Protagonist | بطل الرواية

Por Yafamethyst

399K 16.8K 14.2K

لم أكن يومًا فتاةً تمتلك نظرة عادية ..لطالما آمنت بفكرة أن العالم أكبر مما نتخيل وأن داخل كل شخص فينا عالم آخ... Más

•مقدمة•
Part 01 : قِلاع النبيذ
Part 02 : خريطة برشلونة
Part 03 : زحل يَلتهم إبنه
Part 04 : نركسيس يُقبّل إنعكاسه
Part 05 : لُمِسَ كعبُ آخيل
Part 06 : هوسُ إيروس
Part 07 : ثمانية و نصف
Part 08 : بوابة الخَطايا السبع
Part 09 : بين المَجرات
Part 10 : أحفادُ الأساطير
Part 11 : عبر عدسةِ إكستَاسي
Part 12 : البحثُ عن هايد
Part 13 : داخل بتلاتِ بانْسِيه
Part 14 : منجلُ المَلك
Part 15 : هز أطلسٌ كَتفيه
Part 16 : حواس الذِئاب
Part 17 : جوف عقلِ فان غوخ
Part 18 : طبقات التِيراميسو
Part 19 : فكُ شيفرة الأفعوانية
Part 20 : من الخِنصر إلى المعدة
Part 22 : مغادرة القِلاع
Part 23 : سميرالدو أسفلَ البركان
Part 24 : حرشفة ذيلِ حورية
Part 25 : الممر الثامن للإليسيُوم
Part 26 : تحت لِحاف نيفيكاري
Part 27 : سليلة لا مُورتي نِيرا
Part 28 : الصفحة الأولى: تَنبيه
Part 29 : أين تُدفن الجثَث؟

Part 21 : جُثة أم حلوى؟

10.3K 384 588
Por Yafamethyst

«كذئبين أعلى التلة..

يحدقان في المغيب نهاية الشفق الأحمر..

ينتظران اِنبِثاث العتمة ليختما الليلة بالبكاء والعويل».

__________________________

Flashback

"ليلة الحفل - قصر عائلة كاستيلو"

أتعرفون تلك الهالة السوداء التي تحيط بشخص ما لدرجة أنها تطمس كل الأشياء من حوله؟ ، هالة كثيفة قاتمة تحجب عنك كل شيء عدى الشخص صاحبها، فتجد نفسك تحدق به وحده بعد أن فرض نفسه غصبا، بعد أن استحوذ على تركيزك وإنتباهك كله، وبعد أن غطى عن الجميع، تلك الهالة لم تكن إلا أفكارا دفينة خرجت ملتفة حوله، ليست إلا إنعكاسا لشخصيته الحقيقة التي خبأها في تجاويفه.

تلك الهالة كانت خاصته، وحده من وقف أمام باب مكتب رونيا كاستيلو في الطابق الثاني، بعد أن إبتعدت أصوات الضحكات والموسيقى في الأسفل وإختفت شيئا فشيئا، بعد أن غادر تاركا الحفل خلفه ليصعد إلى الطابق الذي توارى داخله الجميع..

ها هو الآن أغوستينو بمسدس بأربعة رصاصات خلف ظهره، بأعين ثابتة وملامح متأهبة هادئة حرك كتفيه بخفة كشخص رمى بعضا من الحمولة كي يبحر داخل مصير مجهول، وضع يده على مقبض الباب يحركه بصوت غير مسموع ودخل بسلاسة كإنقشاع الظل وكأنه لم يكن..

إختفى ضوء الردهة وحل مكانه ظلام المكتب بجَوه المكتوم، خيوط ضوء متسللة من الشرفة خلف المكتب ورائحة قهوة طازجة كان كل ما استشعره أغوستينو بمجرد دخوله، لكن المنظر الذي كان أمامه لم يكن هادئا وشاعريا كما بدى للوهلة الأولى لأنه وفور دخوله أول ما وقعت أعينه السوداء عليه كان جسد رجل ملقى على الأرض..

أجل كان ذلك أول ما رآه عندما وطأت قدمه أرضية مكتب رونيا، جسد رجل يرتدي زي نادل، سروال أسود وقميص أبيض ملطخ بالدماء، تلك الدماء المنسابة من عنقه المطعونة بأداة حادة نظر إليها أغوستينو بأعين ثابتة وملامح فارغة وكأنه ينظر إلى أكثر المشاهد إعتيادية، نظر إلى عيني الرجل الذي وبينما كان يصارع الموت رفع أعينه لتلك خاصة زعيمه..

كان هذا الملقى أرضا نفس الشخص الذي أشار إليه زعيمه سابقا في الحفل كي يصعد، نفسه من دس المسدس داخل النبتة ونفسه أيضا من تلقى طعنة في عنقه عندما تم استدراجه نحو مكتبها عندما نادى عليه شخص ما قبل أن يقوم بطعنه ومشاهدته يتخبط أسفل أقدامه بأعين جاحضة، كل هذه المشاهد كانت من توقيع رونيا جيوفاني كاستيلو.

المرأة التي لفتت نظره إليها عندما تحركت من الزاوية وتحرك معها طيفها بهدوء، رفع رموشه المنسدلة من الذي كان يحتضر في الأسفل لتقع أعينه على جانب وجهها الذي ظهر بوضوح بسبب الإضاءة الصفراء الخاصة بالحديقة المنعكسة عليها، بينما كانت تحمل فنجان قهوتها ترتشف منه بلامبالاة بادية على ملامحها من تلك الزاوية تحدثت بنبرة رسمية لا تناسب أحدا غيرها، نبرة سيدة المكان.

"مرحبا بك داخل قلعتي سيد ميندوزا"

المرأة ذاتها التي كانت توزع الإبتسامات في الأسفل، من وقفت بوقار وسط الحضور تتحدث حول أعمال العائلة رفقة زوجها، هي ذاتها من رفعت رأسها أمامه الآن بنظرة لا تختلف عن نظرته، نظرة فرد من المافيا مشبعة بسواد العالم السفلي، أما هو فقد إبتسم، بكل هدوء إرتفع شدقه الأيمن بطيف إبتسامة وأعين ثابتة قائلا.

"أعجبتني سرعة التجرد من الأقنعة هذه"

"بربك هل إنتظرت مني أن أراوغ ونمارس لعبة الإختباء والبحث، إننا بالغين فإجلس ودعنا نصفي الحسابات مباشرة"

"بالطبع لن أفعل هذا وأحد رجالي مطعون على أرضية مكتبكِ"

قالها توازيا مع تغيير بؤبؤيه نحو الرجل في الأسفل دون أن يحرك رأسه حتى نقل بصره إليه بهدوء ليرمش له المطعون أسفل أقدامه، رمش ببطء وألم كإشارة لزعيمه الذي فهم على الفور ما يرمي إليه، لذا مد يده إلى المسدس خلف ظهره سحبه ثم فك قفل الأمان بكل ثبات يحدق في ملامح ذلك الذي أغمض عينيه بقوة بينما لازالت تلك القطعة الحديدية عالقة على جانب عنقه..

في حين رونيا كانت ترتشف من فنجان قهوتها بكل هدوء واسترخاء وكأنها تشاهد برنامجها الصباحي، لم تبد ردة فعل على سحبه للمسدس ولا وقوفه أمامها بل وبكل عدم إهتمام تلذذت بقهوتها تنظر إليه كيف إقترب من الرجل الغارق في دمائه وإنحنى يستند على ركبته قربه ثم همس له وهو ينظر داخل عينيه المتلئلأتين بدموع متحجرة داخلهما.

"لم تكن مجرد رجل يعمل تحت امرتي، ولا طائرا جارحا، كنت رفيقا جيدا يجيد لعب الكوتشينة و له ذوق جيد في الأفلام، ليو"

قالها وهو يمرر سطح سبابته على تلك الدمعة التي تسللت على جانب وجهه وهو ينظر إلى زعيمه بإبتسامة متألمة حملت داخلها الكثير من الردود والكلمات التي حاول أغوستينو ترجمتها لبرهة قبل أن يرمش له الآخر لينفذ ما كان بصدد فعله وهو تخليصه من عذابه..

لذا وضع أغوستينو المسدس فوق قلبه ثم بسط كفه على عينيه الدامعتين يغلقهما يحجب عنه آخر صورة ألا وهي وجهه ثم وبكل ثبات وبنظرة اسودت رفع رأسه إلى الجانب نحو رونيا التي رفعت له حاجبها بلامبالاة، حينها ودون أن يزحزح بؤبؤيه عنها أطلق النار فجأة لينتفض جسد الآخر تحت يده مرتدا إلى فوق بسبب قوة الطلقة وقرب إطلاقها..

دقائق قليلة ظل يحدق بالجثة التي لازالت يده تغطي أعينها، ظل ثابتا يسترجع كل لحظة مرت وهو برفقته سابقا، ولعل أبرد وأغرب ما سمعه في حياته هو عندما تحدثت هي تخاطبه في الجهة الموازية.

"كان هذا مؤثرا حقا، ليتني أفنى بطريقة عاطفية هكذا"

"يمكنني تحقيق رغبتكِ هذه الآن إذا أردتِ ذلك"

استقام تاركا تحته الجثة الهامدة الغارقة في الدماء، نفس الدماء التي لطخت يداه، وفقط رائحة السجائر التي إنبعثت من طرفها هي ما جعلته يدرك أنها تستمتع بما يحدث الآن بعدما قابلته تشعل سيجارتها وهي مستندة بجذعها على المكتب خلفها.

"فلنتخطى المقدمات، ما الذي تريده سيد ميندوزا؟"

"لم يكن هذا السؤال الأصح، بل ما الذي تريده النجوم السوداء منكِ سيدة جيوفاني"

وعند تلك الكلمة، عند لقبها الحقيقي توقف إبهامها فوق الولاعة لأجزاء من الثانية قبل أن تشعلها نافثة دخانها جانبا بإبتسامة غريبة شقت وجهها.

"جئت لقتلي إذا"

للوهلة الأولى ستظن أن السؤال كان صادرا بنبرة مرتعبة أو بجسد مرتجف وأعين جاحضة لكنها قالت كلماتها بهدوء وإبتسامة وكأنها تخبره بأن موعدا لهذا، في حين أجابها بالإيطالية مغيرا لغة حوارهما ربما بنية اِستفزازها أكثر.

"أمر قتلكِ صدر قبل أشهر، كان جسدكِ الآن يتحلل في مكان ما بلاريوخا لو فعلت ذلك"

"بربك، لو أنك فعلتها ودفنتني في إحدى أراضيكم هناك، كان سيصبح نبيذ غوستافيون نبيذًا فاخرا"

"هل أخبرتِني الآن سر جودة نبيذكم؟"

قالها بتساؤل ونبرة ساخرة رافعا لها حاجبه لتفاجئه الأخرى عندما غمزت له كأنها تريد أن يُبقي الأمر سرا بينهما وأنها حقا تدفن ضحاياها في مزارع الكروم الخاصة بعائلة كاستيلو، همهم لها يحرك رأسه بإعجاب قائلا مع أخذه مكانا على ذراع المقعد الجلدي أمامها.

"سأحرص على هذا مستقبلا، أما الآن أخبريني سيدة جيوفاني..ما الذي يريده الزعيم الأكبر منكِ، أو بالأحرى..ما الذي تعرفينه عن النجوم السوداء لأنكِ لم تتسائلي حولها سابقا"

"يبدو أن أحدهم سيعاقب بسبب عدم تنفيذه للأوامر" ومرة أخرى نبست بنبرتها المعتادة تشير إليه بحديثها هذا كونه لم ينفذ أوامر النجوم السوداء في قتلها.

"ربما فعلتُ شيئا قد أغضب جدك، أو ربما لأنه بدأت تظهر عليه أعراض الخرف فأراد أن يتسلى"

"من قال أن الزعيم رجل و أنه جدي؟ دعينا نبدأ من هذا الآن"

وضع المسدس فوق حجره وإستند بظهره إلى الخلف ينظر إليها كيف وضعت هي أيضا فنجانها جانبا تتحدث بالإسبانية عكسه كما كانت تفعل منذ دخوله.

"أعرف أكثر مما تتخيل سيد ميندوزا، أعلم أنك وريث العائلة الوحيد ويفترض أنك الزعيم الآن وأن جدك من يتولى الزعامة حاليا، لقد أخبرتك سابقا بأن نتخطى المقدمات"

"أفكر في الشيء الذي فعلتِه حتى تُرسل إلي مهمة لقتلك، لماذا؟ "

"ربما لست ودودة مع الجميع"

"وأيضا؟.. هل لأن لكِ علاقة بالياقات البيضاء مثلا!"

إرتجاف طفيف في يدها حاولت إخفاءه عنه بإلتفاتها ناحية الجهة الأخرى للمكتب كي تجلس خلفه، لبضع دقائق أرادت أن تأخذ نفسا لتعرف ما تتفوه به دون أن تكشف له أمر المنظمة لأنها أدركت للتو أن القابع صوبها يعرف الكثير هو الآخر، أو على الأقل أدركت أنه يعرف علاقتها بالياقات البيضاء، لذا رفعت أعينها له لتجده يفعل المثل هو أيضا يحدق بها بهدوء كمن يقرأ أفكارها.

"ما الذي تريده لأنك لو أردت قتلي لفعلت ذلك منذ زمن كما قلت قبل قليل؟"

"أريد أجوبة"

"من المفترض أن تسأل من أرسل لك مهمة القتل وليس الضحية"

"ليس عندما تكون الضحية لها يد في فتح الياقات البيضاء، وربما لها يد في موت والدتي"

كانت يدها فوق فخذها في الجهة المقابلة مخبأة خلف المكتب، يد ترتجف بطريقة غريبة شكرت الرب أنه لم يلمحها لأنها هي نفسها بكل قوتها تلك لم تستطع السيطرة عليها، إرتجاف كان يسري على طول ذراعها جعلها تعتدل في جلستها تصطنع الجدية والثبات في ملامحها قائلة.

"إنها إتهامات ثقيلة سيد ميندوزا، الأجدر بك أن تبحث من المكان الذي بدأ فيه كل شيء، أن تبحث في موطن والدتك وأن تضع جدك أمامك وتستجوبه عن أعداءه كما تفعل معي الآن"

توقفت تشابك أصابعها أمامها بعد أن استرجعت بعضا من الثبات والثقة، وضعت مرفقيها على سطح المكتب وإنحنت بخفة للأمام تهمس له.

"إن الإجابة التي يبحث عنها المرء تكون دائما في المكان الذي خُلق فيه السؤال أول مرة"

كانت تقصد إيطاليا حيث بدأ كل شيء وقد أدرك على الفور ما كانت ترمي إليه لتكمل تحت نفس النظرات التي رمقها بها كشخص يأخذ جل وقته في التفكير وقراءة من يجلس صوبه.

"أعلم أنك تنازلت عن الزعامة من أجل عائلتك هنا لأن الخبر إنتشر قبل سنوات كالنار في الهشيم، لكن الآن من الأفضل أن تعود كي تجد أجوبتك هناك"

"لكنكِ أنتِ من فتح الياقات البيضاء مجددا أليس كذلك!"

"أخبرتك، لن تجد إجاباتك عندي"

"لم تنكري أن لا صلة لكِ بهم"

"عدم الإنكار لا يعني موافقتك على ما قلته"

"تعرفين أن هذا لن يكون حوارنا الأخير سيدة جيوفاني"

نبس بها وهو يغلق زر بذلته أثناء وقوفه بعد أن طال حديثهما وهو الذي أخذ ما يريد أخذه، وكي لا يلفت الإنتباه لإختفاءه كثيرا وضع نقطة النهاية للقاءهما هذا كي يرتب افكاره بعيدا، بينما إبتسمت له قائلة وهي تنقل بصرها إلى جثة الرجل في الأسفل.

"تعرف أين تجدني سيد ميندوزا"


كان قد أخذ مراده بطريقة أو بأخرى أصبح متأكدا من أن الياقات البيضاء لم تكن مجرد منظمة شريفة تحارب الفساد، منظمة اُسست لردع المافيا الإيطالية كما ظن الجميع، فقط أدرك للتو أن أفرادها ليسوا أشخاصا عاديين أو أعضاء شرطة ومحققين كما فكر سابقا، بل كانوا قتلة لا يختلفون عن النجوم السوداء وربما أسوء..

لأن دخوله على إمرأة طعنت أحد رجاله كان سيراه دفاعا عن النفس لو لم يراها بعدها كيف كانت تتأمله وهو يحتضر تحتها بدم بارد وهي تحتسي قهوتها بحب كإمرأة إيطالية أصيلة، لو لم تُلمح له بأنها تدفن الجثث تحت كروم كاستيلو لقال أنها مجرد زوجة رجل أعمال لكن بعد كل هذا أدرك أنها ليست شخصا عاديا..

أدرك أنها قاتلة مخضرمة لا فردا يحارب القتلة، حينها فقط أدرك أن الياقات البيضاء ليست مجرد منظمة تسعى لكشف أسرار العالم السفلي بل هي أعمق وأسوء مما تبدو..

ألقى نظرة أخيرة على الجسد الشاحب على الأرضية، ثم نقل نظراتها الفارغة إليها من قلدت حركته تمرر بصرها من الجثة إليه وهي تستند على ظهر الكرسي خلف المكتب باِسترخاء قائلة وسط سيره بهدوء ناحية الباب.

"إحرص على ألا تتقاطع طرق رجالك أو أفراد عائلتك معي مجددا سيد ميندوزا، لأنني سأحرص على دفنهم تحت تربتي، وسأرسل إليك زجاجة نبيذ لتتذوق طعم عنب الجثث خاصتي"

بإبتسامة جانبية ماكرة أنهت حديثها تتبع تحرك شفتيه كيف أطلق بخفة زفيرا ساخرا أثناء وضع يده على مقبض الباب يوليها ظهره..

"عدم تنفيذي لمهمة النجوم السوداء لا يعني إمتناعي عن قتلكِ، وسأحرص أنا أيضا على دفنكِ داخل براميل البلوط لا تحت التربة سيدة جيوفاني"

"لا لن تفعل...لن تقتل والدة إمرأة تحبها"

وعند تلك الكلمة توقفت يده الدامية التي كانت بصدد فتح الباب، توقف دون أن يظهر لها ما حل به في تلك الثانية التي تحدثت عنها وكأنها تعرف كل شيء منذ الليلة الأولى..

أما هي فقد كانت كذلك بالفعل، من نظراته ومعاملته لها، من أنفاس إبنتها وتنهيداتها من كل ثانية راقبت فيها تفاصيلهما كانت تعرف..لكن تغاضيها عن الأمر يبدو أنه إنتهى الآن عندما كشفت له أمر معرفتها المسبقة بل واستعملت تلك المشاعر لدرع لحماية نفسها والضغط عليه أكثر..

بينما ساد الصمت في الغرفة وإكتفت هي بمراقبة ظهره من الخلف اسودت نظراته أكثر وضغط على المقبض حتى ابيضت يده في محاولة لكبح غضبه عندما استشعر محاولاتها في استفزازه لذا تحدث تحت أنفاسه بلغته الأم دون أن يلتفت لها..

"في حال تعرض أحد أفراد العائلة لضرر، لا وجود لقوى كونية ستجعلكِ تفلتين من يدي، بل وستشاهدين قلعتكِ هذه تنهار أمام عينيك بداية من أطفالك"

لفظ آخر حروفه بثقل وتأني كمن يسمح لها باِستيعاب كل ما تفوه به ثم خرج كالظل تماما كدخوله، بثلاث رصاصات بدل أربعة ودماء جافة على كلتا يديه، خرج يستنشق عطرها في الممر ليتنفس حينها بعيدا الجانب الأسود الذي كان غارقا فيه.

بينما في الأسفل، تحت تلك السلالم المتفرقة على الجانبين حيث وقفت هيتايرا أمام طاولة المشروبات تأخذ الكأس الثالث منذ وقوفها هنا قبل لحظات لتشربه دفعة واحدة واضعة إياه بملامح شاحبة تحرك رأسها بعدم تصديق لما رأته سابقا..

عندما دخلت إلى غرفة فرناندو أثناء بحثها عنه وكاثرين بعد إختفاءهما فجأة حالهما كحال مانويل ودومينيك، ولعل تلك كانت المرة الوحيدة التي شعرت فيها بالإختناق إثر الصدمة بعدما لفحتها رائحة النعناع القوية بمجرد فتحها للباب، حينها تصلبت تنظر إلى شقيقها الذي كان يعزف على الجيتار بينما منغمس في الحديث مع دومينيك حول فرقة الروك..

ما هي إلا دقائق حتى أدركت هيتايرا أن تلك لم تكن مجرد صدفة بل حبست أنفاسها ما إن وقعت أعينها على طريقة عزفه وحمله لريشة الجيتار بيده اليسرى، هناك عند الباب الموارب ركبت قطع الأحجية، رائحة النعناع القوية و شخص أعسر داخل المنزل، كل الأدلة كانت ضده..

وبدل أن تفتح الباب على مصراعيه وتدلف إليهما لتسأله مباشرة، أغلقته وعادت أدراجها حاملة صدمتها على ملامحها ترجم نفسها بالأسئلة حول حقيقة شقيقها وعلاقته بحادثة لاريوخا،حول تورطه بشيء قذر كهذا، أما ما لم يفارق قلبها عدى نبضه المتسارع هو ذلك الشعور الغريب بأن أغوستينو كان يعلم منذ البداية لكنه يدعي الجهل طيلة الوقت.

خرجت تغلق الباب على سرها وإختفت تسرف في الشرب كي تنسى، كي تكون الشخص المسؤول عن حماية أحد أفراد عائلتها مجددا، كآخيل بنقاط ضعف خفية وُضعت مرة أخرى في خانة التضحيات.

________

على طول جدران ذات لون شاحب إمتدت رفوف خشبية تحمل أعمالا فنية من الفخار، وبنفس ذلك اللون الخشبي إكتست الأرضية ببلاطات على شكل ألواح أضافت إلى الجو الدفء عكس أصوات الرياح الباردة في الخارج..

وسط استوديو ينبض بالفن أين كانت رائحة الطين تعبق في الهواء مصحوبة بدخان عطري صادر من عيدان تبخير موزعة في كل ركن، داخل ورشة بلمسة طبيعية يسودها الهدوء لتعطي طابع المعابد الصينية القديمة إنتشر صوت العجلة الدائرية يكسر تلك السكينة..

جالس على كرسي منخفض محاط بأدوات نحت مختلفة، كان يفرد كتلة الطين على سطح القرص الدوار في الأعلى بينما راحت أصابعه تشكلها بحرفية رجل ذو يدين خبيرتين مراعيا التفاصيل مع كل حركة..

كان دومينيك في هيئة أخرى بعيدة عن الآخر الطائش بتصرفاته الصبيانية، كان ذا تركيز وبصمات خبرة على وجهه حيث جلس وسط الورشة لساعات لتشكيل الفخار داخل ركن هادئ خلقه من حوله، ركن خصه لجانب الفنان فقط..

على حاله هذا منذ أيام..

كان ينحت عقله حيث يمنح أفكاره الحياة بتجسيدها في أواني فخارية فيبلله بمياه ماضيه ليلين، قبل أن يقوم بتجويفه ليترك مكانا فارغًا في المنتصف لأفكاره المفقودة علها تعود إليه يوما فتجد مكانًا تستقر فيه، وعندما تأتي مرحلة التزجيج يحرص على أن يكون فخار عقله جافا تماما ليقوم بتلوينه بزخارف الأمل ليصل لاحقا إلى الحرق فيدخله الفرن كي يذيقه حرارة اليأس فيصبح صلبا ذا ألوان ثابتة، ويكون بين يديه في النهاية تحفة خزفية مزخرفة جاهزة للاِستخدام..

ضغط بيده على إسفنجة ماضيه لتنساب منها مياه مشوهة الملامح وبأنامل يده الأخرى راح يحدد حواف مستقبله، بينما في الأسفل تحت تلك القطعة الطينية اللينة دارت عجلة القدر تلفها بسرعة لتصل إلى شكلها المثالي مثل البقية على الرفوف الخشبية خلفه..

كان شاردا في التفاصيل بين يديه يضغط عليها تارة ويجوفها تارة أخرى بشرود منفصل عن العالم أجمع، إلى أن ودون أن ينتبه لأي حركة صدر فجأة صوت أنثوي من المدخل جعل يده تتحرك بتلقائية تفسد شكل المزهرية وسط كفيه..

"ظننت أنها ورشة نحت لكنها تبدو معملا لصنع الفخار"

رفع رأسه عن موضع عمله ينظر إلى الكائن الواقف أمامه باِستغراب وتفاجئ لبضع ثواني جعلتها تبتسم على صدمته في رؤيتها، ولأنه تدارك الوضع رمش يعتدل بينما توقفت أصابعه عن العمل وبقيت العجلة تدور تحتهما تحرك مزهرية أفكاره التي طُحنت قبل قليل.

"آنسة رايفن..أ لم تنتهي الجلسة صباحا، ما الذي جعل غراب القلعة يحط فوق ورشتي؟"

"إنه السيد مانويل كعادته، أعلم أنكما تطلقتما وإنتهى عملي بالفعل لكنه رفع دعوى عدم التعرض وأردت أن تعلم بهذا، كنت سأتصل بك لكن قررت المرور على الورشة بما أنها في الطريق ذاته مع منزل أهلي"

فلتت منه ضحكة وسط حديثها عند وصولها إلى عدم التعرض، ضحكة رافقتها نظرات مستغربة على أفعال مانويل التي لا تنفك تثير صدمته أكثر، ففي جلسة طلاقه وعند حضور مانويل بصفته محامي الطرف الآخر ورغم أن الطلاق متفق عليه مسبقا ولا وجود لمشاكل بينهما إلا أنه ضيق عليه الخناق وكأنه في معركة هذا إن صرفنا النظر عن جديته وتحوله الغريب أثناء تواجده في المحكمة..

أما الآن فيبدو أنه إنتقل إلى المرحلة الثانية وهي حرصه على جعل دومينيك يعاني أكثر..

"جديا..عدم التعرض؟ هل يظن حقا أنني سألحق بها الأذى يوما، أم أنها فكرة هيتايرا من الأساس؟"

"لا، يبدو أنها لا تعرف أي شيء حاليا، إنها فكرته لطالما كان حريصا على سد كل الثغرات وغلق القضايا نهائيا مع عدم ترك أي شيء سيعكر صفو أفكاره مستقبلا، ربما أراد أن يضع كل إحتياطاته"

وضعت الورقة على طاولة جانبية أثناء إقترابها وتوقفت أقدامها أمامه تماما هذه المرة مع تفوهها بآخر كلمة ليتبعها بعينيه بينما لازالت العجلة تدور تحت يديه دون أن يأبه بها، أخذت رايفن المقعد الموضوع في الجانب لتقابله بعدما وضعت حقيبة ظهرها الصغيرة أرضا، ثم وهي تتأمل الأثاث من حولها نزعت معطفها لتضعه جانبا مكتفية بقميصها الأسود القصير الذي أبرز أعلى صدرها..

نقلت بصرها من الرفوف خلفه إلى وجهه أمامها متفحصة سبب هدوءه الغريب لتجده شاردا فيها، في تلك اللحظة فقط همس لنفسه داخل أعمق ركن في قلبه بأنها تبدو أجمل عن قرب وأن أعينها تلمع كسطح تحفة خزفية، نظر إليها وكأنه يراها للتو..

أما هي فقد جلست تقابله بهيئة متأهبة جعلته يحرك لها رأسه بإشارة تساؤل على ما تفعله، حينها رفعت كُميها لمرفقيها وبحركة مباغتة وضعت يديها فوق يديه تماما، فوق العجلة الدوارة حيث إلتفت تلك الكتلة الطينية تعانقت أيديهما فوقهما مباشرة..

"ما الذي تفعلينه، ستتسخ ملابسكِ"

"وما المانع في هذا؟ في النهاية لست حمامة، إني غراب"

بغمزة أنهت بها كلامها أبعدت إحدى يديه جانبا كي تضع خاصتها مكانها لتكون بهذا تمسك كتلة الطين الدوارة بينما هو يفعل المثل في الجهة الأخرى بيد واحدة.

"هل سنبقى هكذا، أ لن تعلمني كيف أفعلها؟"

"تمزحين !! ألا ترين هيئتكِ هذه! ترتدين بذلة رسمية..هيا لا تفسدي مظهركِ"

"كما تريد..لكن تأكد من أنني سأجعلك تواجه السيد مانويل مجددا مقابل هذا"

"لا..لابأس سأعلمكِ، سأفعل أي شيء عدى مواجهة ذلك الكائن مرة أخرى تحت أي ظرف"

قالها بإبتسامة عندما تذكر ملامح الأخير في آخر جلسة ونظرات الاِستحقار الحادة التي لا ينفك يرمقه بها كلما تلاقت أعينهما.

لذا رفع يديه الغارقتين بالصلصال اللزج بسبب بلله واضعا إياهما فوق يديها محدثا رعشة سرت على طول عمودها الفقري، ذلك الرجل اللعوب ذو الشخصية الماكرة وضع يديه لأول مرة دون أن يفكر في شيء آخر عدى تعليمها صنع الفخار، لأول مرة لم تتزحزح أعينه الزرقاء عن خاصة إمرأة بسبب إنشغاله بالتفكير في غرابتها، جرأتها وعدم خوفها من نظرته إتجاهها..

لم يعرف طبعا أن راحتها هذه لم تكن إلا بسبب تلك الفكرة التي ترسخت داخل عقلها، وهي أنها الآن وبينما أصابعهما تتلامس بتلك الحميمية في الأسفل كانت تلعن حظها كونها جالسة أمام رجل وسيم لكنه شاذ..

لذا نفض عنه ذلك الفضول ناحيتها وبدل نظراته منها إلى مكان عملهما في الأسفل محمحما منظفا حلقه من جفافه الغريب فجأة، في حين مرر أنامله الباردة على أصابعها يضبط لها موضع يديها كي تتحكم في القطعة جيدا.

"إضغطي برفق على الحافة في الأعلى وإنزلي ببطء للأسفل كي تتحصلي على الشكل الأولي"

بصوت خافت قرب وجهها من تلك المسافة المنعدمة بينهما تحدث بينما كان منغمسا في مساعدة يديها على الحركة بسلاسة، بتركيز شديد وجدية، بأنامل تعرف جيدا أين تتحرك تحكم في أصابعها واضعا كلتا يديه فوق ظهر خاصتها التي تلطخت بالطين تماما كخاصته..

أما هي فقد كانت تبتسم بإتساع على ذلك الشعور الذي راق لها، شعور لزوجة الصلصال وبرودته، شعورها بكفيه اللذان إحتضنا كفيها ولكونها تجربتها الأولى في صنع الفخار، بالنسبة لشخص مثلها يحب أن يتفوق في كل شيء كانت تتحدى نفسها بأنها ستصنع شيئا مثاليا من المرة الأولى..

"إنها ورشة نحت ومعرض في نفس الوقت، في الطرف الآخر توجد التماثيل، بالنسبة إلى هذه الجهة فجعلته ركنا لصنع الفخار"

بخفوت كالمرة السابقة أردف ينتشلها من شرودها لتنظر ناحيته بعد أن أدركت أنه أجابها للتو عن سؤالها أول مرة، لتهمهم له بتفهم في حين لازالت يداه توجهان يداها أثناء تجويف القطعة لتسأله وهي تتأمل دوران الطين بعدما استوعبت تواجده في الورشة في وقت كهذا.

"إذا..ما الذي ستفعله..أقصد..هل لديك خطط لليلة الهالوين؟"

"لا أمتلك تقاليدا خاصة، سأقضي الليلة هنا كالعادة، ربما أغادر في وقت متأخر"

توقفت يدها تكبح تحركه ليتوقف بتلقائية هو الآخر رافعا رأسه باِستغراب متسائلا عن سبب هذا لتنظر إليه رافعة حاجبيها وكأنها سمعت أكثر الأشياء المتجردة من المنطق.

"أيعقل هذا، إنها ليلة عيد القديسين، ماذا عن عائلتك!! أحقا لا تمتلكون مخططات لمناسبة كهذه؟"

"أجل.."

أجابها يبعد زرقة أعينه عنها للأسفل حيث حرك يديها لتسايره بنفس الفضول والقليل من التعاطف الذي شعرت به تجاهه..

أما بالنسبة له فقد همس في داخله بأكثر الأشياء التي رددها في قلبه كل ليلة خلال صنعه الفخار، خلال صبه لأفكاره داخل مجسماته الخزفية، شيء واحد أصبح واضحا ومسلما به منذ سنين وهو -لا وجود لعائلة من الأساس لتكون فيها مخططات وتقاليد خاصة بها-

ولأنها استشعرت ذلك التغيير على ملامحه بعد أن حل الصمت بينهما رفعت كفيها عن المزهرية التي كانت قد تشكلت بالفعل لينظر لها مجددا وقبل أن يسأل تحدثت وهي تنتشل المنديل من الجانب تمسح يديها بإبتسامة شخص قد عثر على حل.

"هيا أغلق العجلة وإنهض"

"إلى أين؟"

"تعال.. فلتقضي ليلة الهالوين معنا..مع عائلتي"

"بالطبع لا" كانت نبرته حاسمة وجادة ظن أنه قد وضع النقطة على الموضوع يغلقه نهائيا حينما ضغط على العجلة لتتوقف وحمل المنديل يمسح ما لطخ يداه.

"سيعجبك الأمر صدقني، إن أجواء عيد القديسين لا تعوض"

"توقفي عن إهدار وقتكِ آنسة رايفن لأني لن أتحرك من هنا"

دحرجت أعينها بضجر نحو الجهة الأخرى متأففة ليقع بصرها على الجانب الشبه مظلم في الورشة والذي بدى لها من مكانها ذاك أنه الجانب المخصص التماثيل التي حدثها عنها قبل قليل، تمعنت فيها لبرهة ثم ودون سابق إنذار تحركت أقدامها تكتشف تلك الأجساد البيضاء اللامعة المصفوفة بجانب بعضها البعض..

تحت أنظاره داخل ورشة كبيرة بزوايا حملت العديد من التفاصيل مشت تنظر إلى الرخام البارد صوبها ببريق أعين يشبه بريق سطح تلك المنحوتات.

"كالخيال"

همست بها بصوت غير مسموع توازيا مع رفعها لأناملها تلمس ذراع أول تمثال توقفت عنده، بينما شعرت به يقف خلفها قبل أن يمد يده ناحية الجدار رافعا أزرار أضواء ذلك الجانب المظلم، وفي تلك اللحظة التي اشتعلت الإنارة واحدة تلو الأخرى تكشف عما تحتها فغرت فمها بدهشة بعدما ظهرت لها جميعا..

تقدمت بإبتسامة وأعين معجبة تماما كخاصته المعلقة بظهرها من الخلف، كان يتأمل دهشتها بنفس الإبتسامة واضعا يداه داخل جيوب مئزره الملطخ ببقع الصلصال.

"جميعها معروضة للبيع؟"

"لقد بيعت بالفعل"

نبس بها وهو يمرر بصره عليها جميعا واحدة واحدة بالترتيب ينظر إلى الملصقات أسفلها والتي تحمل اسم أصحابها، كان هذا الجانب له باب يُطل على الجهة الأخرى من الطريق، جانب خاص بالتماثيل الجاهزة حيث تُعرض كل شهر وتباع للأشخاص المهتمين بها وتسلم لهم في موعد محدد..

لذا وبينما مشت تهمس له بمدى إنبهارها بتلك التفاصيل راقب هو كل حركاتها تلك بسعادة غريبة على الرغم من أنها لم تكن مرته الأولى التي يصافح سمعه مديح كهذا، لكن أن يكون صادر منها هي بالذات كان بمثابة تأكيد على مدى مهارته..

بالتالي وسط ذلك الهدوء خرج من شروده على جسدها الذي توقف عند هيكل في زاوية بعيدة عن المعرض، زاوية بعيدة عن كل تلك التماثيل بطاولة جانبية مليئة بالأدوات التي كانت مخصصة للنحت، حينها إقترب منها بخطى حثيثة عندما رآها تمد يدها ناحية الهيكل أمامها كي تنزع الغطاء الأبيض فوقه كي ترى ما أخفاه تحته.

"لا تلمسيه، ذلك ليس ملكا لي، إنه لشقيقي وهو لا يحب أن يلمس الناس شيئا يخصه"

"مجرد نظرة خاطفة"

"لا لن تفعلي"

"سألقي نظرة سريعة فحسب، بعين واحدة أعدك"

قالتها وهي تشد على الغطاء بيد بينما ملتفة بجسدها نحوه تنتظر إذنه كي تسحبه كاملا لكنه نفى برأسه قائلا يمرر بصره على التمثال المغلف خلفها.

"موضوع هنا منذ سنوات ولم أتجرأ يوما على إختلاس النظر، لأنني أعرف أن أسوء ما قد يفعله شخص ما هو أن يلمس ما يخص أغوست"

على الرغم من أنه أكثر الأشخاص فضولا إلا أنه قال ما قاله الآن بجدية ونظرات ثابتة صوبه وكأنه يذكر نفسه بهذا كي لا يقع ضحية لفضوله..وفضولها أيضا، تلك التي إلتفتت إليه بكامل جسدها بنظرات شيطانية ماكرة علم على الفور ما تنوي فعله لينفي لها مجددا محركا رأسه ببطء.

"لما أنت جبان هكذا، دعنا نرى ما خلفه ثم نعيد كل شيء إلى مكانه ولن يلاحظ أحد ذلك أقسم لك"

"بحق الرب من بين كل تلك التماثيل لما أنتِ مولعة برؤية هذا؟"

"أ لست أنت أيضا؟"

"كلا"

"كاذب، إنك تتخبط داخليا كي ترى جزء منه"

رفعت حاجبها له بإصرار ليغمض هو عينيه كمحاولة لكبح فضوله وعدم تأثره بها، بكلماتها ونظراتها اللامعة تلك، لكنه فشل في ذلك، تأفف نافخا وجنتيه وقد علمت على الفور أنها وصلت لغايتها حينها فقط إتسعت إبتسامتها أكثر ووجهت بصرها وجل تركيزها أمامها صوب الهيكل المغطى وبحركة سريعة تحرك هو على إثرها بتوتر وبعض الندم سحبت الغطاء عن المُجسم ليسقط أرضا كاشفا عما تحته..

وقع ذلك القماش أرضا مخلفا ضبابا خفيفا بسبب الغبار الذي كان متراكما فوقه، سقط ليسقط معه قلب دومينيك تماما كفكها عندما فرقت شفتيها بإعجاب واضح، في حين الآخر...ذلك قد أصابته قشعريرة لرؤية تمثال كهذا لأول مرة طوال حياته، بل وخلال سنوات دراسته في هذا المجال كانت هذه المرة الأولى التي ينبهر فيها بعمل فني أقل ما يقال عنه أنه حجر كريم قد سقط من النعيم..

كان تمثالا من الرخام الأبيض بخطوط منحنية ذهبية اللون في كل زواياه، إمرأة فاتنة قد تقف بشموخ تغطي أثداءها بيدها بينما خصرها كان ما لفت إنتباههما لأنه إحتوى على ورود بيضاء موزعة على طوله بداية من صدرها إلى أسفل بطنها، ورود كأنها زُرعت داخل ذلك التجويف في خصرها وقد غُمرت بمادة شفافة صلبة جعلت جانب التمثال يبدو كجسد يُزهر، ناهيك عن تلك المادة الذهبية على كافة منحنياته.

صمت كما فعلت هي، لم يوبخها لم يتحرك قيد انملة بل وقف مصدوما مبهورا بما وقع عليه بصره، تماما مثلها من لم تتجرأ على مد يدها للمسه مثل بقية التماثيل الأخرى بل وقفت تمرر بؤبؤيها على كل إنش منه مصدرة أصوات إعجاب خافتة جعلته يبتسم بفخر على عمل شقيقه الذي لطالما كان مصدر إلهام له، كان قدوته وأول من جعله يهتم بالنحت والفن عامة..

"حسنا لنكتفي بهذا القدر، هيا لقد تأخر الوقت أحضري معطفكِ"

إنحنى ليحمل الغطاء أسفله وإبتعدت هي بشرود للخلف تمشي بطريقة عكسية تُلقي آخر نظرة عليه قبل أن تلتفت للجهة الأخرى حيث وضعت معطفها سابقا ليأتيه صوتها من الداخل..

"أكاد أقسم أنني وقعت في حب تمثال"

"ماذا إن رأيتي صاحبـ.."

توقفت يده عن تغطيته وسقطت إبتسامته، بتر حروفه وتصلب جسده أمام التمثال مباشرة، بذراع مرفوعة بصدد حجبه ونظرات صدمة قد إرتسمت على وجهه..

كان تمثالها، كل ما قاله كل ماردده داخل عقله أنه تمثالها، شعر بالدوار فجأة والرغبة في الجلوس كونه فقد القدرة على الوقوف أكثر كشخص قد خانته قدماه من شدة الوهن، كان تمثال هيتايرا الذي سينسى اسمه ولن ينسى توقيعها أسفل كل أعمالها منذ فترة دراستها في الجامعة، توقيعها على اللوحات والتماثيل وكل ما صنعته يداها لحد اللحظة..

منذ أن تعرف عليها وهي تختم كل عمل لها بيدين على وشك أن يتلامسا سبابتيهما مقتبسة ذلك من لوحة «خلق آدم» كترجمة لفكرة أنها تنقل فنها إلى العالم..

كان نفس ذلك التوقيع منحوت عند كاحل المرأة وقد رآه بوضوع عندما إنحنى يحمل الغطاء من على الأرض، تمعن فيه لدقائق ثم رفع بصره ليتأكد جيدا من شكوكه...

استقام جسده وبأعين متفاجئة وحلق جاف بلله بريقه هامسا توازيا مع وقوف رايفن خلفه ترتب شعرها..

"إنه تمثالها،مشروع تخرجها"

بشروده وهمهماتها بغير فهم خلفه ساد صمت غريب بعدها قبل أن يترك الغطاء ليسقط مجددا ودنى أكثر يتفحصه عن قرب، وهنالك فقط أدرك أن ما فكر به قبل قليل كان صائبا، لم يكن تمثال هيتايرا فحسب بل كان مشروع تخرجها الذي حطمه قبل سنوات، التمثال الذي خُلقت منه عداوتهما عندما تشاجرت معه وأعمته غيرته عندما وجدها بدأت أعمالها تشتهر حتى وهي لا تزال طالبة في الجامعة، حينها قرر تحطيم ما سهرت في نحته لسنة كاملة وإنتهى بها الحال تودع حلمها في فتح معرض كخاصته الآن..

لكن ما كان يفتك عقله لم يكن غرقه في الماضي، لم يكن استرجاعه لتلك الذكرى التي خسر بها أعز أصدقائه بل ما فكر به كيف؟ كيف يعقل هذا؟ أن يكون تمثالها في ورشته أمام عينيه طوال أربعة سنوات كاملة..

مد يده وسط شروده يلمس تلك الخطوط الذهبية على منحنياته هاميا بسهو لتسمعه رايفن هذه المرة.

"لقد كان محطما.."

إكتشف للتو أن تلك الخطوط لم تكن زخارف أضافها شقيقه للزينة كما ظن سابقا، بل كانت ذهبا حقيقيا كامل بطليه فوق آثار تركيب أجزاء التمثال التي كانت مهشمة في السابق، أي أنه ركب كل قطعة في مكانها ثم دهن تلك الآثار المشوهة بالذهب..كانت تلك تقنية يابانية وقد نطقها دومينيك بهمس وإبتسامة قد اتسعت شيئا فشيئا بعدما بدأ يُدرك الأمر..

"إنها الكينتسوغي"

أما ما لفظه فقد كان عبارة عن فن ضمن الثقافة اليابانية حيث يقومون بإصلاح الخزف المكسور عن طريق لصق القطع ببعضها البعض وطلاء مناطق الربط تلك بالذهب، ولم يكن فقط تقنية لإصلاح ما تم كسره بل فلسفيا كان مصطلح يشير إلى صورة ظلية تمثل الشخصية أو ما يسمى بالهوية الحقيقية للفرد أي أنهم يؤمنون بأن تلك الكسور جزء من تاريخ الجسد وليست عيبا يجب إخفاءه وأن الظاهر يختلف عن باطن الشيء فالصورة الخارجية التي تعكس المثالية يمكن أن تختلف عن الأفكار والمشاعر الداخلة لكل شخص.

لذا فهو الآن ينظر إلى التمثال الذي حطمه قبل سنوات في ورشة الجامعة، ينظر إليه كيف ألصق شقيقه كل قطعة منه بالذهب، حتى أنه زين الخصر بالورود عند فقدان جزء من القطع وعدم توفرها إكتفى بملئ فراغات القطع الناقصة ليخلق تحفة فنية دون أن يغير فنها بل زاده حُسنا..

"يبدو أن التمثال قد تحطم سابقا لذلك قام بتعديله هكذا"

من تحدث كان رايفن التي أدركت هي الأخرى أنه لم يُنحت بتلك الطريقة بل جُمعت أجزاؤه مجددا، في حين الآخر كان يمر بلحظة إدراك كان يجمع فيها كل القطع داخل عقله تماما كالهيكل أمامه، وكل ما كان يثير حيرته هو أن التمثال موضوع هنا موازاته منذ أربع سنوات كاملة، مرت دون أن يفكر للحظة بأنه شيء يخصها، لكن.. كيف! هذا ما جعله يقترب يلمس ذراع المرأة المنحوتة عله يرى شيئا يثبت له صحة تفكيره وأنه حقا ملكها..

لم يكن يعلم أن هيتايرا قبل سنوات داخل المتحف قد أفرطت في الشرب ووصلت إلى النقطة التي سردت على أغوستينو السبب في أنها تعمل داخل المتحف بدل وقوفها وسط ورشتها الخاصة وإنها لم تمتلك معرضا خاصا لأن وغدا كان صديقها في يوم من الأيام قد قام بخيانتها في آخر لحظة وحطم مشروع تخرجها.

في حين هي لم تكن تعرف أيضا أن المستمع لها حينها لم ينصت فحسب، بل فور خروجه من المتحف تلك الليلة بحث عن حطام تمثالها الذي وجده لاحقا قد ضم لأرشيف الجامعة ليُعرض على الطلبة كمثال أثناء حصص النحت كبقايا الرخام الأخرى، لم تكن تعرف أن ما صنعته وتهشم قام شخص آخر بترميم بقاياه بالذهب والورود.

إبتسم دومينيك بعد أن وصل إلى نهاية الطريق، بعد أنتذكر نظرات شقيقه نحوها، تذكر رقصة الزفاف وتمثال الهيتايرا الموضوع داخل قصر العائلة، إهتمامه بها وتوترها بجانبه في كل مرة، ظن سابقا أن هدوء أغوستينو وعدم إحتكاكه بأفراد عائلته هو ما جعلها تتجنبه، لكن الآن فهم أن ما بينهما كان أكبر وأعمق ويبدو أنه قد وُلد منذ سنوات..

"أتمنى أن يكون شقيقك وسيم بقدر وسامة أعماله"

إلتفتت إلى الجانب تنظؤ إليه حيث وقفت كتفا بكتف معه واضعة ذراعها فوق كتفه وعلى الرغم من فرق الطول بينهما كانت تحاول أن تتسلق جانبه كي تثبت ذراعها عليه كصديقها، حينها إبتسم عاقدا ذراعيه هو الآخر فوق صدره ممررا بصره منها إلى التحفة أمامهما.

"وسيم ونصفه إيطالي أيضا"

"هل هو متزوج؟"

"لا، لكن يبدو أنه مغرم"

بإبتسامة لم تغادر محياه بسبب شعوره بالرضى وكأنه شقيقه جاء ليصلح ما كسره هو سابقا، نفض الغطاء يعيده فوقه كما كان من قبل ثم عبر بجانبها لتهسهس هي من خلفه بصوت غير مسموع.

"عائلة مليئة بالوسامة ولا أستطيع أن أكون مع واحد منهم، بحق الرب هذا إهدار للوسامة"

"ما الذي تتمتمين به؟"

"لا شيء إهتم بشؤونك"

"إغسلي يديك ستجفان على هذا الحال"

"لقد لمست الغطاء الذي لمسه شقيقك الوسيم عندما وضعه على التمثال الذي صنعه ولمسه أيضا، لن أغسلهما أبدا"

كانت تمشي خلفه رافعة كفيها عاليا تتأملهما وهي تبتسم كونها شعرت بتحرك ظهره عندما كبح ضحكته بينما سار قبلها مشغول البال عن مكان تواجد هيتايرا طوال هذا الوقت، أراد أن يخبرها بأنه يعرف كل شيء الآن، أراد الإعتذار أو ربما أن يسمع قصتهما..لكن..يبدو أن الأمر لن يحدث بهذه السرعة بسبب إختفاء الأخيرة وبسبب أفكاره التي بترتها رايفن خلفه التي لازالت تتحدث عن وسامة وبراعة الإيطاليين في الطبخ والفن وحتى العلاقات..

"..أتدري، كان السيد مانويل يقول دائما أن أفضل طريقة لمعرفة ما بداخل الشيء هي كسره، وكان يقصد بذلك رؤية البشر حقيقة بعضهم البعض عند أول شرخ في القلب وحطام الروح..
برأيي هذا ما يشير إليه ذلك التمثال في الداخل، لو لم ينكسر لما أصبح تحفة بتلك الجمال..

لو لم ينكسر لما اُزهر خصره".

__________

توقفت عجلات السيارة على حافة الطريق تزاومنا مع إنطفاء أضواءها لتظهر في الخلفية تلك الخاصة بزينة الهالوين بجانب المنازل المقابلة لبعضها البعض، قرع العسل المحفور بأضواء داخله هو الآخر أظهرت شكلها وسط ظلام الحدائق الأمامية..

أشجار مزينة بقصاصات على شكل أشباح بيضاء وفزاعات بأشكال مرعبة قد غُرزت بالأرض في كل زاوية رفقة خفافيش وبيوت العناكب الملتصقة بالجدران، كانت شوارع المدينة جميعها قد إكتست بألوان الدماء المزيفة وأزياء التنكر الغريبة..حالها كحال هذا الشارع حيث المنازل ذات التصاميم الراقية وهيئة ستجعلك تفكر مباشرة في أنها أماكن لأناس ذو دخل جيد ومناصب مرموقة..

أشخاص لن يعملوا في ملاهي ليلية مثلا، وبالتحديد خلف بار الملهى لرج المشروبات للزبائن، هذا ما فكر فيه فرناندو الذي خرج من سيارته ينظر إلى المكان من حوله، نظرات متفحصة رماها هنا وهناك بشك ظنا منه أنه قد أخطأ في العنوان، ترجل من سيارته وإتكأ على مقدمتها رافعا هاتفه كي يتصل بها، وقبل أن يرن في الجهة الأخرى فُتح باب المنزل على جانبه مستقطبا إنتباهه.

خرجت بسرعة مبدلة نظراتها منه ثم إلى الباب خلفها والذي أغلقته وتقدمت منه بخطى حثيثة وكأنها تود أن تعرف سبب مجيئه دون أن تلفت إنتباه أحد، وقد شعر هو بذلك لذا إعتدل رافعا الكيس لوجهها قبل أن تتحدث.

"إنها سترتك، لقد تركتها داخل سيارتي المرة الماضية"

"لم يكن لهذا داعي، كان بإمكانك إعطاءها لي في البار"

"لكنني أخذت عنوان منزلكِ لظروف كهذه"

"لم تأخذه، لقد سرقته"

سحبت منه الكيس بعقدة بين حاجبيها بينما إبتسم هو عندما تذكر كيف دخل إلى تطبيق الخرائط في هاتفها خلسة لمعرفة العنوان المسجل..

لذا نظر إليها لبرهة وأدرك أن فضوله يزداد شيئا فشيئا في كل مرة يلتقي بها، كان يريد معرفة اسمها أو سبب خوفها من تكوين علاقات وصداقات بأشخاص غرباء، حيطتها المبالغ بها وسرعة غضبها تلك، إخفاءها عنه أمر الرجل الذي كانت تتقاتل معه في أحد الأزقة وغرابة أفعالها، لكن حاليا كان يتسائل عما جعلها تتوتر عندما لمحت سيارته في الخارج..

"هيا غادر.."
خرج من شرودها على يدها التي دفعته كي يذهب ولم يماطل كونه أصبح على الأقل يدرك مدى جديتها عندما تريد منه فعل أمر ما، خاصة إن كان مغادرته، لذا إبتعد رافعا ذراعيه كحركة استسلام لها لتزم شفتيها عندما تذكرت اللقب الذي أطلقه عليها سابقا، وهو تشبيهه لها بالساموراي بسبب وشومها بالحروف اليابانية وبراعتها في القتال، حتى أنه يبالغ في إظهار الخوف والإرتعاش كلما وقف بجانبها.

بينما كانت تحتضن الكيس قرب صدرها تراقب تحركه للجهة الأخرى من السيارة، فُتح باب المنزل خلفها ليصدح منه صوت جعل يده تتوقف عند الباب كما توقف قلبها على إثره.

"أمي..سئمت الإنتظار أكثر..لقد تأخرتِ..من هذا؟..هل هو صديقكِ؟"

صوت طفولي بتأتأة واضحة، بحروف متقطعة وأنفاس مسلوبة في آخر الحديث بسبب هرولته ناحيتها متمسكا بقميصها من الخلف، وقف خلفها يطل برأسه على فرناندو الذي إبتلع لسانه أثناء إبتلاع ريقه من شدة الصدمة..

نظر إلى الجسد الملتصق بها ثم رفع أعينه لها لتشد على الكيس بقبضتها دون أن تنتبه لذلك، رمشت لأول مرة طوال معرفته بها، رمشت بقلة حيلة وعجز كان باديا على تقاسيم وجهها جعله ذلك يستدير إليها بكامل جسده هذه المرة.

"هل..هل قال أمي؟..هل أنتِ--"

"أجل إنه إبني"

لم تماطل ولم تملك حلا آخر غير قول الحقيقة لذلك وضعت كل هذا دفعة واحدة، تلك التي لم يعرف سنها واسمها لحد الآن بل مجرد لقب مزيف، من كان يجهل عنها كل شيء علم للتو أنها أم لطفل لم يكن حتى في سن صغيرة.

أراد سؤالها عن والده، عن سنه وعن كل ما دار داخل عقله في تلك الثانية لكنه لم يفعل أيا من هذا، بل فضل الصمت لأول مرة دافنا فضوله والذي كان متيقنا من أنها لن تجيبه عن أي سؤال مهما فعل، لذا إكتفى بتحريك رأسه بتفهم وهمهمة خافتة قبل أن يبتسم لإبنها الذي إبتسم له أيضا تحت نظراتها.

"لا تغادر، أدعيه للداخل..أرجوكِ"

"إن السيد فرناندو لديه أعمال، لذا يجب عليه الذهاب الآن"

"إن أول خطوة للعلاج هي تكوين صداقات، هذا ما قاله طبيبي"

كان قد همس لها بها لكن ولأن المكان كان هادئا صافح كل حرف سمع فرناندو الذي رفع بصره إليها لتبرر له هي لأول مرة وكأنها شخص آخر تماما يقف أمامه الآن..

"إنه يتعالج من التوحد منذ سنة، ولا يمتلك أصدقاء، لهذا--"

"هل أنا أول شخص تقوم بدعوته إلى منزلكم؟"

بإبتسامة أمال رأسه للجانب لرؤيته وهو يتوارى خلف والدته مهمهما له من الخلف بخجل وتوتر، حينها ضغط فرناندو على مفتاح السيارة لتصدر صوتًا تعلن إنغلاقها، وقبل أن تتفوه الأخرى بكلمة إقترب لجانبهما قائلا.

"بالطبع سنطبق كل كلمة يقولها طبيبه أليس كذلك؟ سأكون صديقك إذا سيد---؟!"

"يوري، أنا يوري"
.

بتأتأة قاله خلف والدته التي لازالت عاجزة عن فعل شيء أو التحكم في الموقف ككل مرة، بل نظرت إليهما وكيف إبتسم صغيرها بتردد وملامح حملت داخلها الكثير من الرغبة والإصرار على أن يتعالج، لذا رقت نظراتها أكثر بعدما تحرك من خلفها متحدثا تحت أنفاسه.

"هل..بإم بإمكاني مناداتك..فرناندو؟"

"أجل ما الذي ستناديني به غير هذا؟ أن تصبح صديقي هو أن تخاطبني بنفس الطريقة واللغة..ثم بعيدا عن اسمي..أ لم يخبرك أحد من قبل بأنك وسيم؟"

"بلى، أمي تقول..هذا"

إبتسمت مع إلتفاتها لتتحرك صوب باب الحديقة المفتوح كي تدلف إلى منزلها، أما إبنها فكان يمسك طؤف قميصها أثناء مراقبته لفرناندو خلفه ليتأكد من أنه سيدخل معهما.

"ما الذي كنت تقرؤه؟ ذلك الذي تحمله في يدك"

أشار له للكتاب بغلافه الأزرق بين يديه ليرفعه يوري بإبتسامة حماس كمن إنتظر أن يخوض هذا الحوار مع أحد ما طوال حياته.

"إنها رواية روسية"

رفع فرناندو حاجباه بتعجب وإنبهار خلال سيره خلفهما بينما الأخرى فتحت باب المنزل ووقفت تنتظر قدوم طفلها الذي توقف عندما سُئل عما يحبه.

"عجبا، هل إلتقيت بنابغة الآن؟ هل تجيد اللغة الروسية في هذا السن!"

بنفس المبالغة التي إعتادت عليها نبس بها للطفل لتضيق هي عينيها له في الطرف الآخر بينما ذلك الجسد الصغير بينهما كان سيحلق من شدة سعادته ورغبته في الثرثرة حول ما يجيد فعله عدى المطالعة والتحدث بلغة أخرى.

"أجل أتحدثها بطلاقة أيضا، إن اسمي روسي أيضا مثل أصول والدي"

وهنا فقط توقفت أقدام الآخر عند عتبة المنزل مباشرة، رفع أعينه صوبها ليجدها تحدق به بملامح ثابتة لتنقلها إلى طفلها الذي تدارك الموقف لينبس بسرعة وتأتأة أصبحت آكثر من قبل.

"أقصد..والدي..كان روسيًا..قبل أن يغاد--"

"حسنا يوري فلنغلق الموضوع الآن"

بخفوت أتاه صوتها من الخلف ليقف فرناندو في الداخل أمامه مبتسما بتكلف، ولكي يغير الجو انتالمشحون حولهما ويخفف من توتر الصغير حينما شعر بأن الموضوع حساس بالنسبة لهما تحدث يخبره عما يحبه هو أيضا.

"لا أقرأ الكتب عادة ولا أتقن لغة أخرى غير لغتي، لكنني أجيد فعل شيء واحد على الأقل.." إنحنى للأمام قليلا واضعا يديه داخل جيوبه وينظر إلى بريق الحماس في عيني الآخر الذي إنتظر تكملة جملته.

"أنا عازف جيتار"

"حقا!!..مثل عازفي..الجيتار..الحقيقيين!! فرقة! هل..أنت ضمن فرقة!"

"لا، لست ضمن أي فرقة حاليا، مجرد هاوٍ"

وضع سترته على ظهر أحد المقاعد داخل الطاولة وسط الغرفة الكبرى ثم مرر نظره على كل ركن في البيت، شعوره بذلك الدفء جعله يرخي عضلاته كمن أحس بالأمان فجأة، كمن دخل إلى المنزل بعد يوم طويل ومتعب.

تأمل الأثاث المرتب والمكتبة التي أخذت جدارا كاملا في الصالة، التلفاز الذي كان صوته ظاهرا بوضوح وتشكيلة الطائرات الصغيرة الموضوعة تحت غطاء زجاجي في الجانب، طائرات حربية و أخرى الخاصة بالسفر والكلاسيكية منها استنتج تلقائيا أن أحدهما مهووس بجمع الطائرات النادرة.

في حين أعينها هي لم تتزحزح عن طفلها بحماسه الذي كاد يفيض عن عينيه وتغلبه عن خوفه ومحاولته في تخطي مرض التوحد لديه بخوض حوار مع شخص غريب لأول مرة رغم تردده الظاهر على تصرفاته.

تقدمت لتقف خلف إبنها بينما الآخر أشار لفرناندو للدخول أكثر كي يتوغل إلى الغرفة أمامهما، حمحمت قبل أن تتحدث بعد صمتها طوال هذه المدة تلملم ما ستقوله بعد أن كشف سرها.

"يمكنك البقاء هنا برفقته ثم المغادرة، فقط لأن طبيبه قال هذا"

"بالطبع، من أجل توصية الطبيب فقط"

نظر يوري لوجه والدته بجانبه بإبتسامة ثم إلى فرناندو بعد أن تمتم بكلمات نصر وسعادة ثم أطلق العنان لفضوله حول العزف والموسيقى.

ضحكات الآخر إختلطت بأسئلة الصغير صوبه في حين هي راقبت المشهد بأعين باهتة وأيادي باردة، تأملت صغيرها الذي كان يتذمر لقضائه ليلة الهالوين في المنزل كونها قررت لأول مرة ألا يخرجا لمشاهدة النجوم معا فوق سيارتها، تأملت فرحته ملامحه التي أخذت القليل من جانبه الروسي بشعره الأشقر وبشرته الشاحبة.

ولأول مرة منذ زمن طويل مر شبح إبتسامة يشق وجهها، إبتسامة رافقها الكثير من الألم والذكريات المترسبة التي لم تغادرها يوما، نظرت إليهما كيف تأقلما بسرعة وكيف كان فرناندو حريصا على عدم الإحتكاك به ومعرفته الواضحة بالأطفال المتوحدين، كيف كان صغيرها يحاول قدر الإمكان تكوين جملة دون تأتأة وحديثه حول إيجاده العزف على البيانو خاصته الموضوع بجانب المدخنة..

كانت لأول مرة تشعر هي أيضا بالأمان رغم تواجد شخص غريب داخل منزلهما..

شخص لم تعرف بأنها منذ الليلة الأولى قد أصبحت وترًا على جيتاره.

_________

صداع نصفي وطنين داخل أذنها، ألم فتك جانب رأسها تكرر على شكل وخز كأنها تعرضت لضربة كادت أن تكون مميتة، قطرات عرق منسابة على بشرتها الحنطية العارية على الرغم من برودة الجو، قطرات تشكلت لتصبح خطًا مستقيما عبر فوق وشم على شكل صليب لامع خلف ظهرها، وشم نجمٍ قد أخذ رقم عشرون في ترتيب النجوم الأشد لمعانا في السماء، النجم ميموزا.

مرمية بكل ثقلها على أرضية حمام يكاد المرء يجزم أنه أشبه بصالات الاستقبال داخل القصور الملكية من شدة لمعانه وفخامة شكله، حمام بزخارف على سقفه ومرايا ملكية على جدرانه، بنظام ونظافة تعود لشخص ستعلم على الفور أنه ليس إلا رجلا مهووسًا بالمثالية.

صاحب أصابع قد رُشت أناملها بالفن، من إمتلك نظرة فخمة لم تكن يوما لائقة بأحد سواه، الذي سينهار لو وجد بقعة على بلاط منزله أو أثاث بيته قد تحرك إنشًا واحدًا..

من غيره؟..تمثال المثالية المطلقة مانويل كاستيلو.

أجل توفانا كانت داخل حمامه الآن، ببقع دماء على أرضيته الناصعة وعلبة مناديل مبعثرة في الأرجاء، داخل فوضى لو تعمدت صنعها لاِستفزازه لما كانت فعلتها بتلك المثالية والدقة.

في جوف مشهد يشبه أفلام الرعب الكلاسيكية، تلك التي تبدأ بفتاة تنزف على أرضية الحمام لا تدري كيف وصلت إلى هنا أو من يستهدفها، ما إختلف عن تلك المشاهد هو أن توفانا لم تكن الضحية بل كانت القاتل، قاتل قد استيقظ من سباته قبل ساعات.

خيوط متشابكة وصورة مشوشة! لنعد المشهد مجددا حيث بدأ كل شيء، إلى غاية دخولها بملابسها الداخلية تاركة خلفها آثار أقدام مدماة، ثم لنرجع قليلا إلى غاية وقوفها في المطبخ واضعة حقيبة سوداء فوق المنضدة بينما إنغمست داخلها تبعثرها تبحث عن شيء ما داخلها بعصبية وقلة صبر، ثم لنمرر المشهد قليلا ولنتوقف عند اللحظة التي كانت فيها بنفس الملابس الداخلية لكن ما إختلف كان خلوها من أي بقع حمراء أو هيئة مبعثرة كالسابقة.

هنا تماما عندما كانت توفانا تقف وسط منزل مانويل بعد أن استقرت هنا منذ أيام عندما استسلمت ورضخت له ملبية طلبه في اللجوء إليه لتبتعد عن زوجها، بعد تلك الليلة التي قابلته داخل شقته، بعد عرضه الذي قدمه قررت أن تستقر هنا مؤقتا ليس خوفا من ماثيو هيريرا زوجها السابق ولا لأنها لم تستطع حماية نفسها، بل لأن شيء ما داخلها أراد أن يلجأ إلى شخص ما لأول مرة، بعيدا عن فابيو إبن خالها أرادت أن تشعر بأن هنالك من يهتم لأمرها عداه.

كمانويل الذي أصبح قدومه إلى منزله كل يومين فقط من أجل التأكد أنها بخير، ترك لها الحرية الكاملة منذ أن قطنت هنا، وهذا لم يكن ما أرادته بتاتا، بحق الرب نتحدث هنا عن إمرأة كان السبب الأول من قبول عرضه هو رؤيته يتجول عاري الصدر أمامها ظنا منها أنه سيظل هنا هو الآخر..

لذا وبعد أن بائت خططها بالفشل ها هي الآن تقف بملابس داخلية وسط الصالة بكل أريحية وكأنه منزلها كونها متأكدة أن مانويل يعمل لساعات متأخرة من الليل ولا يتوقف عندها عادة في هذا الوقت.

بجسد ممشوق وشعر منسدل لأسفل ظهرها وقفت تقابل تلفازه بينما راحت تغير القنوات واحدة تلوى الأخرى بملل..

وسط عشوائيتها المعتادة بين وسائد الأريكة المرمية في الأرجاء وعلبة شوكولا فاخرة باِسم عائلة كاستيلو مفتوحة فوق الطاولة الزجاجية، أوراق متناثرة وسترة شفافة معلقة على ظهر المقعد، صوت موسيقى منتشر في أركان الشقة من هاتفها الذي تجهل أين وضعته عندما شغلت ألبوم أغانيها المفضلة، كانت المثال الحي للفوضى والعشوائية، مثال للاستهتار واللامبالاة، كانت عكسه تماما.

داخل كل هذا توقفت الموسيقى وتحدث فابيو فجأة دون سابق إنذار، لم تسمع رنين هاتف ولا إهتزازه بل و لأن مدير أعمالها مخترق بارع لم يكلف نفسه عناء الإتصال، أو ربما لأنه ابن خالها الذي يعرفها أكثر من أي شخص آخر بأنها ستتأخر في الرد وهي تبحث عن الهاتف وسط الثلاجة وفي علبة الكعك كالعادة..

"توفانا!! هل تسمعينني!"

"لحظة أين أنت؟"

إلتفتت يمينا تنظر إلى مصدر الصوت الذي كانت يبدو مكتوما وخافتًا، نفضت الغطاء القطني من على الأريكة ثم العلب من حولها بحثا عنه بينما هو كان يهسهس في الطرف الآخر بلعنات غير مسموعة ليصرخ عليها بعد أن طفح كيله.

"سحقا أين وضعتِه مجددا؟ أنظري تحت الأرائك"

"إنتظر ها أنت ذا، كنت على الأرض تحت حمالة صدري"

"ما الذي تفعله حمالة صدرك على الأر--..تبا إنسي الأمر، لا أمتلك متسعًا من الوقت هنالك أمر طارئ يجب أن تعرفيه توفانا"

تغيرت نبرته لأخرى جادة قد استشعرتها لتحكم قبضتها على الهاتف واعتدلت في وقفتها كأنها تهيئ نفسها لما ستسمعه تاليا، توقف هو في الطرف الآخر لبرهة ثم أكمل بصرامة.

"لم أهتم سابقا لأنكِ بالغة وحرة فيما تفعلينه دام الأمر لن يتطور للإرتباط والزواج كما هو معروف عندنا، تواجدكِ في منزله لم يشكل خطرا في البداية..لكن الآن قد تغير كل شيء توف"

"ما الذي حدث فابيو لا تتكلم بالألغاز هكذا، قل كل شيء دفعة واحدة"

لم تستفزها فكرة حديثه الغامض والجدي فجأة بقدر ما وخزها قلبها وأحست بغصة عندما ذكرها بقوانين النجوم السوداء، عندما استرجعت تلك القواعد والأسس التي تربوا وعاشوا عليها طيلة حياتهم، وهي دفنهم للحب نهائيا، أما الزواج فلن يتجرأ أحد على التفكير بهذا حتى.

خرجت من شرودها عندما تحدث باِسمه لتتسارع نبضات قلبها على ما صافح سمعها دفعة واحدة.

"إنه مانويل..لقد كان يبحث خلفكِ طوال هذه الفترة، بحث عن خلفيتك وعن ماضيك، عن لقبك وأصولكِ، في البداية تركته يحفر بحرية لأنني على يقين بأنه لن يجد شيء عنكِ مهما اتسعت تلك الحفرة لأننا دفنا كل شيء في إيطاليا، هنا أنتِ مجرد عارضة أزياء صربية، لكن..

يبدو أن ماثيو قد تواصل معه، لا أدري كيف..لكنه وصل إلى الميناء"

ضغطت على هاتفها بقوة وسقط جسدها على المقعد خلفها بعجز، بضعف وخوف لأول مرة، خوف من أن يكتشف مانويل وجهها الآخر بتلك الطريقة الشنعاء، كانت قد فكرت سابقا في احتمالية معرفته بأمر النجوم السوداء لكن لم تفكر ولو لثانية واحدة بأنه سيبعد عنها الغطاء وهي تنحر عنق رجلا ما في ميناء مدريد..

"..أخبرني أحد الرجال الذين وضعتهم للتجسس هناك قبل سنوات بأن مانويل كان يبحث عن تسجيلات كاميرات ليلة ما، وإتضح أنها تلك الليلة بالذات..الليلة نفسها التي قتلتِ فيها وقام ماثيو بإبتزازك بعدها.."

كان يتحدث لكن نصف تلك الحروف والكلمات وصلت إلى سمعها مشوشة بسبب شرودها في الأرض تفكر في كل ما حصل لها منذ أن كُشف أمرها بسبب زوجها الوغد..

"..أما ما هو أسوء هو أن التسجيلات بحوزته الآن.."

نبض عنيف وأنفاس منتظمة بدأت تتحول لأخرى متذبذبة، وقفت بسرعة تنظر حولها بتوتر وأفكار مشتتة وكل ما أثر بها هو نظرة مانويل لها بعد كل هذا الوقت، كل ما شغل تفكيرها هو ردة فعله عندما يرى بشاعة المنظر وهي تلوث الأرض بدماء رجل ذبحته من الوريد إلى الوريد.

"توفانا..غادري منزله في الحال"

أتاها صوت فابيو في الطرف الآخر بعد أن شعر بالحركة في جهتها أدرك على الفور أنها بدأت بجمع أشياءها، لم تتحدث بل همهمت له وسط بحثها عن مفتاح سيارتها ليكمل هو آخر كلماته.

"لا وقت لدي، يجب أن أغلق الآن تأكدي من أننا سنتصرف سنجد حلا لهذا معا، غادري الآن وسنفكر في طريقة لجعله يصمت لو إكتشف الحقيقة..حتى لو إضطرينا لقتله"

وعند آخر كلمة توقفت وسط الردهة، تصلبت وسط سيرها وأغلق فابيو الخط لتنتشر الموسيقى الخافتة في فضاء الشقة كما كانت سابقا..

هل قال قتله!! هل حقا سيقتل بكل بساطة فقط كونه يعلم حقيقتها!! لما سيُقتل مانويل بينما ماثيو حر طليق! هل لكونه رجلا حقيرا قام بتسجيل فيديو لها وهي تقتل بدم بارد كي يبتزها به لاحقا! لما واللعنة هي الوحيدة من بين كل القتلة داخل النجوم السوداء من كُشف أمرها على يد شخصان بينما الجميع لازال يعمل بحرية ودون عوائق..

أسئلة تضاربت داخلها لدقائق شُلت حركتها عاجزة على أن تخطو خطوة واحدة، إعتصرت الهاتف بقوة وألم زاد مع فكرة أن يكون مانويل الآن يعرف حقيقتها، ألم داخل قلبها إنزلق على شكل وخز لمعدتها مع فكرة أن يُقتل بسببها.

لكنها دفعة واحدة فتحت عينيها وسقط هاتفها فجأة عندما أحست بذلك الألم مجددا، في تلك اللحظة إكتشفت أن ما شعرت به لم يكن خوفا ولا بسبب التوتر، لم تكن أعراض عادية بل كانت من الماضي الملطخ بالتعذيب، بصدمة نظرت أمامها واضعة يدها على رأسها بعدما أدركت ما ستمر به الآن ولن يهدأ إلا بحقنة من النجوم السوداء، حقنة لم تأخذها منذ سنوات وتجاهلتها بسبب عدم تكرار الأعراض مرة أخرى.

بنفس الملامح الشاحبة والأعين التي كادت تخرج من محجريها مدت يدها إلى الهاتف الذي إنفصل عن بعضه أرضا علها تصل إليه لتستنجد بفابيو قبل أن تتفاقم حالتها أكثر، لكنها صرخت فجأة بألم بادٍ على وجهها، شدت شعرها بيديها وكتمت صراخها ليصبح أنين ألم ونزاع داخلي.

كانت مريضة، منذ أن تبنتها النجوم السوداء بدأت رحلتها مع الهلاوس وشعورها بأحاسيس تبدو حقيقية لكنها ليست سوى تحريف من إنتاج عقلها لا وجود لها في الواقع.

فكانت كلما اجهدت بسبب التدريبات المكثفة تدخل في حالة إنهيار عصبي لتتكثف أحاسيسها السمعية والبصرية وتسبب لها إدراكا خاطئا يخلق إحساسا زائفا بالتلامس الجسدي مع شيء وهمي، تماما كحالتها الآن وتخبطها في كل مكان بعد أن دخلت في حالة هلوسة وشعورها بأن أيادي تقوم بلمسها على كل جسدها العاري..

صرخت وشدت شعرها أكثر وهي تحاول أن تتكور في ركن ما بعيدا عن كل تلك الأصوات التي إنتشرت وتكثفت، تفاقمت وعلت شيئا فشيئا من حولها، كانت تستنجد، تصرخ وتئن راجية بأن يتوقفوا عن فعل هذا كانت تتوسل لهم بأن يصمتوا.

لكن هذا لم يجدي نفعا لأن أحاديثهم تداخلت وأصواتهم تسارعت، ضحكاتهم إرتفعت أكثر وأكثر، كانت تسمع نقاشهم يحتد وصراخهم يعلو، تسمع نحيب تلك الطفلة الصغيرة، بكاء شديد بأنفاس متقطعة سريعة وعنيفة مصحوبة بصراخ وإنفعال، تسمع تأنيب إمرأة بالغة وتذمر فتاة شابة، صوت إنكسار ولمسات أيادي باردة على جسدها.

لم تعلم أن تلك الأصوات لم يكونوا يوما ملتفين حولها في الخارج كما كانت تشعر بهم يهمسون لها، يلمسونها ويتهافتون واحدا تلو الآخر، لم يكونوا يوما أصواتا خارجية بل كانوا فيها ومنها، كانوا داخل عقلها.

كانوا شخصياتها..

صرخت مرارا وتكرارا كي يهدأوا لكن الوضع إزداد سوءً لدرجة أن صوت الإنكسار الذي سمعته داخل عقلها قد إنتقل إلى الواقع بعد أن إرتطمت بالمزهرية الموضوعة فوق الطاولة الجانبية في الردهة بجانب الحمام، وقعت وسقطت توفانا معها أرضا فوق الزجاج الذي إنغرس داخل كفيها وأقدامها من الأسفل، ركعت على أربع أمام باب الحمام بشعر طويل منسدل على الأرض ودماء ساخنة تسللت منها كدموعها.

توقف الصراخ، هدأ الضجيج وإختفى البكاء، حل صمت غريب ومرعب وكأنها إنتقلت إلى بُعد آخر وعادت مجددا إلى الواقع الهادئ فجأة، ركعت بأنين ألم صاحبه صداع نصفي و وشوشات بدأت تبتعد عنها إلى أن إندثرت، مسحت تلك الأيادي الباردة على ظهرها العاري لآخر مرة قبل أن تسمع ذلك الهمس مجددا خلف عنقها.

"لن تخمدي نيران البراكين بطوفان، لن ينتهي الألم أبدا إستيباليز..لن ينتهي..لن ينتهي أبدا"

تكررت كأسطوانة قد علق شريطها، صوت أنثوي ناعم بنبرة ساخرة همس خلف عنقها بنفس العبارة عديدا من المرات في حين هي سمعت ذلك وهي مغمضة الأعين تحرك رأسها بالنفي عاجزة عن رفع يديها عن الأرض بعد أن جرحت كفيها ووهن جسدها أرضا.

رفعت رأسها تنظر إلى الفراغ تهمس ببحة، تخاطب صاحبة الصوت بتوسل وكلمات حاولت أن تقنع نفسها بها كي تستطيع المقاومة والصمود فقط لتدخل إلى الحمام.

"أنتِ لستِ.. أنتِ لستِ حقيقية..أنتِ مجرد وهم..أنتِ نكرة أنا.. أنا من خلقتك داخلي"

وببطء شديد وقفت ترفع جسدها عن الأرض متشبثة بالطاولة الجانبية محاذاتها، وقفت بدماء قد لطخت كل مكان لمسته سابقا، دخلت تجر جسدها الممزق بإبتسامة مرعبة قد شقت وجهها فجأة، إبتسامة كانت ستبث الرعب داخل قلب أي شخص، ودون سابق إنذار وقعت أرضا بجانب الحوض، وقعت وعكس المرة السابقة لم تصرخ،لم تتخبط ولم تبكي بل ضحكت بعلو صوتها في فضاء الحمام الفارغ، ضحكات جنون مختلطة بدموع ودماء

"غبية..إستيباليز الغبية..هل ظننتِ أنكِ ستسيطرين علي بعد كل هذا الوقت؟، أيتها الضعيفة، أخذوا منكِ أغلى ما تملكين ولازلت مصرة على الخسارة"

ضحكاتها أصبحت قهقهات تردد صداها داخل الفراغ، لدقائق إنهارت فيها تاركة يديها الداميتان بخمول جالسة على الأرض مستندة بظهرها على الحوض خلفها، نظرت أمامها إلى الباب المغلق ثم إلى حالتها وإبتسمت بجانبية بعد أن إنتصرت بالخروج أخيرا.

"أنتِ من خلقني؟ بحق السماوات السبع أنا أفضل شيء خلقه عقلكِ إذا"

إختبأت إستيباليز وظهرت مكانها توفانا الحقيقية، توفانا النرجسية صاحبة النظرة الحادة الماكرة، ظهرت نفس المرأة التي وقفت أمام مانويل في الحفل داخل منزله، من زارت شركته بعد مهماتها الدامية، من حاولت قتل زوجها مرات عدة، من نحرت الأعناق وقتلت أعتى الرجال، خرجت توفانا التي إرتدت زي القاتل ميموزا ببراعة من جسدت الدور بإحترافية وقامت بعملها على أكمل وجه، تلك التي ستمسح كل شخص سيقف في طريقها دون أن يرف لها جفن.

أما من إختفت فكانت البريئة، التي أرادت الحب ورؤيته بهيئته المثيرة كل صباح لتشبع قلبها به، إستيباليز التي وقفت خلفه في المصعد أول مرة تثرثر مع ابن خالها عن الإشاعات التي طالتها، من قبّلها خارج شركته، من رسم على جسدها كانت الفتاة التي أرادت الحب..


ورؤيته.

أجل إمرأة واحدة، بجسد واحد وشخصيتان..

شخصية قاتلة ماكرة تُقيم العلاقات ليلاً وتفسد سمعتها ومسيرتها المهنية بقلب بارد دون أن تهتم لأي لعنة قد تصيبها، وأخرى تنصدم على الأخبار صباحا مثلها مثل الجميع، من ستظن أن الشرب هو السبب وأنها مجرد صور مركبة، لكنها لم تكن يوما هكذا..

كانت توفانا السبب خلف كل شيء، أما إستيباليز الخائفة من ماثيو قد غادرت الآن لتأخذ مكانها من جاءت لتواجه أيا كان ما سيواجهها حتى وإن تطلب الأمر قتله.

غادرت إستيباليز التي عاشت طفولة قاسية في موطنها، من هاجرت رفقة أهلها لإيطاليا ثم وجدت نفسها وحيدة في ميتم رفقة إبن خالها، من تدربت على يد النجوم السوداء لاحقا لتتلقى أشد أنواع التعذيب والفنون القتالية، من استُئصل رحمها بسبب قوانين النجوم التي تنص على عدم الإنجاب ويتم هذا عن طريق استئصال اجزاء من أرحام النساء كي لا يفكرن أبدا في الأمومة.

أما توفانا خُلقت من رحم المعاناة، خُلقت لتكون إنتقاما للأخرى، كي تدفن ضعفها كما دُفن أطفالها قبل أن يولدوا، شخصية ذات سمعة سيئة، ذات طباع متمردة وشرسة، شخصية أخرى صنعتها إستيباليز كي تهرب مما عاشته.

جنون، كان كل هذا ضربا من الجنون أن تشعر بدفء القوة والغضب بعد أن أحرقت كل صفة طيبة زرعتها داخلها، فيخرج دخان روحها منافسا ملابسها في السواد ويتفرع حولها محتضنا جسدها من الخارج لتكتسي به، كانت تلك الهالة القاتمة المحيطة بها هي دخان الحريق.

ذلك اللون الفاحم الذي لبِسته الآن كانت شخصيتها الأخرى، كان زيها التنكري للهالوين.

صوت فتح قفل الباب الالكتروني أخرجها من إغمائها، تبعه صوت خشخشة مفاتيح إنتشر بوتيرة منتظمة يعلن عن إقتراب صاحبه جعلها تستوعب حالتها والسبب خلف تخدر يديها وهو الزجاج العالق في كفيها وبقع الدماء التي بدأت تجف على جسدها الملطخ على إثر سقوطها.

فتحت أعينها بإرهاق لتقع على الباب أمامها، تحته مباشرة حيث لمحت الظل الواقف خلفه، ظل أقدام شخص لم يتحرك، لم يصدر صوتا كأي شخص طبيعي دخل ليجد منزله في حالة فوضى ودماء تغزو أركانه، بل ورغم حالتها تلك تعجبت من بروده وذلك الهدوء الغريب الذي طال لدرجة أنها فكرت بأن الواقف خلف الباب كان فابيو.

لكنها رفعت رأسها بهدوء عاجزة عن تحريك جسدها، رفعته بأنين خافت قد فلت منها عندما بدأت تحس بالألم يغزو جسدها، ألم على طول عمودها الفقري وآخر خلف عنقها، كانت كمن دخل في معركة طاحنة قد خرج منها كجثة سليمة من الخارج لكنها بعظام مطحونة في الداخل.

فُتح الباب ببطء شديد لتظهر لها أقدام بحذاء كلاسيكي صعدت مع بذلته رافعة بؤبؤيها شيئا فشيئا ليقع بصرها عليه، على وجهه الهادئ وملامحه الساكنة، نظرت داخل عينيه تماما كما فعل هو لعلها تجد أثار صدمة أو مخلفات خوف..لكن

كل ما إلتقطته أعينها كان مانويل الواقف بيد على مقبض الباب ويد داخل جيبه، مانويل الواقف بشموخ ينظر إليها جالسة على أرضية حمام بدماء جافة وزجاج عالق على بعض مناطق في جسدها، تبادلا النظرات بهدوء مرعب، هدوئها المصحوب بخمول وشلل وخاصته..خاصته الذي لم تستطع ترجمته..

لذا وبنفس تلك الملامح الثابتة عليها تقدم دون أن يزحزحها عنها، وقف أمامها وجلس مستندا على ركبته صوبها مميلا رأسه للجانب متفحصا إياها لكن هذه المرة وعندما فتحت أعينها ببطء ترمش عدة مرات تحاول تجميع قطع الصورة أمام ناظريها لمحت طيف خوف أو ربما كان تعاطفا وتأثرا على حالتها.

"ما تلك الحالة التي كنتِ بها في الخارج"

لفظ كلماته برصانة وثقة ارتسمت على وجهه وكأنه لا يحتاج تكرارها ليؤكد له جديته ورغبته بمعرفة ما حدث ولأنها بلعت ريقها ورفعت حاجباها بعدم فهم بسط يده يبعد خصلة إلتصقت بعنقها تحجب عنه ندبتها البيضاء ثم رفع اعينه بلون العسل تلك لتتعانق بخاصتها العشبية.

"رأيت كل ما حدث لكِ، هنالك كاميرات موزعة على كل زاوية في المنزل، تلك الأعراض رأيتها جميعها منذ الترنح الأول"

"أ لم يكن هذا نفس المبنى الخاص بالقضاة ورجال القانون، باب الكتروني وحراسة مشددة في الاسفل، هل من الطبيعي وجود كاميرات داخل شقة امنة كهذه ام انك تراقبني سيد مانويل".

من تحدث كانت توفانا الشخصية التي خرجت للتو أما من إكتسى بجلد الثعلب الماكر و إبتسم بجانبية كان مانويل كاستيلو صاحب القبضة.

"لا وجود لأي بند ونص صريح يفرض عليّ عقوبات بسبب تثبيت كاميرات داخل منزلي، بموجب الدستور"

"كان بإمكانك إعلامي عن وجودهم هذا إن لم تكن تنوي اللعب بقذارة، بموجب اللباقة"

"لست منحرفا، إخبارك عن مكانهم الآن هو تصريح علني على عدم وجود نية في مراقبتك سرًا، صدقيني رأيت ما يكفي من أجساد النساء العارية"

إبتسمت باِستهزاء تزفر هوائها بسخرية لتعقد حاجبيها فورا بألم بعد أن حركت أيديها دون وعي ليقع بصره للأسفل حيث الدماء الجافة التي شكلت خرائط صماء على بشرتها، نظر إليها لبرهة متفحصا كل إنش منها ثم قرب يده تحت سيقانها بينما بسط الأخرى على ظهرها وبحركت كانت سريعة وجدت نفسها بين أحضانه مطلقة شهقة مصحوبة بأنين متألم ونظرات متشنجة.

أبعدت كفيها عنه كي لا تلطخ بدلته في حين قربها إلى صدره أكثر رافعا جذعها كي يتسنى له حملها جيدا، لم يتحرك خطوة واحدة بل وقف وسط الحمام منتشلا إياها قبل أن يلتفت إليها ليسألها مجددا.

"لماذا ظهرت تلك الأعراض فجأة، ما الذي تعانين منه؟"

"ممنوعات، كنت أتعاطى المورفين كانت هذه إحدى أعراضه"

نبست بأول ما خطر على بالها، أول كذبة صرحت بها وهي تحاول النظر داخل عينيه من ذلك القرب كي لا يكتشف أمرها، بثقة وثبات مزيف أمام ملامحه الصارمة وكأنه يستجوب مشتبه به، ظنت أنها قد نجت من أسئلته التي لا تنتهي وأنه إقتنع أخيرا عندما أومأ برأسه بتفهم وهمهمة خافتة ليمشي بها صوب الباب هامسا.

"لغرض طبي! "

"أجل"

لفظتها وببعض التوتر كونها لا تعرف أي مرض يستدعي تعاطي المورفين في حال قام بسؤالها مجددا لكنه خالف توقعاتها و أعطاها الجواب عوض أن يسأل.

"إحتشاء القلب أم أمراض التنفس والرئة؟"

"ما الهدف من معرفتك لكل هذا؟" لم تستطع أن تختار إحداها فقط لسبب واحد وهو أنها على علم كافٍ بمدى ذكائه، ولشعورها بوجود فخ في كلامه لذا فكرت مليا في إحتمالية إختيار أحد تلك الأمراض وتظهر في النهاية أن لا علاقة لها بالمورفين من الأساس.

توقف عند أريكة الصالة الكبرى وسط المنزل، بينما وضعها برفق في الجهة الفارغة البعيدة عن الفوضى أصدرت بعفوية صوت أنين بنبرة أنثوية جعلته يبتسم وهو منحني بجذعه فوقها ليرتب الوسائد خلف ظهرها، توقف قرب وجهها ونظر إلى داخل أعينها التي إنسدلت جفونها تتبع حركاته بهدوء، همس من ذلك القرب بأنفاسه الساخنة ونبرته الغليظة لتلفحها رائحة النبيذ التي أصبحت مربوطة به وحده.

"الهدف هو معرفة نوع المرض الذي سيجعلكِ تتعاطين نوع المورفين الغريب هذا، لأن على حسب معرفتي فتلك الأعراض لا تمت له بصلة"

لم يبتعد بل نظر إلى بؤبؤها الذي إرتعش بخفة عند آخر كلمة قالها، في حين تعمد اللعب بأعصابها أكثر عندما تعمد تمرير أنامله على طول ظهرها العاري، في حين حاولت قدر الإمكان أن تحافظ على ثباتها ونظراتها الحادة أمامه.

"أثار متعاطي المورفين هي القيء والغثيان وعلى حسب ما رأيته سابقا كان غطاء الحوض مغلقا و لا وجود لأثر استفراغ على الأرضية.."

وضع يده على ذراعها يلمس بشرتها مكملا.

"الحساسية وإحمرار الجلد، وحدها الدماء ما تلون بشرتك الآن..

المدمن يكون أغلب الوقت يشعر بالإعياء والرغبة بالنوم، وأنتِ أكثر البشر نشاطا وحركة، أن يكون فاقدا للشهية و---"

توقف يمرر أعينه حولهما لتفعل المثل تنظر إلى الأرجاء حيث علب الكعك والشوكولا الخاصة بعائلته، نظر إلى منضدة المطبخ في الجانب الآخر أين كانت علب البيتزا مكدسة فوق بعضها البعض، ليعيد عسليتيه إليه توازيا مع إعتدال جلوسه فوق الطاولة الزجاجية أمامها دون أن يفصل تواصلهما البصري أو يبتعد عنها.

"الضعف والبرود..وهذا..هذا آخر ما قد يصيبكِ"

ورغم غرابة الموقف وتوتر الجو إلا أنها فلتت منها ضحكة خافتة جعلته يبتسم رافعا سبابته ممررا إياها على أنفه وذقنه كي يُخفيها، حينها رمشت بثقل وتعب وهي تنظر إلى نفس السبابة التي كانت على وجهه مدها ناحية صدرها، إلى حمالتها واضعا أصابعه على صدرها تماما بحركة لم تستطع ترجمة سببها فإكتفت بكبح مخيلتها وإنتظار خروج صوته.

"آخر تلك الأعراض هو بطء ضربات القلب، لكن..قلبكِ يرتجف الآن..

ضيق التنفس وصعوبته، ولا أرى هذا حاليا، إن ما شاهدته عكس هذا تماما، هل يوجد تفسير منطقي لهذا سيدة ريفيرا؟"

"لأنها..فقط..إنها أعراض طفيفة..كنت أتبع برنامج لعلاج الإدمان لهذا.."

لبرهة ثبت يحدق فيها، يحدق بروحها بطريقة جعلت نظرتها تصبح حادة و أكثر جدية، لم تكن تلك التي ستنحصر في الزاوية بقلة حيلة لذا ألقت كل شيء جانبا وواجهته بثقة كانت هذه المرة واضحة بعيدة عن التصنع.

"ما شأنك جديا، إن كان بسبب منزلك فسأقوم بتنظيفه وترتيب أثاثه كما كان سابقا وأغادر، ما أصابني وما سيصيبني أمر لا دخل لك فيه لا تستجوبني ثانية"

رفعت يدها لتحاول إخراج قطعة زجاج آلمتها كانت عالقة في كفها لكنه أمسكها قبل ذلك بهدوء يمنعها موازاة مع استقامته نحو المطبخ حيث دخل دون أن ينبس بحرف واحد، أخذ صندوق الإسعافات وتقدم ناحيتها على مخاطبتها له مجددا لكن هذه المرة كانت بهدف السخرية.

"ثم بحق الرب هل أنت محقق؟، وإن كنت مولعا بالاستجواب لهذا الحد فلتعمل في هذا المجال، ولا تتحدث بغرور هكذا وكأنك هوديني"

"لم أكن أحاول إثارة إعجابك عندما أخبرتكِ كل ذلك، أن ترينني ذكيا و جذابا ليس ما أسعى إليه لأنني أعرف هذا بالفعل..

استيقظ كل صباح لأقول هذا لنفسي".

قلبت عينيها للجهة الأخرى بينما قرب كفيها منه كي ينظف جروحها السطحية، بهدوء قام بالمسح عليها بأنامل الفنان تلك التي أجادت فعل كل شيء، لدقائق عم فيها الصمت بحث عن كل جرح عقمه ودماء جافة قام بمسحها إلى أن ألصق على كل أثر ضمادة و لف كفيها بشاش طبي تحت نظراتها صوبه، كانت تفكر في كل ما حدث سابقا تفكر في طريقة لمعرفة ما إكتشفه عنها، وبينما كانت تنظر إليه رفع رأسه عن يديها عند إنتهاءه.

"أقدامكِ لا تحتاج ضمادات قد نظفتها وعقمتها، كانت جروحا سطحية أي بإمكانك السير عليها"

وقف وسط الفوضى حولهما تلك التي مرر بصره عليها كاملة ثم إليها لينبس بجدية توازيا مع سله لمفتاح مكتبه بنية المغادرة صوبه.

"سأدخل لتفقد بريد مهم سيصلني على حاسوبي الشخصي، سألقي نظرة عليه بينما أنتِ ستنظفين المكان هنا.

دعي أمر الزجاج والحمام لي".

همهمت له تلقي برأسها على ظهر الأريكة بوهن في حين إلتفت إلى مكتبه ليتوارى خلفه، دخل وغرق في ظلامه، أغلق الباب من الداخل وتوجه إلى المكتب حيث ظهر على سطحه حاسوبه المغلق.

لم يكن سبب تواجده هنا هي الكاميرات التي أظهرت له حالتها تلك فحسب، بل لأن الرجل الذي إلتقى به سابقا في الميناء قد إتصل به يعلمه بأن تسجيلات الكاميرات الليلة الخاصة بهم قد وصلت إليه في بريده الشخصي، لكون الأخرى الخاصة بالوردية الصباحية لم تحتوي على أي شيء مهم بعدما قام بتفحصها مانويل جميعها.

جلس خلف مكتبه وسطع ضوء الحاسوب المفتوح مظهرا وجهه في الظلام الدامس، وسط عتمة لم تظهر منها إلى ملامحه تلك نقر ليفتح مقاطع فيديو مصورة من الزوايا العالية أمام الحاويات الضخمة والبواخر البعيدة، مقاطع مسجلة لتلك الليلة فقط، الليلة التي وبعد البحث إكتشفوا أنها الوحيدة التي مسحت تسجيلاتها دفعة واحدة بلا سبب.

أ لم يكن هو نفسه القائل بأن جوهر المرء يظهر عند كسره؟ أ لم تكن هذه أفضل طريقة لمعرفة ما بداخل الشيء! ها هي الآن قد شُرخت وسالت دماؤها معلنة عن خروج وحشها من سباته.

نقر ليفتح أول مقطع لحقيقة كيانين داخل جسد واحد.

__________

«جثة مغلفة»
مسرح جريمة محاط بشريط بلاستيكي، علامات ترقيم الأدلة بلونها الأصفر موزعة فوق الأسلحة الملطخة، فوق آثار الأقدام والأحذية، قطع حلوى متناثرة على الأرض وجثة غارقة في الدماء بينها، عنوان قد خُطت أحرفه بلون أحمر داكن منتصف شاشة التلفاز الضخمة المتدلية من السقف لتقابل مقاعد المخمل الرمادية.

بألوان متناغمة من الأسود والأبيض مستوحاة من فيلم "كابوس قبل عيد الميلاد" بشجرة مزينة بأضواء برتقالية ودمى على شكل شخصية زيرو تحتل مكانًا جانبيا في الغرفة، مع أشباح صغيرة تتدلى منها..

ألعاب بالأبيض والأسود بأشكال غريبة تحمل نفس طابع الفيلم تتناثر على الأرض، أما أضواء الشموع الباهتة تلك فقد ملأت الزوايا، بينما مجسمات صغيرة لسانتا جاك الغريب موضوعة تحت الشجرة وفوق منضدة المطبخ، تلك التي كانت مليئة بالحلوى والكعك، ببقايا المقبلات والتي كانت جميعها بألوان الهالوين البرتقالية والسوداء.


بعيدا عن كل تلك الزينة وأجواء عيد القديسين، بعيدا حيث شاشة التلفاز المتوقفة على آخر مشهد في الفيلم عندما ظهر الملصق الخاص به بعنوانه مرفوق مع كلمة النهاية، شاشة سطع نورها على جسديهما فوق المقعد صوبها..

كانت لوسيا ترتدي فستانًا إحتضن تضاريس جسدها يشبه الخاص بشخصية "سالي" داخل الفيلم والتي إمتلكت شعرا أحمرا ناريا مثلها تماما، فستان قامت هي نفسها بتصميمه وخياطته ببراعة، مستلقية بظهرها على الأريكة واضعة رأسها فوق حجر فاليريان والذي كان يرتدي بدوره منامة رجالية تشبه زي "جاك" بطل الفيلم.

في حين كان هو يحمل لوحه الإلكتروني يتفقد شيئا ما يخص العمل بعد إنتهاء الفيلم منذ ساعة، كانت هي تراسل كاثرين بحماس بعد أن إكتشفت رسالتها لاحقا والتي كانت عبارة عن صورة يدها بخاتم الأماثيست مرفوقة بعبارة «سأصبح زوجته أيتها الساقطة، لقد جاءت من ستحرركِ من عبوديتكِ أيتها المتعرية بإمكانك فعل ما تشائينه وأتركي إبن خالكِ لي»، رسالة مع رمز تعبيري على شكل كرز وغمزة.

أما الأخرى والتي كانت تتجنب فاليريان منذ الصباح، من كانت تشعر بالتوتر فجأة بعدما استوعبت ما اقترفته في الصالة الرياضية عندما اندفعت تقبله دون سابق إنذار، كل ذلك اختفى عند رؤيتها لرسالة كاثرين، لتندفع تصرخ بحماس معانقة إياه مصدرة أصواتًا غريبة وصاخبة، قفزت ورقصت وبعثرت الوسائد على الأرض كل هذا تحت أنظاره المتسائلة وإبتسامة بلهاء ارتسمت على وجهه وهو يرى تغيرها المفاجئ من الهدوء وتجنبه إلى الرقص معه وتقبيل وجنتيه من شدة السعادة..

حينها وبعد إنتهاء فقرة إحتفالها أخبرته بما حدث ليرسل إلى آرون رسالة بسؤال واحد كتبه بملامح ماكرة وإبتسامة لم تفارق محياه، سؤال واحد جعله يحظره نهائيا..

لذا وبعد أن عبرت عن مدى فرحتها شاهدا الفيلم معا بعدما جهزا كل ما يحتاجانه للسهرة والآن كان كل واحد منهما منشغل بأعماله، متناسين ما حصل صباحا، تلك القبلة وذلك النبض..

أبعدت لوسيا شاشة الهاتف عن وجهها بعد أن أطالت كاثرين الرد أثناء سردها لتفاصيل عرض الزواج المثالي الذي قام بعه آرون، ولأن الأخرى قد شعرت بالملل وهي تنتظر بحماس تُرك داخل حلقها غير مصدقة بأن إبن خالها سيهتم لتفاصيل شخص آخر هكذا، وضعت هاتفها فوق صدرها ثم رفعت رأسها لو أين أبعد هو الآخر اللوح الإلكتروني رافعا نظاراته متفحصا ما ستقوله عندما استشعر تحركها على حجره.

"هل كنت تستمع إليّ عندما كنت أتحدث سابقا عن أوليفيا التي إنفصلت عن حبيبها؟"

"أجل، رافاييل الخائن"

"مهلا..وهل أخبرتك عن المستجدات..إلهي لا..لم أفعل..الخبر الحصري الذي يخص ليليان..تتذكر ليليان! من تمتلك شفاها جذابة تلك التي كُسر كعبها في زفاف كلارا وقمت أنت بمساعدتها عندما ذهبت كرفيقي للزفاف"

كانت الآن قد تغيرت طريقة استلقائها فجأة دون أن تنتبه هي نفسها لذلك، فأصبحت عوض أن تنظر إليه فوقها وهي مستلقية على ظهرها واضعة رأسها على فخذيه أصبحت متكأة بمرفقها فوق حجره بينما نائمة على جانبها ليضع هو كل ما بيده واستند على ظهر الأريكة كي تتسنى له رؤيتها جيدا.

"أجل أتذكرها تلك القصيرة التي تشبه الدمى اللطيفة"

"أجل تلك..لن تصدق ما الذي إكتشفته عندما كانت مع حبيبها أنطوان الأسبوع الماضـ.."

"توقفي..لا تذكري التفاصيل..لوسي صدقا أ لا تمتلكين صديقات لتتحدثي معهن حول الفضائح من هذا النوع؟"

"إذا لا تريد معرفة التفاصيل؟ كما لدي صديقات لكن أنت أقرب شخص لي، حتى كاثرين مشغولة بآرون وزواجها به لن تهتم لكل هذا الآن"

زمت شفاهها ليسمح لها بالحديث معه حول مواضيع حساسة كهذه، حينها فقط إبتسم محركا رأسه بقلة حيلة واضعا يديه خلف رأسه ليعتدل مضيقا أعينه لها.

"ثم أ لم يكن آنتونيو حبيب ليليان من أنطوان هذا؟"

"أردت أن أتأكد من أنك منتبه لما أقوله حقا وأنك لا تجاريني فحسب"

بإبتسام مكر ختمت بها حديثها تُلقي بخصلاتها الحمراء للخلف بينما هدأ هو فجأة وإختفت إبتسامته ليقول بجدية وكأنه يود أن تتأكد من شيء كهذا.

"تعرفين بأنني لم أفعلها يوما، كلي آذان صاغية"

"أحقا؟ تتذكر كل شيء وتسمع كل حرف إذا!؟" همهم لها يحرك رأسه بخفة إيجابا لتعتدل بنظرات استجواب..

"ما الحقيبة التي تحدثت عنها أثناء تجهيزنا للمنزل قبل ساعات؟"

"حقيبة بيضاء من علامة الإيطالي فالانتينو غارافاني"

"من هي العارضة التي أعجبني فستان قد إرتدته قبل سنوات على الرانواي وأردت أن أصمم مثله مع إضافة لمساتي الخاصة؟ شعرت بأنك تتجاهلني طيلة الوقت ولم تسمع حرفا واحدا مما أقوله"

"العارضة كانت الروسية ناتاليا فوديانوفا، بالنسبة للفستان، كان فستانًا أسودًا لم تعجبكِ أكمامه، إشترت مثله أوليفيا العام الفارط وعلى الرغم من أنه لا يشبهه إلا أنكِ أردت تصميم آخر يشبهه مع تغيير الأكمام والحزام"

رقت نظرتها وإبتسمت له عندما قال كل ذلك بأريحية دون بذل جهد أو حتى أخذه لوقت كافٍ للتفكير، بل وكأنه يحفظ كلماتها وثرثرتها حول أشياء لا تخصه، نميمة وأسرار صديقاتها وفضائح المشاهير، تصاميم وتشكيلات جديدة والكثير من التفاصيل التي لن يهتم لها مساعد مدير تنفيذي وصياد روسي مثله، لكنها تفاجأت ككل مرة..

تبادلا النظرات في صمت، خاصتها ببريق حب وخاصته الثابتة عليها دون أن يرمش فقط كان يضع يديه خلف رأسه يتأمل جمالها إلا أن تثائبت دون سابق إنذار كعادتها..

كلوسيا الكلاسيكية التي ستتحدث معك بحماس وفرط حركة ثم تسقط لتنام فجأة بلا مقدمات تماما كالآن عندما فلتت منه ضحكة خافتة عندما ثقلت جفونها وتثائبت مجددا لتضع ثقل رأسها على حجره بخمول.

"لم يكن فيلما مخيفا، يمكنني النوم وحدي الليلة"

همست بها له ليكون على دراية في حال أراد أخذها إلى غرفتها بجانب غرفته داخل منزله، كان قد جهزها للإحتياط لكنه أيضا رتب الجانب الذي تحبه في سريره كونه متأكد من أنها ستنام عنده مثل كل مرة..

"متأكدة؟"

"لا"

"ستنامين عندي إذا"

"حسنا، سأستلقي بجانب المقبس"

"بالكاد تستطيعين فتح جفنيكِ الآن، عن أي مقبس وهاتف تتحدثين؟"

"ما شأنك أنت، حتى وإن لم.."

"لا بأس لوسي بإمكانكِ النوم أينما شئتِ"

قالها توازيا مع رفع جذعها من فوقه ليقف أمامها يمد لها يديه كفتاة صغيرة يشير لها لتتقدم ليحملها، ولأنها ورغم أعينها الشبه مغلقة إلتفتت إلى ظهر الأريكة وإبتعدت عنه محتضنة إحدى الوسائد كإشارة لعدم رغبتها بالذهاب والنوم هنا، كانت تتصرف بحماقة وقد أدرك أنها وصلت للحالة القصوى من الهلوسة قبل النوم.

"هيا لا تجعلينني أتبع أساليب أخرى" أساليبه تلك كانت عبارة عن دغدغتها ولأنها لا تحب ذلك كان ذلك بمثابة تهديد لها، شدها من كتفها بينما ردت هي بصوت مكتوم بسبب دفنها لرأسها بعيدا عنه.

"إن المكان دافئ هنا، أحببت خاتم كاثرين البنفسجي"

"هيا لوسي بدأتِ تهذين، ما علاقة كاثرين الآن"

"فالي"

"ماذا؟"

"هل برأيك فابيو يجيد التقبيل؟"

"هيا لنصعد" نبس بها هذه المرة تحت أنفاسه جاذبا إياها بقوة أكبر من قبل لتستدير له بأعين ناعسة ونظرات هادئة، بسطت يديها له وإلتفت هو بأعين قد إحتدت فجأة، جلس يوليها ظهره يربت على كتفه كي تتشبث به في حين لفت يديها حول عنقه من الخلف ليحملها رافعا إياها على ظهره مثبتا فخذيها بيديه من الخلف وقبل أن يضع خطوته الأولى همست قرب أذنه.

"هل حقا أصول فابيو صربية؟"

"اللعنة على فابيو الآن"

مهسهسا تحت أنفاسه لفظها بملامح اسودت ونظرات شحبت أكثر، سار نحو السلالم رافعا جسدها بيديها تحت فخذيها لتتشبث هي به واضعة رأسها على كتفه مغمضة عينيها سامحة لعطره بأن يتغلغل داخلها، مسحت على عنقه بعفوية ليزفر بثقل، بتنهيدة بصوت غليظ طرد هواء صدره وارتخت عضلاته عن قبل..

"هل برأيك سيدعوني آرون لزفافه؟"

"من قال بأنه سيقيم زفافا، هل برأيكِ أنتِ ذلك المتخلف سيقيم حفل زفاف وشيء من هذا القبيل؟"

"لما لا تخبره عن وجهة نظرك مباشرة؟

"لن أفرط في وسامتي"

"جبان.."

همست بها قرب أذنه تتعمد جعله يصاب بالقشعريرة كما إعتاد إخبارها أنه يكره الهمس داخل الأذن هكذا، أبعد رأسه للجهة الأخرى بضحكة بنبرة رجولية في حين توقفت أقدامه أمام باب غرفته في الطابق العلوي، دلف بها ليقف بعد خطوات صوب سريره.

رفعت رأسها عن عنقه تنظر إلى سريره كما فعل هو ولأول مرة منذ سنوات، لأول مرة منذ أن بدأت صداقتهما ينبض قلبها على شيء كهذا، رغم كل المشاعر التي تحملها له إلا أنها لم تتجرأ يوما على التفكير بشيء عدى علاقتهما الأخوية حتى بينها وبين نفسها..

بينما هو لم يختلف حاله عنها بل شرد في الجهتين عاجز عن وضعها كما لو أنه أدرك للتو أن الفاتنة خلف ظهره كانت تنام قربه في كل مناسبة، أعياد الميلاد وبعد كل حفلة يذهبان إليها سويا، بعد كل زفاف ويوم متعب، بعد إنفصالها عن أحباءها وشجارها مع صديقاتها كانت تلجئ إليه وتنام هنا قربه، أدرك للتو فقط أن من قبلته صباحا ستلتصق به كالمعتاد.. لكن الغير معتاد الآن هو مشاعره تجاهها.

نفض ما بقي عالقا داخل عقله وإلتفت ليجلس فوق السرير خلفه كي يتسنى لها فصل ذراعيها عن عنقه والاستعداد للنوم لكن عوض أن تبتعد فصلت جسدها عنه ثم إقتربت تطبع قبلة على ظهره، حركة مفاجئة جعلته يتعجب عن السبب حينها ربتت على كتفه بجفون منسدلة هامسة.

"أكتاف إبن جبال الأورال من حقها أن تُقبّل هكذا، تتدرب يوميا ولا تمانع حملي على ظهرك في كل مرة، جديا يجب أن تُقدَس"

حرارة سرت داخل عروقه لم يعهدها يوما، حرارة تناقض كُتل الثلج المكدسة فوق بعضها البعض تلك التي شكل بها بيتا حلزونيًا لقلبه فعاش في الخلاء باردًا بلا نبض..

ذلك القلب إهتز لحظة لمحه لكتلة جليدية تطفو على الماء إقتربت مُحملة بشعلة حمراء مُتقِدة، حملت معها نيرانًا، أدرك للتو أنها كانت موجودة، وإكتشف أن لسعة الصقيع تبدو ضئيلة أمام لسعتها، وأن دخان البرد يتلاشى أمام سخام حريقها، كان يغوص في الثلج وكانت هي نيرانًا حمراء مُلتهِبة جاءت لتمنحه الدفء وتحول جليد قلبه ماءً يروي به عطشه تجاه الحياة.

خرج من شروده بعدما استشعر ركودها وعدم حركتها خلفه، إلتفت إليها ليجدها غارقة بين وسائده نائمة بعد أن استنشقت عطره العالق فيها، بأعين حملت داخلها إعترافاته كلها إقترب يأخذ مكانا بجانبها، ضمها إليه واضعا لحافه على كليهما لتعتدل هي تدفن رأسها داخل صدره.

حينها حمل علبة المرطب التي وضعتها على المنضدة سابقا عندما كانت تجهز مكان نومها قبل مشاهدتهما للفيلم معا، كان يعرف هوسها بمستحضرات العناية بالبشرة، هوسها بشعرها وروتين عنايتها بجسمها لذا تفحص وجهها متأكدا من أنها مسحت مساحيق التجميل قبل ساعات، ولأنها غفت دون أن تقوم بوضع شيء على يديها قام بأخذ بعض منه وباشر بدهنه على يدها حارصا على عدم ازعاجها لكنها همست بثقل مغمضة أعينها بخمول.

"رائحته كالكراميل، مثلما تحب"

إبتسم مهمهما لها قبل أن يرفع يدها لأنه يشم رائحة العسل منها، بينما كان غارقا في نعومة تفاصيلها شدته لتمرر يدها على يده تحاول ترطيبها بمشاركته ما بخاصتها.

"يجب أن تهتم أكثر بيديك، أن تكون رجلا لا يعني عدم إكتراثك بشيء كهذا، فحتى الأنثى تحب أن يكون ملمس رجلها ناعما عندما يضع يده عليها"

فتحت عينيها تنظر إلى ما تفعلن بينما هو تأملها بشرود وكيف كانت عاجزة عن فتح عينيها من شدة الإرهاق لكنها رغم كل هذا ظلت تدهن أصابعه ممررة أناملها بين ثناياها برفق وإهتمام شديد.

توقفت عن دهن يديه لتقرب خاصتها إلى أنفها بإبتسامة عندما استنشقت رائحة العسل منها، ثم رفعت رموشها المنسدلة بخمول نحوه لتجده يحدق بها في صمت من تلك المسافة، لدقائق لم يعدها أيا منهما ظلت ترمش بثقل متأملة لون المحيط داخل عينيه قبل أن تُرخي أعينها بسبب يده التي رفعها واضعا ظهرها على خدها، مسح عليها بهدوء قائلا.

"هل ملمسهما يعجبكِ الآن؟"

همهمت له لتتحدث بثقل لآخر مرة عاجزة عن ترتيب الكلمات داخل عقلها.

"على الأقل ستدلل حبيبتك عندما ترتبط..ستكون على معرفة مسبقة لما تحبه النساء".

بينما يده لم تتوقف عن المسح على وجنتها ظل يتأمل حركة شفاهها التي توقف وإرتخت على اثر لمساته إلى أن أغمضت عينيها هذه المرة عاجزة عن فتحهما مجددا مستمعة لآخر كلمات لفظها قرب وجهها.

"يكفي أن أعرف ما تحبيه أنتِ"

لم يتلقى ردا، لم تتحرك وتفتح عينيها مجددا بل كل ما قابله هو تقاسيم وجهها الهادئة، عينيها المغمضة وأنفاسها المنتظمة، نظر إليها للحظات متوقفا عن فعل أي شيء، ثم إقترب للدرجة التي لامست أرنبة أنفه خاصتها، وضع يده على خصلاتها الحمراء ممررا إياها على طولها وأغمض عينيه مستنشقا رائحتها بعمق..

ولأنه لم يستطع مقاومتها، لم يستطع كبح نفسه عنها أكثر دنى منها يفصل كل إنش بينهما ليطبع قبلة سطحية على شفاهها، نفس الشفاه التي إلتصقت به صباحا، نفس الملمس والدفء، قبلة سطحية أطالها ليعوض كل لحظة أراد فيها فعل هذا ولم يجرؤ، يعوض عدم مبادرته صباحا وتجاهل مشاعره تجاهها، قبّلها بعاطفة شخص لا يشبهه بتاتًا و إبتلع تلك العاطفة كما إبتلع ريقه قبل أن يبتعد عنها هامسا حارصا على عدم ايقاظها.

"أنا أيضا لا أريد لعبة الصداقة هذه، حتى أنا أريدكِ بقدر ما تفعلين لوسي، لكنني عاجز عن كسر ذلك الحاجز بيننا لوسي، إني مكبل كفريسة، لن أتحرر حتى يؤذن لي..

حتى أنتقم".

___________

داخل أحضانه، بقميص قطني برتقالي فضفاض وجوارب بيضاء طويلة تكورت داخل صدره مستندة عليه بظهرها أمام المدفأة، بينما وشومه على طول ذراعيه لفها على جسدها الضئيل محتضنًا إياها من الخلف واضعا ذقنه على أعلى رأسها ينظر صوبهما إلى المكان الذي كانت تنظر إليه، إلى يدها المرفوعة لمستوى نظرها، لخاتم الأماثيست البنفسجي داخل إصبعها..

كانت تنظر إليه بإنبهار كلما رفعته عاليا، تنظر بأعين متلألئة ونبض متسارع للشيء الذي لم تتخيله يوما وهو أن ترتدي خاتما يربطها به، بتنهيدات عميقة متواصلة وسعادة لم تسع صدرها عبرت عن مدى رغبتها به منذ عرض الزواج ذاك..

بينما هو كان يتأمل كل تصرفاتها بهدوء وكأنها الأمر الوحيد الذي سيرغب برؤيته طوال حياته، ليقبل رأسها تارة ويداعب بطنها البارزة تارة أخرى.

منذ أن قبلت عرضه واستلقت بجانبه بعد أن عبرت له عن مدى سعادتها بطاقتها تلك، منذ حمامهما المشترك معا وحديثها السري مع لوسيا حول عرض الزواج قبل أن يُكشف سرهما عندما أرسل له فاليريان رسالة إنتهت بحظره، منذ الصباح وبين الفينة والأخرى تلفظ اسمه ثم تصمت، مهما أراد معرفة ما تريده كانت تكتفي بالصمت فقط لكن الآن تحدثت بعد نصف ساعة من هدوئها.

"أريد أن أضع وشمًا أنا أيضا"

"لكني أحب صفاء بشرتك ضد خاصتي"

"آرون"

"ما الذي تريده بنفسجيتي منذ الصباح ولم تجرؤ على البوح به؟"

"كيف سنتزوج؟"

"أ هذا ما كان يشغل تفكيركِ وجعلكِ تصمتين في كل مرة؟"

"لا ذلك أمر آخر ولا تسألني عنه، أجبني عن هذا فحسب"

"سنتزوج مثل الجميع، أين المعضلة؟"

إلتفتت إليه بالكامل ليطوق ظهرها من الخلف وتلف سيقانها حول جذعه، وضعت يديها على قميصه الصيفي تمرر أصابعها على صدره من فوق بشرود تفكر في صياغة حديثها لتهمس بتردد.

"أقصد كيف..كيف سنخبرهم؟، أمي، مانويل، خوسيه وخوان وحتى هيتايرا كيف سأعترف لهم بأنك كنت والد طفلتي منذ البداية وقد أخفيت الأمر عنهم؟"

"أنظري إلي كاثرين"

قالها رافعا ذقنها لتتواجه أعينهما، نظر داخلها كما فعلت هي تتأمل إنعكاس ضوء نيران المدفأة خلفها على لون أعينه الأخضر، تمعنت في إحتراق العشب داخلهما قبل أن ترتخي على إثر مسح إبهامه على خدها.

"لست مراهقا أحمقا سترتعش أقدامه عند مواجهة والدك، لن أهتم بآرائهم اللعينة، كل ما يهمني أنني والد طفلتكِ، الرجل الذي سيكون زوجكِ، وأنا من سيتحدث، هل بربك ترينني جبانا سيتركك تتولين زمام الأمور وحدكِ؟ هل أنا الراقصة فاليو؟"

وهنا فقط ضحكت وسط دموع حبيسة أعينها، ضحكت على ذكره لفاليو الذي لا ينفك يشير إليه على أنه راقصة، كما إبتسم هو واضعا جبينه على خاصتها محتضنا إياها قائلا بخفوت.

"لا تفكري في الأمر، فكري بنا وبأماثيست لأن بالنسبة لي الآن أنتِ زوجتي ولن يغير أحد هذا مهما حصل"

"زوجتك" كررتها بهمس تجرب نطقها بلسانها، تجربها لأول مرة بإبتسامة بلهاء ارتسمت على وجهها جعلته يرفع جبينه عن جبينها يقبله قبل أن تفصل كل المسافة بينهما معانقة إياه مطوقة ظهره الفسيح بيديها، وضعت رأسها على كتفه لتلفظ اسمه مجددا كما فعلت من ساعات، لفظته وهمهم لها هو كما فعل منذ ساعات أيضا لتصمت بعدها ويكتفي هو بذلك الصمت كإجابة.

كأحضان الأهل التي لم تجربها، كرائحة الآباء ودفئهم، كالشعور بالأمان ورغبة الجلوس مطولا في مكان واحد دون الشعور بضجر كان صدره.

لدقائق ارتخت بين ذراعيه واضعة ثقل رأسها على كتفه تمسح بيدها على وشم التنين خلف عنقه من الخلف، وكلما وصلت إلى اسم ديو لانواريوس التي خُطت حروفه تحت شعره داعبتها بأناملها تعيد كتابته بعشوائية مهجأة إياه قرب أذنه.

لكن وبحركة سريعة جعلته يفتح عينيه بعد أن كانت جفونه قد إرتخت على اثر لمساته، رفعت رأسها عنه تنظر إلى الباب صوبهما من بعيد وسكتت، حل الصمت وإنتشر صوت إحتراق الحطب خلفهما، فقط تلك الطقطقة خاصة الخشب والتلفاز بصوته المنخفض في الجهة الأخرى.

شدها هو إليه أكثر ظنا منه أنها إنقباضات الرحم وتمدده مثلما قرأ سابقا لكنها رفعت يديها عنه تبعده من كتفيه دون أن تزحزح بؤبؤيها عن الباب المغلق حينها وعندما تلاقت أعينهما همست له بملامح جزع قد قرأها على تقاسيمها.

"هل سمعت ذلك؟"

"ماذا!"

"هنالك أحد بالخارج"

ضيق أعينه لها وتغيرت نظراته المتسائلة لأخرى وكأنه يخبرها "أحقا لن تستسلمي؟" كونها أرادت إخافته منذ ساعات لكنها فشلت، كانت تحاول بكل إصرار بعدما وجدت أن حتى فكرة إرتعابه أثناء خروجها من الأماكن وصراخها فجأة لا يؤثر به بل كان كل ما يصدر منه سوى نظرات ثابتة والتحديق بها مطولا كمن ينتظر متى ستتوقف عن هذا كي لا تهدر وقتها.

أما الآن فقد نفت برأسها عندما أدركت أنه لم يصدقها، وقفت مبتعدة عن صدره وقبل أن تخطو للأمام سمع هو هذه المرة الصوت الذي صافح سمعها سابقا لترفع نظرها إليه تتأكد من أنه صدقها هذه المرة، حينها وقف وتقدم قبلها نحو الباب ليظهر له الصوت بشكل أوضح كما تعرفت على مصدره مباشرة لتتحدث خلفه.

"إنه صوت أنين حيوان ما"

توازيا مع قولها فتح الباب ليلفحها الهواء البارد من الخارج، نظرا في الأرجاء إلى أن ظهر جسده الصغير من بين المقاعد في الشرفة الأمامية، جرو بني تقدم صوبهما بجسد يرتعش وأقدام صغيرة بالكاد استطاع السير للوصول إليهما..

صوت كاثرين خلف ظهره جعله يقلب عينيه بضجر كونه علم على الفور ما ستفعله وما ستتفوه به بعد صرخات الحماس والأصوات الطفولية التي أصدرتها وكأنها تداعب طفلا صغيرا..

لذا وقبل أن تنحني لتجلس القرفصاء تحمله منعها وسط محاولاتها في ذلك بسبب بطنها البارزة التي أصبحت تعيق حركتها.

"ما الذي تفعلينه الآن!"

"سأحمله"

"لا تلمسيه سينقل لكِ الأمراض الآن"

"إحمله أنت إذا"

"لا لن أفعل، سأحضر له بعض الماء أو شيء ليأكله وسيبقى في الخارج إلى أن تأتي والدته لأخذه أو ربما سيعود إليها وحده"

صفعت يده بعتاب وأشارت للجرو بملامح حزينة تحاول استعطافه، نظرت إليه ثم إلى الكائن الصغير تحتهما مردفة بأكثر الأشياء التي شعر بأنها تمثله لدرجة أن نظراته قد تغيرت لأخرى فارغة جافة.

"وإن لم تأتي والدته! هل سينتظر هنا إلى الأبد؟ دعنا ندخله آرون"

تشبثت بذراعه ليلتفت إليها متأملا أعينها لبرهة، مرر بصره منها إلى الجرو وقبل أن يتفوه بكلمة همست تشد يده.

"أرجوك"

"سحقا كاثرين سحقا"

قالها يبعدها عنه تحت إبتسامتها التي اتسعت أكثر وهي تنظر إليه كيف إنحنى يلتقطه من على الأرض ليدخل إلى المنزل وتلحق هي به من الخلف بحماس قد فاض منها.

"الليلة فقط، ثم سيغادر"

"حسنا سيدي"

وقف وسط الغرفة يحمله بين كفيه بينما راحت هي تتفحصه ملتصقة به من الخلف وكلما أرادت مد يدها للمسه أبعده عنها مكررا نفس الكلمات بأن الحامل أكثر عرضة لإلتقاط الأمراض والعدوى..

"لنحممه إذا"

"قطعا لا،لن أدخل هذا الكائن إلى الحمام أيضا"

"لا تكن قاسيا هكذا"

"لقد قلت ما قلته لن يدخل أبدا إلى الحمام"

"أرجوك"

"لقد قلت لا، ملامح التوسل هذه لا تنفع كل مرة"

"أرجوك"

"أتعرفين! لقد دللتكِ حتى أصبحتِ متأكدة من تحقيقي لطلباتك عبر توسلكِ هذا، لكن الآن أعبري على جثتي قبلها"

_________

فوق منشفة بيضاء على الأرض بجانب حوض الاستحمام جلسا بركبهم يحممانه داخل الحوض الذي امتلأ بالفقاعات والصابون في كل زاوية منه، فركت كاثرين فراء الجرو بيدها بإبتسامة زمتها كي لا ينفجر آرون كونه لم يتفوه بكلمة منذ جلوسه، كانت تخلل أصابعها داخل فراءه بينما كان الآخر ينظف أقدامه من الأسفل.

"أنظر إلى لطافته، يشبه أماثيست"

"إخرسي كاثرين"

قهقهت بجانبه بعد عجزها عن كبحها أكثر من ذلك ليتأفف هو بضجر ينظر إلى الجهة الأخرى ليحمل المنشفة الموضوعة فوق المغسلة، نظف الجرو من الصابون بمياه دافئة لآخر مرة ثم حمله واضعا إيه على المنشفة فوق حجره، في حين إلتفتت كاثرين إليه بنفس وضعية جلوسها تجففه بإبتسامة لم يستطع الآخر زحزحت بؤبؤيه عنها، حينها نقلت أنظارها من الصغير إلى الآخر قائلة.

"لطالما أردت إمتلاك حيوان أليف لتربيته، ومن شدة هوسي أردت أي شيء حرفيا قطا، جروا أو أرنبا، سلحفاة أو حتى همستر لكنهم لم يسمحوا لي بهذا مهما توسلت، كان خوسيه يكره وجود الحيوانات داخل القصر، في الحقيقة كان يكره حتى البشر فقط من حملوا دماء كاستيلو..بالتفكير في الأمر فحتى هؤلاء لم يحبهم جميعا"

إبتسمت بشرود في نهاية حديثها منشغلة بتجفيف الجرو الصغير بين يدي آرون الذي رقت نظراته صوبها متأملا ملامحها التي إنطفأت فجأة وتحولت من السعادة والحماس إلى الخمول والشرود.

"هل بإمكاننا تربـ.."

"لا"

رغم كل شيء، رغم تعاطفه معها إلا أنه رفض مباشرة يقطع كلماتها لترفع رأسها بحنق كونه لم يعطيها الفرصة حتى لإقناعه وقبل أن تتفوه بأمر آخر وقف حاملا إياه ناحية المخرج صوب الغرفة الكبرى.

"لا فرق بينك وبين خوسيه"

"أنا أضخم قليلا، لدي وشوم أيضا"

"اللعنة عليك آرون، أنا أتحدث حول القسوة"

وضعه بجانب المدفأة ليقف مقابلا إياها يحدق بالعقدة التي تشكلت بين حاجبيها، نظر إليها لثوانٍ ثم بدل نظره للمطبخ خلفها وقبل أن يتحدث حول إطعام الجرو نظرت إليه تصطنع البراءة بشكل لطيف مبالغ به، إنزلقت منه إبتسامة خافتة سارع بكتمها رافعا أصابعه ينقر على أنفها.

"لدي واحد بالفعل لما علينا الإهتمام بواحد آخر"

وعكس ما توقع، لم تغضب، لم تتغير ملامحها لأخرى ضجرة بل كل ما فعلته هو النظر إليه بنظرة الجراء تلك ترمش كي تستعطفه أكثر مؤكدة له كلماته السابقة..

ولأنه فاقها غرابة عارض تفكيرها هو الآخر ولم يتفوه ببنت شفة بل رفع يده يربت على شعرها بملامح رضى كشخص استحسن تصرفات جروه، سرعان ما تحولت لأخرى ماكرة عندما لمح طيف غضب داخل عينيها على فعلته تلك.

"لا تستفزني"

"لماذا؟ هل تعضين؟"

"إن كنت أنا جروا فأنت كلب حراسة بجسدك هذا"

"هل أشتري لصغيري طعاما مجففا؟"

"أبعد يدك عني"

"هل جروي لا يحب المداعبات"

وهنا فقط إرتفع جانب شفتها تماما مثله، كان يتحدث وهو يربت على شعرها لكن إنزلقت يده من رأسها إلى ظهرها ببطء قبل أن تصفعها قائلة بلمعان فرح بسبب تأكدها من موافقته على تربيته.

"سأسميه آرون"

"كاثرين!"

"حسنا ليكن لانواريوس"

"لا تختبري صبري"

"هل أسميه كوفي؟ بسبب لونه الذي يشبه القهوة، أو ربما موكا كالقهوة الممزوجة مع الشوكولا"

توقفت قليلا تفكر بينما مرت إبتسامة خافتة على وجهه يحدق في تفكيرها بأبسط التفاصيل وإهتمامها به رغم وجوده هنا منذ ساعة فقط.

"وجدته، سيكون أوسو، الدب الأشهب"

همهم لها يوافقها على إختيارها بينما إلتفتت إلى الصغير المكور بين الوسائد على الأرض مرتخيا بسبب دفء النيران صوبه ، جلست بجانبه تمسح على ظهره في حين دخل الآخر إلى المطبخ بحثا عن شيء يناسب معدة جرو.

في تلك الأثناء رفعت كاثرين رأسها صوب ذراع الأريكة بعد أن لفت إنتباهها ضوء الهاتف الذي فُتح ينير شاشته، مع إهتزاز صغير أعلن عن وصول رسالة، نظرت إليه بلامبالاة ناقلة بصرها إلى أوسو في الأسفل قائلة بصوت مرتفع كي يسمعها الآخر.

"لقد وصلتك رسالة"

"إقرئيها" جاءها صوته من بعيد أثناء إنشغاله حينها رفعت حاجباها بتعجب تحدق بالشاشة التي أظلمت مجددا.

"هكذا ببساطة؟"

"أجل إفتحيها تعرفين كلمة السر بالفعل"

"أحقا بإمكاني فعل هذا؟"

"كاثرين تتحدثين وكأنكِ لم تفتحيه خلسة" إطل برأسه من فوق منضدة المطبخ رافعا حاجبه ينتظر إنكارها هذا يخبر بطريقة غير مباشرة بأنه كان يعلم بأمر تجسسها عليه طول هذا الوقت.

"لكن الآن أنت من سمح لي"

"لأنه مجرد هاتف ما الغريب في هذا؟"


"حتما تمتلك هاتفا آخر، هذا ليس طبيعيا"

" فقط إقرئيها ربما من روزاليا تريد مني العودة إلى المنزل، تقدس الأعياد وتشعر بأنها ملزمة بجمع العائلة في كل مناسبة"

قالها وتوارى عن الأنظار لتزحف هي تُلقي بجسدها تحت المقعد بعد أن سحبت الهاتف من فوق ذراعه، قرأتها بينها بين نفسها دون أن تتفوه بكلمة، نظرت إلى الجرو ثم إلى آرون الذي كان جسده غير ظاهر لها بل كل ما صدر من جهته هو صوت الأواني، فكرت لبرهة لتتحدث بعد تفكيرها بشرود.

"إنه شقيقك، يخبرك بأن تقابله عند الموقع الذي أرسله الآن"

خرج هذه المرة يحمل صحنا صغيرا به القليل من الماء بعد أن عجز عن ايجاد شيء يناسبه إضافة لعدم معرفة سنه وما الجيد له.

"أخبريه بأن يعود مشيًا على الأقدام ربما سيعود إليه عقله.. لست سائقه الخاص كي أقله من الورشة كل يومين"

وضع الصحن أرضا ثم إلتفت إليها متحريا السبب خلف صمتها، رفعت عينيها له ليحرك رأسه متسائلا وما إن مشى تجاه المقعد بجانبها لفظت الاسم الذي جعله يتوقف عن التحرك.

"إنه أغوستينو"

توقف وحدق في الفراغ لعله يستوعب ما قالته للتو، أ كان أغتستينو من ارسل له بأن يقابله؟ شقيقه الذي لم يتحدث معه عبر الرسائل أبدا أراد ملاقاته الآن؟

أما بالنسبة لكاثرين التي رفعت عينيها عن الشاشة قائلة باِستغراب

"هل تحذف رسائلكما عادة! لا يوجد غير هذه الأخيرة في المحادثة!"

لم يحذفها يوما، لأن تلك كانت الرسالة الوحيدة بينهما، الأولى التي دخلت إلى هاتفه لأنه ومنذ اليوم الأول الذي سجل فيه رقمه لم يتحدث معه عبر الرسائل، لم يتحدثا حتى وجها لوجه، شخصان هكذا بعلاقة سطحية بالطبع سيكون آخر شيء يفعلانه هو تواصلهما بالرسائل.

خرجت من شرودها على سحبه للهاتف من بين يديها، نظر إلى الكلمات التي أرسلت إليه لبرهة ثم نقر ليدخل إلى الموقع، كان قريبا من منزله وكأنه تعمد أن يقابله في أقرب مكان له ظنا آرون بهذا أن أغوستينو يخبره بأنه يعرف كل شيء، منزله، أسراره ومكانه المتواري عن الأنظار، نظر إلى الموقع لثوانٍ تغيرت فيها نظرته لأخرى حادة باهتة ليعود إلى هيئة آرون الطبيعية.

خرج منه وبنقرة مسح الرسالة كلها، أطفأ الهاتف ووضعه جانبا حيث كان سابقا قائلا توازيا مع حمله لمجفف الشعر المرمي فوق المقعد والذي تركته سابقا هنالك بعد ان جففت شعرها قرب المدفأة.

"أين كنا؟"

"أ لن ترد على رسالته؟ ربما يحتاجك، ربما هو واقع في مشكلة ما!"

"سأجفف شعره كي لا يمرض، وأنتِ جهزي له مكانا لينام فيه"


ظلت مثبتة أعينها عليه تنظر إليه كيه تجاهلها تماما واضعا الجرو في حجره يجهزه لتجفيفه.

"لا تواصلي النظر إلي بهذا الشكل"

"آرون.. إنه أخاك، أ ستتجاهله؟"

توقفت يده وضغط على الزر ليوقف مجفف الشعر رافعا بؤبؤيه لها.

"لا تتدخلي في علاقتي بأشقائي"

"هل هي إهانة أن تُظهر بعض الحب إليه؟" احتدت نظراتهما ولم يبعد خاصته عنها لأنها أكملت مباشرة بكل جدية دون أن تتردد بسبب ركود ملامحه وحدتها.

"لا أدري ما الذي حدث بينكما لكنه شقيقك، يحمل نفس دمائك، لا شيء..

لا توجد قوى في هذا الكون ستجعلك تمقته لهذه الدرجة، مهما أنكرت آرون مهما حاولت الكذب على نفسك لكن لن تغير أبدا فكرة أنكما تشاركتما الرحم ذاته وأنه أكثر الأشخاص قربا لك".

قالتها دفعة واحدة، بتلك الشجاعة التي جمعتها أمامه لتصمت نهائيا مقررة بأنها المرة الأخيرة التي ستجادله حول علاقته مع عائلته، لم تضف حرفا واحدا، أرادت ترك القرار له وعدم الضغط عليه ففي الأخيرا كان حرا في اتخاذ قراراته، بينما هو بدل نظراته منها بهدوء مكملا تجفيف شعر أوسو قائلا بخفوت، كلمات قالها بصوت لم تستطع سمع جلها وكأنه أراد قول ذلك لنفسه وليس لها هي.

"لم يكن يوما أخي، كان إبنها..وكل ما يخصها لا علاقة لي به"

مرت الدقائق وصوت المجفف كان كل ما يسمع داخل فضاء منزلهما، توقف فجأة ليبقى صوت كصيص الحطب منتشرا حولهما، مسح على ظهره ووضعه جانبا ثم إلتفت لها ليجدها جالسة على السجاد مستندة على المقعد تنظر إليه منذ أن سكتا، تأملها بهدوء دون أن ينبس ببنت شفة فقط ظل يحدق بها وكأنها يخبرها بأن الأمر ليس بتلك السهولة التي تظنها هي..

وضع ما بيده جانبا واستقام لتعتدل هي رافعة يديها صوبها ليعينها على الوقوف.

"هنالك طعام جاف خاص بالجراء، سأذهب لشراءه"

قالها يلقي نظرة أخيرة على ذلك الكائن الصغير الذي أخذ مكانا دافئا بين الوسائد كالسابق، ثم نقل بصره إليها أمامه من إبتسمت على تغيره تجاه الجرو بعد أن كان رافضا لفكرة تواجده معهما نهائيا، مسحت على خده تومئ له وإتجه هو ناحية الباب منتشلا معطفه سترته من على ظهر المقعد في الجانب.

إرتداها ووقف يمرر أعينه على المنزل يتأكد من أن النوافذ مغلقة إلى أن توقف عند وجهها موازاة له، إبتسمت وإقتربت ترفع جسدها نحوه، وضعت يديها على كلا خديه وتشبثت به تقف على أطراف أصابعها تطبع قبلتها فوق شفاهه.

أما هو فلم يبادلها بل أغمض عينيه مطوقا ظهرها بذراعه، لذا وبعد أن إبتعدت ظلت من ذلك القرب تتأمل ملامحه، رفعت عينيها لعشبيتيه، لذلك اللون الذي أصبحت مهووسة به وهمست، همست بنبرة خافتة لامست بها قلبه الذي نبضه إرتجف تحت كفها

"تحاول دائما أن تظهر جانبك القاسي، لكنك إنسان ذو قلب عطوف وطيب..

أنا أعرف أنك تتصل بماريو كل ليلة لتتأكد من أن لوسيا قد عادت إلى القصر ولم يصبها مكروه، كما أنني متأكدة من أن الرسالة التي وصلتك سابقا قد ظننتها من دومينيك وقررت عدم الذهاب إليه لكن كان سينتهي بك الحال ذاهبا لتأخذه من الورشة مثل كل مرة"

تركت خده بعد أن مسحت عليه لمرة أخيرة ليغلق هو سحاب سترته دون أن يزحزح أي منهما عينيه عن الآخر ليردف هو أيضا.

"وهذا لا يعني موافقتي على تواجد ذلك الشيء هنا"

"ستحبه لأن هو قد أحبك وشكلتما رابطة الأب والإبن"

تأفف بضجر تحت إبتسامتها الخافتة صوبه ليضع يده على الباب بصدد المغادرة، نظر إلى المخرج ثم إليها بقليل من الحنق الظاهر على ملامحه.

"أكره هذا، أكره أنكِ تغيرين في أشياء لا أريد تغيرها" إبتسمت وتسلقته مجددا تطبع قبلة على خده هامسة عند موضعها.

"لم أغيرك، هذه حقيقتك رون، أنت هكذا من الداخل فقط تكابر"

أغمض عينيه يكبح شعوره بالغضب على ما يحصل، إلتفت وإنحنى إليها يجذبها إليه، لثوانٍ قبلها يخبرها عن مدى كرهه للأمر، فصلها فجأة فلعقت شفاهه ككل مرة خاتمة القبلة وكأنها تؤكد له قوله سابقا في كونها جروه الأليف..

"لن أتأخر، لا تفتحي الباب لأحد حتى أعود، هل أحضر لكِ شيئا ما معي؟"

"أجل، أي نوع من حلوى العيد"

مسح على خدها مهمهما ثم فتح الباب متجها صوب سيارته، خرج عن شرفة المنزل تحت أنظارها من وقفت تمسك الباب في الداخل حافية القدمين تراقب إبتعاده عنها شيئا فشيئا ودون وعي منها لفظت اسمه مجددا، لفظته ليخرج مصافحا سمعه من الخلف جاعلا من ابتسامة ترتسم على ملامحه، إبتسامة زينت وجهه أخفاها ليصل بجانب سيارته ملتفتًا إليها.

وقف ينظر إليها من بعيد وهو يدرك ما كانت تود قوله منذ الصباح، منذ أن عرض عليها الزواج ووافقت، أرادت أن تعترف له بحبها لكن في كل مرة كانت تتردد على الرغم من أنه قام بالخطوة الكبرى بإفصاحه عن رغبته في الزواج منها، لكن عدم بوحه بذلك أولا جعلها خائفة من صد مشاعرها وتفكيرها بأن الزواج لم يكن إلا تخطيطا من أجل مستقبل أماثيست.

سكتت وإكتفت برسم إبتسامة باهتة على وجهها بملامح هادئة جعلته يتأكد مما تقصده ليتحدث هذه المرة بصوت مسموع لها بنفس ملامحها العاشقة.

"أنا أيضا"

إرتجف قلبها وإرتفع النبض لدرجة شعورها به داخل حلقها، بادلته الإبتسامة غير مصدقة أنه إعترف لها الآن بطريقة غير مباشرة، الرجل الذي أراد أن تكون علاقة عابرة دون معرفتها لمعلومات شخصية أخبرها الآن بأنه يحبها.

كانت تشعر بخفة أقدامها ورغبتها في الطيران بعيدا رفقة مشاعرها تجاهه التي راحت تتضخم أكثر فلم يعد قلبها يسعها.

لمرة أخيرة تبادلا النظرات قبل أن يصعد إلى سيارته ويختفي جسده داخلها، غادر المكان تاركا وإندثر وسط الطريق بين الأشجار، غادر تاركا خلفه كاثرين التي دخلت تغلق بابها واضعة يدها فوق قلبها بسعادة لم تجرب مثيلا لها طوال حياتها..

وقفت أمام بابه لتعانقها رائحته التي تركها خلفه كما ترك طفلة داخل رحمها.

سارت تلك البجعة البيضاء ترقص الباليه بخفة حاملة معها حجر الأماثيست على إصبعها وداخل رحمها، رقصت بإتجاه الدب الأشهب النائم أمام المدفأة لتجلس معه بإنتظار رجوع التنين.

________

صوت ضحك من الطاولة الأخيرة في المطعم كان مختلطا بالموسيقى، قهقهات أنثوية خاصة بمجموعة من النساء جلسن يتبادلن أطراف الحديث بأزياء تنكرية فاخرة تناسب الطبقة التي خرجن منها، أثرياء المجتمع الراقي..

كانوا ملتفين حول طاولة يتناولن تحلية اليقطين والجوز الخاصة بعيد القديسين، بمشروبات متنوعة تنوعت معها المواضيع مرت الساعات دون أن ينتبهن للوقت، إلى أن رفعت واحدة منهن هاتفها صدفة وإكتشفت أن الساعة ستعلن منتصف الليل قريبا وأن الوقت قد تأخر بالفعل..

نظرت إلى الهاتف ثم إلى صديقاتها، فكرت في المغادرة كونها لم تستطع البقاء أطول من ذلك، لكن شيئا ما كان يمنعها، ربما رغبتها في الشعور بالحرية كإمرأة عزباء أو ربما كونها سئمت مسؤولياتها التي تنتظرها في المنزل..

لذا قررت تجاهل الأمر بإبتسامة وضعت معها الهاتف على شاشته غير مكترثة لشيء عدى الاستمتاع، بينما وقفت تستأذن كي تذهب إلى الحمام لتعديل هيئتها بما أن السهرة والحديث لازالا في اوجهما..

سارت عبر الطاولات متخطية تلك الأجساد الجالسة على المقاعدة والمتفرقة في الأرجاء، مشت ترتب هيئتها غير منتبهة لذلك الذي ما إن عبرت بجانبه عند البار حيث أخذ مكانه سابقا، ما إن تخطته وقف من مكانه يسير خلفها مباشرة.

دخلت إلى الحمام الخاص بالنساء لتخرج إمرأة ما توازيا مع دخولها، لتصبح وحيدة في جوفه، نظرت إلى إنعكاسها على المرآة ثم وضعت مثبنتها على المغسلة وقبل أن تنقل بصرها إلى صنبور المياه، قبل أن تفتحه أو حتى تبعد بصرها عن المرآة فُتح الباب ليظهر وراءه رجلا بضعف حجمها، رجل دخل يغلق الباب عليهما دون أن يترك لها مجالا للتفكير أو ترتيب المشهد داخل عقلها.

لذا وعندما استشعرت الخطر وشحب وجههة، فتحت فمها لتصرخ على دخوله إلى حمام النساء، لتصرخ طالبة النجدة..تقدم منها بسرعة ساحبا من جيبه حبلا نحيفا كأسلاك الكهرباء، سله بحركة سريعة مندفعا نحوها..

حاولت الهرب، حاولت حمل المثبنة لرميها على وجهه لكنه كان أسرع وأقوى فكل ما خرج منها كان صرخة مكتومة قد طُمست في أول ثانية، صرخت دُفنت عندما لف على عنقها الحبل، بأعينه التي لا روح فيها وأعينها الجاحضة، بفستان حريري وسترته الجلدية التي تشبثة فيها تقاومه لآخر نفس، بأنفاس متذبذبة وأعين ناتئة الحدقة صفعت ذراعيه تارة وتخبطت بأقدامها تارة أخرى..إرتعش جسدها وإهتز تحته بفاه مفتوح تركها جثة..في ثواني كان قد قتلها.

فُتح صنبور المياه أخيرا، غسل يديه ذات الوشوم الموزعة على أصابعه، رتب شعره ثم مسح على سترته، ألقى نظرة أخيرة على شكله في المرآة أمامه وخرج من الحمام دون رجعة.

داخل مطعم مدريدي بطابقين، في الثاني منهما تحديدا حيث الموسيقى راقية كرُقي عملائها، حيث الإطلالة الأكثر جمالا، بجانب البار ومرورا بالممر المؤدي إلى أماكن الاستراحة، عند الباب الموصد من الخارج أين عُلقت على مقبضه لافتة صفراء خاصة بالصيانة، في جوف الحمام الفارغ وخلف آخر حُجرة ظهر كعبها العالي من تحت الباب، كعب بلون أزرق ملكي داخل قدمها وآخر مرمي في الزاوية، فوق المرحاض بغطاءه المغلق وُضعت جثتها، بأعين مفتوحة وآثار الخنق على رقبتها..

وراء الأبواب تُركت جُثة باردة كانت قبل دقائق تشعر بدفء الدماء داخل أوردتها، كانت هذه نفس المرأة التي حملت الصفة الوحيدة المشتركة بينها وبين آرون.


جوانا..التي أرادت اللعب مع ألكساندرا النجم الذي مُزقت إحدى أوراق قاموسه في المنتصف، الورقة التي حملت كلمة "الرحمة".

_______

"لا تصمت، تحدث حول شيء ما"

"إني أتحدث" قالها وهو يمرر أنامله على ظهرها من الخلف.

"ليس حديثا كهذا، أريد سماع صوتك، تحدث عن شيء عشوائي، تعجبني عشوائيتك"

"أحب شاماتكِ"

"ليس هذا ما قصدته"

"أحب الندبة البيضاء الصغيرة فوق حاجبكِ"

"ليس هذا أيضا"

"تعجبني رائحة شعركِ"

"جديا توقف عن هذا وتحدث حول أمر ما"

"أريد فعل أشياء لن يستوعبها عقلك الأعذر، ولأن المكان لا يسمح بهذا فخبأتها ليوم آخر"

"أغوستينو!!"

"أحب نبرة التوبيخ هذه"

خرجت ضحكتها تتراقص في فضاء الجناح كما تراقصت على أوتار قلبه، وضعت جبينها ضد جبينه وداعب هو أنفها بأنفه مبتسما بجانبية باسطا كفه على ظهرها من الخلف ممررا أنامله على طول عمودها الفقري.

كانا يستلقيان فوق السرير يقابلان بعضهما بنفس الملابس السابقة، بنفس الدماء الجافة على ظهر يديه وعطر الفراشة المنبعث منها، بمسدسه الملقى جانبا وقاموسها في الزاوية، بنفس الحالة الخارجية لكن مع الكثير من الكوارث التي عصفت في الداخل.

كان يلمس شاماتها من حين لآخر تحت أذنها وفوق نبضها، تلك الفراشات بألوانها الزاهية التي غطت بشرتها البيضاء، يعدها واحدة تلو الأخرى يترك فنه عليها كأول شخص إيطالي مثله استخدم الألوان الزيتية على قماش الكانفاس، كلوحة مادونا والملائكة تلك رسم جسدها الناصع بأنامله.

مرور بذراعها عبرت أنامله نحو وشم الفراشات الموزعة على سطح معدتها، إنقبضت عضلاتها ليبتسم لها بجانبية إبتسامة لا تُرى كانت تزين وجهه كلما شعر بتوترها قربه رغم كل ما كانا يفعلانه سابقا، رغم تقبيلها له أولا واستغلالها لكل ثانية في لمس وجهه ورسمه بأناملها.

"تحدث حول أمر آخر"

"ها أنا أفعل" قالها وهو يمسح على إحدى الفراشات المتوجهة نحو خاصرتها، فراشة زرقاء صغيرة بعيدة عن سرب الفراشات الأخرى كانت قرب حدود حمالتها، حينما شعرت به يصعد إلى المكان الذي كانت تلك الزرقاء متوجهة إليه تحدثت تشتت إنتباهه لتفلت منه ضحكة غليظة جعلتها تشرد في شفاهه من ذلك القرب.

"تتحدث عني منذ ساعة"

أسدل جفنيه نحوها كون رأسها كان قرب صدره لترفع هي بدورها عسليتيها إليه متنهدة بسبب نظراته التي أفسدت خلايا عقلها وأنستها طريقة التنفس الصحيحة، تحدث بصوت لا ينفك يصيبها بالثمالة.

"أنتِ كل الأمور التي تشغل بالي الآن، لا شيء آخر سأتحدث عنه غير تفاصيلكِ"

شعور الإنقباض أسفل بطنها، شعور السقوط من أعلى الأفعوانية وإرتعاش القلب فجأة، برودة تسري على طول عمودها الفقري وكأن نسيما باردا قد لامس دفء بشرتها، أعين لامعة ودماء ساخنة تدفقت داخلها جعلتها تضحك بسبب ذلك الإحساس المباغت وكأنها طفلة على الأرجوحة قد إكتشفت للتو أن التأرجح عاليا وإنقباضات المعدة تلك هي أكثر الأشياء متعة.

رفعت رموشها تنظر إلى سواد خاصته المنسدلة نحوها، أبعد غرتها جانبا و وضعت هي يدها على صدره تهمس له بما أرادت دائما قوله وترددت في ذلك كل مرة.

"أنت لست ما أردته ولا ذلك الشخص الذي تخيلته يوما لكنك لسبب ما تجعل الفراشات تلامس قلبي"

تأملها بنفس الملامح المعتادة لأغوستينو الهادئ، نفس الغموض وعدم القدرة على قراءة ما يفكر به أو ما سيفعله، لأن جزء منها قد إرتجف عندما لم يبدي أي ردة فعل وظلت تقاسيم وجهها ثابتة لكنه إنحنى صوب وجهها مباغتًا إياها بقبلة فوق شفاهها..

لف يده خلف رأسها مخللا أصابعه داخل شعرها من الخلف، مسح على شعرها بأنامله بإبتسامة شقت وجهه وإحمرارٍ قد لفح وجنتيها، رتب غرتها تحت إلتقاطها للهواء كي تتحدث، بصدر يعلو وينخفض وأعين قد ضيقتها صوبه أبعدته عنها إنشات قليلة كي يتسنى لها رؤيته جيدا.


"جديا، ألا يمكنك التقبيل دون أن تسلب مني أنفاسي؟"

"أربع سنوات كانت كافية لكِ لتلتقطي فيها أنفاسكِ، حان الآن دوري لسلبها منكِ مجددا"


كل ما كانت تعيشه في هذه اللحظة كان الدفء والفراشات، الكثير من الأخيرة التي طارت فوقها، فعندما يقولون شعور الفراشات في المعدة يقصدون بهذا أجنحتها عندما تدغدغ جدار معدتك من الداخل هكذا كان حالها تشعر بتلك الأجنحة الرقيقة تداعبها من الداخل كلما وضع يده عليها، كلما لامست شفاهها جلدها وكلما لفظ كلمة بصوته الأجش بلكنته المميزة تلك.

"إن قضاء الوقت معك تلقائي كما التنفس لا أشعر بالوقت ولا أود هذا" كانت هي من تحدث هذه المرة، كلمات ظنت بأنها عادية لكنه أغمض عينيه واضعا جبينها على رأسها من الأعلى يحرك رأسه بالنفي وكأن ما تفعله لا يساعده بتاتا.

"إني أفكر في أشياء لا تدركين وجودها بالفعل، أشياء عبثت بعقلي طويلا لكن لا يمكنني فعلها هنا في مكان كهذا، ما أردت قوله بإختصار هو أنني أتعذب الآن للسيطرة على نفسي"

ضحكت بخفة على مقربة منه بينما قبل رأسها بإبتسامة على تفكيرها وسرعة فهمها لما يقصده في كل مرة، مسح على رأسها صعودا ونزولا لتتكور داخله تشعر بدفء جسده عليها.

"ليس هنا، داخل ملجأ للكلاب بل تستحقين أكثر الأماكن تميزا، وسأجعلكِ تزورينها قريبا"

"يخيل لي أحيانا بأنني أتوهم وجودك للدرجة التي أتسائل فيها إن كنتِ حقيقة أم أنني أهلوس"

همست بها قرب قلبه تشده إليها خوفا من أن يكون سرابا ويندثر، وبينما يده لازالت تمسح على شعرها من الخلف أضاءت شاشة هاتفه على المنضدة خلفها، رفع بؤبؤيه من رأسها دون أن يتحرك جسده ثم مد يده التي كانت تربت على ظهرها وحمل بها الهاتف متفقدا الرسالة من الخارج ليظهر فوقها اسم فابيو.

| عذرا على إزعاجك زعيم، أردت إبلاغك بأن رونيا قد غادرت قصرها رفقة رجلين |

وقبل أن تعتم الشاشة مجددا رُفعت الرسالة لتظهر رسالة فابيو الأخرى وكأنه يعرف ما سيسأل عنه زعيمه ليجيبه مباشرة.

| أما البقية فلازال كل واحد فيهم في مكانه السابق، فقط وحده السيد آرون من غادر منزله قبل نصف ساعة لمتجر لمستلزمات الحيوانات |

بحديثه عن البقية كان يقصد رسالته السابقة قبل ساعات التي أخبره فيها عن مكان لوسيا والتي كانت رفقة فاليريان، عن روزاليا وخوان، عن دومينيك الذي غادر الورشة وذهب مع رايفن إلى منزل أهلها، كانوا جميعا محصنين، جميعا بحراس شخصيين يراقبونهم في الخفاء دون أن يدركوا ذلك.

______________

وسط الطريق السيار المتوجه إلى الأماكن الخالية المؤدية إلى الغابة والأراضي الفارغة سارت سيارة سوداء على طولها، سيارة إحتضنت داخلها آرون الذي نظر إلى المقعد بجانبه حيث وضع علب الأكل الجاف الخاص بالكلاب بنكهات عدة كونه لم يعرف أيهم سيعجب أوسو، نظر إلى صورة الكلب البني على غلافها وإبتسم يحرك رأسه بقلة حيلة عندما تذكر نظرات كاثرين سابقا، نظرات الجراء تلك التي تستعملها عندما تريد التأثير فيه.

مرر بصره على المقعد المليء بحاجيات الكلاب من فراش دافئ إلى صحن مخصص للأكل، ألعاب مطاطية على شكل عظام وكرات صغيرة، كانت إبتسامته تتسع كلما تذكر تشبيهها للكلب بأماثيست طول الوقت وكيف كان الأمر يستفزه سابقا بسبب استعمال طفلتهما كوسيلة لاستعطافه، ها هو الآن قد تسوق من أجله وكأنه صغيره الجديد.

ضغط على المقود مركزا مع الطريق أمامه بشرود، نظر إلى الأشجار على الجانبين، إلى أعمدة الإنارة التي سطع نورها على الطريق المعبد أمامه، شرد لبرهة يفكر فيما قالته قبلا..

شرد يفكر في شقيقه ورسالته التي كانت الأولى منذ سنوات، فكر مليا ثم نظر إلى الهاتف الموضوع على الساند صوبه، حدق في الشاشة لدقائق ودون سابق إنذار ضغط على الفرامل فتوقفت عجلات السيارة مصدرة صوتا عاليا بسبب إحتكاكها على الأرض.

وقفت وسط الطريق وبقي داخلها يضغط على المقود دون أن يزحزح عينيه عن هاتفه، أغمضهما بقوة وصفع مقدمة السيارة بلعنات تحت أنفاسه كان قد كبحها داخله كل هذا الوقت، نفض شعره بعنف مخللا أصابعه داخله من الخلف بعصبية كونه يصارع شيئا داخله عكسه تماما، يصارع جانبه الذي حدثته عنه كاثرين من قبل..

بعد دقائق من شروده في الفراغ شادا على شعره يفكر فيما سيفعله، أطلق نفسا طويلا حبسه منذ وقوف السيارة جوف الطريق، بينما وبتردد حمل هاتفه ينقر على قائمة الأسماء، مرر بإصبعه وتوقف مباشرة حيث اسم أغوستينو، كان يسجله باسمه الكامل برسمية وكأنه مجرد رجل أعمال قد ضمه إلى قائمته.

نقر على الرسائل ودخل لينشئ أول رسالة سيكتبها له، كانت فارغة كعادتها، فارغة بيضاء وخط بداية المحادثة وحده ما كان يتحرك داخلها، نظر مطولا يفكر، كتب الكلمة الأولى ثم مسحها، حرفا آخرا ثم مسحه هو أيضا مع لعنة قد خرجت من بين شفاهه عند نفاذ صبره.

لذا رمى كل تردده جانبا وكتب رسالته ضاغطا على الزر الجانبي بسرعة كي لا يتردد أكثر ويسحب كلماته مجددا، ظهرت الإشارة من الأسفل معلنة على وصولها ليطفأ هاتفه يلقيه فوق المقعد بجانبه يبعده عن مرأى أعينه،كي لا يشعر بالندم ويبحث عن وسيلة لحذف الرسالة قبل أن يقرأها أغوستينو.

إلتفتت سيارته وسط الطريق لتعود أدراجها، عادت لتدخل في الجهة الأخرى المؤدية إلى الجانب الآخر من البحيرة، تلك البحيرة التي تنتهي عند منزله ذهب هو في الطرف الآخر منها لينتظر ذلك الإيطالي الذي يمقته، عابرا الأعمدة ليدخل في جوف الغابة المظلمة حيث كان ضوء القمر والنجوم وحده ما ينيرها..

__________

في الطرف الآخر كانت هيتايرا تقهقه بينما إلتعدت عن صدره تمسح تلك الدمعة التي تسللت لتسقط على خدها من الجانب، ضحكت على ملامحه وهو يخبرها عن سر من أسرار طفولته بعد إصرارها على معرفة شيء لا يعرف أحد غيره.

"إنكِ تتصرفين بقذارة، ظننت أننا إتفقنا على عدم الضحك"

قهقهت مجددا مبتعدة عنه لتستلقي على ظهرها في الجانب الآخر من السرير، حينها إبتسم مغمضا عينيه بعدم تصديق بأنه قد قام بإخبارها عن شيء شخصي كهذا..

في تلك الأثناء وبينما نظرت إليه بإبتسامة متسعة لم تفارق محياها مد هو يده ليربت على شعرها لكن شاشة هاتف التي أضاءت مجددا جعلت من بؤبؤيه ينتقلان تلقائيا خلفها حيث وضع الهاتف في مكانه السابق..

حمله وكعادته فتحه من الجانب دون أن يفكر في الدخول، فقط ليقرأ الرسالة من الخارج متسائلا حول ما سيخبره إياه فابيو، لكن في تلك اللحظة تصلب جسده فوقها بسبب إنحناءه صوب المنضدة، وأحست هي بذلك فورا، تغيرت حالته وتحولت طريقة تنفسه الهادئة لتصبح مخيفة غريبة لم تعهدها من قبل.

أمالت رأسها لترى ما أصابه فجأة لكن وقبل أن تلتقي أعينها استقام من فوقها يقف في الجهة الأخرى من السرير يقرأ الكلمات مرارا وتكرارا، أعينها التي تعلقت به بخوف لم تستطع لمح أي مشاعر داخل عينيه كي تترجم ما حصل له..

لذا لم يبعد سوداويتيه عن الهاتف حتى إنطفأ وإختفت الرسالة، رمش لأول مرة بتلك الطريقة وكأنه قد طُعن، وكأن شيئا قد إخترق قلبه.

لم يكن فابيو المُرسِل، كان آرون هذه المرة.

كان شقيقه الأكبر الذي لم يتواصل معه أبدا، لا عبر الرسائل ولا تحت سقف واحد، لم يرسل له يوما..فعلها الآن من بين كل الليالي الآن فقط.

فتح هاتفه مجددا ليقرأها مرة أخرى لعل اسم شقيقه كان خيالا قد اوهمه به عقله.

| سأكون هناك الآن إن لم أجدك سأغادر، لا تشغلني بأي عمل لعين يخص العائلة |

وفقط هناك،فقط عند تلك المرة الرابعة التي قرأ فيها رسالته إنتفض كمن صفعه بالحقيقة فجأة، حينها فقط أدرك أن أخاه قد نُصب له فخا.

عبر ذلك الجانب بسرعة نحو الشرفة، بسرعة جعلتها ترمش كيف تغيرت حالته في لحظات، وما إن فرقت شفتيها كي تسأله صرخ باِسم فابيو بأعلى صوته، بنبرة جعلت وخزا يتكرر داخل قلبها، إبتعدت عن السرير ببطء تطل برأسها من بعيد على الشرفة المفتوحة حيث ظهر لها من بعيد.

دخل بنفس حالته تلك متخطيا إياها كإعصار لم يلمح منها شيئا وكأنها لا تقف أمامه، توارى داخل الخزانة حيث وضع النبيذ في جهة وأغلق باب آخر في جهة أخرى لم تستطع سابقا فتحها لتعرف ما وجد بقلبها.

كان قد فتحها أمامها لتظهر الأسلحة المعلقة على الجدار، أخذ منها مسدسا لا يشبه الآخر الذي كان بحوزته صباحا ثم إلتفت ليغادر بأعين اسودت وملامح تغيرت لأخرى كانت تحاول البحث عن أغوستينو بينها.

سار ناحية الباب ثم توقف يتنفس مطأطئا رأسه بيد على المقبض وأكتاف كانت تتحرك بعنف كمن صارع ليتنفس، استوعب حالته وخوفها منه، استوعب صراخه وتجاهلها أدرك أنها تقف الآن خلفه تحاول لملمت كلمات لقولها لكنها عاجزة بسبب الرعب الذي بثه داخلها.

"أعدك، سأعود وسأشرح لك كل شيء.."

"لا تتركني هنا وحدي وتذهب كما فعلت قبل أربع سنوات، خرجت هكذا تماما بعد أن وردك إتصال ما، ذهبت ولم تعد"

بأعين متلألئة قالتها خلفه، بغصة استشعرها في صوتها جعلته يلعن نفسه داخليا، جعلته يضغط على المقبض ويحاول ألا يلتفت لها كي لا ترى أغوستينو الغاضب الذي على وشك سفك الدماء..

تنفس والتفت إليها واضعا يده الباردة على خدها هامسا بكلمات كافح لقولها بهدوء.

"تلك المرة تركت عقلي برفقتك، الآن إن كل كياني معكِ هيتايرا، سأعود حتى وإن بُترت أطرافي سأعود إليكِ حبوًا".

"عد قطعة واحدة"

فلتت منه ضحكة عفوية بسبب طريقة قولها لتضع كفيها على خديه حينها رفع إبهامه يمسح على شفاهها ثم إنحنى لعنقها يطبع قبلة مكان النبض، مكان العطر لتشعر به كيف استنشقه بعمق يأخذ الهواء الكافي لمهمته.

"أغوستينو، ستعود أليس كذلك؟"

"سأعود، مهما حدث سأعود سأجد طريقي إليكِ في كل مرة، إنتظريني فحسب حتى وإن لم تبصري جسدي إبحثي عن ظلي وإنتظري، فقط إنتظري مهما حدث"

قالها بنفس واحد وإبتعد فجأة، إبتعد كي لا يضعف أمامها أمام دموعها التي كانت على رمشها تماما، على الغصة التي تكونت داخل حلقها وإرتعاش يدها فوق صدره، إبتعد كي لا يعانقها ويغرق هنا داخل صدرها..

فصل المسافة وغادر دون أن يلتفت لها، أغلق الباب وأحست بالبرد يلفح بشرتها العارية وسط جناحه، ذلك الدفء كله قد إختفى وصفعتها نسمات باردة أصابتها بالقشعريرة.

دوى صوته في الأسفل ينادي على ليندر والذي خرج من إحدى القاعات راكضا نحو فابيو الذي كان ينتظره ليسير بجانب زعيمه بتأهب.

"ما الذي حدث؟"

سأله فابيو بينما توقف أغوستينو قرب دراجته النارية،حمل خوذته وقبل أن يرتديها نظر إليهما ثم إلى السيارة خلفه.

"لقد إخترقوا هاتف آرون وأرسلوا إليه رسالة على أنني أنا الذي طلب منه أن يقابله..

إخترق هاتفه الآن وجد موقعه فابيو..الآن قبل أن أفرغ الأربع رصاصات فيك أنت"

صفع غطاء الخوذة يحجب وجهه عنهما وإنطلق بسرعة مصدرا صوتا مرعبا خلفه،صوت قلبه الهائج وعقله بأفكاره المتضاربة..

أما فابيو فقد دخل إلى السيارة واضعا حاسوبه فوق حجره وأخذ ليندر مكان السائق لينطلقا خلفه بنفس سرعته تاركين خلفهما نباح الكلاب الذي ارتفع داخل أنيما.

_______

توقفت الدراجة النارية بعنف على جانب الطريق حيث رُكنت سيارة آرون، توقفت ليقفز منها أغوستينو يلقي بخوذته أرضا ممررا بصره على طول الطريق وداخل الأشجار لعله يلمح ظل شقيقه، مشط المكان يبحث عن أي أثر له لكنه عجز عن ذلك..

توقفت سيارة أخرى بجانبه لينزل منها فابيو والذي كان قد أخبر زعيمه عن مكان تواجده عندما إلتقط الإشارة، وقف الثلاثة يبحثان عن آرون قبل أن يشير أغوستينو إلى ليندر كي يذهب للطرف الآخر ويتوغل داخل الغابة، بينما تحدث بالإيطالية إلى فابيو.

"اخترق هاتف كاثرين، جد مكانها الآن"

"لقد فعلت ذلك، إنها في منزله"

"إتبعني اذا"

بنبرة صارمة، بأمر منه مشى خلفه بينما أغوستينو كان يمرر أعينه على كل زاوية يتفقد مكان آرون أو شيء يدل على تواجده هنا عدى سيارته الفارغة.

لكنه توقف فجأة ليتوقف الآخر خلفه بفضول عندما لمح شيئا كاد يجن وهو يقنع عقله أنه مجرد وهم..

توقف كما فعل فابيو بأعين جاحضة على ما إلتقطته، كان جسد شخص يطفو على سطح البحيرة من بعيد قرب اليابسة، في مستوى نظره تماما قابلته تلك الجثة على بعد أمتار أين كان الهواء يرسل إليها مياه البحيرة مبللة إياها..

تحرك ببطء يحاول نفض الأفكار التي كانت تتصارع لتدخل إلى عقله كي تفتك به، مشى صوبها دون أن تتزحزح أعينه عنها لثانية واحدة..

كان هو، كان جسد رجل ببنية يعرفها، جسد لن يخطئ في رصده و تمييزه حتى في ظروف كهذه تحت ضوء القمر.

آرون..شقيقه الذي راسله قبل لحظات، شقيقه بوشوم يديه الظاهرة له كلما إقترب أكثر..

سقط أرضا بجانبه تماما، سقط على ركبتيه بجانب ذراعه رافعا يده إليه بوجه شاحب، وضعها على سترته المبللة التي كانت لا تظهر له أي دماء بسبب لونها والظلام من حولهما.

وقبل أن يفتحها رمش آرون، رمش يفتح عينيه بثقل لآخر مرة، حينها إندفع يسحبه فوق حجره يتفحص حالته بسرعة عندما تأكد من أنه لم يمت، سحبه وصرخ لفابيو خلفه بأن يقرب السيارة كي يحملانه، غادر الأخير ركضا وترك أغوستينو الذي ما إن فتح سحاب السترة حتى صعق من المنظر، كانوا ثلاث رصاصات، ثلاث مواضع طلق نار غائرة بدماء حالكة.

تجمعت الدموع داخل عينيه ونظر إلى وجهه شقيقه الذي رمش مجددا بثقل وإنتفض جسده ليسعل بدماء سالت على طول خده.

"كنـ..كنت أعرف..أنك لست رجلا عاديا..كنت أعرف أنك..إيطالي لعين"

كان يضع ماريو لمراقبته، ظل طوال سنوات يبحث خلفه كي يجد دليلا واحدا يثبت له صحة أحاسيسه تجاهه، الآن فقط تأكد، تأكد بطريقة سلبت آخر أنفاسه.

لفظ آخر حرف وإبتسم، لأول مرة إبتسم آرون معه عندما شعر بالنصر وأنه كان على حق، إبتسامة خافتة ظهرت بألم وسعال جعلت دمعة تسقط من الآخر لأول مرة بعد إحدى عشر سنة، نفس الموقف ونفس الحادث، نفس القصة تكررت..

لمعت أعينه بدموع وهو يراقب إبتسامة شقيقه، يراقب غمازته التي ظهرت له أخيرا كما أراد طوال حياته.

كل ما أراده قد جاء لكنه كان مجيئه متأخرا، ضم جسده الذي إبيضت بشرته و تغير لون شفاهه من شدة البرد، إحتضنه يدفن أطرافه إلى صدره ليرسل له بعض الدفء لعله يستشعر نبضه.

وسط كل هذا عانق شقيقه لأول مرة، للمرة الأولى والأخيرة..

شهقة بكاء خرجت منه وهو يعانق جسده المبلل، بكاء كان مكتوما خرج على شكل شهقة فلتت من بين شفاهه بدموع سقطت دفعة واحدة، سقطت توازيا مع انسدال جفون آرون.

حينها مرت نسمات باردة كانت آخر ما داعب بشرته قبل أن يُغلق أعينه ويختفي النبض..

وكانت آخر ما شعر به رياحًا أعلنت نهاية الخريف وحملت معها رائحته قبل أن تغادر..

حملت رائحة شقيقه المبلل بين ذراعيه، الذي فاحت منه رائحة البحر..

عانق شقيقه الغواص في النهاية وهو يتذكر كلمات والدته، أخاك الذي تفوح منه رائحة البحر كلما عانقته.

"1581"

همس بها وهو يقربه إليه أكثر، همس بعدد المرات التي تحدث فيها معه، المرة الأخيرة التي لن يمسح الرقم لكتابة رقم آخر..

غادر آرون بالنسبة إلى أغوستينو وغادر معه كل ما أراد البوح به إليه طوال سنين، غادر دون أن يسمح له بخوض حديث واحد معه ليخبره الحقيقة حول كل شيء..

كانا يحتاجان لأن يخيطا جروحهما، أن يضمداها وتتعافى قبل أن يتواصلا، كانا جريحين..

ولن يلعق الحيوان جرح حيوان آخر وهو ينزف.

خرج الإثنان معا، عاد أحدهما فقط، عاد لكنه لم يعد مثلما غادر.

_______

✨Hi again✨

نهاية الفصل 💔.

قبل كل شيء هنالك فصل آخر سينزل بعد ساعة..
ليس تكملة للأحداث لأنني لم أكتب كلمة يتبع في النهاية،وليس فصلا طويلا بل هو عبارة عن فصل فيه مشهد واحد منه ستحدث النقلة.

المهم لم ينتهي شيء، هذا ما يجب عليكم معرفته..حتى نقطة النهاية بإمكاننا أن نرفع لها خطا وتصبح فاصلة..لذا 😉😉😉

المهم أظن أنه الفصل الوحيد الذي كُشفت فيه العديد من الأسرار..

بداية من تمثال هيتايرا الذي أعاد ترميمه أغوستينو.

إبن فتاة البار وأصوله.

توفانا والانفصام.

موت جوانا.

على الرصاصة التي اختفت من مسدس اغوستينو ليلة الحفل.

وهنالك سر آخر سيحل الفصل القادم.

هذا هو فن الترميم بالذهب «كينتسوغي» وهو فن ياباني قديم يتمثل في إصلاح الخزف المكسور عن طريق لصق القطع المكسورة وطلاءها بمسحوق الذهب.💎

وهكذا أتخيل شكل التمثال الذي قام أغوستينو بتعديله، مزيج بين الإثنين الخصر المرصع بالورود وفن الكينتسوغي بالذهب. ✨

الفيلم جثة مغلفة لا وجود له.. عنوان من اختراعي 😁 كي لا تتعبوا انفسكم بالبحث عنه

هذه سالي الشخصية التي تنكرت مثلها لوسيا وجاك شخصية فاليريان.

الفيلم تحفة تابعوه، خاصة أننا في فصل الشتاء يعني أجواء الفيلم حرفيا في عالم آخر❤️.

وأخيرا...

"إذ كنت قد قرأت للأخير و وصلت لهذه النقطة .. أنت الآن في أعمق بقعة في قلبي" ❤️

Seguir leyendo

También te gustarán

3.7M 56.1K 66
تتشابك أقدارنا ... سواء قبلنا بها أم رفضناها .. فهي حق وعلينا التسليم ‏هل أسلمك حصوني وقلاعي وأنت من فرضت عليا الخضوع والإذلال فلتكن حر...
864K 25.5K 40
لقد كان بينهما إتفاق ، مجرد زواج على ورق و لهما حرية فعل ما يريدان ، و هو ما لم يتوانى في تنفيذه ، عاهرات متى أراد .. حفلات صاخبة ... سمعة سيئة و قلة...
218K 5.9K 9
نوع القصه :رومانسيه دراميه الابطال جيك :شاب غني صاحب شركات ومعامل وسيم جدا طويل القامه بارد ورسمي في التعامل مع الناس ساني:فتاة قصيرة القامه نحيله ذ...
11K 345 2
وان شوت من سلسلة VANTABLACK الوجهٌ غير ُ المرغُوب من الحبّ . كَانت تستَطِيع غزلَ الحبّ بين أظافِرِها الطّويلة كشَبكة عنكَبوت ، رسمَ مخيّلة صاخِبة في...