٥؛ دُجنة أديب

906 77 136
                                    

أخبرني.. أتذكر؟
حينما أصبّتَ بألمٍ داخل صيوانِ أذنك. ولم تعد لَك القدرة على سماع صوتي؟

أتذكر كيف بكينا بكلّ جوارحنا ذلك اليوم؟ أنا فعلًا قد بكيت بكل حواسي، مثلما أبكي عليك الآن، كل الوقت وكل الأيام.

على أملٍ لأن نعود.. البكاء يجعلني على يقيّنٍ بأنّي خسرتك، خسرت موطني الدافئ، ولم يسنح الوقت للتبرير..

دعنيّ أذكِرَك ..




الذاكره متاهه، والتفكير ملوث، فكيف سأحبُك بكلِ نقاء؟ كيف سأبحث عن طريق النجاة لألوذ إليك؟ إهدني جَرةً فيها ماء، وتحدث فوق الكأس ليتشبع الماء فيك، وأحصل على صوتك بطريقةٍ ثانيه. بطريقةٍ أقل ألمًا. أحتسيه مع الكأس لينمو داخِل عزّ هذا الشِتاء زهور الربيع في صدري إثرَ صوتِك.

سأفرح لو كنت شحاذًا صوفِّي، أو حتى كناسًا في الكنيسة. سأفرح لو كنتُ بيطريًا، أو مزارعًا، أو مُصلِح مصابيح. أي شيءٍ يتيح لي سماع صوتك بشكلٍ حنون.

برأيك، الى متى سيستمر هذا الكبت؟ متى سأتعرى مني وأجيء إليك قائلًا -حرر حُّنجرتك نحوي، فإن مسائيَ رمادِّي، وأحتاج أن يتلَّون بصوتِك.


في ذلك الوقت من المساء ولِّد في قلبي ينابيعٌ من الخيالات الشِعريه، وقصصٌ لا تعدُ ولا تحصى من الأنهار الفكرية. أستغرق الأمر مني أربع سنوات لإتمكن من إعادة صياغة حياتي التِي هدمتها بسبب إنتقالي الى راينلاند.

لم يكُّن وداعًا، ولا حتى لِقاء. كان كالحلم بالنسبة لي، أن أبقى دافئًا في معطفي البُني، أهدر وقتي في الإستلقاء، وأشرب الزنجبيل صباحًا، وأستعد جيدًا حتى أحرث وجهي في المَساء مستعملًا روحي العتيقة، ولمسةً من موسيقاك.

لإنني أرفض المجتمع، أصبحت نقيضًا لليقين. لإنني أرفض الحب، أصبحت مغرمًا بملئ حواسي. ولإنني أحمل لُغةالشِتاء، أصبحت مولهً بخريف أيامك. -مردك لي، وسأستمع يومًا الى صوتك بشكلٍ كافٍ، دون أن أبكي بسبب الحاجة إليك.

طارف الباب المفتوح على حجرتك يجعل من ذلك الصوت يتسلل إلي، ينساب ليعذِّبَني على رغم رّقته لكنه ينهمني بوحشية. بخوف، بقلق، مهما كان موضعه، لكنّي مجهدٌ مني، أفلا يكفيك؟

-آه، أجل. عذِّبني أكثر.

همستها دون جدوى، وأنا أتكئ على باب الحجرة. ليس الموت، ما أهون الموت أمامَك. تسقيني بوجعِّ العزف وتعزفني، أي وحشٍ أنت؟

-جونقكوك، أهذا أنت؟

أمضيت بعض الوقت واقفًا، ومن بعدها دخلت إليك في الحجرة. كانت الحجرة ذات وقعٍ رماديَّ، الشمعة الخفيفه كل ما قد يضيئها. ما إن دخلت، بدأت دائرة جديدة من الأفكار تنمو في عقلي الخصِب.
بعدئذ، تقدمت نحوك، وأمسكت يديك برّقة.

-أجل، هذا أنا.

ألتئم بفكري المفكك، وأتخيل سطوة الحزن على الألم. -ربما لا أدرك ما في باطِن هذه الروح من إنهيارات- ولكنّي مدركٌ تمامًا سخريتي من هذا الحزن.

-لاأسمعُك، حرِّك لي يديك وأَشِّر.

مسيِّت طارف خصلاتك بلطف، كنتَ أشعثًا من الأمام، وتركز في حركات فمي بصدق. لا تقوى كلماتي على سردِك، أو حتى تفاصيلك. وقفت أمامك مباشرةً في ذلك اليوم، أستشعر طول قامتكَ القصير أمامي. وأضعك في متاهة عيني القانته.

في الروح إضطراباتٌ وإدراكات غير واعيه. في روحي إستفساراتٌ غير مقروءة، وأحتاج منك أن تسمعها، لا أن تعزفها بنبرةٍ حزينه؟

-بم تفكر؟ خذ هذهِ الورقة وإكتب، أو تفضل، هذا صدري، بإمكانك أن تشرخ شرخًا وتدخل. وتمسَ لي قلبي وتتحدث.

أكتفيت بالجلوس أمامك ذلك اليوم، ورأسي ينخفض ويرتفع دلالةً على موافقتي. ما في عقلي بلا مبالغه بحر من الأفكار والمناورات. وشرائخ لن يفهمها عليّم.

إبتسمت حينما أخبرتني بأن أشرخ صدرك وأدخل، كان شعورًا لذيذًا ينخلق في صدري بسببك. أخذت ورقتكَ وأنا موقنٌ بإنّي لن أنتهي من كتابة ما أريد.

لكنَّي كتبت بصّدق ما أشعر؛
-أشتقت إليك.

كتبتها وحملّت الورقة بكلتا يداي على صدري، فقط حتى أراك تركز فيما كتبت أنا وتبتسم. لأول مرة أشعر بإن هذا الصَّمت لذيذ، لكنه يجردنا بشكلٍ حقيرٍ من أنفُسِنا.

لم تقم برَدي هذهِ المرة، بلْ ناظرتني وإلتفت الى مكانِك المعتاد، تجعلني أرى شذوذك الفكريّ، وعقلك اللآمألوف للعلَن.

شعرت بالحيّاة تملئ العمق فيّ، مع كل ضغطةٍ من أصابعك، وكيفَ تتمرج بإطلالةٍ ورغبة على الدَواسات. وتعزف.. شيءٌ لاحقيقي يسكن صدري، معزوفةٌ جُّل الثَناء، حزينةٌ ومرتبكة. تعزف بحثًا عن النجاة، وأنا أستمع لك بكل إخلاص.

-ألم يحِّن الوقت لسماع صوتِك؟
آه يا تايهيونق.. ألم يحِّن؟

متى ستأتِ؟ قلبي في حاجةٍ إليك.
عقلي في حاجةٍ ماسةٍ إليك.

في حاجةٍ لرؤيتك، للمسِ يديك.. في حاجةٍ لإبتسامتك، دفئك، صوتك. كل شيءٍ فيّ يحتاج إليك.

أنا بأكملي.. أحتاجُك.
هذهِ الليلة، وكل لياليِّ.

الوطَن ١٩/٤/١٩

دُجنة أديبWhere stories live. Discover now