17

71K 1.7K 58
                                    


منذ عدة أيام ..
كان جالسا بجوارها على أحد مقاعد البحر .... وكان ينظر اليها متعاطفا مع شهقاتها الباكية العنيفة و التي جذبت أنظار المارة اليهما ....
كانت تبكي بصوتِ اللوعة و الألم لدرجة أنه لم يجد سبيلا سوى أن يدعها تفرغ بعضا من شحناتها .... بعد الموقف الذي تعرضت له .....
لذا بقى ساكنا بجوارها وهو يمسك حافة المقعد بكفيه ....يراقبها بصمت الى أن نفخت بقوةٍ في منديله القماشي ....
رفع مالك أحد حاجبيه وهو يفكر........ " أنه ثاني منديل ... ومن المؤكد أنها لن تعيده كالأخر " ......
أخفت أثير وجهها في المنديل المطوي و هي تبكي بغزارة .... وبعد عدةٍ شهقات , تجرأ مالك على السؤال ببطء
( الم تكتفي من البكاء بعد ؟ ...... اهدئي قليلا لنتكلم )
هتفت أثير من بين شهقاتها المختنقة بصوتٍ لا يكاد يكون مفهوما منه كلمة
( أنا أبكي على حالي .... أبكي الغلب الذي اعيشه كل يومٍ و كأن الدنيا قد رسمته طريقا لي )
قال مالك بخفوت يقاطعها
( استغفري ربك و لا تقولي مثل هذا الكلام .......... )
بكت أثير مرة أخرى بحرقةٍ و هي تستغفر الله همسا ... ثم قالت بصوتٍ مختنق من الدموع
( لقد اشفقت على نفسي مما تعرضت له ...... لأنني ضعيفة لم أستطع أن أنال حقي من ذلك الحقير )
سكت مالك قليلا وهو ينظر الى وجهها المتورم قهرا ... ..... ثم قال بهدوء
( أخبريني مرة أخرى ماذا فعلتِ به بعد أن تطاولت يده عليكِ ........ )
رفعت وجهها و هي تهتف بشراسةٍ مفاجئة على الرغم من عينيها المتورمتين
( أمسكت بالزجاجة الموضوعة على أقرب طاولة ... ثم ضربته بها على أم رأسه ..... )
سكت مالك قليلا وهو يومئ برأسه متفهما .... ثم قال مرة أخرى
( لقد أصيب بإرتجاج في المخ ....... و حصل على عشرة قطبات )
عادت أثير لتبكي بصوتٍ عالٍ ....... ثم صرخت بإختناقٍ و نشيج
( لم أشف غليلي منه بعد ........ )
قال مالك و هو يحاول أن يهدئها
؛( احمدي ربك على أن الموضوع تمت تسويته ....... و الا لكنتِ محتجزة الان )
بكت أثير مجددا لكن بحدةٍ أقل .... فنظر مالك اليها بعطف , لكن حانت منه التفاتة يجد أن بائع "غزل البنات " يسير مناديا من خلفهما وهو يحمل ذلك العدد الهائل من الأكياس المنتفخة الشفافة و التي تحتوي على الحلوى القطنية
فأشار له مالك بسرعةٍ وهو يعرف أن حلوى غزل البنات هي الحل السحري لإسعاد الفتيات طبقا لمعرفته بحور و حنين ....
اقترب الرجل بسرعةٍ منهما .... فطلب مالك منه اثنين من اللون الأبيض ....
الا أن أثير نفخت في منديله مرة أخرى وهي تقول في منتصف بكائها
( أريد الوردي ......... )
عبس مالك قليلا ثم قال
( من قال أنني سأبتاعه لكِ ........ )
عبست أثير هي الاخرى من بينِ بكائها و قالت بامتعاض
( لا أريد منك شيئا ....... اعطني يا عم اثنين ورديين )
ثم اخرجت من حقيبتها ... عملتين معدنيتين , الا أن مالك امسك بيدها قبل ان تمدهما الى الرجل و أخذ يضحك و هو يقول
( كنت امزح معك فقط ..... توقفي عن هذا المزاج الساحلي , لا نريد أن تنطحي شخصا آخر لليوم على الأقل )
لكن أثير لم تسمع كلمة مما قالها ..... فقد تاهت تماما في يده الممسكة بيدها , الغريب أن برائته ظاهرة للأعمى و أنه يبدو وكأنه يتعامل مع أحد أصدقائه ....
الا أنها ضاعت من لمسة يده ... و لم تدرك أنه كان قد أعطى للرجل نقوده و أخذ منه عدة أكياس وردية .....
ناولها الاكياس بين يديها مبتسما وهو يقول
( هيا اضحكي ..... كفاكِ كآبة , لم أركِ يوما الا و بكيتِ فيه ....... لا بد أن يمنحوكِ الجائزة الذهبية في النكد )
ابتسمت بشرود وهي تتشرب ملامحه التي أصبحت تحفظها عن ظهر قلب .... محتنضة الأكياس بين ذراعيها برقة
بعد فترةٍ طويلة .... كانت أثير تقضم من الحلوى في صمت و هي تطلع اليه بين لحظةٍ و أخرى ..... ثم وجدت نفسها تريد أن تحتل مساحة شروده ....
فقالت برقة و قد صار البكاء في فعلٍ ماض
( أنت أخٌ رائع ......... )
أفاق مالك من شروده وهو ينظر اليها ثم ابتسم و هو يقول بمرح
( شكرا ..... أتمنى أن يكون ذلك راي حور و حنين كذلك , الا أنهما ناكرتي الجميل في معظم الأوقات )
قالت أثير بدهشةٍ وهي تمضغ الحلوى
( هل لديكِ شقيقتين ؟؟ ............. )
قال مالك ببساطة ...
( بل لدي واحدة وهي حور متزوجة و لديها كائن صغير طريف اسمه معتز ..... أما حنين فهي ابنة عمي رحمه الله و قد تربت معنا في البيت )
فترت ابتسامة اثير و أصبحت في جمود الجليد وهي تقول ببرود
( لا بد أنها قريبة لك ........... )
اتسعت ابتسامة مالك وهو ينظر الى البحر الممتد أمامه قائلا بعفوية
( حوور .... إنها مجنونة و ذات قرون أحيانا و لها القدرة على إخراج العاقل من ملابسه ..... لكنها قطعة الحلوى لدى الجميع , فهي ضعيفة من الداخل و تحتاج الى رعاية باستمرار )
أصبحت ملامح أثير اكثر برودا وهي تحاول القول بعفوية
( وماذا عن ........... ابنة عمك ؟؟ ...... هل هي قطعة حلوى هي الأخرى ؟؟ )
ضحك مالك عاليا وهو يقول
( حنين ...... حنين تلك شخصية متفردة في نوعها , إنها تبدو كالمقبلات الحارة ..... وجودها في البت له مذاق خاص وهي أحد أهم أركانه ..... لكنها مجنونة هي الأخرى كذلك .... بطريقة مختلفة )
مطت أثير شفتيها وهي تبتسم ببرود و امتعاض ... ثم قالت
( حقا ؟؟ ........ تبدو لطيفة )
قال مالك مؤكدا
( نعم هي لطيفة جدا ....... )
نظرت أثير أمامها الى البحر وهي تطلع للشمس التي تستعد للهبوط تدريجيا ........ وهي تتسائل عما بها , ما تلك النار التي تدب في أعماقها كلما تخيلته مع واحدة أخرى ......
هل جُنت ؟؟ ...... فيما تفكر ؟؟ ...... إنها تلعب بالنار و تحاول التعلق بالنجوم الا أن نهايتها ستكون أنها ستقع على جذور عنقها ........
قالت أثير بلهجةٍ مرحة زائفة قبل أن تتمكن من منع نفسها
( امممممم ..... ومن غير حور و.... حنين , هل لديك صديقات أخريات ؟؟ )
ضحك مالك مرة أخرى و هو ينظر اليها بدهشةٍ من جرأتها .... فعضت على شفتها و احمر وجهها و هي تهمس متلعثمة
( كنت أمزح معك فقط ........... )
قال مالك برفق
( لا بأس أعلم ........ ليس لدي أي صديقات حاليا )
صمتت اثير قليلا و لم تجد القدرة على منع نفسها من السؤال همسا
( وهل ....... أحببت من قبل ؟؟ )
لم يجب مالك .... بل ظل جالسا و هو ينظر الى البحر المشتعل بلونٍ ذهبي , .... حينها انتفض قلب أثير لوعة لمنظر عينيه الشاردتين ... وقبل أن تعتذر للمرة الثانية كان مالك يقول ببساطة خافتة
( أحببت مرة ........... منذ سنين )
التوى قلبها ألما على لهجته الشاردة .... فهمست بصوتٍ مختنق
( و ماذا حدث ؟ .............. )
ابتسم مالك دون أن ينظر اليها و ظل ناظرا الى آخر امتداد البحر ..... و بقت اثير تنظر الى جانب وجهه تريد أن تربت على أحزانه و تريد أن تنتزع الذكرى من صدره ..... لكنها ناقضت نفسها و همست بخفوت
( هل كانت جميلة ؟ ........... )
لم يرد مالك لفترة و ظنت أنه سيتجاهلها ....الا أنها فوجئت به يُخرج محفظته من جيب بنطاله و يفتحها .....
نارا دبت في أعماقها و هي تفكر بأنه لازال يحمل صورتها في محفظته , الهذه الدرجة يعشقها و لا يقوى على فراقها ؟ ......
مد مالك يده بالمحفظة اليها مبتسما برفق ....
فظلت مسمرة عينيها على عينيه الحنونتين , تريد أن تصرخ به .... أنها لا تريد رؤيتها ...... لا تريد أن ترى الوجه المرافق أحلامه و حياته رغم الفراق .....
لكنها اضطرت الى ابعاد عينيها أخيرا لتنظر ببطء شديد الى المحفظة المفتوحة أمام وجهها ....
ولعدة لحظات لم تستوعب الصورة أمامها ..... تلك العينين الزرقاوين , و خصلاتِ الشعر الشقراء النحاسية .....الفم الأحمر المتورد و الوجنتين في جمالِ تفاحتين ...... بدت كالدمى الموضوعة في واجهات محلات لعب الأطفال
ظلت تنظر الى الصورة القديمة المتآكلة للطفلة أمامها لعدة لحظات .... الى أن أفلتت ضحكة مقترنة بتنهيدة ارتياح خرجت رغما عنها ...
ثم قالت من بين ِ ضحكتها السعيدة بمنتهى الغرابة
؛( يالهي .... لقد صدقتك لفترة طويلة .......... )
ثم نظرت اليه بعتابٍ رقيق زادها جمالا و رقة .... وهمست برفق
( امممممم ...... وماذا حدث لحبيبتك الصغيرة ؟ .... هل أعجبها طفلٌ آخر غيرك في نفس الصف ؟؟ )
ضحك مالك برفق هو الآخر ضحكة خافتة بعيونٍ فيها نظراتٍ حنونة أدفئت قلبها ..... ثم أغلق المحفظة و أعادها لجيبه وهو يعاود النظر للبحر ثم يقول بحزمٍ ناعم .....
( دعينا نعود اليكِ الآن ........ لقد انتهى الأمر و مر على خير , أعلم تماما أنكِ تشعرين بالإمتهان , وذلك ما حذرتك منه من قبل )
احمر وجه أثير بشدةٍ وعادت اليها في لحظةٍ واحدة ... مشاعر الذل و الهوان حين تحرش بها ذلك الحقير ....
قاطع مالك أفكارها وهو يقول بجدية
( أثير ...... أعلم أن ذلك سيكون قاسيا عليكِ الآن , لكن لابد و أن كوني قد أدركتِ مجازفة عملٍ كهذا ....... )
قالت أثير بمرارة وحزنٍ على النفس
( لا تقلق ...... لقد خسرت عملي على كلِ حالٍ من الأحوال ....... )
قال مالك برفق
( هذا أفضل لك ...... لقد خرجتِ بأقل الخسائر , المهم الا تخسري مجددا )
أغمضت أثير عينيها وهي تسمح لنسيم البحر أن يداعب وجهها و شعرها ليبعده قليلا ..... ثم همست بضعف
( أشعر بالمرارة على ما آل اليه حالي يا مالك ...... لم تكن تلك أثير التي حلمت بها قديما ..... اشعر .....اشعر بالوحدة .......اشعر بوحدةٍ تقتلني كل يوم ...... حتى أنني بت أكلم القطط أمام البيت و على نافذة غرفتي )
تألم مالك من لهجتها التي تنزف ألما و غُربة .....و قال بخفوت بعد فترة صمت طويلة
( ما رأيك أن أعرفك على صديقةٍ غالية عندي للغاية ؟................... )
نظرت اليه بحيرة ثم همست
( المزيد من الصديقات ؟ .............. )
ابتسم مالك و قال
( وهي في الواقع أروعهن .............. )

بأمر الحبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن