البارت الثلاثون

Start from the beginning
                                    

تلاشت أنفاسه حتى كاد أن يختنق بريقه، وكل كلمه..  كل جمله... وكل سطر تفوهت به بصوتها المجروح كان يخترقه في الصميم بعمق ألمها، فيرجمه قلبه لومًا وعتابًا على كل دمعه ذرفتها حدقتيها، وكل آه تأوه بها قلبها بعشقه،
وأردف بصوت يضج بالحب بين حروفه، ينكر ما تشدقت به قائلًا بلسان ينطق ما تبوح به نظراته :-
  - مش صحيح صدقيني مش صحيح، كل الكلام اللي سمعتيه غلط، انا ما تظلمتش بجوازي منك، بالعكس انا اللي ظلمتك وكنت غبي لما معرفتش قيمتك من اول لحظه، وترجمت احساس قلبي ليكِ غلط، صدقيني أنا بحبك، اكتشفت اني بحبك ومقدرش اعيش من غيرك...

كانت كلماته صادقه، دافئة، نابعه من شغاف قلبه المدرك لعشقها متأخرًا، لكنها لم ترى عيناه الغائمة به، فلم تصدق ايًا من كلماته التي اعتبرتها مواساة كاذبة، ونغزها قلبها صراخًا، فنشجت بقوة وهي تشهق بهمسها المختنق قائلة:-
- كذب كله كذب، أنا شفتك بعيني معاها، كنت مبسوط وعينيك كانت بتلمع، وانت بتكلمها وايديها بأيديك، أنا شفتكم بعيني وهي بتبوسك وأنت ما منعتش دا، معها كنت غير، أنا مهما حاولت اسعدك ما قدرتش ولا مره شفت بعينيك النظرة دي ليا...
تصر على نحر قلبه بكلماتها التي تحيي ضميره الذي يرجمه بقسوة لما بدر منه اتجاهها من طعناته المتتالية لقلبها بمرات جفاءه معها، لكن ليس تلك المرة فهي تظلمه، فلا تدرك ان لمعة عيناه كانت لأدراكه المتأخر بعشقه لها هي واستحواذها على مشاعره المطمورة، واستسلامه اللحظي لها كان رغبه منصرمه بداخله ليحصل على تأكيدًا له بزوال مشاعره نحوها، والتي اتضحت له من نيل شيئًا بعيد لطالما كان مرغوبًا، فما ان حصل عليه، حتى أدرك أنه كان وهمًا لا يستحق، فيدرك قيمة ما يملك وما يكنه له، ولكن صحيحه هي الاقوال "أننا لا ندرك قيمة الاشياء إلا بخسارتها"، لكنه لن يخسر في تلك المعركة، وسينتصر مؤكدًا لها عشقه، فهمس متوسلًا لها أن تفرج الباب له ليتمكن من الحديث معاها وجهًا لوجه، لعلها ترى صدق اقواله في عينيه، إلا انها أبت تطالبه بالذهاب وتركها وحدها فهي بحاجه لها،....

بينما هو تعنت رافضًا تركها، يصر على الولوج لها، لا يستطيع تركها مع عبراتها واوجاع قلبها، ليمنع سيل توسلاته لها رؤيته ل" أدم" الذي خرج من غرفة ما قريبه لهما، يلتقط من الخادمة الحليب والشطائر الذي طلبها منها  فأحجبته عن متابعة استرضاءها، حتى لا يدري بما يصير بينهما، خوفًا من تنفيذه لوعيده له، بأن يتصدى هو له أن لمح دمعه من عينيها، مدركًا ضعف حيلته حيناها، لذا تحرك مبتعدًا متظاهرًا أن ما من شيء يحدث هنا، لتخترق خطوات ابتعاده مسمع تلك الجالسة، التي انزوى ثغرها ببسمة وجع  دامت للحظات قبل ان تنهض  بألم من على الأرضية حيث فراشها، ترتمي بجسدها عليه وقد خفتت شهقاتها، وظلت تذرف الدموع في صمتًا مؤلم، ولرغبتها بالهرب من واقعها القاسي اغمضت عينيها تغور أنفاسها للموت بالحياة وروحها تنضح وجعًا،  تستدعي النعاس ليكون فارس مغوار ينتشلها من بؤرة احزانها وياللعجب أتاها ولبى نداءها، فلم تشعر بالذي ترك الباب وسلك طريقًا اخر لها عبر شرفة غرفتها فأقتحمها، ليجدها على الفراش ممدده، اقترب أكثر ليهوله رؤية شحوب وجهها وبقايا الدمع العالق بأهدابها، فتمدد على الفراش بجانبها وذراعيه تعمل على ضمها أليه، وهو يهمس لها بكلمات محبه تعبر عن اسفه لها ...
***
ما أن غادر ظافر الغرفة حتى اندفعت سناء بشيطانه نحو  نيرة بأعين موقدة بلهيب الغضب، ثم رفعت كفها وهوت به على وجنتيها وهي تهدر بها صارخه والحقد عليها يتوحش بأعماقها:-
  - أنتِ ايه عايز تضيعي كل خططي وسنين عمري،  مش كفايه مصيبتك  عليا،  عشان كمان تخربي على اخوكي ومراته،  قسمًا بالله يا نيره ما هرحمك ولا هسمح لك تدميري كل اللي خططت له واستحملت عشان اوصل له..
ثم تركتها وغادرت الغرفة..
ارتجفت شفتيها وسلطت انظارها عليها وقد رفعت اناملها بصدمه على وجنتيها التي استحالت للحمرة نتيجة صفعتها القاسية والمفاجئة لها،  ليتصنم جسدها للحظات،  وادراك صاعق اكتتف حدقتيها،  مما جعلهما يدمعان بغزارة تألمًا لما تناله من قسوة منها هي والدتها من يجدر بها ان تكون احن الناس عليها، فغامت عيناها بالأسى وهي تتحرك صوب فراشها، تلقي بذاتها عليه بقهر، وصورة واحده تتجلى أمامها كلما عانت من الم، يخبرها انها تستحق كل ما تناله من آسى، وانها تحصد نتائج ماضيها الأثم ...
**
عاد ادم ألى الغرفة بعدما اخذ ما جلبته له الخادمة،  ووضعه على الكمود المقابل للفراش، ثم هتف قائلًا:-
  - يلا كلي واشربي اللبن عشان ليكِ دوا لازم تخديه دلوقت يا جود..
قوست شفتيها بضيق وهي تهمس له قائلة:-
  - بس أنا مش جعانه خالص، أنا شرب اللبن بس...
  تنهد بنفاذ صبر،  وهو يرفع انامله  يمسد بها جبينه،  فهو يشعر بالارهاق،  ولا طاقه له وصبر على دلعها هذا،  وكاد أن  يصرخ بها،  إلا  أنه  تحكم بذاته واردف بنبرة جاده لتكون لينه،  لكن دونًا عنه كانت بها بعد الشدة والحزم قائلًا:-
  - جود أنا قولت كلي واشربي اللي قدامك عشان تخدي علاجك وترتاحي وأنا كمان ارتاح..
   نبرة صوته ارعبتها،  خاصةٍ وهي هنا وحدها معه،  تخشاه وتخشى غضبه منها،  فلا تدرك بما قد يعاقبها اذا اغضبته،  لذا أمأت له بوجل وجذبت الشطيرة وقضمت منها بسرعه قضمه ملئت فاها وسارعت بمضغها وقضمت أخرى حتى كادت ان تختنق، فسارعت بأخذ رشفة من الحليب  ..
رفت بسمه على شفتيه محبرًا وهو يطالعها،  فشرد بتلك الفتاه التي على قدر ما تغضبه بشدة، إلا أنها تجبره على الابتسامة لاحقًا، ويجد قلبه يحنو عليها كأنها طفلة صغير تخشى الغضب منها،  وتلك الطفولة تزعجه بشدة حينما يتذكر حملها بطفلًا،  طفله هو، طفل يحتاج ألى الاهتمام والرعاية من قبل امًا ناضجه وليست طفله لم تتجاوز التاسعة عشر من عمرها، لكن ما عليه إلا أن يرضى ما ساقه القدر اليه، فهي تحمل طفله وباتت مسئوليته وعليه ترويضها وأجبارها على التخلي عن تلك الطفولة وتتعلم كيف تكون امًا لطفله...
يبدو أنه شرد طويلًا بها وبمستقبل سوف يجمعهما معًا حتى تلد طفله ولم ينتبه لانتهائها، حتى فاق على همسها له:-
_ أنا خلصت الأكل كله وكمان شربت اللبن، ممكن اخد الدوا..
اماء لها منتبهًا،  وهو يجذب دواءها الذي سبق ووضعه  على الكمود بجانبها سابقًا،  واخرج حبه واعطاها لها، لتتلقفها منه حتى  سكب لها كوب من الماء وناولها إياها،  فتناولت الحبه منه واعطته الماء شاكره... 
فأماء لها بصمت ووضعهما بحانبها، وتحرك مغادرًا الغرفة،  شاعرًا بالإرهاق وراغبًا بالنوم مطمئن بعد ليالي طويلة من السهاد اعتراه فيه القلق على صغيره، وبما أنه عثر عليه وطمئن قلبه،  فهو بحاجه ماسه ألى النوم،  إلا انه استمع لصوتها وهو ما يكاد يتخطى باب الغرفة وهي تهتف متسائلة وهي تقطب حاجبيها
  - هو انت رايح فين!..
  تشدق قائلًا:-
  - هروح أنام يا جود،  يلا تصبحي على خير..
   وأوشك على اغلاق أنارت الغرفة والخروج إلا انها تعنتت قائلة:-
  - لا لو سمحت بلاش تطفي النور،  انا بخاف من الظلمة..
  استحالت ملامحه الى الصدمة التي تبدلت الى التجهم مرددًا بعدم استيعاب:-
  -  بتخافي من ايه!،  
  تلعثمت قائلة:-
  - بخاف من الظلمة
صك أدم على نواجذه محاولًا التحكم بذاته ولجم غضبه عنها، وهو يشعر بطاقة تحمله لها تكاد تنفذ، دلالها هذا يشعره بالنفور،  يتسأل كيف تحملها زوجها قبله وكيف تعامل مع هذا الدلال المفرط  وألى متي عليه هو أن  يتحملها،  بل كيف سيفعل!، لا لن يتهاون معها،  فعليه البدء بترويضها منذ الأن  وجعلها تدرك أنها  انثى ناضجه وليست طفلة بالروضة لتخشى الظلام،  إلا  انها اردفت بكلمات طمست ما كان يجول بعقله من قرارات ينتوي عليها الأن، حينما ارتسم الحزن على محياها ورمقته بنظرة مكسورة، ملبدة بدموع تأبى الظهور للعلن حينما استطردت بذات النبرة المتلعثمة وقد طفأ الحزن  بكثافه اكبر على وجهها:-
-وكمان انا حاسة بالخوف، ولما بخاف دايمًا كان بابا الله يرحمه جانبي هو او الدادة لحد ما أنام ...
  نظراتها ألمته ونبرتها المنكسرة اخترقت قلبه وليست مسامعه، فحركت مشاعره وأشعرته بالشفقة على حالها،  صغيره وحيدة ومطارده تحتاج للأمان وتطالبه به، فكيف له ان يمنعه عنها، فوجد ذاته يتراجع عن المغادرة، محمحمًا،  مانحًا اياها تنهيدة نافذة للصبر محافظًا به على هيبته، وأنه لم يتأثر بها ولن يتأثر في المستقبل أذا حاولت استمالته وهتف قائلًا:-
  - المرة دي بس هفضل هنا جانبك على ما تنامي، بس لأنها اول مره ليكِ هنا في القصر وكمان عشان كل اللي مريتي بيه، لكن بعدها مش هتتكرر تاني مفهوم..
ترققت ملامحها، وتلاشى العبوس من علي سيمائها،  واهدته بسمه تقطر حلاوة وهي تومئ له برأسها وهي تتمدد على فراشها وتدثر... 
انزوى تغره ببسمه سرعان ما تلاشت وهو يجلس مقابلها على الأريكة المقابلة بصمت دام لدقائق طوال ازعجها،  جعلها تتململ بضيق وأعادت الجلوس تناظره قائلة:-
  - مش عارفه انام،  مش متعودة على الصمت دا قبل النوم..
  برم فاهه وارتسمت
بسمه ساخرة على شفتها وهو يتهكم بداخله أنه قد ينقصه الأن ان تطالبه بقرأة إحدى القصص لها،  إلا انها تابعت حديثه وقد غامت عينيها  بلحن شجي وحنين للحظات اندثرت وباتت ذكريات محفورة بداخلها،  تشعر بالشوق لعودتها والتكرار:-
  - بابا كان دايمًا بيقرأ لي قبل النوم ، وبعديه آسر كمان كان بيحب يقرأ ليا دايمًا بصوته، واوقات كتير كان بيحب اقرأ له انا، بس انا كنت بطلب  منه يقرأ هو لأني تعودت أنام على صوته، وحتى لما جيت هنا وهو فضل هناك كان بيفتح اتصال مرئي كل يوم قبل النوم ويفضل يقرأ الكتاب لحد ما ننام .. 
  نغزه قلبه لما يستمع إليه من ألفه وحياة هادئة تمنى عيشها مع زوجته، فكم تمنى لو تشاركا معًا بقراءة أحد الكتُب وتناقشا فيها ليلًا،  او الاستماع للحنًا ما معًا،  فقط لو يجد شيئًا مشترك يجمعهما، لا يجعلهما متنافران هكذا،  لكنها لم تعطيه فرصه واحده لأصلاح ذاك الرأب بينهما ومحاولة اصلاح زواجهما،  دائما هي  جفاء القلب منعزلة عنه وعن من حولها،  لا تبيح لأحد عما بأعماقها..
حرك رأسها طاردًا اشباح افكاره،  منتبهًا لتلك التي تحادثه،  محاولًا خوض حديث معها سألًا اياها باهتمام:-
- الظاهر إنك بتحبي القراءة جدًا..
اجابته بعينين وامضه:-
-جدًا جدًا،  القراءة والموسيقى والزراعة..
رفرف قلبه سعادة لأيجاد احدًا يشاركه بهوايته، قائلًا:-
_بتحبي تسمعي أي نوع من الموسيقى
اجابته ببسمه قائلة:-
  - الالحان الرومانسية الهادية زي بيتهوفن ومقطوعة (الحركة الاولى)
  - باخ ومقطوعة(رائعة باخ، ولأجل ليا)، تشايكوفسكي.. كسارة البندق وكتير غيرهم...
تلك الصغيرة  هادئة حتى في اختياراتها،  وأثارت حقًا اهتمامه،  فنادرًا ان تجد بمثل عمرها يفضل مثل تلك المعزوفات القديمة، لذا أردف قائلًا بنبره متعجبة:-
  - اختياراتك مش مناسبه لجيلك...
  اجابته ببسمه قائلة:-
  -عارفه دا بس بابا كان بيحبهم جدًا وبيحب يسمعهم على طوال وأنا تعودت على سماعهم حتى اني غصبت آسر يسمعهم رغم عدم ميله للنوع دا من الموسيقى...

"حدث بالخطأ "سلسلة "حينما يتمرد القدر"  بقلم دينا العدويWhere stories live. Discover now