القصة التاسعة عشر

26 7 1
                                    

كان عبد الله أول مريض أُشرف على علاجه
وكانت غرفته في آخر الممر يساراً
دخلت الى الغرفة
متوقعاً ان يكون المريض
كتلة من الهيجان والغضب
دخلت ففوجئت
اذ رأيته يبكي ماداً ذراعيه
ويلامس الشباك ويرتجف
سألته : عبد الله ، يا عبد الله ما بكَ ؟
غير اتجاهه نحوي واردف قائلاً
ان العصفور الذي احاول رسمه
لم يجيء هذا اليوم
اخشى ان صياداً عرف ان زقزقته انتحارية
وقدم له رصاصة ذهبية مثل ريشه
اخشى ان العصفور
ظن ان فوهة البندقية عشه

فجأة ضُرب الشباك بقوة
وسقط عصفور أرضاً
كانا جناحاه ينزفان
ضرب عبد الله بكتفه جسدي
وخرج مسرعاً
كنت اراقبه من الشباك
خرج وحمل العصفور بيديه الهائجتين
واخذ يرفعه الى السماء ويرقص معه
رُحت اليه وهدأته
يبدو ان العصفور كان هارباً من شيء ما
رفض ان يعطيني اياه كي اداويه
فجلبت له بعض القطن والمطهر
كي يعالجه
أخذ بيديه الملطختين بالتراب كومة قطن
واخذ يمسح الجناح المبتل بالدم ويبكي
ويلتف الطير حول نفسه يلفظ بغرابة تغاريد كأنه لحناً وداعياً
لف جناحه الى ان هدأ العصفور ،
خرجت معه ليغسل يديه
قلت له :
_ منذ متى وانت هنا ؟
- ( ضحك ) قبل عامين ونصف
فتحت ملفه لأرى سبب ازمته
( صدمة بسبب تواجده بقرب احد الانفجارات  )
خرجت معه لأعرف أكثر
سألته
_ كيف كنت عندما كنت صغيراً ؟
تأمل السماء وابتسم ووجه نفسه لي
وقال :
- ولدت وكان ابي في الجيش
   مات بعد سنة من مولدي
   وكنتُ أنا امي واخي الكبير فقط
    كانت امي تخيط الملابس
   وأخي عامل بناء
     كان يلعق البطالة بأستمرار
   تاركاً شهادته تتأرجح بأطار مكسور
    كنت اركض كثيراً
الى ان توفيت أمي وانا بعمر الخامسه
     فتوقفت عن كوني طيراً 
     توقفت عن كوني حُراً
   توقفت عن كوني طفلاً
وبعد عدة سنوات قضيناها مع عمي
كنت احقق نتائج متوسطة في دراستي
وكان اخي يعطيني - سراً - بعض النقود
لاشتري بعض من حاجيات المدرسة
او ما يشتريه اقراني آنذاك

_ كيف عرفت الحُب ؟

بدأ بحك يد بيد واغمض عينه وتلعثم
غير طريقة جلوسه وقال :
عندما وصلت الى الاعدادية
طُلب منا ان نكتب عن احد الشعراء
فرحت الى المكتبة
ورأيت رواية حب اعجبني غلافها
فأخذتها بما لدي من نقود ونسيت واجب المدرسة ( يضحك )
عرفته من الروايات يا سيدي
من تلك المغلفات
من صراخ جارتنا حين يقول لها زوجها الطائش احبكِ وهو سكران
فترد عليه : أتحبني وتحتاج الخمر ؟
فيقول لها : بلا انتشاء وخمر اراكِ واحدة
عندما اكون سكراناً اراكِ الف مرة
والف سيدة وهكذا استطيع ان اسقط على اي ارض فتلمني يديكِ
انت بعيدة وقريبة حينما اكون مخموراً
فتحمله الى سريره وتبكي
عرفته من جارتنا زوجة الشهيد
وهي تزوره كل جمعة حاملة معها
اعواد بخور وباقة زهور
كانها ذاهبة لموعد غرامي
عرفته من حارتنا الضيقة
وهي تلملم ظفائر فتياتها

سألته وكيف أحببت انتَ ؟
- رأيتها ( يضحك بصوت عال )
رأيتها في طريق المكتبة ورحت ورائها
تاركاً رواياتي وموعد غداء مع أخي
الى ان وصلت هي الى بيتها
تلفتت فوجدتني استرق النظر الى خطواتها
تركت لي زهرة صفراء على الباب ودخلت ،
كانت اطول من رفوف الكتب
واكثر رقة من زهرتها

كنت يومياً انتظر هناك الى ان تأتي
وتعطيني زهرة صفراء
- حولتني بستاناً -
وكنت اهديها بعض الكتب
بما يعطيني اياه اخي
كانت فقط تسالني عن حالي
وعن رايي في زهورها
كنت اود ان اقول لها باني احبها
لكني كنت اصمت باستمرار
بانتظار ان تقولها هي
في احد الأيام ( اخذته نوبة سعال )
بينما كنت منتظراً لها في الرواق
سمعت صوت قوي
هز اركان الحي كاملاً
وصوت اقدام متجهة نحو وسط الحي
فرحت اركض الى هناك
فوجدت الرماد والسواد منتشراً
والشضايا تجتاح الاجساد
فاذا بي أجد أخي مرميا خلف احدى السيارات المشتعلة
وخلفه بعدة جثث
من كنت اسميها حبيبتي
خسرت كلاهما بحادث واحد
ومنذ ذلك الوقت
الوم الارض باستمرار والوم نفسي
الى يومنا هذا
انتظر زهورها الصفراء
انتظر قصيدة منها
انتظر ظفائرها المغتالة
وانتظر اخي ان يعود من عمله
يا صديقي لم اعثر على نفسي
الا وانا اصرخ واضرب نفسي
فجلبوني الى هنا كي استراح
بعيداً عن انظار اللوم واللؤم
يا صديقي
هذا مكان المتنعمين باللاعقلانية
المخلوقين عنوةً
هنا
كل الذين تمنوا نسياناً لاسمائهم
وهم نفسهم كانوا يكتبونها مراراً وتكراراً
هنا كل الطرق موضحة ومحفوظة
من هنا مكان الملابس
ومن هنا الردهات
ومن هناك حديقة
ومن هناك بوابة
يحذرنا الجميع من التقرب اليها
حيث الجحيم الخارجي
حيث البلد شضية تسكننا
رواياتي كاذبة
وزهوري ذبلة
واخي مرمي
وعصفوري مصاب .

- سجاد حسين

...Where stories live. Discover now