تابع الفصل الثالث عشر

9.7K 368 11
                                    

بعد يوم شاق قضته في البحث عن عمل دون فائدة عادت إلى منزلها و قدميها لا تحملانها من التعب ، ارتمت على أول مقعد أمامها ليسترخي جسدها فتزفر أنفاسها براحة ..
خرجت والدتها من المطبخ و سألتها بلهفة : " هل وجدتِ عمل ؟ "
هتفت بيئس : " ليس بعد " .
احتفظت بضيقها حتى لا ترهق ابنتها أكثر ، فيكفي أنها طوال اليوم على قدميها تبحث عن عمل مناسب :
" لا مشكلة ، لا زال لدينا بعض النقود ستكفينا " .
هذه الجنيهات التي لديهم تسمى نقود !
و ماذا ستكفي .. و إلى متى ستظل معهم ؟
ملست على وجهها بتعب و عقلها يكاد ينفجر من التفكير ، ليتك هنا يا مصطفى .. ليت لم تفعل ما فعلته ، على الأقل كنت توفر لنا احتياجتنا ..
" سأذهب غداً لزيارة مصطفى ، ربما يرشدني إلى مَن يقبل بي للعمل معه ..
التوت شفتي السيدة كريمة بسخرية لا تصدق أن مصطفى من الممكن أن يشفق على ابنتها ، و مع ذلك تخلل قلبها بعض الأمل .. فإن لم يهتم مصطفى بها لأنه لا يحبها .. فبالتأكيد سيساعدهم من أجل طفله الذي انتظره كثيراً ..
سألتها هند : " أين علي ؟ "
" لقد أعطيته رضعته و وضعته في غرفته بعد أن أنام " .
نهضت متجهه إلى غرفتها ، فسألتها كريمة قبل أن تدلف إليها :
" ألن تأكلي ؟ "
" لست جائعة " .
دخلت و أغلقت الباب خلفها ، لتبتسم عندما وقعت نظراتها على طفلها ، و دون أن تبدل ملابسها ذهبت و استلقت بجانبه ، ضمته بخفة و همست :
" بعد كل ما فعله معي سأذهب و أطلب منه المساعدة من أجلك " .
و غفت بعدها طامحة بغد أفضل
**********
" مصطفى الراشد .. لديك زيارة " ، قالها العسكري بنبرة قوية .
فنهض مصطفى بكسل و سار معه و هو يسأله : " مَن ؟ "
" زوجتك " .
وصلا إلى غرفة مغلقة يحيطها الحراس من كل جانب ، جلس مصطفى أمام هند و سألها عمَن يستحوذ على عقله منذ أيام :
" كيف حال علي ؟ "
ردت عليه بسخرية لاذعة : " إن كنت تحبه إلى هذه الدرجة لم تكن لتفعل ما فعلته " .
جز على أسنانه بغضب : " أنتِ لا تعلمي شئ " .
اشتعلت عيونها بكراهية : " بل أعلم .. أعلم أنك كنت تأكل من يدي و بعدها تذهب راكضاً وراء طليقتك تطلب منها العفو و الغفران ، أعلم أنك عندما خسرتها حرضت مَن يقتل زوجها دون التفكير بي أو بطفلك " .
صاح بها : " يكفي .. اصمتي " .
تنهدت هند بقوة بعد هذه المواجهة و مع ذلك شعرت بالراحة لإخباره ما يؤلمها منذ أن قُبِض عليه ، أخذت نفس عميق و هتفت بعدها متذكرة ما أتت من أجله :
" النقود التي امتلكها على وشك النفاذ " .
و قبل أن تكمل ما تريده قاطعها بحزم : " لا تقلقي بهذا الشأن ، لقد شاركت في شركة صغيرة بنسبة لا بأس بها ، و شريكي سيعطيكِ نسبتي من الأرباح كل شهر " .
شركة .. و شريك !..، متى فعل كل هذا .. و لِمَ لم يخبرها ؟ ، ابتسمت بسخرية .. منذ متى و مصطفى يخبرها بما يخصه ؟ فهو لم يكن يعتبرها سوى مجرد إمرأة أنجبت طفله ..
و بما أنها أخذت ما تريده ، نهضت بهدوء و غادرت دون أن تودعه حتى ..
هتف من بين أسنانه : " هند أنتظري " .
و لكنها لم تستمع له و غادرت ، فركل المقعد الجالس عليه بعنف ، ليقترب منه العسكري و يسحبه بالقوة .
**********
كعادتها تجلس في حضن والدها و تتحدث معه بهدوء و على فترات متباعدة ، و هو لم يحب هذا .. لقد رغب في أن تعتاد عليه و تتحدث معه بأريحية مثلما تفعل مع شقيقه ..
" ما رأيكِ يا صغيرتي أن نذهب إلى مدينة الملاهي ؟ "
في لحظة اختفى خجلها منه و قفزت من حضن والدها صائحة بعدم تصديق : " حقاً " .
و دون أن تنتظر رداً منه اقتربت و حاولت سحبه من يده : " هيا .. هيا " .
ابتسم لأنه نجح في إزالة الحاجز الذي كان بينهما ، بينما هتف إسلام بصرامة زائفة : " لن تذهبي إلى مكان " .
عبست بملامحها و نظرت له بحزن ، و لكنه تظاهر بعدم الإهتمام و أردف : " اجلسي مكانكِ " .
ترجته قائلة : " أريد أن أذهب أبي " .
ليرفع إسلام إصبعه و يقول : " أولاً عليكِ الإستئذان مني و من والدتكِ " .
ثم رفع إصبعه الثاني و هتف : " ثانياً عليكِ أن تشكري عمكِ على عرضه " .
انفرجت أساريرها بأمل و طلبت بهدوء : " أبي .. أمي .. أ تسمحان لي بالذهاب مع عمي إلى مدينة الألعاب ؟ "
ابتسمت هبه بحنو : " أنا موافقة " .
تبعها إسلام قائلاً : " و أنا ليس لدي اعتراض " .
صفقت بجذل و ركضت إلى غرفتها كي تبدل ملابسها ليستوقفها إسلام : " لارا .. ماذا قولت ؟ "
التفتت لارا إليه و هتفت بقوة معتادة عليها منذ أن كانت في الدار : " و كيف سأشكره و نحن لم نذهب بعد ؟ "
و أردفت : " عندما أذهب و ألعب و أستمتع سوف أشكره " .
لتدلف بعدها إلى غرفتها تاركه إياهم يضحكون عليها ..
خرجت بعد أن أرتدت سروال أسود و بلوزة مطبوع عليها تويتي ، و وقفت أمام علاء هاتفة بحماس :
" أنا جاهزة .. هيا " .
نهض بينما إسلام يهتف بقلق : " علاء .. انتبه لها جيداً .. و لا تتأخرا " .
هتف مطمئناً إياه : " لا تقلق أخي " .
خرجا و أغلق الباب خلفهما ، ليسحب بعدها هبه من خصرها و يهمس بخبث : " و أخيراً لحالنا " .
ليقبلها بعدها خاطفاً إياها إلى عالم خاص بهما ، دون أن يدركا ما ممكن أن ينتح عنه !
وصلا إلى مدينة الألعاب فترجلت لارا من السيارة و عيونها تلمع بفرح ، فهذه أول مرة تأتي فيها إليها ..
قطع علاء التذكرة و دلفا إلى الداخل فركضت لارا بحماس و علاء ورائها باستمتاع ، بدأ باللعب بجميع الألعاب المتاحة ، و حرص هو على إبعادها عن الألعاب الخطيرة رغم إصرارها ، و لكنه كان حازماً في قراره ..
توقفت مشيرة إلى بائع غزل البنات و هتفت بحماس : " أريد منه " .
" أنتِ تأمرين " .
قالها بينما هما يسيرا إلى هناك فأخذ لها واحداً و أعطاه لها فشكرته بحماس و أكلته بنهم ..
بعد أن لعبا بمعظم الألعاب الموجودة هتف بتعب : " لارا لنذهب إلى البيت " .
عبست بملامحها : " لا زال الوقت مبكراً ، و لم نلعب بكل الألعاب " .
أشفق عليها و لكنه بالفعل كان يشعر بالتعب فهتف : " سنأتي إلى هنا مرة أخرى أعدكِ " .
زمت شفتيها بضيق و لكنها رضخت لأنها شعرت بتعبه ، خرجا و صعدا السيارة لتعتدل في جلستها و تذهب في نوم عميق من الإرهاق .
**********
عينيه تشتعل بغيرة .. و ملامحه تنم عن غضبه .. و كل هذا لأنه منذ قدوم خالته و تسنيم تجلس مع ولدها الذي يكبرها بعام واحد ..
" تسنيم تعالي إلى هنا " .
كادت أن تقف و لكن سيف - مَن كانت تلعب معه - أوقفها قائلاً : " اللعبة على وشك الإنتهاء .. اذهبي إليه بعدها " .
و بالفعل جلست و أكملت معه ، ليقبض مازن على كفه بغضب و يذهب إليها صائحاً :
" ألم أخبركِ أن تأتي إلىّ ؟ "
سحبها بقوة فتأوهت بألم .. و مع ذلك لم يبالي بها ، فنهض سيف و سحبها من مازن برفق و صاح بطفولة :
" لِمَ تصيح عليها ؟ "
اشتعلت عيونه أكثر : " و ما دخلك أنت ؟ ، إنها شقيقتي " .
صاح سيف بقوة : " و صديقتي ، ثم أنها تريدني أن أتدخل ، أليس كذلك تسنيم ؟ "
توترت و ردت بتلعثم : " نعم .. لا " .
بينما مازن جن من حديثه معها ، فدفعه بقوة ليسقط سيف على الأرض و يصيح بألم ..
شهقت تسنيم و ركضت إليه و هي تبكي ، ليصيح مازن بغيرة :
" تسنيم .. تعالي إلى هنا " .
و على ما يبدو أنها لم تسمعه ، فإن سمعته كانت ستنفذ أمره بخوف ، و لكنها هتفت بحنو و هي تحاول إنهاض سيف :
" هل تتألم ؟ "
ركضا الأمهات إليهم إثر أصواتهما العالية فاقتربت منال من ولدها هاتفة بخوف :
" سيف .. حبيبي .. ماذا حدث لك ؟ "
أشار سيف إلى مازن بحقد : " لقد دفعني " .
نظرت هالة إلى ولدها بعدم تصديق ، و لكن وجهه المحتقن .. و عيونه الحمراء من الغضب جعلتها تتأكد من صحة حديث سيف ..
" مازن .. كيف تفعل هذا ؟ "
و أردفت بحزم : " هيا .. أعتذر " .
و لأول مرة يرفع صوته عليها : " ماذا ؟ ، أعتذر من هذا الطفل .. مستحيل " .
توسعت عيونها بذهول من تصرفات ولدها الغريبة ، و بدون تفكير رفعت يدها لتهبط على وجنته بقوة ..
" طالما أنت لا تريد الإعتذار " .
وضع يده على وجنته بعدم تصديق وهو يتنفس بقوة ، نظر إلى والدته بعتاب ثم ركض إلى غرفته ..
شعرت بالحزن عليه ؛ فهذه أول مرة تصفعه ، عادت لتبرر لنفسها .. و لكنه يستحق هالة .. لا تنسي ما فعله مع أبن شقيقتكِ ..
ركضت تسنيم خلف شقيقها و جلست بجانبه على سريرها : " مازن ، لا تحزن " .
أبعدها عنه بغضب و هتف : " ابتعدي .. أنتِ السبب فيما حدث " .
سقطت دموعها و استعطفته قائلة : " لم أكن أقصد صدقني " .
دفعها مازن بعنف و صاح : " لا أريد سماع صوتكِ " .
كانت الدفعة قوية لدرجة أنها أسقطت تسنيم من على السرير إلى الأرض ، فتعالى صوت بكاءها و هي تضع يدها على رأسها من الألم ..
تفاجأ من سقوطها و اقترب منها بسرعة يضمها إلى صدره ..
" حبيبتي .. أعتذر .. لم أقصد إسقاطك " .
و تابع و هو يملس على رأسها : " هل هنا يؤلمكِ ؟ "
تمسكت بقميصه و هتفت بصوت مبحوح : " نعم .. يؤلمني جداً " .
تجمعت الدموع في عينيه و قبل مكان ألمها و هو يهمس : " سامحيني .. لم أكن أقصد " .
ليرفعها بعدها و يجعلها تستلقي على سريره ، ثم بدأ يملس على رأسها بحنان و قال :
" نامي و عندما تستيقظين سيزول الألم " .
**********
" أ رأيت ما فعله ولدك ؟ " ، قالتها هالة بغضب عندما عاد زوجها إلى المنزل .
تفاجأ طه من أسلوبها و غضبها من مازن ، فهذه أول مرة تغضب منه : " ماذا حدث ؟ "
دارت هالة المكان بعصبية : " لقد تعارك مع سيف " .
رفع حاجبيه باستغراب : " لِمَ ؟ "
توقفت و هتفت بنبرة تشي بعدم تصديقها : " من أجل تسنيم .. لأنها كانت تلعب معه ، تخيل ! "
نفى بذهول : " مستحيل .. أنتِ تمزحين " .
" للأسف لا أمزح " .
و أردفت بقلق : " كان لديك حق عندما كنت تقلق من تصرفاته طه ، الأمر مثير للريبة و علينا إيجاد حل " .
تنهد طه بيئس : " و ماذا سنفعل ؟ ، فمثلما هو متعلق بها هي متعلقة يه " .
هتفت بقلة حيلة : " لا أعلم و لكن علينا إيجاد حل " .
و أردفت بحزن : " أعلم أنه متعلق بها خوفاً من رحيلها كرنيم ، و أنا أيضاً لديّ نفس الشعور اتجاهها ، و لكنه هكذا يقيد حريتها " .
حرك رأسه بسخرية .. زوجته الساذجة تخشى من أن يقيد حريتها .. بينما هو خائف مما هو أكبر !
**********
وصلا إلى بيت والده بعد أن دعاه الأخير ليتناول هو و زوجته وجبة الغذاء معهم ..
فتحت لهما أسيل الباب و سرعان ما ارتمت في أحضان طارق و هتفت :
" اشتقت إليك " .
قبضت نشوى على كفها بقوة و حاولت تمالك نفسها حتى لا تلقي هذه المدللة أرضاً ..
بينما طارق أبعدها عنه برفق و هو يبتسم لها بتوتر : " و أنا أشتقت إليكِ صغيرتي " .
سحبته من ذراعه إلى الداخل : " عمي ينتظرك منذ الصباح " .
بقت نشوى في مكانها تنظر لها بصدمة و هي تسحب حبيبها دون أدنى اعتبار لها ، فتملك منها الغضب و صاحت :
" طارق أنا هنا .. أم أنك نسيتني " .
توقف طارق بقوة و أسيل على بعد خطوات منه و نظر إلى نشوى مبتسماً بتوتر : " بالطبع لم أنساكِ حبيبتي " .
ضمت يدها إلى حضنها و هتفت بسخرية لاذعة : " و لكنني لا أرى ذلك " .
ترك أسيل و اتجه إليها واضعاً يده على خصرها هامساً : " أعتذر " .
ثم دلف معها إلى الداخل لتبتسم هي لأسيل بانتصار ..
تجمدت أسيل في وقفتها و زمت شفتيها بضيق ، ألا يكفي أنها لم تراه منذ ثاني يوم زواج ، و أنه و لمدة أسبوعين كان برفقتها و لم تراه هي و لو للحظات ، و الآن تأخذه أيضاً منها ..
تبعتهما و هي تطرق الأرض بغضب ، انضمت إليهم و جلست بجانب عمها و هي ترسل إلى نشوى نظرات حانقة لم تبالي الأخيرة بها ..
هتفت سعاد بحب و هي تضم نشوى إلى أحضانها : " هل أستمتعتم برحلتكم ؟ "
زمت نشوى شفتيها بضيق و همست : " نعم مع أنني كنت أتمنى لو سافرنا إلى الخارج ، و لكن الأجازة قصيرة و لم يتبقى سوى أيام قليلة على الدراسة " .
و أردفت بخبث عندما انضمت أسيل إليهم : " و لكن طارق حبيبي وعدني أن نسافر إلى الخارج فور انتهاء العام الدراسي " .
ربتت سعاد على كتفها بحنو : " ليسعدكما الله حبيبتي " .
سخرت أسيل بداخلها منها ، ثم تذكرت أمر الدراسة فوجهت حديثها إلى طارق قائلة :
" طارق .. هل ستقلني إلى المدرسة كل يوم كما سبق ؟ "
ابتسم لها بوعد : " بالتأكيد ، لقد وعدتكِ ألا شئ سيتغير " .
هتفت نشوى من بين أسنانها : " و لكنه سيكون مرهق لك أن تأتي كل يوم إلى هنا كي تقلها حبيبي " .
هتف طارق ببساطة : " لا مشكلة " .
و قبل أن تندلع مشكلة هتفت سعاد : " هيا .. إلى الطعام " .
حالما جلسوا قرّبت أسيل أحد الصحون منه هاتفة : " تذوق هذا ، لقد طهيته بنفسي " .
" حقاً ؟ "
تذوقه ليرفع حاجبيه بإعجاب : " لذيذ .. أحسنتِ صغيرتي " .
تذوقته نشوى ثم هتفت ببرود : " طعمه ليس جيداً إلى هذه الدرجة " .
ابتسمت أسيل باستفزاز : " اطهي لنا مثله إذاً لنرى كيف ستصنعيه " .
و هكذا أكملوا الجلسة في توتر و حذر .
**********
" اشتقت إليكِ صغيرتي .. بالتأكيد سأقلكِ كل يوم .. لذيذ أحسنتِ " .
هتفت نشوى بهذه الكلمات بسخرية حالما وصلا إلى منزلهما ، ثم التفتت إليه هاتفة بغضب :
" لِمَ لم تقضي ليلتك معها ؟ ، فبالتأكيد تشعر بالحنين إليها " .
تنهد طارق و لكنه لم يرد عليها فأي إمرأة مكانها ستشعر بنفس غيرتها بل ربما كانت فعلت الأسوأ ، و لكن حبيبته لم تحرجه أمام والديه و فضّلت العتاب بينهما .. و كم يقدّر لها ذلك !
و في نفس الوقت لم يكن بستطاعته جرح أسيل ، فلقد وعد نفسه بتعويضها و عليه أن يفي بوعده ..
" أعلم أنكِ غاضبة ، و لكن صدقيني غضبكِ لا داعي له ، فأنا لا أحمل لأسيل أية مشاعر غير الأخوة " .
سحبت شعرها بجنون : " و إن يكن .. أنا أغار عليك .. و لا أريدك أن تتحدث مع إمرأة غيري .. و لا تتمازح مع غيري " .
" و لكنها طفلة " .
اهتز جسدها بعنف : " لا تقل هذه الكلمة أمامي ، إنها ليست طفلة .. إن كانت طفلة لم تكن لتتزوج منك .. لم تكن لتتقرب منك .. لم تكن لتستفزني و تنتقم مني ، هذه الفتاة أبعد ما يكون عن الطفولة " .
على الرغم أنها افتعلت هذه المشكلة لإكمال خطتها ، و لكن انهيارها و كلماتها كانت صادقة تماماً و عبرت عما تشعر به ..
اقترب طارق منها بخوف من انهيارها المفاجئ و حاول أن يحتضنها ، و لكنها دفعته صائحة :
" لا تقترب مني .. اذهب إليها طالما تريدها و لا تريد جرحها " .
احتضنها رغماً عنها و همس بجانب أذنها مهدئاً إياها : " أنا لا أحب غيركِ .. و لا أريد غيركِ ثقي بهذا " .
تمسكت بأحضانه و همست : " لا أريدك أن تقترب منها " .
تنهد مفكراً فيما سيفعله و كيف سيتعامل مع هذا الموقف ؟ ، و هل حقاً يستطيع أن يتخلى عن أسيل ؟
**********
ركض إليها بخوف و سندها قبل أن تسقط : " هبتي .. ما بكِ ؟ "
وضعت يدها على رأسها و هي تشعر بدوار يداهمها و همست : " لا أعلم .. شعرت أن الشقة تدور بي " .
جلس و أجلسها في حضنه و هتف بتأنيب : " هذا لأنكِ ترهقين نفسكِ كثيراً ما بين العمل و البيت و لا تحصلين على الراحة " .
أ يكون السبب هو إرهاق فقط أم أن ما تشعر به صحيح ؟ ، أ تكون هذه أعراض الحمل أم هي مجرد أوهام ؟!
زفرت أنفاسها بحيرة ، فأجلسها هو على المقعد و همس : " ارتاحي أنتِ ، و سأعد لكِ الطعام " .
اعترضت بوهن : " لا إسلام أنا بخير " .
نهض بتصميم غير مبالياً باعتراضها ، أعد لها الطعام ثم حملها و بدأ يطعمها كما اعتادت ، و لكنه فور أن أطعمها أول ملعقة نهضت راكضة إلى الحمام و استفرغت ما في جوفها ..
احتضنها من الخلف و هتف بقلق : " أتراجع عن حديثي ، لا يمكن أن يكون ما تشعري به إرهاق .. علينا الذهاب إلى الطبيبة " .
وافقته و كلها أمل أن يكون إحساسها في محله !
**********
جلست الطبيبة على مكتبها بعد أن فحصت هبه بدقة : " مبارك لك سيد إسلام ، السيدة حامل في ثلاثة أشهر " .
توسعت عيون إسلام بذهول .. فزوجته لديها مشاكل تعوق إنجابها ، كان متأكداً أن هناك خطأ في فحصها ، و لكنه شعر بالحزن و هو يرى ملامحها السعيدة و عدم تصديقها .. و خشى عليها من الصدمة التي ستتعرض لها عندما يكتشفوا الخطأ ..
لم يكن يعلم أن الصدمة ستكون من نصيبه هو إلا عندما تابعت الطبيبة :
" أ رأيتِ سيدتي أنه بالإنتظام على العلاج و الثقة بالله يتحقق المستحيل " .
لم تعلم ما تقول من فرحتها : " نعم .. نعم .. يا إلهي لا أصدق " .
أي علاج الذي تهذي به هذه الحمقاء ؟!
أ كانت زوجته تتعالج من وراءه .. دون أن تخبره ؟!
كيف استطاعت فعلها ؟
تجهمت ملامحه و نهض عندما أنهت الطبيبة حديثها مغادراً ، سارت هبه برفقته و هي تكاد تقفز من السعادة ، و من فرط سعادتها لم تلاحظ تجهمه و ضيقه ..
حالما صعدت السيارة هتفت بحماس : " أ سمعت حبيبي ؟ ، أنا حامل .. سيكون لدينا طفل صغير ، سيكون لديك طفل من صلبك " .
كل حرف كانت تنطقه كان يشعل الغضب بداخله ، فصاح بها : " أصمتِ هبه " .
تفاجئت من غضبه و هتفت بصدمة : " ماذا ؟ "
ردد كلماته مرة أخرى و وجهه بدأ يحمر من الغضب : " قولت اصمتي ، ألا تسمعين ؟ "
شحبت ملامحها عندما صاح عليها ، فهذه أول مرة يفعلها منذ زواجها ، كما أنها لا ترى أي دليل على سعادته بخبر حملها ، أليس من المفترض أن تكون ردة فعله مخالفة تماماً لما يحدث ؟
و لكنها نسيت أو تجاهلت اكتشافه لعلاجها ، فبالنسبة إليها الأهم النتيجة و نجاحه ..
حالما وصلا إلى منزلهما صفع الباب بقوة ، و هتف بهدوء مناقضاً للغضب المستعر بداخله : " منذ متى و أنتِ تتعالجين ؟ "
ابتلعت ريقها بخوف عندما توصلت إلى سبب غضبه و همست : " إسلام " .
ركل المقعد الذي بجانبه بعنف و صاح : " سألتكِ سؤالاً و انتظر إجابته " .
" اسمعني فقط " .
" لا أريد أن أسمعكِ ، أريد أن أعلم متى بدأتِ علاجكِ دون أن تخبريني " .
سقطت دموعها و همست : " منذ ثمانية أشهر " .
" ثمانية أشهر !..، ثمانية أشهر و أنا كالأبله لا أعرف شئ " .
" لم أكن أريد أن أزرع بداخلك أملاً ثم أنتزعه منك " .
هتف بقسوة : " بل كنتِ أنانية لم تفكري سوى بنفسكِ و رغباتكِ " .
و أردف بعدم تصديق : " هل ظننتيني كمصطفى سأطلقكِ إن لم ينجح علاجكِ " .
نفت بصدق : " لا أنت لست مثله .. لا تقارن به من الأساس " .
احتقن وجهه و برزت عروق عنقه و صاح : " بل تصرفاتكِ تدل على أنني مثله .. و أنكِ لم تثقي بي " .
" الزواج الناجح يُبنى على المشاركة ، عليكِ أن تشاركِ زوجكِ قراراتكِ ، ألا تحكمين على مشاعره و ردات فعله دون أن تريها " .
هتفت ببكاء : " إسلام " .
" لقد خيبتي ظني بكِ يا هبه ، للأسف " .
**********
رآها في المطبخ تعد الطعام ، فدلف إليها و دون أن يوجه لها كلمة سحب الصحون من يدها ، و باشر هو بإعداده ..
همست بخفوت : " إسلام " .
و كعادته منذ شهر لم يرد عليها ، بل تابع ما يفعله بهدوء ..
هكذا هو .. منذ مواجهتهما بعد حملها و هو لا يتحدث معها .. لا يطعمها بيديه كما عودها .. لا يسحبها لتنام بأحضانه ..
يهتم بها نعم .. يحرص على راحتها نعم ، و لكن كل هذا ببرود قاسي آلمها و جعلها تتمنى أن يتفادها ، فعلى الأقل تفاديها سيكون أرحم بالنسبة لها من الطريقة الجافة التي يتخذها معها ..
" إلى متى ستظل تعاملني بهذه الطريقة ؟ "
استمر في تجاهلها ، فاقتربت منه و وقفت أمامه و دموعها بدأت في السقوط :
" أعتذر .. أعلم أنني مخطئة و قد تعلمت الدرس ، أرجوك سامحنى .. لا أستطيع تحمل تجاهلك أكثر من هذا " .
أبتعد عنها بمسافة قصيرة و قلبه يؤلمه عليها و يطالبه بمسامحتها ، و عقله يخبره أنها كذبت عليه و عليها تلقي العقاب ..
" ألم تشتاق لي ؟ ، منذ شهر و أنت بعيداً عني " .
زفر أنفاسه بشوق ، فتجرأت و احتضنته قائلة : " لقد تعلمت الدرس ، أعدك أنني لن أخفي عليك شيئاً ، و سأخبرك بأي قرار اتخذه قبل فعله ، فقط سامحني " .
انتصر قلبه حيث ضمها إليه أكثر مقرراً أن العقاب الذي تلقته يكفي .
**********
" ألا ترى أن وجود أسيل في حياة طارق يُسبب له المشاكل ؟ "
تفاجأ محمد من حديث زوجته ، لقد أعتقد أنها أحبت أسيل و وافقت على وجودها معهما و لكن يبدو أنه كان مخطئاً ..
" أ ستعودين و تطالبين برحيلها ؟ "
اعترضت سعاد بحزم : " لا ، يشهد الله أنني أحببتها كأبنتي و أعتدت على وجودها " .
و تابعت بألم : " و لكن ألا ترى أن طارق بدأ في الإبتعاد عنا ؟ ، و زياراته لنا أصبحت قصيرة و علة فترات متباعدة ، كي لا يحدث بين نشوى و أسيل أية مشاكل " .
نعم .. إنها على حق ، فولده يبدو حائراً بين زوجاته لا يعلم ما عليه فعله حتى لا يجرح إحداهما ، الأمر الذي أدى إلى ابتعاده عن المنزل و الإكتفاء بالزيارات القليلة كي يطمئن على أسيل و يرى طلباتها ..
" و الحل أن تبتعد أسيل ، أليس كذلك ؟ "
هتفت بغضب : " أنا لم أقل ذلك يا محمد ، أنا فقط أحاول البحث عن حل كي يرتاح ابني " .
هتف بسخرية لاذعة : " و هل وجدتيه ؟ "
ردت باقتضاب : " لا ، و لكنني سأجده " .
لم تقصد أسيل الإستماع إليهما .. و لكنها عندما كادت أن تخرج من غرفتها سمعت زوجة عمها تأتي بسيرتها فقادها فضولها لمعرفة ما يتحدثان عنه ..
ابتسمت بألم عندما سمعت حديثهما ، لقد لاحظت بالفعل ابتعاد طارق عن المنزل في الفترة الأخيرة ، و لكنها أرجعت الأمر إلى انشغاله و مسئولياته ، و لم يأتي في بالها أبداً أنها تُسبب له المشاكل ..
" لقد اقتحمتي حياته فجأة يا أسيل ، و من أجل انتقام سخيف هدمتيها ، عليكِ الاعتراف بأنكِ اخطئتي في حقه هو و حبيبته ، بل الاعتراف وحده لا يكفي .. عليكِ بتصحيح ما فعلتيه و إعادة الإستقرار إلى حياتهما " .
**********
تفاجأ بها تهاتفه و تطلب مقابلته في الحال ، بل و طلبت منه ألا يصعد للمنزل و أن يهاتفها عندما يصل و هي ستأتي إليه ..
و بالفعل هاتفها مخبراً إياها أنه ينتظرها ، فهبطت إليه و صعدت إلى السيارة .
**********
نظرت إليه بملامح مبهمة لا تصفح عن مشاعرها و هتفت بدون مقدمات : " أعتذر طارق ، منذ مجيئي إلى هنا و حياتك قُلِبت رأساً على عقب بسببي " .
رفع حاجبيه باستغراب و هو حقاً لا يعلم مناسبة هذا الحديث ..
" لِمَ تقولين هذا ؟ "
ابتسمت بألم : " لأنني بطفولتي و أنانيتي أُسبب لك المتاعب " .
ملس على شعرها بحنان : " لا تقولي هذا صغيرتي ، أنتِ غالية على قلبي " .
همست بصدق : " و أنا أحبك كثيراً و لا أعتقد أنني سأحب أحد مثلما أحببتك " .
و أردفت بحزن : " و لن أراك حزين .. مبتعد عن والديك بسببي و أصمت " .
و هتفت بصوت بدى غريباً و بعيداً و ملامحها شاردة : " طلقني طارق " .
توسعت عيونه بعدم تصديق : " ماذا ؟ "
رمشت بعينيها بألم : " بعد أيام سأتم السادسة عشر ، لن تكون والدتي قادرة على أخذي ، أي أن سبب زواجك مني قد انتهى " .
بالرغم من شعور الراحة الذي سيطر عليه عندما طلبت الطلاق و وضحت انتهاء أسباب زواجه منها ، إلا أن شئ بداخله أخبره ألا يمتثل لها ، ألا يوافق على طلبها و يبعدها عنه بإرادته ..
" أنا لم أفكر في طلاقكِ من قبل " .
" أعلم .. و لكن هذه النهاية المنطقية لقصتنا ، فلن أظل زوجتك مدى الحياة خاصة و أنت تحب نشوى " .
لقد ضغطت عليه بقوة عندما ذكرت نشوى ، و ربما تكون أخضعته للموافقة !..، فطلاقها سيخلصه من مشاكله مع حبيبته .. ستجعله يقضي حياته معها في راحة .. يعني أنه سبنعم بالهدوء الذي لم يجربه منذ زواجه ..
" هل أنتِ متأكدة من رغبتكِ هذه ؟ "
أومأت بالإيجاب على الرغم من صياح قلبها المعترض ..
هتف بحزن لا يعلم سببه : " أنتِ طالق أسيل ، سأمزق ورقتنا حالما أصل إلى المنزل " .
**********
منذ ساعات و هي تتحمل الألم مخبرة نفسها أنها آلام طبيعية و لا داعي للقلق ، و لكن الآلام فاقت احتمالها و لقد شعرت أنها على وشك الولادة فهزت زوجها بقوة و هي تصيح : " إسلام .. سألد " .
انتفض إسلام من نومه بفزع و قال : " ماذا ؟ ، لازلتِ في الشهر السابع " .
سقطت دموعها من الألم و استغاثت : " سأموت إسلام .. انجدني " .
نهض بخوف و حملها دون الإهتمام لما يرتدوه و هرع بها إلى المستشفى ..
دلف إليه و هو يصيح بخوف : " ساعدوني .. زوجتي تلد " .
اقتربوا منه بسرعة و وضعوها على السرير و أخذوها إلى غرفة العمليات ..
تمسكت بيده و همست : " سأموت إسلام " .
هتف بتوتر : " لا تقولي هذا حبيبتي ستكونين بخير " .
تأوهت بألم و صاحت : " أنتبه إلى أبني .. و لارا " .
و أردفت قبل أن تختفي خلف باب غرفة العمليات : " لا تنساني " .

لست أبي (كاملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن