بعيداً عن الأرض✔️

By Judy_abbott_

43.4K 2.4K 915

‎التفت يراقب الشمس و هي تغيب بعيداً بين الأفق بينما كان الهدوء الذي حل في الأرجاء لا يشوبه إلا صوت صراخها و ب... More

بعيداً عن الأرض
||الفصل الأول||
||الفصل الثاني||
||الفصل الثالث||
||الفصل الرابع||
||الفصل الخامس||
|| الفصل السادس ||
||الفصل السابع||
||الفصل الثامن||
||الفصل التاسع||
||الفصل العاشر||
||الفصل الحادي عشر||
||الفصل الثاني عشر||
||الفصل الثالث عشر||
||الفصل الرابع عشر||
||الفصل الخامس عشر||
||الفصل السادس عشر||
||الفصل السابع عشر||
||الفصل الثامن عشر||
||الفصل التاسع عشر||
||الفصل العشرون||
||الفصل الواحد و العشرون||
||الفصل الثاني و العشرون||
||الفصل الثالث و العشرون||
||الفصل الرابع و العشرون||
||الفصل الخامس و العشرون||
||الفصل السابع و العشرون||
||الفصل الثامن و العشرون و الأخير||

||الفصل السادس و العشرون||

549 42 5
By Judy_abbott_

لقد مرت ثلاثة أيام عصيبة بعد وفاة فيوليت. كان الهدوء الذي حل على القصر لا يشبه أي هدوء قبله، حتى حجارة القصر بدت باهتة وحزينة بسبب تلك الحادثة الأليمة. لم يكن لسلطة فيكتوريا وجودٌ حتى، فلقد بدأت بتجهيز مراكب المغادرة بهدوء تام بعيدًا عن القصر. لم تبد فيكتوريا للجميع وكأنها غير مهتمة، فقد شعر البعض بالوجوم الذي أصابها وبهدوء جبروتها بعد سماعها الخبر، ولكن رغم كل هذا كان العالم حولهم خارج القصر مزدحمًا بالتحضيرات للمغادرة. كانت الجيوش المؤلفة من مئات الرجال تستعد للرحيل برحالها وأسلحتها، إنها دلائل الحرب، حرب جديدة أثارت الرعب في نفوس مواطني كوكب جليزا الذين بدأوا يحزمون أمتعتهم تبعًا لأوامر فيكتوريا ووعودها بتوفير حياة هادئة أفضل، وكما استمر أملهم بها سنوات طويلة باتوا الآن أيضًا يحلمون أن توفر لهم السلام والاستقرار الدائم.

تجمع كل من ليوناردو، ألبرت، وليم، إرورا، توماس في إحدى مجالس القصر. باتوا يجتمعون كثيرًا في الآونة الأخيرة دون أن يتحدثوا جمعيًا معًا أبدًا، ولكنهم كانوا نوعًا ما يتشاركون الحزن نفسه ورغبتهم بالابتعاد عن فيكتوريا تمامًا. الوحيد الذي كان باستطاعة فيكتوريا المطالبة به هو توماس كونه ينتمي إلى حراسها، ولكنها لم تجرؤعلى المطالبة به حتى لا تزيد من المشاكل بينها وبين ابنتها خاصةً أنها لاحظت التصاقه بإرورا. كان ألبرت أكثر شخص يرفض بقاءه على هذا الحال خاصةً أن لديه القوة والسلطة الكافيين لأن يلعب جزءًا مهمًّا في الصراع القادم، لكن حالة ليوناردو ورغبته بالبقاء إلى جانبه كانت أقوى رغم استيائه من اندماجه مع تلك الحالة البائسة. كانت حالة ليوناردو مزريةً حقًّا، يقضي معظم وقته يحدق بالفراغ دون أن يتكلم أو يأكل شيئًا، كان ألبرت يضطر إلى إجباره على الأكل. لم تكن حالته تنمّ على أنه واعٍ لما يحدث حوله وهذا ما لم يرده ألبرت أبدًا، اعتقد دومًا أن ليوناردو سيبقى صامدًا وقويًّا لا يهزمه ضعفه أو حزنه. لم يرغب أن يرى فيه ضعفه في شبابه، أراده أن يبقى كما عهده دومًا.

كان وليم الشاب الأصغر في العمر يحاول أن يساعد والدته على تجاوز ألمها وإخراجها من غرفتها المظلمة التي حبست نفسها بها، لم يكن هو نفسه متأثرًا بدرجة كبيرة بوفاة شقيقته؛ فهو لم يعرفها إلا في ساعاتها الأخيرة وقد تمنى حقًّا لو أنه لم يعرفها. قال لألبرت مرةً عندما كانا يتناقشان عن الحزن الشديد الذي حل على والدته أنه لم يرغب أبدًا أن تظهر شقيقتاه الآن، خاصةً بعد أن تأقلمت والدته جزئيًا على وفاتهما فلم يكن هذا سهلًا أبدًا.

إرورا كانت في حالة صدمة وحزن أيضًا، فلا تعرف حقًّا لماذا ترك موت فيوليت أثرًا عميقًا جدًّا داخلها وكأنها فقدت جزءًا لا يتجزأ من نفسها. كانت تشعر بأن خسارتها كبيرة جدًا، بأنها فقدت شيئًا مهمًا جدًّا في حياتها وهذا ما جعلها مكتئبة طوال الأيام الماضية. كان توماس يراها في تلك الحالة أول مرة، كأن حزنًا عميقًا أصابها مع وفاة شقيقتها التوأم. لم يكن يتخيل يومًا أن تكون إرورا تنحدر من العائلة الملكية في كوكب جليزا، كان هذا أشبه بحلم ولكن لم تستطع إرورا أن تحصل على السعادة على أي حال. أكثر ما كان من صالح توماس فيما حصل هو أن إرورا لم تجد الفرصة لتعاتبه، بل باتت تتعامل معه كأن شيئًا لم يكن.

لقاء إرورا بليوناردو بعد مرور تلك الفترة الطويلة قد صدمها كثيرًا، فلم تكن تتوقع أنها ستلتقي به في مثل هذه الظروف كما أنها لم تكن تعرف سبب حزنه الشديد على وفاة فيوليت، أتراه يعرفها؟ ولكنها كانت في كوكب الأرض حسبما فهمت، وقد أخبرها توماس أنه هو من عرف أنها هي وفيوليت ابنتا جنيفر ابنة الملكة فيكتوريا وهو من ساعده على تخطيط إنقاذها من بين يدي فيكتوريا، ما الذي جعله يفعل كل هذا؟

كان ألبرت يجلس إلى جانب ليوناردو في إحدى زوايا المجلس الكبير وقد أمسك ألبرت سيجارته وهم بالتدخين، فقد بات يدخن كثيرًا في الأيام السابقة. طالعه ليوناردو وهو ينفث دخان السيجارة ثم مد يده نحو علبة السجائر فالتقطها ليخرج منها سيجارة وقد هم باستخدام القداحة لإشعالها، لكن ألبرت سحبها من بين شفتيها بسرعة ليقول بامتعاض شديد وبلهجة حادة:

«ما الذي تفعله؟ أتضع هذا السم بين شفتيك؟»

نظر ليوناردو نحوه ساخرًا بنظرات ازدراء أول مرة يراها في عينيه منذ أن قابله وأجابه:

«وأنت، ماذا تفعل؟ ثم ألست أنت من قدمت لي هذا السم عندما قابلتني؟»

تغيرت ملامح ألبرت إلى أخرى هادئة وحزينة ثم قال:

«لا أريدك أن تكون مثلي أو أن تصبح مثلي، لا أريدك أن تكون ذلك الشخص الذي كسرته الأحزان فبدأ يسمح لها أن تفتك بروحه وجسده. أنت لست مثلي ولا أريدك أن تكون مثلي ضعيفًا أمام آلامك، لقد كنت أقدمها لك لأنني كنت واثقًا بك وبقوتك، كنت الشخص الذي تمنيت أن أكونه». صمت قليلًا ثم أتبع وهو يضغط على السيجارة ليطفئها داخل الصحن الزجاجي: «عندما ماتت شقيقتي وعائلتها فعلت مثلما تفعل الآن، دفنت نفسي داخل الأحزان والآلام سنوات طويلة. استمررت بتعذيب نفسي ولومها على ما لا تطيق وما لا ذنب لها به أبدًا، ولكنني في النهاية انتقمت من نفسي أكثر مما انتقمت من أي شخص في هذه الحياة، وأنا نادم الآن لأنني حملت نفسي ما لم تطِقه دون فائدة، لم يكن ما فعلته ليعيد أي شيء خسرته، هل تريد أن تكون مثلي؟»

ولكن ليوناردو تجاهل كل ما قاله وعاد ليمد يده نحو علبة السجائر، فأمسك ألبرت يده وأحكم القبضة حولها من فوره، ثم نظر نحو عينيه مباشرةً ليعيد سؤاله الأخير من جديد. بقي ليوناردو متجمدًا ولم يأتِ بأي حركة واستمر بتجاهل ما يقوله والإعراض عن الإجابة.

استمر ألبرت بالتحديق به ثم أمسكه من كتفيه وبدأ يهزه بجنون وهو يصيح بعصبية:

«استيقظ من غفلتك، لا تكن مثلي، لا أريد رؤية نسخة أخرى مني! خاصة أنت!»

خرج ليوناردو عن صمته ليبعد كلتا يدي ألبرت عنه بانزعاج ثم قال بحدة شديدة:

«لا شأن لك، لا شأن لأحد، أنا من أقرر كيف سأصبح وليس أنت». ابتسم بجنون وهو يقول:

- نحن جميعنا جبناء، نجلس هنا نندب جبننا وضعفنا.

- لم أتصور أن تكون بهذا الضعف، أين هي إرادتك التي كافحت من أجلها كل شيء للوصول إلى والدتك؟ ثم لماذا استغنيت عنها عندما أوشكت على استعادتها؟ هل أنت راضٍ عن نفسك الآن وأنت تجالس حزنك دون أن تحرك ساكنًا؟

كان هذا آخر ما استطاع ألبرت قوله لليوناردو وقد احتفظ به للرمق الأخير بعد أن أصبحت حالة ليوناردو ميؤوسًا منها. ما كان من ليوناردو سوى أن رمق ألبرت بحدة قبل أن يغادر المجلس.

********************

كان اليوم هو يوم مغادرة المراكب راحلةً بعيدًا عن أراضي كوكب جليزا، ربما إلى الأبد. نظمت فيكتوريا وجود بعض مجموعات الحرس للبقاء مع سكان كوكب جليزا حتى يحصلوا على إشارة منها بالحضور إلى كوكب الأرض بعد الاستيلاء عليها تمامًا، فلن يكون من صالحها وجودهم قبل حصولها على كامل السيطرة. لم تكن فيكتوريا تتواجد في القصر أبدًا، فيبدو أنها اختارت أن تقضي أيامها المتبقية في سكنها الصغير الذي يبعد قليلًا عن القصر، لم تكن ترغب أن تحتك بأي أحد من الموجودين بالقصر حتى تصل إلى رغباتها. طرأت بعض التغييرات على جنيفر حيث استطاع وليم إخراجها من غرفتها التي حبست نفسها بها لأيام، وقد نشأت علاقة سطحية بدائية بينها وبين إرورا التي أرادت هي الأخرى أن تجد من ينتشلها من حزنها، ولم تظن أن والدتها ستفعل كونها هي من تحتاج إلى العون، لهذا يبقى وليم هو الوساطة الذي يحاول موازنة الأمور وجعل كلتيهما يساعدان بعضهما بعضًا على الخروج من ظلال الحزن والكآبة. كان وحده ليوناردو العاجز تمامًا عن إخراج نفسه من هذه الحالة الصعبة والتي تجعله غير قادر على مواجهة الحياة في كل يوم تطلع شمس نهاره عليه، لم يستطع أن يبقي علاقته بألبرت متزحزحة رغم أن ألبرت هو من بادر حقًّا بتوطيد العلاقة بينهما من جديد، وهذا ما جعل مكانته تكبر حقًّا لدى ليوناردو. كان يشعر أنه الأب الذي لم يقابله في حياته والذي يسعى إلى احتواء ابنه ومساعدته ومنحه من الحنان ما يستطيع.

اجتمعوا جميعًا على طاولة الطعام أول مرة بعد أن رحلت فيكتوريا مع مراكبها وكأنهم يتشاركون مشاعر الإحباط واليأس نفسها. كانت تعابير وجوههم وكأنها مستنسخة، يجلسون مطأطئي الرؤوس دون أن ينطقوا بشيء، يحدقون بأطباقهم دون أن يستطيعوا تناول أي شيء منها.

«وماذا الآن؟». قال ألبرت بضجر قاطعًا الصمت القاتل بينهم.

رمقوه جميعًا ثم عادوا إلى وضعيتهم السابقة عدا توماس ووليم، هما فقط من بقيا ينتظران منه الاستمرار بالحديث دون أن يخاطروا بمقاطعته عبر قول أي شيء. كان كلاهما بحاجةً ماسة للخروج من هذه الحالة التي يعيشون بها.

«يعرف جميعكم تمامًا إلى أين ذهبت فيكتوريا الآن وماذا ذهبت لتفعل.»

عادت إرورا ترمق ألبرت من جديد ثم قالت وهي تنظر نحوه باستنكار:

«نعم، وما المهم في الأمر؟»

ابتسم ألبرت ثم أجابها:

«كنت أظنك أذكى من ذلك، فشقيقتك كانت ذكية بإدراكها ما يحصل حولها.»

هزها ذكره شقيقتها، ولكنه تعمد هذا على أي حال فأحيانًا الصدمات توقظنا من غفوتنا حتى لو كانت قاسية، لكن هذا لم يمنعها من رمقه بانزعاج واستخفاف لتقول:

- وماذا تعرف أنت عن شقيقتي؟ ومن أنت أساسًا حتى تتكلم بهذه الثقة؟

- أعرفها أكثر مما تعرفينها، أعرفها منذ أن حطت المركبة الفضائية التي حملتها على كوكب الأرض. أنا من أنقذها من الموت عندما كانت طفلة رضيعة في مركبة مدمرة على وشك الهلاك مع امرأة مقتولة.

ظلت إرورا تحدق به دون أن تجيب، ولكن جنيفر هي من تفاعلت مع ما يقوله عندها سألت بشيء من الألم والحسرة:

- متى وصلت إلى كوكب الأرض؟ من هي تلك المرأة التي كانت معها؟

- وصلت منذ تسعة عشر عامًا تقريبًا، كانت تبدو حديثة الولادة ولا أدري حقًّا من المرأة التي كانت معها، فلقد وجدت مقتولة ولم تُعرف هويتها.

أجابها ألبرت محاولًا الاختصار قدر الإمكان، فلم يكن لديه الصبر الكافي لاستذكار أحداث ذلك اليوم المقيت.

«ألا يبدو الأمر غريبًا؟ إن كانت فيوليت قد وصلت إلى كوكب الأرض وهي حديثة الولادة فهذا يعني أن إرورا وصلت في الفترة نفسها إلى كوكب كيبلر، ولكن كيف حدث هذا؟ ومع من وصلت؟». قال توماس فبدأت إرورا تحدق به دون أن تفهم تمامًا ما مقصده من تحليلاته تلك، وما طبيعة علاقة وصول فيوليت إلى كوكب الأرض بها، هي ما زالت تعتقد بأنها تنتمي إلى كوكب كيبلر لا غيره، ما زال عقلها غير قادر على الاستيعاب.

بقي الجميع صامتًا ليتابع توماس بعد أن صمت لبرهة يحاول استجماع ما في ذاكرته:

«منذ تسعة عشر عامًا مرت أيام عصيبة كما كنا نسميها، كنت أبلغ السابعة من عمري حينئذ وأذكر تمامًا الفوضى التي عمت بين الناس والكلام الكثير الذي تناقلوه. حدثت عدة أمور غريبة جعلت من تلك الفترة أسطورية يتحدث عنها سكان كوكب كيبلر إلى يومنا هذا. لقد حطت مركبة فضائية على كوكبنا ووصلت شبه مدمرة عندئذ، وجدوا على متنها رجلًا وطفلة سُلِّما فورًا إلى جوزيف حاكم كوكب جليزا. وفي الفترة ذاتها أيضًا.»

صمت توماس قليلًا وكأنه كان مترددًا يفكر في كيفية صياغة بقية الأحداث، وقبل أن يتابع قالت جنيفر وهي تحدق نحوه:

«ماذا بعد؟»

كانت عينا إرورا وألبرت تكشف أيضًا عن مدى رغبتهما بسماع ما تبقى من القصة، فأتبع وهو يرمق ليوناردو الصامت والذي بدا كأنه لا ينصت لأحاديثهم:

«لقد شب شجار عنيف بين زوجين عندما اعترفت الزوجة بحقيقة عدم أبوة زوجها لطفله.»

لم يكن باستطاعة توماس المتابعة عندما التقى عينَي ليوناردو المتوهجتين اللتين حدقتا به بحدة. كان يشعر كأن ليوناردو على وشك افتراسه والنيل منه.

كان ما قاله توماس ونظرات ليوناردو كافيان جدًّا ليستوعب كل من إرورا وألبرت الموضوع، وحدها جنيفر كانت ترغب بسماع المزيد دون أن تفهم سبب توتر توماس وتوقفه عن الكلام. كان ألبرت يعرف كم أن الأمر حساس بالنسبة لليوناردو وكم يمسه ذلك، كانت أول مرة يرى رد فعله الحقيقي تجاه الأمر، وهذا يعني حتمًا أن ما داخله لم يمت بعد وأنه ما زال يحيا بين ظلمات ماضيه وشعلة آماله الكبيرة، لم ينته كل شيء بعد بالنسبة له.

وضع ألبرت راحة يده على كف ليوناردو محاولًا تهدئته ثم نظر نحو توماس وقال:

- تابع.

- اختفت عندئذ المرأة في سجون جوزيف وقُتل ذلك الرجل الذي وصل عبر المركبة الفضائية وقيل أنه هو ذاته زوج المرأة السابق، ولكن لم تكن تلك الأخبار موثوقة تمامًا؛ فقد تناقلها الحراس ثم تناقلها السكان فيما بينهم.

أحس ليوناردو كأن قلبه قد سقط من مكانه، لم يكن ليصدق ما سمعه فبقي يحدق بتوماس دون أن يجيب. كان وحده ألبرت يفهم ما يدور في رأس ليوناردو لكنه قال متجاهلًا كل ما سبق:

«تعني أن الطفلة التي كانت مع الرجل هي ليست إرورا نفسها؟»

صمت توماس وهو يفكر، فلم يخطر ذلك السؤال في باله من قبل، ما الذي يجعل جوزيف يبقي تلك الطفلة على قيد الحياة بعد قتله ذلك الرجل؟ كان يعتقد دومًا أن لبقاء إرورا بينهم بتلك الحرية سبب ما، وهي غاية خبيثة في نفس جوزيف.

«لقد قيل أن تلك الفتاة قد قتلت ولم تكن هناك أي إشاعات حول هذا الموضوع.»

لم ينتظر ألبرت ولو قليلًا حتى سارع بإخراج صورة من جيبه ثم نهض من مكانه متجهًا نحو الجهة المقابلة من الطاولة. اقترب من جنيفر ثم وضع الصورة أمامها وقال:

«هل باستطاعتك تمييز أحد في هذه الصورة؟»

لم تطل جنيفر تحديقها طويلًا حتى فتحت فمها قليلًا ثم نظرت نحو ألبرت بعينين دامعتين وهي تقول بصوت مبحوح:

«كيف لا؟». رغم أن الصورة كانت قديمة حيث يظهر الأشخاص فيها في العشرينات من أعمارهم إلا أنها استطاعت أن تميز.

هذا ما أراد ألبرت الوصول إليه تمامًا، فسألها من فوره دون أن يراعي الغصة التي أصابت جنيفر:

«من هؤلاء؟»

أخذت نفسًا عميقًا محاولةً التخفيف من شعور الاختناق الشديد الذي أصابها ثم أشارت بسبابتها المرتجفة نحو أحد الأشخاص في الصورة:

- هذا إدوارد زوجي، ووالد كل من فيوليت وإرورا.

- والذي يقف على يمينه؟

- جون صديقه، لقد كان صديقه المفضل وكان لا يتوقف عن ذكره والحديث عنه، حاولت أن أجد له أي أثر بعد وفاة إدوارد بمدة ولكنني لم أجده، أحسبه قد اختفى بعد أن علم بما حل بصديقه وبخطورة بقائه.

- والفتاة؟

- لا أعرفها أبدًا.

التقطت إرورا الصورة من فورها، كانت متحمسة للاطلاع على شكل والدها الحقيقي ولكن عيناها وقعت على الفتاة التي تقف على الجهة اليسرى من الصورة، بدأت تحدق بملامحها جدًّا معتقدةً أن ما تراه مجرد تشابه عادي، ولكن حالما وجدت نفسها شبه متأكدة أنها الشخص الذي تعرفه ذاته. مدت يدها لتناول توماس الصورة ثم قالت:

«انظر نحو المرأة جيدًا، ألا تبدو هي نفسها زوجة جوزيف؟»

طالع توماس الصورة عدة ثوانٍ ثم أجاب مستغربًا:

«نعم، أعتقد أنها ذاتها أو ربما شبيهتها.»

«بالمناسبة، إنها شقيقة والدك». قال ألبرت من فوره وهو ينظر نحو إرورا التي لم تلبث طويلًا حتى عقدت حاجبيها باستنكار شديد، فلم تكن لتثق بما يقوله ألبرت.

«لا أذكر أن إدوارد حدثني عن وجود شقيقة له». أجابته جنيفر، فكانت تثق أن إدوارد قد أخبرها بكل شيء عن نفسه، فلماذا عساه لا يخبرها عن شقيقته؟

«أذكر أنها قد تشاجرت مع جوزيف في تلك الفترة وقد كان هذا الحدث أيضًا جزءًا لا يتجزأ من تلك الفترة، فقد قيل أنها تعرضت للضرب وراهن الجميع على أنه قد يقتلها حتمًا لكنه لم يفعل ببساطة رغم أنه فعل مع الكثير من النساء قبلها. كانت حالة جوزيف عندئذ ثائرة جدًّا، فقد انهالت عليه المشكلات دفعة واحدة.»

قال توماس وهو يحاول إدراك ما قاله ألبرت، هذا يفسر تمامًا ما يقوله.

«ألا يعتبر ما قاله توماس الآن إثباتًا واضحًا على ما قلته؟»

نظرت إرورا نحو ألبرت بغيظ ثم قالت بفظاظة وحدة:

«هل تعتقد أنك عبقري يحلل كافة المواقف ويكشف الأسرار؟ كيف لها أن تكون شقيقة والدي دون أن تظهر ولو مرة واحدة في حياتي؟ لم يكن لها وجود طيلة فترة مكوثي في كوكب كيبلر،.. ما تقوله مستحيل!».

ابتسم ألبرت بعد أن استنكر أسلوبها بالحديث معه ثم أجابها بهدوء:

- وما الذي يجعلك غاضبة إلى هذه الدرجة عزيزتي؟

- لأنك تفرض نفسك علينا، تحاول بشتى الطرق أن تصنع لنفسك مكانًا بيننا، لا شأن لك بأمورنا، كفّ عن التطفل!

أجابته بنبرة أعلى من سابقتها وقد كانت تشعر بالغضب والغيظ الشديد من أسلوبه. وقبل أن يرد ألبرت على إهانة إرورا له قاطعه توماس وهو يقول لإرورا:

«ألا تذكرين كم مرة لاحظنا متابعتها لنا بأنظارها؟ كانت تصرفاتها غريبة، كانت دائمًا ما تراقبنا خلسةً من شرفة غرفتها ولم تكن نظراتها عادية.»

كانت إرورا قد نسيت ذلك تمامًا، لكنها لم تكن لتتذكره لأنه لم يكن سوى مجرد شك منهما في أمرها، ولكن الأمر يبدو الآن أكثر وضوحًا، ولكن كيف لها أن تصمت كل تلك السنوات دون أن تحادثها مرة واحدة على الأقل؟

عاد ألبرت إلى مكانه ثم وقف خلف كرسي ليوناردو الذي يجلس عليه ثم قال مشيرًا إليه:

«ليوناردو مثلًا ابن جون.»

التفت ليوناردو خلفه لينظر نحو ألبرت بسخط، لقد شعر وكأنه صفعه للتو بقوله أو أهانه، لم يكن يحب فكرة ارتباط اسمه باسم والده جون أو حتى الإفصاح عن هذا أمام الجميع. كان ارتباط اسم والده بالأمور المتعلقة بفيوليت غير مستحب بالنسبة له منذ البداية. شعور متناقض أصابه، لم يكن مستعدًا لأن يكتشف أن الصورة التي رسمها بمخيلته لوالدته ليست سوى كذبة، لم يرد أن يكتشف أن والده كان البطل المكافح. لم يرغب أن يكون مجرد وصم عار لتاريخ والده الذي ظهر الآن بالصورة الشريفة التي لم يرها من قبل، ولكن ما الذي يجعله يهرب بإرورا بعيدًا إلى كوكب كيبلر؟

تهجهمت الوجوه وبدأ الجميع يحدق بليوناردو خاصةً جنيفر التي بدأت تتفحص ملامحه جيدًا، ثم سألته من فورها:

«أين هو والدك؟»

«جون هو نفسه الذي جاء بإرورا إلى كوكب كيبلر». أجابها ألبرت.

بقي ليوناردو صامتًا محاولًا تجاهل كل ما حوله، لم يكن يرغب بأن يتحدث حول هذا الأمر. لا رغبة لديه باسترجاع الذكريات الغابرة والمؤلمة، والده كان منذ البداية شخصًا لا ينتمي إليه. لا يعرف عنه سوى أنه ضَر والدته.

«أنا لا أفهم شيئا، هل أنجب جون طفلًا من إلين؟ وكيف استطاع أن يصطحب إرورا برفقته؟»

لم تلبث جنيفر أن أنهت جملتها حتى نظر ليوناردو نحوها ودقات قلبه تتسارع بشدة، كان ذكر اسم والدته على لسانها كفيلٌ جدًّا بجعله يعير ما حوله اهتمامًا. كيف تعرف والدته؟ ومنذ متى؟

مع أن ألبرت لم يكن يعرف اسم والدة ليوناردو إلا أنه انتبه جيدًا لرد فعل ليوناردو، ما يعني تمامًا أنه استطاع أن يدرك الأمر.

«كيف تعرفين إلين؟ ومنذ متى؟». قال بلهفة شديدة.

«لقد كان الأمر سريًا منذ ما يقارب خمسة عشر عامًا أو أكثر، لا أدري بالضبط، ولكن لا أعتقد أنه سري حتى يومنا هذا. لقد شهدت برفقة إدوارد على زواجهما ولم أكن حينئذ متزوجة منه بعد، كان إدوارد يخبرني بكل شيء رغم أن الأمر كان سريًّا جدًّا. كان يتوجب علي ألا أطلع والدتي على أي شيء بخصوص الأمر، ثم لم أسمع عن إلين أي خبر. كنت أسأل إدوارد دومًا عن حالها ولكن كل ما أخبرني به في تلك الفترة أنها افترقت عن جون بسبب مشاكل خاصة رغم عدم مرور وقت طويل على زواجهما. علمت بعد أن تزوجتُ إدوارد أن إلين قد رُحِّلت إلى كوكب كيبلر وأن طلاقهما قد حصل قبل مغادرتها. عاتبته لأنه لم يخبرني بذلك فلربما كنت لأتحدث مع والدتي بشأن هذا الأمر، لكن جون كان خائفًا من المشاكل والمصائب التي ستحل عليه إذا عرفت والدتي بذلك. لم أكن أدرك حينئذ تلك الأمور أو حتى مدى جبروت والدتي، حتى أن إدوارد كان يطلب مني عدم ذكر جون في حضرة والدتي ولم أعلم السبب حينئذ.»

تنهدت بحسرة شديدة ثم أتبعت «بدأت الأمور تضح لي بعدئذ عندما علمت أن إدوارد وجون قادمان من كوكب الأرض، كانا خائفين، ولكن الشيء الوحيد الذي ما زلت أجهله هو سبب قدوم إدوارد إلى كوكب الأرض، فوالدتي ظلت تقول أنه جاسوس ومنذ تسعة عشر عامًا اتهمته بقتل طفلتيه وهو اعترف بذلك دون أن يفعل حقًّا وأنا صدقته».

كان الجميع مذهولًا تمامًا بما سمعه من جينيفر، ولكن مشاعر ليوناردو كانت متضاربة؛ شيء من الألم وشيء من الصدمة، لم يكن قادرًا على الموازنة. لم يتخيل يومًا أن تكون أصول والده من كوكب الأرض، ولم يكن يفهم لماذا امتنع والده عن الإفصاح عن حقيقة زواجه بوالدته.

«ألم تشكّي أن تكون فيكتوريا هي من دبرت كل شيء؟ ألا تعتقدين أنها كانت تعلم منذ البداية مصلحتها بطفلتيك؟»

ترددت جنيفر بإيجاد إجابة مناسبة عن السؤال الذي طرحه ألبرت؛ فلم تعلم بما تفكر والدتها سوى في الآونة الأخيرة، وقد اعتقدت أنها اكتشفت أمر مصلحتها حديثًا ولكن ما لبثت أن بدأت تسترجع ذكريات قديمة لم تفكر بها منذ زمن طويل. كان تذكرها الفترة التي كانت تحمل فيها بطفليها كفيلة بجعلها تغوص في عالم الماضي وهي في حالة صدمة، تذكرت عندما استطاعت فتح ذلك صندوق والدتها دون أي مقدمات ودون أن تستطيع اكتشاف السبب الذي جعلها الوحيدة القادرة على ذلك، ثم امتعاض والدتها وتعابيرها الجامدة عند ولادة كل من إرورا وفيوليت وتصرفها بفظاظة مع إدوارد في الآونة الأخيرة. تذكرت عندما قدمت لها المسدس وبدأت تحشو الأفكار في رأسها حتى تقدم على قتل إدوارد، كان هذا كفيلًا بجعلها تصدق حقًّا أن والدتها قد عرفت ما أرادته منذ البداية مذ كانت تحمل بطفلتيها.

«نعم، كانت تعلم بالتأكيد». أجابته بصوت متهشم مبحوح، لم تكن هذه الصدمة الأولى ولكنها ما زالت تتأثر كأنها فعلًا المرة الأولى. شيء داخلها كان يرغب بشدة أن يجد الجانب الجيد من والدته، لم ترد أن يتحول حتى جزء الحنان الذي منحته لها إلى مجرد رماد، ولكن لقد فات الأوان وتحول كل شيء إلى فتات.

- والآن، ما زلتم ترغبون بالانتظار هنا، ما زلتم تريدون الجلوس هنا وأنتم تتذكرون كل ذكرياتكم المؤلمة التي دمرت حياتكم؟

- وماذا تريدنا أن نفعل؟ أن نقف بوجه فيكتوريا نحن الستة!

قالت إرورا بصوت مختنق ساخرة. كانت تشعر بالاختناق الشديد، كل تلك الدوامة التي تعيش فيها وكل ما عانته من عذاب سببه فيكتوريا التي أرادت مصالحها وسلطتها.

«هل لك أن تتخيلي عزيزتي ماذا سيحل إن انتظرنا كالجبناء ونحن نردد أن فيكتوريا ذات سلطة؟ هل تظنين أنك ستنعمين بالسعادة والهناء في هذا القصر الفخم؟». أجابها ألبرت بحدة. كان الجميع يلاحظ وجود حرب بين إرورا وألبرت، فإرورا لم تكن تحب وجود ألبرت وطريقة حديثه الفظة كثيرًا.

«لا، لا أظن، ولا أظن أيضًا أن فيكتوريا ستتوانى عن قتلك أو قتلكم أو قتلي حتى أنا حفيدتها المفترضة.»

«تحدثي عن نفسك». أجابها ألبرت بثقة.

ابتسمت إرورا ابتسامة صفراء ثم قالت بعد أن عادت ملامحها الجادة والحادة:

«ومن تظن نفسك يا ترى؟»

تجاهلها ألبرت متجنبًا الدخول معها في محادثة عقيمة، خاصةً أنه يدرك أنها تشعر بالغيظ منه. نظر نحو جنيفر ثم قال:

«وحدك تعلمين كم كان ما فعلته والدتك بك مؤلمًا، أظن أنك المتضررة والضحية الكبرى لخطط فيكتوريا وجبروتها، وتعرفين مدى ظلمها وماذا سيحدث إن استطاعت أن تحكم كل شيء. أنت أكثر من يدرك شرور فيكتوريا التي ستبثه بين جميع الناس لتتحول حياتنا إلى جحيم». كانت نبرة صوته تعلو مع كل كلمة وشيء من الغضب والحنق قد أصابه فأتبع بعدئذ قائلًا: «إن الحرب هي الكابوس الأكبر لجميع السكان، وهي ستحدث قريبًا جدًّا لأنني أعرف جبروت حكومة كوكب الأرض أيضًا، والتي لن تسكت أبدًا عن اقتحام فيكتوريا كوكبهم، وعندئذ سيعلنون الحرب ويموت مئات بل آلاف من الأبرياء ونحن نجلس هنا نبكي بسبب رحيل فيوليت التي كانت ضحية كبرى لهدف سامٍ حولته فيكتوريا إلى هدف شيطاني. بفضل فيوليت سيستطيع سكان جليزا العودة إلى موطنهم الأصلي ولكن فيكتوريا لا تريد السلام».

تحركت مشاعر جنيفر واهتزت بشدة حتى امتلأت عيناها بالدموع. كان ما قاله ألبرت صحيحًا تمامًا إلى درجة دفعتها إلى البكاء، فيوليت ابنتها كانت الضحية الكبرى، هي من دفعت الثمن حتى يحل السلام ولكن كانت والدتها هي من تريد الدمار ويجب ألا تسمح لها بذلك. كان الجميع يلتزم الصمت وكأن كلام ألبرت الواقعي جدًّا أصاب منطقة حساسة لديهم؛ شعورهم الدائم بالخوف والاستعباد واقتراب الحرب.

«والدك يا إرورا». قال ألبرت مشيرًا إلى إرورا ثم أردف: «إدوارد الذي اعترف باطلًا أنه قتلك وشقيقتك، هل تعتقدين أنه فعل هذا من أجل لا شيء؟ هل تعتقدين أنه مات من أجل لا شيء؟ ألم يكن يرغب بحمايتك أنت وشقيقتك من شرور فيكتوريا؟ هل ستستسلمين للأمر لأنك لا تستطيعين الوقوف في وجه فيكتوريا؟».

تجمدت تعابير وجه إرورا دون أن تجيبه، بل كانت هذه المرة الأولى التي تجد نفسها فيها عاجزة عن الرد، ورغم أنها لا تعرف أي شيء عن والدها إلا أن تضحيته تلك تعني لها الكثير فهو دفع حياته ثمنًا لكي تعيش هي حتى هذه اللحظة، ولكنه لم يضمن حياة شقيقتها التي ماتت بسبب فيكتوريا رغم أنه فعل ما فعله ليحميها منها.

«جون والد ليوناردو ضحى بحياته أيضًا في سبيل أن تعيشي أنت يا إرورا، وأعتقد أيضًا أنه كان يبحث عن سلامة فيوليت، كل هذا من أجل ألا تحصل فيكتوريا على ما تريده وبالتالي حمايتنا من ظلام الحرب لأطول وقت ممكن». ابتسم ساخرًا وهو يتابع بصوت خامد: «وأنا فقدت عائلتي لأنني حاولت أن أنقذ فيوليت من موت محتم».

لم يكن من ليوناردو سوى محاولته جاهدًا أن يخفي الدموع التي تجمعت في عينيه، كان يشعر أن كل شيء حوله يشير إليه وإلى ما اقترفه من ذنب كبير في حق فيوليت التي حماها والده من قبل.

«والآن، هل علمتِ عزيزتي إرورا ما شأني أنا بأموركم؟»

لم يكن من إرورا سوى أن أومأت باستسلام، فما قاله ألبرت يكفي تمامًا ليثبت لها كل شيء.

******************************

كانت علامات الفزع بادية على وجوه جميع المسؤولين المجتمعين في مكتب برنالد عندما كان جسده يتعرق بشدة. كان غير قادر أبدًا على التصرف بشيء ما وقد عجز تمامًا عن الحديث. وصلتهم أخبار عن اقتحام الأرض من قبل مراكب عديدة ضخمة منذ بضع ساعات، حتى أنهم اقتحموا العديد من المناطق وسيطروا عليها تمامًا. كانت شرطة المناطق تطلب النجدة لإغاثة البلدة والسكان الذين غلب على أمرهم واقتحمت بيوتهم. قتل عدة ضباط من الشرطة في محاولة منعهم اقتحام المناطق ولكن قوتهم وعددهم كان يفوقهم بكثير. لم يكن باستطاعة برنالد عمل شيء الآن سوى تحصين مدينتهم، مدينة الأحلام فقط، وحتى إذا حصنوها فلن يدوم هذا طويلًا.

«لقد انتهى أمرنا». قال برنالد بصوت مكتوم وبنبرة يائسة مسندًا جبينه على يده.

كان الجميع ينظرون إليه بخوف شديد، كأن الإعدام حكم عليهم جميعًا وقد بدأ كل واحد منهم يتخيل نهايته الشنيعة على يد المقتحمين أو حتى عامة الشعب، كان هذا كابوسهم الأكبر.

وحده جورج من هبّ من مجلسه بجنون وجسده يرتجف، وقد كانت عيناه شديدتا الاحمرار وشعره الأبيض مبعثر بإهمال ليقول بصوت مبحوح ونبرة مرتفعة:

«يستحيل أن نستسلم بهذه السهولة، ألا تعلمون ماذا سيحل بنا إن استطاعوا اقتحام مدينتنا؟ سيكون مصيرنا الموت، لا يجب أن ننتهي بهذه السرعة». تابع وصوته يزداد اختناقًا: «ماذا سيحل بعائلاتنا وأبنائنا؟ سنعيش مذلولين، سنجرد من كل شيء تمامًا».

لم يستطع أي أحد من الحاضرين أن ينطق بشيء، فهم يعلمون ماذا سيحل بهم على أي حال وليسوا بحاجة لسماع كلمات جورج المقيتة.

«يجب أن نتصرف». قال بغيظ شديد وسكوتهم يقتله.

رفع برنالد رأسه باستسلام وهو يجيب برنالد ببرود:

- وماذا تقترح أن نفعل؟

- يجب أن نجهز العساكر للهجوم، يجب أن ندافع عن أنفسنا.

- وهل تظن أن عساكرنا يستطيعون الصمود أمامهم؟ حتى عددهم لا يكفي لمجاراتهم.

أجابه ببرود ساخرًا، فازداد حماس جورج وهو يقول محكمًا قبضته:

«ولكن لا تنسى أن أسلحتنا أقوى من أسلحتهم، تعرف أن أسلحتهم تعتبر بدائية».

«العدد يشكل جزءًا مهمًّا، نحن لا نملك الكثير من العساكر المدربين وهم لا يستطيعون الصمود ساعة واحدة أمام مؤشرات حرب». أجاب برنالد بضجر وقد بدأ يفقد صبره من مجادلة جورج العقيمة التي تزيد من توتره.

ابتسم جورج وهو يقول بخبث:

«لكنهم لا يملكون مدافع.»

اتسعت عينا برنالد برهة وقد لمعت بلهفة، لكنه حالما عاد لوعيه قال باستنكار:

- المدافع ستدمر الكثير، ثم هل نسيت أن العدو يستوطن في مناطقنا؟ لا نستطيع التصويب عليهم بتلك السهولة.

- ولكن لا أحد منا يمكث في تلك المناطق، والأشخاص الذين يمكثون فيها مجرد أشخاص عاديون بلا قيمة.

قال ساخرًا ثم أتبع مبتسمًا: «منذ متى ونحن نكترث للعامة؟ ضربة واحدة من مدافعنا ستنهي كل شيء وتقضي على أعدائنا، أما المواطنون فسيكونون فخورين بدمائهم التي هدرت من أجل الوطن».

أنهى جملته ليعلو صوت ضحكته الساخرة، وقد ظهرت علامات الاسترخاء والراحة على وجوه الحاضرين الذين لم يمانعوا فكرة جورج أبدًا.

«إذًا فلنقدّم شكرًا للمواطنين الأوفياء تقديرًا لدمائهم المهدورة من أجل سلامة الوطن وسلامة حكام الوطن». قال برنالد ساخرًا وقد استساغ فكرة جورج كثيرًا فشاركه ضحكه الهستيري المجنون.

**************

Continue Reading

You'll Also Like

239K 7.4K 26
عندما يتقابل عدو المرأة مع المتمردة ترى ماذا قد ينتج عن ذلك؟! اشتعلت عيناها وهي تلكزه بكتفه بقوة لا يعلم من أين أتت بها لتجحظ عيناه وهو ينظر إليها ب...
232K 16.1K 22
هناك في أعماق الأرض في جوفها حيث نعتقد أن الجحيم مشتعل ترقد مملكة بين أحضان السلام و السكينة بعيدة عن أنياب البشر بعيدة عن أطماعهم و شهواتهم و ه...
940K 57.6K 22
تقول الأسطورة " صنعت قلادتان من ورود التوليب ذات " اللون الشفاف ، و اندر انواع اللؤلؤ البحري البنفسجي صنعتتا للرفيقين اللذان سيحفظان التوازن للأبد ا...
76.1K 7.3K 48
و بينما كان يفوحُ في الهواءِ رائحةُ البارود المشتعل، و حيثُ كانت تقطعُ الطائرات الحربية صمتَ السماءِ، كانت تُحاول ويندي براون أن تحل مُعضلةَ الوطن، ب...