روح وريحان

By engsoso

582K 10.5K 222

صدعت صرخاتها الجدران ... تشققت أنفاسها ... سرت رجفة في نفوس من حولها ... تحيط بها الهمسات والهمهمات ... تتمتم... More

١
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
31
32
33
34
35
36
37
38
40
41
42
43
44
45
46
39

30

11.2K 214 1
By engsoso

 · الفصل الثلاثون

عندما نتعرض لصدمة .. نكون قد توقعناها .. أو مصيبة مُهِّدَ لنا إياها .. يكون الوقع يسير .. لكن المشكلة تكمن في تقبل من حولنا للوضع .. ثم اندهاشهم من صبرك الظاهر .. هم لا يدرون أن ما أنت فيه جاء من تعود واعتياد .. أو تقبل للأمر .. أو تصور قبلي لما سيحدث .. أنت هيأت نفسك لعنصر المفاجأة الذي سيحدث .. فبالتالي كانت المصيبة هينة .. هم لم يهيئوا أنفسهم لذلك كان وقع المصيبة عليهم شديد ..

استمرارا لحالتها الميتة .. لما علمت "جميلة" بما حدث لم تشعر بشئ .. من المؤكد أن هناك شئ تحطم فيها .. ولكن في كل المرات السابقة .. كان يتحطم فيها هذا الشئ جزءا جزءا .. لتأتي هذه المرة تحطم آخر ما بقي لديها من هذا الشئ .. شئ لم يُنِر فيها .. ولم يومِض سوى للحظات قليلة .. شئ يدعى الأمل .. ولكن جاء خوف عقيم وأماته .. بل رعب كاسح .. ماذا إن تعلقت بالأمل هذا .. ثم خابت آمالها .. ستكون الصدمة عظيمة .. لكن إن لم يكن هناك أمل من الأصل فلن تصدم .. وهذا ما حدث ..

لم تصدم وصدمت .. لم تتوقع وتوقعت .. كانت متأرجحة بين الشك واليقين .. لم يصل إيمانها لليقين الكامل بعد .. ولكن مؤكد أنها أصيبت بشئ من ضيق وكمد .. ولكن ستصبر .. هي صبرت قبل ما جعل الصبر يمل منها .. لن تجزع اليوم .. وصبرها ليس إلا صبر جميل .. وما جزاء الصبر الجميل إلا الفرج .. الفرج !! .. لماذا انتظرت تلك المرة ليتجدد أملها ؟! .. لم تفكر هكذا يوما قبل .. دائما كانت تقول لنفسها اصبري قتصبر .. ولكن صبر مجبور .. لم تشعر بحلاوة الصبر الجميل .. وبعد عشر سنوات بدأ يغزوها شعور بهذا الجميل .. هي راضية قبل صبرها ..

شعرت بوجود أكثر من شخص معها في الغرفة .. دائما ما تميز من حولها برائحتهم .. فلكل شخص من إخوانها وأبيها عطر مميز .. رغم زواج إخوانها وبعدهم عن جوارها .. إلا أنها مازالت تميز رائحتهم .. بالإضافة إلى تفاعل رائحة العطر مع رائحة جسم الشخص تعطيه عبقا مميزا .. لذلك تستطيع تمييزهم حتى وإن تشابهوا في عطر واحد .. ثم ابتسمت وهي تتذكر إخوانها حينما كانوا يفعلون ذلك لتخطئ في معرفتهم ولم يحدث .. فحاسة الشم عندها قوية جدا وكأنه تعويض عن حاسة البصر ..

همست بضعف :
- خالد ..

كان يبكي في صمت .. لم يستطع مواجهتها .. وهي يهون عليها أي وجع سوى بكاء "خالد" أو أحد إخوتها أو أبيها .. هي كبيرتهم .. وأقربهم لها "خالد" بسبب قربهم في العمر فهي تكبره بعام واحد ..

سمعت نحيبه الصامت فقالت بصوت موجوع :
- خالد .. انا كويسة .. والله ما انا زعلانة ..

حاول أن يكتم شهقاته وهو يقترب منها .. جلس أمامها على الفراش .. ثم احتضنها بدفءٍ موجوع .. وهي عبرت عن وجعها بين ذراعيه .. وانفصلا في عالم يعبر فيه كل منهما عن وجعه الخاص .. أنهيا بكاءهما العاصف .. وحديثهما الصامت .. ثم ابتعدت عنه تهمس :
- مين هنا غير بابا وماما ..

ابتسم وهو يجفف دموعها قائلا :
- خمني .. مين الريحة الغريبة اللي دخلت حياتك جديد ..

ارتبكت وهي تشعر بانكماش يجتاحها قائلة :
- مازن ..

أجاب "خالد" وهو يربت يدها قائلا :
- صمم انه ييجي يطمن عليكي بنفسه .. ويكون موجود وقت دخول الدكتور ..

همست بخفوت :
- كويس علشان يروح لحاله من نفسه ..

كان "مازن" قد اقترب فقال بصوت عنيد :
- جميلة انا مش جماد مبحسش .. ومش هستحمل الرفض دة كله .. انا لما اتقدمتلك مكنتش اعرف اصلا انك بتتعالجي ..

كما تبحث عن مصدر الأمان دائما .. بحثت عن "خالد" الذي مازال يجلس جوارها .. تشبثت بذراعه لتتسلح بقوة تخفي وجلها من صوته قائلة :
- انا بس مش عاوزاك تندم ..

تنهد قائلا :
- يوم ما اندم هتحمل نتيجة ندمي لوحدي .. عمري ما هلومك انتي .. وقدام والدك ووالدتك واخوكي بوعدك انك عمرك ما هتتهاني او تتظلمي في بيتي .. واخر مرة بسألك انتي عاوزاني ولا لا .. وصدقيني لو قلتي لا عمري ما هقرب لك ولا هضايقك تاني ..

نظر "خالد" لها وكذلك فعل الجميع .. مر صمت مرعب عليهم جميعا وهي أولهم .. لا تعرف بماذا ترد .. وماذا تقول .. بعد فترة قالت :
- بس ..

قاطعها "مازن" :
- عاوزاني ولا لا ..

أمانها أين هو ؟! .. هاهو يجلس جوارها ويربت على يدها بدفءٍ اعتادته .. هل سيصبح يوما هذا المازن أمانها ؟ .. وهل ستجد معه الدفء الذي تشعر به في قرب أخيها وأبيها ؟ .. هل سيعطيها حبا أم سيندم يوما أن اقترب منها ؟ .. لماذا كل هذا التردد ؟ .. ماذا يكون قرارها ؟ .. الأمر ليس هينا .. هي وافقت قبل العملية حتى تسكتهم .. لماذا فكرت في الزواج وحلمت بشخص يأتيها ؟ .. يرعاها ومن حنانه يعطيها .. ما الذي أدخل فكرة الزواج في رأسها اللعينة ؟ .. ولكن كل منا بحاجة إلى شريك للروح وسكن .. هي بحاجة شديدة لزوج تسكن إليه يشاركها حياتها التي تمتلئ بحيوات غيرها ..

فارغة .. هي تمتلك حياة فارغة .. "جميلة" أم ولكن ليس لأبنائها بل لأبناء إخوتها .. ناصحة أمينة لزوجات إخوانها وهي لم تكن يوما زوجة .. صديقة مخلصة تفرح وتحزن لأجل أصدقائها ولكن من لها هي عند فرحها وفي ليالي صبرها الطويلة .. ترى الدنيا بعيون أناس جبروا على حياتها ولم تخترهم هي .. والآن جاءتها الفرصة لتختار شريك لروحها .. هي متأكدة أنها أحسنت الاختيار .. لمَ التردد إذا ؟! .. ماذا لو أهانها أو رفع صوته عليها يوما لن تتحمل !!.. من المؤكد أنها لن تتحمل .. روحها النقية العذبة ما اعتادت الإهانة أبدا .. وما اعتادت التجريح ..

طال صمتها والقلق ينهش قلوبهم .. فأبواها يتمنيان فرحتها بعد فجيعتهما في استمرار فقدان بصرها .. و"خالد" علم كم يحبها "مازن" وكم هو متمسك بها .. لذلك يتمنى أن يرى الفرحة في عيونها التي انطفأت ..
تنهد وهو يقترب منها هامسا :
- انا مش راضي اتدخل لغاية دلوقتي .. بس شكلك مترددة .. لو محتاجة نصيحتي .. انا قلتهالك قبل كدة .. مش هتمنالك احسن من مازن ويوم ما تعوزيني هتلاقيني في لحظة معاكي ..

اقتربت منه هامسة وهي تقول :
- قوله موافقة ..

ابتسم "خالد" وهو يقبل رأسها .. ثم نظر لـ"مازن" قائلا :
- يلا يابني شوف حالك وهات المأذون اللي ع الباب دة ..

تجمدت "جميلة" في مكانها قائلة :
- خالد متهزرش ..

ابتسم "مازن" قائلا :
- ميهزرش ايه بس يا شيخة انتي محدش يثق فيكي تاني .. والفرح بعد اسبوع ..

صاحت "جميلة" بخوف :
- بابااا ..

ضحك "خالد" قائلا :
- بابا ايه بس .. بابا وماما مش هيسمعوكي من الفرحة .. دول ما صدقوا ..

تشبثت في ذراعه قائلة :
- مش كنتم زعلانين دلوقتي ..

نزع يده قائلا :
- سيبيني بس اروح افرح الشعب اللي قالبها ميتم برة دة .. اخواتك وولاد عمك كلهم برة ..

- خليك جنبي .. خلي بابا او ماماا يخرجولهم .. علشان خاطري ..

ابتسم "خالد" وهو يحيط وجهها بكفيه قائلا :
- حاضر هفضل جنبك .. بس افرحي دة انتي عروسة ..

وضعت رأسها على صدره قائلة :
- انا خايفة ..

شدها إليه وهو يربت ظهرها قائلا :
- متخافيش انا معاكي اهو .. قلت لك نفسي تلغي حاجة اسمها خوف من حياتك ..

بعد قليل قال بمرح :
- طيب انا كدة مش هشهد على عقد جوازك .. وتضيعي عليا اهم امنية في حياتي ..

ابتسمت وهي تبتعد عنه قائلة :
- طيب ابعت لي ريحانة ..

جاءت "ريحانة" وبقيت معاها .. وكلتاهما تحمل مشاعر مختلطة .. "جميلة" سعيدة بسعادة من حولها .. لم يغب خوفها وترددها بعدُ .. لكنها اعتادت على السعادة لسعادة الآخرين .. لم تعتدْ على السعادة لأجل نفسها قط .. تُسعد من حولها فتَسعد .. غير ذلك فلا .. يا ترى أللسعادة طعم آخر إن كانت لأجل نفسها ؟! ..

و"ريحانة" لأول مرة ينتابها شعور بالغبطة .. لم تشعر به مع "رنيم" أو "ريم" .. ماذا لو فعل معها "باسل" هكذا .. أيضره شئ ؟! .. لن يضره شئ .. لماذا يعذب قلبها ببعده وقربه وهجره ووصله ؟!.. لا تنكر سعادتها بـ"جميلة" التي فاقت الحدود .. وفي نفسها تمنت لو يوما جاءها "باسل" .. ماذا لو فعل !!.. ألهذه الدرجة كرامتها مهانة ؟!.. يعلم أنها تحبه .. وتعلم أنه يعلم أنها تحبه .. لماذا تلبي له ما يريد حين يطلب ؟.. لماذا تقترب منه وفي قربه نار لا تتحملها ؟ .. فلتذهب للجحيم يا "باسل" وليذهب هواك معك !!.. هي لن تريدك بعد اليوم .. وكم من مرة قالت ذلك ..

عادت لحالتها السعيدة بـ"جميلة" فلن يعكر هذا الـ"باسل" صفوها بعد اليوم .. اليوم ستريه ماذا ستفعل "ريحانة" ومن هي "ريحان"!! ..

تم العقد .. وفض الجمع .. ومازالت "جميلة" متشبثة بـ"ريحانة" التي ستموت حرجا .. لولا "خالد" الذي أنقذها فخرجت وجلس هو مكانها .. ورجاءات "جميلة" ألا يتركها معه وحدها تزداد فأطاع "خالد" وتفهم "مازن" ..

---------------------

بعد انتهاء يومها مع "جميلة" أصر "خالد" على توصيلها لمنزل جدها -أعمامها يرون أن منزلها منزلهم وليس منزل جدها- .. وكانت معه زوجته وأولاده فوافقت .. ولكن كان داخلها شعور عميق بالألم والوحدة لم تشعر به منذ زمن .. ماذا لو كان معها أبوها أو أمها أو حتى أخوها .. لم تكن لتحتاج أحدا .. ولم تكن لتتعرض لمعاملة أحد المهذبة احتراما لابنة عمهم الغالي أو ابنة خالتهم الأثيرة ..

أكتب عليها أن تكون أثرا لوالديها ؟.. أو ذكرا لهما وفقط ؟.. أكتب عليها أن يتحملها جدها وخالتها وأعمامها لأن أبيها غالٍ وأمها أثيرة ؟!.. لماذا لم تنتهي حياتها معهم ؟.. لمن تبقى ومن يبقى لها ؟.. حتى يوم أحبت واختارت زوجا .. لم يرضها زوجة .. وكأنه أراد أن يكمل مأساة حياتها بأن تحرم وتجرد من كل شعور إنساني تمنت لو شعرت به .. فلا أب ولا أم .. ولا زوج .. كل ما شعرت به في حياتها أشباه وأمثال .. تمتلك شبيها لأب وشبيها لأم وشبيها لأخ .. المعنى الوحيد الجيد في حياتها بلا أشباه كانت الصداقة .. والآن انشغلت كل منهما في حياتها .. وكلما انشغل الآخرون عنها .. بحثت لنفسها عن اهتمامات أخرى كثيرة حتى تشغل نفسها عنهم .. ولكن مهما شغلت نفسها مازالت بحاجة لهم .. هي لم تتأخر يوما عنهم حينما احتاجوها .. لماذا لا تراهم الآن .. بأي ذنب هُجِرَت ؟!..

لم تلاحظ توقف السيارة أمام المنزل .. لولا صوت "خالد" المرح قائلا :
- ايه يا ريحانة هتكملي معانا على بيتك ..

ابتسمت وهي تتلفت حولها .. ثم استأذنتهم وغادرت السيارة وفي عقلها تدور كلمة "خالد" (بيتك) .. وقبل أن تبرح مكانها جففت دمعاتها .. وهي تنظر للمنزل بأكمله من الخارج .. لماذا تشعر لأول مرة بضيق عند دخوله ؟ .. وهو مستقر سعادتها وطمأنينتها وأمانها طيلة عمرها .. آه من وجع تغلغل في روحها !!.. وآه من انكسار عاشت فيه دائمة !!.. رأت "رنيم" تقف في شرفتها .. نظرت لها دامعة .. تحتاج إليها بشدة ولكن لن تطلب أحد مثل ذي قبل .. تحتاج أن ترتمي على صدرها وتشكو لها ما يعتمل فيها .. كانت "رنيم" ذي قبل تشعر بها وتأتيها دون طلب .. عودتها على ذلك ثم تركتها .. لماذا انشغل الجميع عنها لماذا ؟! ..

تريد أن تبكي وتبكي وتبكي .. ولكن اليوم ستبكي وحدها .. كان يجب عليها أن تتعود ذلك .. فهي بلا أم تتحملها وتجري عليها في أي وقت .. يجب أن تعذرهم ليس فيهم أمها .. و لا أبوها .. ودون شعور كانت دموعها تجري كنهر جارف على خديها .. وعيناها مسلطتان على "رنيم" .. ابتسمت وأكملت مسيرها .. هي بحاجة للجلوس وحدها في صومعتها فلم يعد بها طاقة لمجالسة أحد ..

هاتفتها "رنيم" لاستغرابها لوقفتها ونظراتها المسلطة عليها فلم ترد .. شعورها بالاختناق كتم صوتها .. فلم تستطع النطق .. قلقت "رنيم" فالتفتت لـ"يوسف" الجالس خلفها قائلة :
- يوسف انا قلقانة على ريحانة اوي ممكن انزلها ..

وقف وهو يحيط كتفيها بذراعه ويسيرا متجاورين قائلا :
- ماشي يا حبيبتي .. انا كمان خارج مع باسل ..

نزلا سويا عرج هو على "باسل" بينما أكملت هي لـ"ريحانة" .. رنت الجرس ففتح لها الجد الباب قائلا :
- اهلا اهلا بالقمر ..

ابتسمت وهي تقول محيية :
- السلام عليكم .. مساء الخير يا جدي ..

اتسعت ابتسامته قائلا :
- مساء النور على عيونك ..
ثم ضحك قائلا :
- ولا بلاش عيونك .. الواد يوسف بيغير ..

ضحكت قائلة :
- يا خبر هيغير منك يا جدي .. فين ريحانة ..

وجم قائلا :
- في اوضتها .. مش عارف مالها .. مع انها جاية من كتب كتاب جميلة المفروض تكون فرحانة ..

نظرت له ولوجومه فوجمت وهي تقول :
- بعد اذنك هدخلها ..

- اتفضلي يا بنتي ..

طرقت الباب كثيرا بلا مجيب فأخذت تهتف :
- ريحانة افتحي لي انا رنيم .. ريحانة ..

ببطء قامت "ريحانة" لتفتح .. أدخلتها وأغلقت مجددا .. نظرت "رنيم" للغرفة حولها قائلة :
- انتي مضلمة الدنيا ليه كدا ..
وهمت بأن تشغل الإضاءة فمنعتها "ريحانة" قائلة :
- سيبيه يا رنيم معلش ..

لم تسمع "رنيم" لها .. وأضاءت لما انتبهت لصوتها الحزين .. كانت "ريحانة" عادت لفراشها فأغمضت عينيها بشدة وهي تدفن رأسها في وسادتها .. خلعت "رنيم" نقابها ووضعته جانبا .. ثم اقتربت منها تربت على ظهرها قائلة بصوت يقطر حنانا :
- ريحانة يا قلبي فيكي ايه ..

فبدأت "ريحانة" نحيبها وعويلها المكتوم .. وبدأ صوتها يعلو في نشيج مؤلم .. ولأجلها فزعت "رنيم" لم ترَها منذ زمن هكذا .. جذبتها لتعانقها واستجابت "ريحانة" فأكثر شئ كانت بحاجة إليه الآن هو أن تسكن بين ذراعي "رنيم" .. "رنيم" الرائعة حفظت ماء وجهها من الطلب والسؤال .. أنهت "ريحانة" عاصفة البكاء التي اجتاحتها .. ثم اعتدلت تجلس وهي ما زالت تستند برأسها على "رنيم" التي أخذت تمرر يدها على رأسها وجسدها وتتلو عليها آيات من القرآن وأدعية تحفظها .. واستكانت "ريحانة" لها .. تحب دائما أن ترقيها "رنيم" ودون سؤال أيضا .. كانت حاجتها شديدة لها وللحديث معها والبوح بما في جعبتها .. وما إن هدأت حتى أخرجت كل شئ لها .. كل ما بها لـ"باسل" أخرجته .. كل العاصفة التي تشعر بها قالتها .. وما إن انتهت ابتسمت "رنيم" ابتسامتها الودودة الساحرة وهي تقول :
- ايه رأيك تغني ..

نظرت لها "ريحانة" بشدة .. ثم فلتتت منها ضحكة أنارت وجهها الأحمر من أثر الدموع وقالت :
- اغني .. تصدقي حتى الغنا .. حرمني منه .. من ساعة ما وصل معدتش بغني ..

ابتسمت "رنيم" وهي تحيط وجهها بيديها قائلة :
- هو نزل مع يوسف ..على ضمانتي غني وخرجي اللي جواكي في الغنا .. وبعدين دي تعليمات الدكتور اخوكي .. اهو نستفيد من شغلانته دي بحاجة ..

ابتسمت "ريحانة" قائلة :
- انا عاوزة فعلا اغني .. بس اغني ايه ..

- غني اللي تخرجي فيه غضبك من باسل ..

وبدأت "ريحانة" تجر قصيدة تعرفها بصوتها العذب القوي .. في غناءها يتحول صوتها الرقيق لقوة عذبة .. تستمتع بالاستماع إليه ..

يا من هواه أعزه وأذلنـــي .. كيف السبيل إلى وصالــــك دلني

وتركتني حيران صبّا هائما .. أرعى النجوم وأنت في نوم هني

عاهدتني ألا تميل عن الهوى.. وحلفت لي يا غصن ألا تنثني

هبّ النسيم ومال غصن مثله .. أين الزمان وأين ما عاهدتني

جاد الزمان وأنت ما واصلتني .. يا باخلاَ بالوصل أنت قتلتني

واصلتني حتى ملكت حشاشتي .. ورجعت من بعد الوصال هجرتني

الهجر من بعد الوصال قطيعة .... ياليت من قبل الوصال تركتني

أنت الذي حلفتني وحلفت لي .... وحلفت أنك لا تخون ، وخنتني

لما ملكت قياد سري بالهوى .. وعلمت أني عاشق لك خنتني

لأقعدن على الطريق فأشتكي .. وأقول مظلوم وأنت ظلمتني

ولأشكينك عند سلطان الهوى .. ليعذبنك مثل ما عذبتني

ولأدعون عليك في جنح الدجى .. يبليك ربي مثل ما أبليتني

القصيدة كتبها "سعيد بن أحمد بن سعيد" ابن مؤسس الدولة البوسعيدية في عمان ..

أخذت تجرها بدموعها .. ولما وصلت "ولأدعون عليك" قالت و"لأدعون لك" .. حتى وإن كان غناءا لا تستطيع الدعاء عليه ..

ولحسن حظها أو لسوءه .. استأذن هو "يوسف" ليعود ليأتي بشئ قد نسيه .. وسمعها .. فلم يبرح مكانه .. كيف يبرح وهو يسمع صوتها العذب الذي حرم منه لسنوات .. وهو من حرم نفسه منها .. إعصار مفاجئ اغتاله .. كهرباء تسري في عروقه .. لمَ تجلده بصوتها ؟.. لا يستحق منها أن تفعل ذلك .. يعلم أن كل كلمة موجهة له .. ولكن أنَّى له بكل هذا ؟!.. ولما وصلت لنهاية عاصفتها وقالت "ولأدعون لك" ابتسم بشجن .. لأجله تغير أي شئ .. وتعكس القوانين وتفعل مالا يُفعل لأجله .. هو أيضا يحاول ن يصنع معجزة لأجلها .. لأجلها وفقط ..

صعد لغرفته وأخذ ما جاء إليه .. وجلس يكتب لها ردا على ماسمع .. لم يبعثه بهاتفه .. فكبرياؤه المقيت يأبى الاعتراف بما في قلبه لها .. ستموت وهي تفصح عن حبها له .. وهو سيموت حتى لا يفصح عن حبه له .. ترك المنزل وابتعد ثم أرسل لها رده عن طريق الإنترنت .. وفاته أنها كما يقول عبقرينو التكونولوجيا ..

وصلتها رسالته فقرأت :
- إن كان حبك ابتلاء فقد صبر محبُّك عليه .. وإن دعوتِ عليه فلقد استجيبت دعوتك ..

ضحكت "رنيم" بشدة وهي تقول :
- هو فاكر انك كدة مش هتعرفيه ..

نظرت لها "ريحانة" قائلة :
- اعرف مين .. انا اصلا مش عارفة مين بعت الرسالة دي ..

ثم فجأة نظرت لـ"رنيم" وهي تعمل عقلها بسرعة شديدة .. ثم وقفت قائلة برعب :
- يعني سمعني .. سمعني وانا بغني يا رنيم ..

وقفت "رنيم" قائلة :
- ازاي بس انا متأكدة انهم خرجوا .. يوسف بعت لي رسالة قالي انهم خرجوا فعلا ..

نظرت لها "ريحانة" قائلة :
- امال مين بعت الرسالة دي ..

أجلستها "رنيم" قائلة :
- انا مش عارفة .. بس انتي ممكن تعرفي يا عبقرينو .. ولو هو ركزي في الكلام اللي هو قايله .. دة عتراف رسمي ..

وبالفعل استطاعت "ريحانة" معرفة أنه هو المرسل .. فنظرت لـ"رنيم" وهي تقول بنبرة خاوية :
- بيتريق عليا ..

جلست "رنيم" جوارها قائلة :
- بيتريق عليكي ايه بس .. ما هو كلامه واضح هو ..

وقفت "ريحانة" بعنف قائلة :
- لا مش واضح .. مش واضح انه يعاملني كأني واحدة من الشارع ..

ثم تناولت هاتفها وطلبته بمجرد أن سمعت صوته قالت بصوت حازم استغربته هي نفسها :
- باسل انا مستنياك في الجنينة .. لو سمحت متتأخرش ..

وأغلقت هاتفها .. نظرت لها "رنيم" قائلة :
- هتعملي ايه ..

بنظرة حازمة كصوتها قالت :
- هعمل اللي كان لازم يتعمل من زمان ..

ثم بحثت عن جلبابها وحجابها وارتدتهما وتركت "رنيم" دون كمة إضافية .. بينما تمتمت "رنيم" :
- ربنا يستر ..

ترددت في محادثة "يوسف" .. ولكن منعها أنه مع "باسل" فمن المؤكد سيشعر بشئ ويأتي .. وذهبت لتقف في شرفة "ريحانة" تشاهد ما ستفعله المتمردة ..

لم يتأخر "باسل" لشعوره بالقلق من صوتها الحازم .. ومنع "يوسف" من العودة معه ولكن "يوسف" لم يمتنع .. وصل كلاهما ليجدا "ريحانة" في انتظارهما .. لم يقلقها وجود "يوسف" فثورتها ستناله أيضا ..

وقفت أمامهما تحاول التسلح بثبات ظاهري بدأ يتسرب لداخلها .. وعينيها تنتقل بينهما ثم قالت :
- اولا انا بشكركم جدا على اللي عملتوه معايا ففي موضوع جميلة .. وبشكركم جدا على وقفتكم جنبي طول عمري .. وبجد انا مش عارفة من غيركم كنت هعمل ايه ..

ثم نظرت لـ"باسل" لأنها تعلم أنه سيندفع مقاطعا عكس "يوسف" الهادئ الذي يحب أن يسمع للنهاية وقالت :
- باسل .. انا مش اختك ومش بنتك .. ولا زي اختك ولا بنتك .. عربيتك مش هركبها معاك تاني .. حتى في وجود روح .. لأنك اجنبي عني زيك زي غيرك .. ومتقارنش نفسك بسواق التاكسي لان كل الناس عارفين ان دي شغلانته انه يوصلنا مش اكتر .. ولو قلت لي ليه بقول كدة دلوقتي هقولك لاني بحسبة صغيرة قلت لنفسي انا لو متجوزة ازاي هتصرف مع باسل .. دة غير ان زوجي هيغير عليا منك جدا وممكن يزعل مني لو لقاني كل شوية اقوله اصله زي اخويا وهو اللي مربيني .. ولو يوسف او جدو سمحولي باني اركب معاك دة لا يعني ان ركوبي معاك شئ صحيح .. دة غير انك مش بتحافظ على شكلي قدام الناس .. لما تخدني معاك الجامعة وتقول للطلبة بتوعك بنت خالتي ساحبها ورايا تتفرج عليا وانا بحاضر .. بس انا مش بلومك .. انا اللي غلطت اني سمعت كلامك .. بس انا لو كان عندي اب كان هو اللي هيعرف يحافظ عليا ومكانش هيسمح ليك او لغيرك بالاستهتار بيا .. ولا كان هيسمح لي باني اعمل حاجة غلط ..
والرسالة اللي حضرتك بعتهالي .. المفروض انك فاكرني مراهقة هتضحك عليا بكلمتين او بتقولي اي حاجة تفهميها صح .. وانا زي العبيطة اصدق وافهم .. وبعدين اتصدم يا حرام واروح المستشفى للدكتور يعالجني ..

انا النهاردة جاية اعفيكم من بنت خالتكم مش هقولكم اللي بتعاملوها شفقة وانهار بقى قدامكم .. لا انا هعفيكم من بنت خالتكم لان عندها اعمام نفسهم تروح تقعد في بيت باباها ..

ولازم تعرف يا دكتور باسل ان المشاعر بتتغير عادي .. واللي قالك غير كدة مبيعرفش حاجة واظن انا خير دليل قدامك ..

أنهت حديثها وتركتهما والتفتت لتمضي قدما لشقتها ..

سكب دلوا من الماء البارد فوق رأسيهما وهما يريان "ريحانة" جديدة غير التي يعرفونها ..

"يوسف" على قدر صدمته على قدر انبهاره بها وبما قالته لـ"باسل" .. فـ"باسل" كان يحتاج لعاصفة كتلك تحركه .. لأن "يوسف" لا يرى مبررا لتأخر "باسل" في الزواج بها .. أفحمته .. كذلك رأى "يوسف" .. رغم حزنه وعتابه عليها بسبب ما قالت فيه وإن كانت محقة في بعضه .. إلا أنه منبهرا ..

أما "باسل" فحكايته حكاية .. كان يتلقى منها صفعة تلو الأخرى .. بداية من شكرها لهما على ما فعلاه لأجلها .. ما بالها تلك الصغيرة .. أفعل كل ذلك منتظرا شكرها الجاف الأحمق .. ثم اندفاعها عليه وهي تصفه بالغريب .. كان يقبض يده ويبسطها يخشى أن تطل يده وجهها الأحمر من الغضب ويصفعها صفعة تدميها .. كان غضب روحه يتصاعد لآخره .. تريد الزواج .. أميرته الفاتنة حين غضبت أرادت الزواج بغيره .. وحين أبهرته بشخصيتها الشجاعة .. أدمت قلبه .. ثم تقول أنها تريد الابتعاد .. تظن تلك الحمقاء أنه سيتركها تفعل ما قالت ..وكيف تقول بأنها لم تعد تحبه .. فمن كان يتغنى بشوقه له منذ قليل إذا ؟! .. سيؤدبها تلك الصغيرة المتمردة .. حتما سيؤدبها .. ولكنه منبهر بما فعلت .. أكانت جميلة إلى هذا الحد دون أن يراها .. هل جمالها كان فاتنا هكذا طوال عمرها أم أن لها جمال خاص حين تغضب .. كيف تسحره حتى في غضبها كيف تفعل في مشاعره فوضى هكذا وترحل .. آهٍ من أميرته الشريرة الخبيثة ..

------------------------

تقف أمام واجهة إحدى المحلات .. تشاهد عروضه وتنتظر "طارق" الذي ابتعد ليشتري شيئا ويعود .. أخذها فكرها بعيدا وهي ترى المعروضات ونسيت ما حولها .. فأخرجها من أفكارها صوته القائل :
- ذوقك حلو اوي ..

- انت قليل الادب ..

قالتها والتفتت بغضب .. فابتسم قائلا :
- وانتي لسانك طويل ..

ضحكت "ريم" قائلة :
- طارق !! .. والله تخضيت ..

أحاط رقبتها بذراعه القوي قائلا :
- وانتي ايه داخلة شمال في اي حد كدة .. وبعدين مين دة اللي يقدر يقرب لك وانا موجود .. كنتي بتفكري في مين يا مدام ..

مالت برأسها على صدره قائلة :
- بفكر في حبيبي .. بس اهلي وحشوني يا طارق بجد ..

ضحك قائلا :
- يعني بتاخديني على اد عقلي .. بفكر في حبيبي .. وبعدين احنا لسة مكملناش شهر .. ايه رأيك اخليكي تكلميهم بالليل .. مع انك بتكلميهم يوميا .. بس هخليكي تكلميهم النهاردة مرتين .. شفتي الكرم ..

نظرت له قائلة :
- ونعم الكرم ..

فنظر لما كانت تشاهد قائلا :
- حلو الفستان دة ايه رايك ندخل نشتريه ونحتفل بمرور شوية ايام على جوازنا ..

ضحكت قائلة :
- شوية ايام دول يعني مش اسبوع ومش عشر ايام ومش شهر .. دائما طارق حبيبي خارق للعادات ..

سارا متجاورين وهو يقول :
- طيب تعالي بقى وانا هختار لك حاجات وتشوفي مين ذوقه احلى ..

قالت بتعالي :
- انت طبعا هيبقى ذوقك احلى مش اختارتني ..

نظر لها بشدة باسمة فقالت :
- اه عاوز تقولي انك بتحب فيا تواضعي .. عارفة عارفة .. متمدحش فيا كتير علشان متغرش بس ..

ضحك بشدة وهو يقول :
- مجنونة .. انا متجوز مجنونة ..

وقفت قائلة :
- مجنونة دي يعني مش بتحبني ..

خفتت ضحكته وهو ينظر لعينيها قائلا :
- بموت فيكي ..

دفنت وجهها في ذراعه قائلة :
- بس بقى متكسفنيش في الشارع انا كمان بموت فيك ..

---------------------

دخلت "ريحانة" غرفتها لتجد "رنيم" تحملق فيها بشدة .. ثم وقفت فجأة قائلة :
- برافو عليكي .. ايوة كدة افحمتيه .. ولو انك زعلتي يوسف بالكلمتين اللي ملهمش لازمة دول ..

انتفضت "ريحانة" بحزن بالغ وخوف أن يكون غضب "يوسف" حقا مم قالت .. مهما قالت أو فعلت فلـ"يوسف" مكانة خاصة في قلبها وتأبى أن تغضبه .. فقالت :
- يوسف زعل مني .. انا قلت ايه ..

كان "يوسف" من دخل خلفها قائلا :
- ان لو ليا اب كان هيحافظ عليا .. وانا هعفيكم من بنت خالتكم .. هو انا ابن خالتك بس يا ريحانة ..

التفتت له ودموعها تتقافز لعينيها .. لم تشأ أن يغضب "يوسف" منها هكذا .. صوته يقطر ألما .. ارتمت على صدره وهي تبكي بشدة .. فأخذ يهدهدها وهو يقول باسما :
- بس افحمتيه يا نونا .. تعرفي رغم ان الكلمتين البايخين دول ضايقوني وعارف انهم من ورا قلبك .. الا انك ابهرتيني دلوقتي .. ولا عدتي تعبري الواد دة .. وبكرة هو اللي هيجري وراكي ..

ابتعدت عنه مبتسمة فقبلها بين عينيها وهو يقول :
- ايوة كدة عاوز وشك دة منور علطول .. ولا فيه حد حيقدر يهز شعرة منك ..

أومأت برأسها وابتسامتها تتسع ثم قالت :
- بس متزعلش مني .. بالله عليك .. انت عارف انت غالي عندي اد ايه ..

احتضنها قائلا :
- انا مش زعلان خلاص .. بس احمدي ربنا ان جدك مكانش موجود وسمع العبط بتاعك دة .. كان هو اللي هيزعل اوي ..

ثم أبعدها عنه قائلا :
- كفاية عليكي كدة بقى اصل رنيم بتغير ..

تعلقت برقبته قائلة :
- المفروض انا اللي ابعد عنك .. ولا انت عاوز تحرجني يعني ..

أحاطها بذراعيه قائلا :
- لا عاش ولا كان اللي يحرجك يا قلبي ..

ابتسمت وهي تبتعد عنه لتحتضن "رنيم" بشدة قائلة :
- رنيم شكرا شكرا شكرا ..

نظر لها "يوسف" فابتعدت "رنيم" عنها قائلة كمن تدفع تهمة :
- والله ما اتدخلت في اللي قالته .. انا كمان كنت منبهرة زيك بالظبط ..

ضحكت "ريحانة" وهي ترى "رنيم" القوية دائما .. تتصرف هكذا .. فضربتها "رنيم" على رأسها .. فابتسم "يوسف" وهو يقترب من "رنيم" قائلا :
- خلاص يا قلبي حقك عليا ..

ثم أحاطها بذراعه قائلا لـ"ريحانة" :
- انتي يا بت يا اللي عاملالنا انبهار .. ملكيش دعوة بأميرتي تاني .

Continue Reading

You'll Also Like

10.2M 250K 54
من بعد تلك المرة الوحيدة التى جمعها القدر به اصبحت من بعدها غارقة بحبه حتى أذنيها..قامت بجمع صوره من المجلات و الجرائد محتفظة بها داخل صندوق كما لو ك...
994K 6.9K 3
افوت بشارع اطلع مِن شارع وماعرف وين اروح المنو اروح ويضمني عنده صار بعيوني بيت خالته وساسًا ما عندي غيرها حتى الجئ اله اابجي واصرخ شفت بيتهم مِن بع...
8.9M 295K 66
حياتها بائسة...فالعيون الجائعة تترصدها بكل مكان فتجعلها تعيش الجحيم في كل لحظة من لحظات يومها البائس ..ظلت تقاوم و تحارب بطرقها الخاصة كما اعتادت منذ...
421K 9.8K 37
لو إلتقينا في عالم آخر لوقعت.. لغرقت وتهت في حبك ولكن ولدنا هنا في عالم انتِ القاتلة وانا السجان واه من حرقة الإنتقام ولهيبها تهنا معًا في هذا الظلام...