22

73.9K 1.7K 87
                                    


واحد .... اثنان .... ثلاثة ......كانت كل مرةٍ من مراتِ تمرين الضغط الذي يقوم بها ينفخ بصوتٍ مكتوم و كأنه يفرغ فيها شحنة قوية ......وهو يستند على ذراعيه العضليتين القويتين ليصعد و يهبط مثبتا عينيه في نقطةٍ واحدة ....والعرق يتصبب منه غزيرا بينما وجهه الأحمر كان مثالا للشر و الخطر ...... و أنفاسه ..... أنفاسه التي كانت كآتونٍ منتظم الهدير مرة بعد أخرى .....نهض في قفزة واحدة .... ليمسك بثقلين من الحديد و أخذ يرفعهما و ينزلهما وكأنها لا يزنان شيئا ..... ثم قال أخيرا بصوتٍ خافت خطير( أعدها على مسامعي مرة أخرى ........... )تلجلج الشاب النحيف الواقف أمامه ببنطاله الجينز الرقيع و العديد من السلاسل الفضية و الذهبية المعلقة بعنقه .... لكنه قال اخيرا برهبةٍ منفرة ...معيدا على مسامع جاسر بخوفٍ مختلطا بالرغبة في نيل الثقة( لقد نادى بها مسمعا كل من في الحي من رجالٍ و نساء .... من أكبرهم لأصغرهم )صرخ جاسر بوحشية وهو يزيد من سرعة ذراعيه اللتان بديتا كتروس ماكينة عملاقة؛( أعدها .......... )انتفض الشاب النحيف مكانه مرتعبا من منظر جاسر في تلك اللحظة .... لكن عينيه التمعتا ببريقٍ منتشي وهو يعيد الكلمات التي ماكان يصدق يوما أو يجرؤ على أن يفكر بها أمام سيده( قال ...... أن أخبرك بأنك ..... أقصد أن سيادتك ....أن تظهر نفسك , و لا تختبىء كالنساء ... و .... متغطيا بأوشحتهن )كانت عينا جاسر الحمراوين البراقتين تنظرانِ أمامهما وهو يضرب الهواء ضربا بثقليه الحديديين ..... يلهث أكثر و أكثر .... تتوحش نظراته مع كلِ ضربةٍ ...... و طال به الحال الى أن صرخ أخيرا بصوتٍ مرعب زلزل الجدران( انصرف ........... )قفز الشاب الرقيع من مكانه بفزع و تراجع للخلف دون أن يستدير وهو ينحني لجاسر مربتا على صدره في علاماتِ خضوعٍ مقززة .... ثم هرول مبتعدا تاركا جاسر يبدو في حالةٍ تنبىء عن قرب حدوث جريمة في الحي ...................................................... .................................................. ......................................ماكينة .... ماكينة بشرية , آلة ضخمة تضخ غضبا , جنونا , .... بركان غير ثابت يقذف بحممه في صمت .... لا ليس في صمت بل صوت التنفس الخافت الهائج يبعث على الرعب حين يقترن بمرأى العينين المتوحشتين .....هاتان العينان كانتا تنظرانِ أمامهما بشرودٍ و كأن صاحبهما قد انفصل عن واقعه .....و ذهب بعيدا جدا ....الي يوم .... فقط يوم .............حين كان يمسك بصورته بين أصابعه ..... ينظر اليها وهو لا يعلم ماذا تفعل هنا ..... مالذي يأتي بصورة ابن رشوان الى صفحات كتاب اخته الصغيرة .....تذكر تسمره وهو يتأكد فعلا من وجود تلك الصورة التي سقطت من بين الصفحات حين كان يتطلع الي أحد كتبها بعفويةٍ بعد أن دخل لغرفتها معتقدا بأنها هناك ......عقد حاجبيه بعدم استيعاب .... ودون سبب محدد قلب الصورة ليجد قلوبا طفولية حمراء مرتسمة على ظهرها .... دون أي كلمة و كأن صاحبة القلوب كانت أكثر خجلا من أن تخط بيدها أي حرفٍ مصاحب ....قبض على الورقة ببطىءٍ حتى جمعها كلها و طحنها في قبضة يده حتى ابيضت مفاصل أصابعه .... انها لم تتعدى الحادية عشر ... أم تعدتها ؟؟ .... لن تتجاوز الثانية عشر بكل تأكيد .....خرج من غرفتها كالطوفان الغادر و هو ينوي كسر كل إصبعٍ رسمت به قلبا من القلوب ....و كسر ساقيها قبل أن تخرج من باب هذا البيت لتتجه الي بيت عائلة رشوان بعد هذه اللحظة ....كاد أن يصطدم بأحلام وهو خارج من الغرفة .... لكنه ادرك نفسه في اللحظة الأخيرة .... وما أن اعتدل حتى صرخ بها بهياج؛( أين ابنتك ؟ ......... )ارتسم الفزع على ملامحها من رؤية ملامح الإجرام على وجهه .... فردت عليه بخفوت خائف( لماذا ؟؟ ...... ماذا فعلت نوار ؟؟ .... )صرخ مرة أخرى وهو يضرب الحائط المجاور بقبضته بقوة( أريد ردا واحدا حالا .... أين هي ؟؟ )همست أحلام بينما ملامحها كانت غريبة الشكل و مخيفة من شدة شحوبها و شرودها( ذهبت لتلعب مع صديقاتها .......... )صرخ وهو يغلي غضبا( ذهبت لبيت رشوان و قد منعتها الف مرة ..... لكن هذه المرة سأكسر عظامها بعد أن أجرها الآن جرا من عندهم )رفعت أحلام يدها الى صدرها .... في منظرٍ لن ينساه أبدا , حين شردت عيناها أكثر و غابت عنه الى مكانٍ آخر وهي تهمس بألمٍ و اختناق( اللهم اجعله خير ....... )عقد حاجبيه و نسي أمر نوار للحظات وهو يرى شكلها الأشبه بالأموات .... فاقترب منها ليمسك بذراعيها وهو يقول بقلق خشن( ماذا بكِ يا أحلام ؟ ..... هل سيغشى عليكِ ؟؟ )نظرت الي عينيه بضياع قليلا .... وانتظر هو أن تتكلم , ناظرا لعينيها المستجديتين الى أن همست أخيرا بضعف( لا ....لا ..... . أنا بخير , أنا فقط .....شعرت لوهلةٍ بأن روحي تنسحب من جسدي ..... . )دفعها للخلف برفقٍ لينزلها الى المقعد من خلفها .... بينما لاحظ أن الصورة لا تزال في قبضة يده مطحونة معذبة .....قال وقتها بخشونة( هل تريدين أن أنادي لكِ أمي ؟؟ ..... أم أطلب من الحاج الحضور ؟ )هزت رأسها نفيا بسرعةٍ وهي تهمس بينما عينيها شاردتين على نفسِ ضياعهما( لا .... لا .... لا أريد أحدا .... أنا .... بخير )لكنها بعد لحظةٍ و قبل أن يتركها رفعت يديها الاثنتين الى صدرها و شهقت دون صوت .... مجرد نفسا عميقا سحبته ليصدمها .... ثم همست بانقباض( ما ..أصوات الصراخِ تلك ؟ ..... من أين تأتي ؟؟ )عقد حاجبيه أكثر و هو ينظر اليها بحيرةٍ و كأنها شيئا غير معلوم قد مسها .... ثم قال بحيرة( أي أصوات صراخ ؟!! .... أنا لا أسمع شيئا )سكتت أحلام قليلا ثم رفعت يديها فجأة الى أذنيها مغمضة عينيها وهي تهمس بخوف( أنا أسمعها .... أصوات صراخٍ تملأني و تكاد تخرق اذني )كان ينظر اليها بذهولٍ وهو منحنيا اليها , ممسكا بكتفيها .... و الصورة في قبضته ...رآها و كأنما أصيبت بالجنون .... كان الصمت يعم المكان دون أي صوتٍ غريب ... بينما منظر أحلام لن يتوه عن ذاكرته أبدا ....و بعد لحظاتٍ طويلة وهو يربت على كتفيها .... تصلب في مكانه للحظةٍ وعقد حاجبيه و هو يرهف السمع قليلا ....يتذكر جيدا أن أصواتا ما .. قد بدأت في الظهور بالتدريج ... و كأنما بدأت بشهقات.... تجمعت و تكاثرت الي أن قصف سكون المكان صرخة مدوية .... و بدت و كأنها اشارة البدء لسيلٍ من الصرخاتِ و العويل .....اتسعت عيناه وهو يستقيم ببطءٍ شديد .... و كأنه لا يصدق ما يسمعه .... صراخ ... صراخ .....يأتي محملا على الرياح الداخلة من الشرفة المفتوحة .... من شدة الصراخ و العويل لم يستطع أن يميز أي كلمةٍ سوى واحدة( يا أحلام .... يا أحلام ...... نوار ....... )ظل واقفا طويلا ينظر الي الشرفة دون أن يجد الجرأة على الاقتراب منها خطوة ...... بينما أغمضت أحلام عينيها بقوةٍ وهي تسد أذنيها بكفيها و هي تهز رأسها نفيا .... دون الحاجة بها للسؤال ....................................................... .................................................. .......................................عاد من سيل ذكرياته التي كان قد دفنها منذ زمن بمنتهى المهارة لدرجة أنه ظن بأنه نسيها بالفعل و بأن العالم مليء بالمآسي , لذا كانت مأساة و مرت ..... و تابع حياته مهتما بالأحياء أكثر من الأموات ....ومن أولهم كان ابن رشوان ....كانت الكراهية بينهما لها تاريخ طويل على الرغم من حداثة سنهما ...... لكن بعد موت نوار .... لم تعد كراهية فحسب ...لم ينسى يوما أن نوار الصغيرة قد سقطت أمام ابن رشوان و دون علمه هو بذلك .... ليسلموها له جثة هامدة .... يومها أقسم الا يقتله ..... بل سيعذبه يوما بعد يوم ...... كجزاءٍ لمجرد وجوده حيث فقدها هو .....فجأة رمى الثقلين الحديدين من يده بأقصى قوته بعد أن طوحهما ... فاصطدما بالحائط ليحدثا شرخين بشعين في دهانهما ... ثم سقطا بقوةٍ على الأرض محدثين زلزالا .....ذهب ببطء الي منشفته و أغرق بها وجهه ليمسح العرق الذي أغرقه .... ثم رفع رأسه لينظر أمامه بشرودٍ متوحش و بعينين احمرتا من الغضب ..عادت به أمواج ذاكرته .... لتلك الجلسة بعد معاركٍ فظيعة ...وصلت الي إحراق مخازن و مستودعات لكلتا العائلتين ... دون تدخل الشرطة بالطبع .... لذا توجب أن تتم مصالحة كبيرة حفاظا على التجارة و الأبناء ...شعر بلذةٍ شريرة حين عرضت عليه حور كحلٍ بديل لتلك الكراهية ... و أوشك أن يوافق في سبيل أخذ اخت ابن رشوان كما أخذ أخته .... كان صغير السن و متهورا و كان هذا أفضل تفكير طرأ على باله وقتها .....لكنه شعر بنارٍ سوداء حين وصله رفض الحاج اسماعيل على طلبٍ لم يطلبه من الأساس ... مستكثرا حور ابنة الدلال و العز عليه .... ليعرض في جلسةٍ اخرى بأن ابنة اخيه اليتيمة هي المتوفرة حاليا .... و كأنها بضاعة معطوبة يعرضها لمشترٍ مفلس قبل أن تفسد في المخازن .....لكن بداية الحكاية كانت ذات يوم ......بعد عراكٍ محتدم مع ابن رشوان ... بدأ بينهما فقط , ليهديه العلامة التي لا تزال تعلم فكه حتى هذا اليوم .....لتتزايد و تصبح حربا , ناله منها الإصابات و نال مالك الأكثر منها ..... حتى فقدت معالمه وضوحها ....يومها .... و حيث كان يلهث وسط عصبته يمسح انفه النازف بظاهر يده ... ممزق الملابس ... و الجميع يركضون في كل اتجاه بعد أن بدأ تدخل رجال رشوان ....سمع صوتها من خلفه يصرخ (؛ أنت ...... )التفت ليجدها تأتي جريا من خلف بقدميها الصغيرتين الحافيتين لتنحني بسرعةٍ خاطفة ملتقطة حجرا مسننا من الأرض .. ثم تستقيم و تقذفه به بكل قوتها ... و للعجب أن حركتها الطفولية أصابته في وجهه مباشرة و بمنتهى القوة ..قبل أن يستوعب الأمر ... مما أصابه بشدة ....حين نظر اليها بذهول ... كانت قد اقتربت منه خطوتين و بعينين متسعتين كطبقي الفنجان ... لم يكن يعرف من قبل أن عينيها زيتونيتي اللون .. فهما داكنتين و لا تظهرانِ لونهما من البعيد .....رفع يده الي ذقنه الدامي وهو ينظر الي تلك النمرة الصغيرة الهائجة بشعرها الطويل الأشعث .... بينما هي كانت تصرخ بوحشية و جنون( ابتعد عن مالك يا جبان ...... ... ليتك تموت ..... ليتك تموت )ثم استدارت لترجع جريا دون أن تهتم بما قد يجرح قدميها ...... و ظلت صورتها وهي تجري بثوبها المتطاير و شعرها الهائج في ذاكرته حتى تلك اللحظة .... ككل ذكرياتها ...رفع عينيه الي أعلى الدرج .... وكأنه ينظر اليها ....بنظره الى حجزها القسري .... يتنفس بصعوبةٍ و كأنه ينفث لهبا .......و كأن أدرك النهاية ..... كفى ..... لم يعد يستطيع التحمل أكثر ...... كفى ........ودون وعي صعد السلام كل درجتين معا اندفاعا , الى أن وصل الي غرفتها ليخرج المفتاح من جيب

بأمر الحبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن