجن بامية باللحمة، تذوقيهما سيعجباكِ".
تذوقتهما لتنقلب ملامحها، تبعدهما عنها، وهي تقول: "لم أحبهما".
تقول أريج: "جربي أنواع أخرى إذاً".
قربّت منها أحد الصحون: "تذوقي هذا إنه".
لكن أسيل لم تدعها تُكمل حديثها، حيث غادرت المائدة، وهي تتأفف.
نظرت أريج اتجاه عمها عبد الله، وقالت: "ماذا بها؟
هل أخطأنا في شيء؟"
يرد عليها عبد الله بحرج: "لا حبيبتي، لكنها ليست معتادة على هذا الطعام، ستتعود مع الأيام".
**********
بعد فترة
طلب عبد الله من محمد وطارق أن يتحدث معهما في موضوع هام..
أخذه محمد إلى غرفة المكتب.
جلسوا صامتين لبعض الوقت، ليقطع محمد الصمت، قائلاً:
"خير يا عبد الله".
تنهد عبد الله، وقال: "اعلم أن ما سأقوله صعباً، لكن أتمنى أن توافقا على ما سأطلبه، خاصة أنت يا طارق، فطلبي يتعلق بك".
ظهرت الحيرة والقلق على ملامح طارق..
ما الذى يريده منه عمه؟!
يتابع عبد الله بجمود: "أنا مريض بسرطان الدم، ونسبة شفائي ضئيلة لأننى اكتشفته متأخراً، وللأسف المرض انتشر في جسدي".
ثم أردف بقلق: "أنا مؤمن بقضاء الله، ولست خائفاً من الموت، لكن كل خوفي على ابنتي، لا أريدها أن تُكمِل حياتها ببريطانيا، لا أريدها أن تعيش مع والدتها".
نظر اتجاه طارق، وقال: "لذا طارق، سأكون ممتناً لك إن قبلت الزواج من ابنتي".
اعتلى الغضب ملامح طارق فور أن سمع طلب عمه، كيف له أن يطلب منه هذا؟
هل جاء ليزوجه ابنته ويقلب حياته؟
ألهذا السبب فقط عاد بعد غربته الطويلة؟
"عمي، أنت جاد بطلبك هذا؟"
يهتف عبد الله ببرود: "نعم".
زادت عصبية طارق بسبب برود عمه وبساطة حديثه، كأنه متأكداً من موافقته!
"كيف تطلب مني هذا؟
ثم ابنتك طفلة، هل تعي معنى طفلة؟
كيف تريد تزويجها وهي في هذا العمر؟"
لم تعجب محمد طريقة حديث ابنه مع عمه.
"طارق، تحدث بأدب، لا تنسى أنك تتحدث مع عمك".
التفت طارق إلى والده، هتف بنبرة عالية: "ألا تسمع ما يقوله؟"
يهتف محمد بنبرة أعلى محذرة: "طارق".
نقل طارق نظراته بينهما، الغضب بداخله يتفاقم، ومع ذلك قال بهدوء زائف:
"اعتذر عمي لكن طلبك مرفوض، ابنتك مازالت طفلة، كما أنني أحب ابنة خالتي وسأتزوج منها".
أنهى حديثه وخرج من الغرفة.
صُدِم عبد الله مما قاله، شعر بفشل خطته قبل أن تبدأ.
"أرجو ألا تخبر أسيل بحديثنا، فهى لا تعرف عن مرضي ولا عن نيتي بتزويجها، لقد أردت أن اعرف رأيك قبل أن أخبرها بأي شيء، وأتمنى أن تفكر مرة أخرى وتقبل أن تتزوجها".
نظر له طارق بسخرية، ثم خرج صافعاً الباب خلفه، غير مبالي بما يقوله عمه.
**********
تساءلت أريج عندما وصلتها الأصوات العالية من داخل غرفة مكتب والدها:
"لِمَ أصواتهم عالية هكذا؟"
تهتف سعاد بقلق: "لا اعلم، سأذهب لأرى ما بهم".
نهضت متجهه لغرفة المكتب، يفاجئها طارق بخروجه ووجهه محتقن من الغضب، سألته:
"ماذا بك حبيبى؟
ماذا يحدث بالداخل وجعل أصواتكم تعلو بهذا الشكل؟"
زفر أنفاسه بضيق، وقال: "لا شيء أمي".
تحرك إلى غرفته، إلا أنه اصطدم بأسيل في طريقه.
"أنتِ عمياء؟"
ردت عليه ببرود: " أنت الأعمى، ألا ترى أمامك؟"
"أنا مَن لا أرى أمامى أم أنتِ!
تحدقين بهذه الآلة التافهة بتركيز، وكأن مستقبلكِ معلق بها".
وتبع حديثه بسحب هاتفها الممسكة به، يلقيه بقوة ليصطدم بالجدار ويسقط متفككاً إلى عدة أجزاء.
"هذا لتنظري أمامكِ عندما تسيرين".
بقت أسيل للحظات تنقل نظراتها بينه وبين أجزاء هاتفها الملقاة على الأرض، تستوعب ما حدث، يتحول وجهها للون الأحمر، تتوسع عيناها من الغضب، كادت أن ترد عليه رد يُعرّفه مَن هي ويجعله يفكر أكثر من مرة قبل أن يتحدث معها بهذه الطريقة ثانية، لولا تدّخل سعاد.
"اهدأ حبيبي، اذهب أنت لغرفتك الآن".
أمسكت بذراع أسيل، سحبتها بعيداً رغماً عنها، وهي تحاول أن تهدّأ من غضبها.
"اعذريه ابنتي، لقد حدث شيء أغضبه، وعندما يغضب يتصرف بحماقة".
صاحت أسيل بحنق: "وما دخلى أنا بغضبه!
أنا لم افعل له شيئاً".
هتفت سعاد بتوتر: "نعم .. نعم، أنتِ محقة، لكن اعذريه، بالتأكيد حدث شيء كبير أزعجه، فلم يعد يميّز مَن أمامه".
اقتربت منهما أريج، هي تحمل هاتف أسيل بعد أن قامت بتجميعه وتركيبه، تقول بابتسامة ودودة:
"وهذا هاتفكِ سليم، لقد قمت بتركيبه وتشغيله".
أخذته منها أسيل شاكرة لطفها، متوعدة طارق بداخلها على رد صياحه عليها، فهى التى لم يعنّفها والدها من قبل حتى لو كانت مخطئة، يأتي هو ويرفع صوته عليها من دون ارتكاب أي ذنب!
صبراً و ستُريه مَن هى أسيل!
**********
"ألا يوجد أمل للعلاج؟"
تنهد عبد الله، ورد: "لا اعتقد، حالتي متأخرة".
يقول محمد بسخرية: "ولولا مرضك لم تكن لتتذكرنا وتعود إلينا، أليس كذلك؟"
نظر له عبد الله بغضب، مع أنه بداخله يدرك أن ما قاله شقيقه صحيحاً!
"كيف تقول هذا أخي؟
بالتأكيد كنت سأعود يوماً، في النهاية لم أكن لأرضى أن أموت وأُدفن في بلد غريب".
يقول محمد بسخرية أكبر: "ولكن ليس الآن، ولولا مرضك لم تكن لتعود".
"أُفضِّل ألا نتحدث فى هذا الموضوع الآن، كل ما يهمني ابنتي، أريد الاطمئنان عليها قبل وفاتي".
يهتف محمد سريعاً: "بعيد الشر عنك يا أخي، لا تقل هذا، إن شاء الله ستُعالج وتشفى، الطب تطور كثيراً، وعلاج هذه الأمراض ليس بالصعب الآن".
تنهد عبد الله بتعب، على الرغم من الآلام الحادة التى يشعر بها دائماً، تحذيرات الطبيب الذى اكتشف حالته، إلا أنه لن يعرِّض نفسه لعذاب العلاج وانتظار أمل مستحيل للشفاء
"لا أريد أخي، العلاج لن يجدى نفعاً في حالتي، وأنا لا أريد أن أتعالج كيماوياً وأتعذب بلا فائدة..
أنا اشعر بقرب موعدي، وكل ما أريده هو الاطمئنان على ابنتي".
إلا أن محمد لم يقتنع بأي من كلماته، واثق بالله تعالى وبقدرته على شفاء شقيقه.
"لا سنذهب إلى الطبيب ليراك، ستتبع كل تعليماته في العلاج وستشفى إن شاء الله".
ثم أردف ليطمئنه: "أما ابنتك ستتزوج من طارق، فأنا لن أجد له أفضل منها".
هتف عبد الله بدهشة: "كيف وهو رافض ويقول أنه يحب ابنة خالته؟"
يقول بتصميم: "لا تقلق بهذا الشأن، ستجده غداً يأتي إليك ليطلب يدها منك".
هتف عبد الله بشك: "هل تعتقد ذلك؟"
نهض محمد من على مقعده، يقترب منه، بربتّ على كتفه قائلاً:
"بل أنا متأكد، لا تقلق واذهب لترتاح، غداً إن شاء الله سنذهب إلى الطبيب".
يقول بسأم: "لكن أخي، أنا لا أريد الذهاب إلى أى طبيب".
"لا يا عبد الله، ستذهب إليه، و لا نقاش فى هذا الموضوع".
يغادر عبد الله غرفة المكتب، مصر على عدم الذهاب إلى الطبيب، يتمنى أن يفي محمد بوعده ويقنع طارق بالزواج من أسيل وإلا سيضطر أن يبحث عن شاب آخر ويعرض عليه الزواج من ابنته!
تنهد محمد بعد خروج شقيقه بأسى، بالتأكيد لن يسمح لابنة شقيقه أن تعود إلى بريطانيا وتعيش مع والدتها فى حالة إن توفى شقيقه، فهو من البداية لم يكن موافق على زواج شقيقه من امرأة أجنبية تحمل ديانة مختلفة عنهم، ولن يكون مطمئناً على أسيل معها لحالهما.
ومن ناحية أخرى لا يريد أن يتزوج ابنه من ابنة خالته، ليس لعيب فيها، فهى فتاة محترمة وذات أخلاق عالية، ولكنه يراها غير مناسبة له، لذا سيدعم زواج طارق من أسيل بكل قوته!
**********
دلفت إلى غرفة شقيقة زوجها وابتسامة شامتة تعتلى ملامحها.
"هبه، لا تنسي غداً سنذهب إلى عرس سمية ابنة جارتنا".
رمقتها هبه بنظرات باردة، همست بهدوء: "لا تقلقي، لن انسى".
ابتسمت مشيرة بسخرية، تنظر لها بنظرات ذات معنى، وتخرج بعدها من الغرفة.
تنهدت بهمّ، منذ طلاقها وزوجة شقيقها لا تكف عن الاستهزاء بها، تستغل الفرص لتشمت فيها، هذا بجانب معاملة شقيقها لها والتى تغيرت مائة وثمانين درجة..
شدّته عليها، عصبيته الغير مبررة..
ها هى تكاد لا تخرج من البيت إلا للذهاب إلى عملها؛ الذى يريد شقيقها أن يمنعها عنه، معللاً بأنها يجب أن تجلس فى البيت، حيث أن ألسنة الناس لا ترحم، وهم الآن يترصدون لها أى خطأ!
وإن حدث وخرجت للتنزه معه هو وزوجته في أى مكان، لا تسلم من نصائحه عما يجب أن تفعله وما لا يجب، مُرفقاً بين النصيحة والأخرى جملة (لا تنسي أنكِ مطلقة) وكأنها بطلاقها جلبت لهم العار!
انتهى الفصل قراءة سعيدة

لست أبي (كاملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن